
السياسة الأمريكية.. ثبات النهج وسط تقلب الوجوه
قد تبدو الانتخابات الأمريكية مسرحًا لصراعات محتدمة وتصريحات متبادلة تصل حد الشتم السياسي العلني، كما رأينا في الحملات الأخيرة بين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن. لكن هذه الضوضاء الإعلامية، في حقيقتها، لا تعني تغيرًا جوهريًا في اتجاهات السياسة الخارجية أو الأمنية أو الاقتصادية للولايات المتحدة، بل تعبّر عن اختلاف في أدوات تحقيق أهداف استراتيجية راسخة.
فالانتقادات المتبادلة بين المرشحين، وإن بدت شخصية، تُستخدم ضمنيًا لحشد التأييد الشعبي، لكنها لا تخرج عن الإطار العام للسياسة الأمريكية طويلة المدى. فعلى سبيل المثال، الانتقادات التي طالت إدارة ترامب بخصوص ملف إيران أو العلاقة مع الصين، لم تُفضِ إلى قطيعة استراتيجية في عهد بايدن، بل أعادت صياغة المقاربة مع الحفاظ على جوهر الأهداف ذاتها: احتواء إيران، وكبح الصعود الصيني، وضمان التفوق الأمريكي اقتصاديًا وعسكريًا.
ما يُعرف إعلاميًا بـ"الدولة العميقة" في الولايات المتحدة ليس شبكة خفية بقدر ما هو وصف لمجموعة المؤسسات التي تتولى رسم السياسات العليا وحراستها؛ كالبنتاغون، ووكالات الاستخبارات، والخزانة الفيدرالية، ومراكز الدراسات المتخصصة. هذه البنية المؤسساتية هي التي تضمن ألّا يتحول الرئيس إلى "زعيم فرد" كما يحدث في الأنظمة السلطوية، بل يبقى منصبه جزءًا من منظومة جماعية تتجاوز النزعة الشخصية وتضبط الأداء داخل أطر استراتيجية مدروسة.
وهذا ما يفسر قدرة الولايات المتحدة على امتصاص صدمات سياسية كبرى دون أن يختل توازنها الداخلي أو تفقد موقعها الدولي. الرئيس قد يُقال، يُنتقد، أو يُحاكم، لكن الدولة لا تهتز.
رغم التغيرات المتسارعة في موازين القوى، لا تزال الولايات المتحدة تعتمد على مزيج من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لضمان استمرار تفوقها. ومع إدراكها لصعود الصين كقوة اقتصادية عالمية، تتعامل واشنطن مع هذا التحدي بهدوء استراتيجي، لا برعونة المواجهة المباشرة، كما فعلت خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
في المقابل، تسير الصين على نهج يشبه إلى حد بعيد ما بنته أمريكا منذ منتصف القرن العشرين: تركيز على البنية التحتية، تطوير الصناعات التقنية، توسيع النفوذ التجاري، والابتعاد عن الانخراط في النزاعات العسكرية المباشرة. وهذا التوازي هو ما يجعل واشنطن تدرك أن منافستها الحقيقية لا تأتي من أعداء تقليديين، بل من خصوم استراتيجيين يمتلكون مشروعًا متماسكًا على المدى الطويل.
من دون مبالغة، يمكن القول إن الرئيس الأمريكي – مهما بلغ من تأثير إعلامي أو شعبية انتخابية – لا يشكل أكثر من أداة ضمن منظومة تخدم مشروعًا أكبر منه بكثير. لذلك، لا يُفاجأ المتابع بأن تُعاد صياغة خطابات "المواجهة" لتتناسب مع ضرورات كل مرحلة، دون أن تمس جوهر التوجهات الكبرى.
بهذا المعنى، تُعد السياسة الأمريكية مثالًا كلاسيكيًا على الدولة التي تتغيّر فيها الوجوه، بينما تبقى الاستراتيجيات والمصالح ثابتة، وموضوعة على مسار طويل الأمد، لا يستطيع فرد أو حزب بمفرده أن يحيد عنه كثيرًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوطن الخليجية
منذ ساعة واحدة
- الوطن الخليجية
ترامب يرفع الجزء الأكبر من العقوبات الأميركية على سوريا
في خطوة مفاجئة، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يوم الإثنين يقضي بإنهاء معظم العقوبات المفروضة على سوريا منذ عقود، في ما وصفته واشنطن بأنه جزء من 'دعم مسار الاستقرار والسلام' في البلاد التي أنهكتها الحرب الأهلية. وجاء توقيع القرار بعد أسابيع من الإعلان عنه خلال خطاب ألقاه ترامب في العاصمة السعودية الرياض، حيث التقى أيضًا بأحمد الشرع، الرئيس السوري المؤقت الذي تولى السلطة بعد الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024. وقالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، للصحفيين قبل توقيع القرار إن 'الرئيس ترامب ملتزم بدعم سوريا موحّدة، مستقرة، وفي سلام مع نفسها ومع جيرانها'، مضيفة أن 'رفع العقوبات سيساعد في إطلاق عجلة إعادة الإعمار والانتعاش الاقتصادي'. لكنّ البيت الأبيض أكد في الوقت نفسه أن العقوبات ستبقى مفروضة على رموز النظام السابق، وعلى رأسهم بشار الأسد، إلى جانب شركائه ومنتهكي حقوق الإنسان وتجار المخدرات والمتورطين في استخدام الأسلحة الكيميائية، بالإضافة إلى عناصر تنظيم داعش وحلفائهم، ووكلاء إيران. حكومة الشرع تنال دعمًا دوليًا فيما رحب وزير الخارجية السوري المؤقت، أسعد الشيباني، بالخطوة الأميركية، واصفًا إياها بـ'التحوّل المفصلي' في مسار سوريا نحو إعادة بناء الدولة والانفتاح على المجتمع الدولي. وقال في منشور على منصة X: 'رفع العقوبات يزيل أحد أبرز العوائق أمام التعافي، ويفتح المجال أمام تنمية حقيقية وتأهيل للبنية التحتية تمهيدًا لعودة ملايين النازحين'. نُرحب بإلغاء الجزء الأكبر من برنامج العقوبات المفروضة على الجمهورية العربية السورية، بموجب القرار التنفيذي التاريخي الصادر عن الرئيس ترامب، يمثل هذا القرار نقطة تحول مهمة من شأنها أن تُسهم في دفع سوريا نحو مرحلة جديدة من الازدهار والاستقرار والانفتاح على المجتمع الدولي. — أسعد حسن الشيباني (@AsaadHShaibani) June 30, 2025 وكانت الولايات المتحدة قد رفعت في ديسمبر المكافأة التي كانت مرصودة للقبض على الشرع، والتي بلغت 10 ملايين دولار، وهو ما فُسّر على أنه مؤشر مبكر على قبول واشنطن بالأمر الواقع السياسي الجديد في دمشق. ويُشار إلى أن الشرع، وهو مقاتل سابق في صفوف القاعدة خلال الاحتلال الأميركي للعراق، أصبح قائدًا لفصيل متمرد سيطر على حلب قبل أن يتقدم نحو دمشق ويطيح بالنظام في أواخر العام الماضي. تراجع العقوبات بعد نصف قرن من القيود يمثل القرار الأميركي نهايةً لحقبة امتدت لنحو خمسة عقود من العقوبات التي فرضتها واشنطن على سوريا، بدأت منذ تصنيفها دولة راعية للإرهاب عام 1979 إثر خلافات مع إدارة جيمي كارتر بشأن دور دمشق في الحرب الأهلية اللبنانية. ورغم بعض التفاهمات المحدودة خلال إدارة بيل كلينتون، فإن العقوبات تصاعدت بشكل كبير بعد عام 2004 عندما اتّهمت إدارة جورج بوش الابن دمشق بحيازة أسلحة دمار شامل ودعم جماعات مسلحة كحزب الله وحماس، فضلًا عن زعزعة استقرار العراق بعد الغزو الأميركي. وفي 2011، بلغت العقوبات ذروتها بعد اندلاع الثورة السورية، حيث فرضت واشنطن، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، عقوبات قاسية شملت تجميد الأصول، وحظر الصادرات، ومنع التعامل مع الكيانات المرتبطة بالنظام السوري. وفي 2019، أقرّ الكونغرس قانون 'قيصر لحماية المدنيين في سوريا'، والذي منح الولايات المتحدة صلاحيات واسعة لفرض عقوبات ثانوية على الشركات والأفراد من دول أخرى إذا تعاملوا مع النظام السوري أو الجهات الخاضعة للعقوبات. وكان لهذا القانون تأثير بالغ على الاقتصاد السوري، حيث تسبّب في تقييد حركة التمويل والاستثمار، وأعاق دخول السلع والمعدات الحيوية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة المعيشية والإنسانية. نهاية الأسد… وبداية مشهد سياسي جديد بعد 14 عامًا من الحرب الأهلية، تمكنت قوات أحمد الشرع في ديسمبر 2024 من السيطرة على دمشق، منهية بذلك حكم عائلة الأسد الذي بدأ بانقلاب حافظ الأسد في عام 1970. وقد فرّ بشار الأسد وعائلته إلى موسكو بعد انهيار العاصمة، في مشهد وضع حدًا لنظام طالما واجه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، واستخدام السلاح الكيميائي، وتعذيب المعارضين في السجون. ويقول مراقبون إن الإدارة الأميركية اختارت في هذه المرحلة تبني نهج براغماتي من خلال التعامل مع الأمر الواقع الجديد في سوريا، خصوصًا في ظل ما يُوصف بجهود الحكومة المؤقتة لضبط الفصائل المسلحة والعمل على توحيد الصف الداخلي. تحولات إقليمية واهتمام إسرائيلي من الجانب الأميركي، قال وزير الخارجية ماركو روبيو خلال جلسة استماع في الكونغرس الشهر الماضي إن بلاده 'ستبدأ بمنح إعفاءات مؤقتة لبعض الأنشطة التجارية والاستثمارية'، لكنه شدد على أن هذا لا يعني رفعًا شاملًا وفوريًا لكل العقوبات، إذ لا تزال هناك 'مخاوف من قدرات الحكومة المؤقتة على فرض السيطرة الكاملة على الوضع الأمني'. وبالنسبة لواشنطن، فإن ضمان أمن إسرائيل يبقى أولوية في الملف السوري. وقد أشار روبيو إلى أن المسؤولين الأميركيين أجروا محادثات مع الجانب الإسرائيلي بشأن ما وصفه بـ'فرصة لإسرائيل إذا تحققت الاستقرار في سوريا'، في إشارة إلى التفاهمات الأمنية المحتملة مع الحكومة الجديدة في دمشق. وتاريخيًا، تُعد سوريا أحد أبرز جيران إسرائيل من حيث التهديد الأمني، خصوصًا بعد احتلال تل أبيب لمرتفعات الجولان عام 1967. وقد اعترف ترامب في ولايته الأولى بسيادة إسرائيل على الجولان، في خطوة أدانتها الأمم المتحدة واعتبرتها خرقًا للقانون الدولي. ومع سقوط نظام الأسد، أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قواته بالتحرك في المنطقة العازلة بالجولان 'لمنع تموضع قوى معادية'، كما شنّت إسرائيل غارات جوية استهدفت مستودعات أسلحة يُعتقد أنها تابعة لحزب الله. مخاوف دولية وتفاؤل حذر ورغم الترحيب الرسمي في دمشق والرياض، فإن القرار الأميركي لم يسلم من الانتقادات، خاصة من بعض أعضاء الكونغرس الذين يعتبرون أن تخفيف الضغط على سوريا قد يفتح الباب أمام فوضى جديدة ما لم يتم ضبط الوضع الأمني وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة بشكل حقيقي. وفي المقابل، يرى آخرون أن نهاية النظام السابق تفتح نافذة نادرة لإعادة إدماج سوريا في النظام الدولي، شريطة أن تلتزم الحكومة الجديدة بالمعايير الحقوقية، وتمنع ظهور جماعات متطرفة، وتفتح الباب أمام انتخابات حرة. في هذا السياق، وصف مراقبون رفع العقوبات بأنه 'مجازفة محسوبة' قد تعيد رسم المشهد الإقليمي في حال تكللت جهود إعادة الإعمار بالنجاح، وتم التوصل إلى تسويات داخلية تحظى بدعم المجتمع الدولي.


الرأي
منذ 2 ساعات
- الرأي
مجلس الشيوخ الأميركي يمرر مشروع قانون ترامب للإنفاق ويحيله لمجلس النواب
مرر مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون تقدم به الرئيس دونالد ترامب للإنفاق وأحاله لمجلس النواب. وحسم نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس تمرير المشروع بعد التعادل في الأصوات. وكان الرئيس قد حذّر عبر صفحته على موقع «تروث سوشال» خلال الليل من أن «عدم إقرار هذا القانون سيترجم بزيادة كبيرة في الضرائب بنسبة 68 في المئة، الأكبر في تاريخ» البلاد.


الجريدة
منذ 2 ساعات
- الجريدة
حرب الـ 12 يوماً في ميزان الإعلام والبروباغندا
لم تكن المشكلة في وسائل الإعلام، كصحافة أو تلفزيون، كناقل للخبر والحدث، فهذا هو الدور المنوط بها أصلاً، بل المشكلة فيمَنْ يقف وراء الخبر، أي «الراوي»، والمصدر الذي أدار المعركة الإعلامية في موازاة الحرب الجوية والصواريخ الباليستية. الزميل زياد المجالي طرح السؤال التالي: مَنْ يملك الرواية الأقوى التي تُرغمك على تصديقها حتى لو خالفت رغباتك وتوجهاتك؟ بمعنى أوضح، مَنْ يقول «الحقيقة» التي حشدت لها «فيالق» من وسائل الإعلام والمطبلين ووسائل التواصل الاجتماعي؟ فمَنْ تابع قناتَي «العربية» و«سكاي نيوز» يرى إيران تنهار على حد وصف المجالي، وحين تفتح «الميادين» أو «الجديد» ترى إسرائيل تلفظ أنفاسها، وإذا ما توسَّعت وشاهدت قناةً مصرية، فستصلك جُملة واحدة «فتنة تُدار من الخارج». واقع الأمر، هناك روايتان وسرديتان يتقاتلان عبر الهواء، تصطف خلفهما أطراف مؤيدة تنقل ما يُراد لها وما تسعى إليه. في حرب الـ 12 يوماً كان العراب الأكبر، ومن دون منازع، هو الرئيس دونالد ترامب، أدارَ المعركة الإعلامية والعسكرية بإتقان، وقد رسم خريطة المواجهة بمستوى عالٍ من الأداء والخديعة. بدا التنسيق والتناغم بين نتنياهو وترامب في أكثر من مشهد، وسط اجتهادات وتكهنات متباينة من المراقبين والمحللين. في العمق المعركة الحقيقية كانت بين أميركا وإسرائيل من جهة، وبين إيران من جهة أخرى. هنا يكون الميزان الذي تحتكم إليه عادلاً في عملية التقصي وتقييم ما حصل. ندخل في السرديات، ماذا أرادت الأطراف المتحاربة إيصاله إلى الرأي العام والجمهور الذي تستهدفه؟ نبدأ بالطرف الأول (إسرائيل وأميركا)، عمل على تصوير الخصم بما يتناسب وأهداف الحرب، المبالغة والرعب من وراء امتلاك إيران القنابل النووية، والتركيز على المفاعلات المدمرة والإشعاع النووي القاتل، وأن هذه الأسلحة بيد نظام دكتاتوري مؤدلج لا أمان منه، وعليه يتم شحن الماكينة الإعلامية، وتوظيف كل الوسائل المتاحة لإيصال هذه السردية، وعند ذلك يسهل على المتابع معرفة مَنْ هو صاحب المصلحة وراء ذلك، لأن «الناقل» هنا يؤدي وظيفته الأساسية كوسيلة إعلامية. الطرف الثاني، وهو إيران، لم تدَّخر جهداً بتحشيد الإعلام والمنصات الاجتماعية والمطبلين بالوقوف وراء السردية التي أرادت لها أن تسود بحقها، الدفاع عن النفس ضد الاعتداء الإسرائيلي على سيادتها وحقها بامتلاك النووي لأغراض سلمية في خطاب مغلَّف بشعارات بالية وسقطات مكشوفة، كان منها، على سبيل المثال، إسقاط طائرتين من نوع F-35، وأسر قائدة الطائرة. ولم يتبيَّن حقيقة الرواية، ومدى كذبها من صحتها حتى اللحظة. كانت وسائل الإعلام الإيرانية في مرمى النيران الإسرائيلية، باستهداف مقر التلفزيون، بهدف إسكاته، وترهيب جمهوره، وهذا لم يتحقق. وفي الوقت الذي كانت الصواريخ تتساقط على مواقع استراتيجية وعسكرية فرضت الرقابة على الصحافيين من إيران وإسرائيل، وحددوا لهم ما هو مسموح بنشره، لذلك اشتعلت الروايات البديلة والمفبركة على الجانبين. معركة موازية مساحتها الإعلام لم تقل شراسة عن حرب الصواريخ والطائرات، ليس فيها رابح وخاسر، بل مَنْ يملك الرواية الأكثر تأثيراً وإقناعاً، بعيداً عن الوسيلة الإعلامية التي نقلت الرواية، سواء كانت صحيفة، أم تلفزيوناً، أم وكالة أنباء، أم وسائل التواصل الاجتماعي. بالنهاية الفوز سيبقى حليفاً للمتلاعبين بالعقول، وقُدرة أي طرف على فرض روايته على الرأي العام، وتحويل «الخسائر» إلى «انتصارات».