
ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (1)
في هذا المقال، لا نتحدث عن مؤامرة، بل عن تخطيط إستراتيجي ديناميكي تمارسه الدول الكبرى منذ قرون. هذا النوع من التخطيط يتأثر بالبيئة ويتفاعل معها، لكنه يحتفظ بثبات إستراتيجي في الأهداف الكبرى: الهيمنة، والتفوق، وفرض القواعد. أما التكتيكات، فهي تتغير بحسب المرحلة والظروف.
سنركّز في هذا السياق على أوروبا، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والصين، لأنها تمثل مناطق الصراع الحيوي بالنسبة للولايات المتحدة، محور هذا المقال بالأساس، وفيها أعظم وأقوى الحلفاء والخصوم الذين يشكلون ملامح التحدي الحقيقي أمام استمرار الهيمنة الأميركية.
إذا كانت أميركا قد وصلت إلى القمة، فإن هذا الموقع قد أصابها بشيء من التكبر وخمول القمة، بينما تنشط اليوم مناطق أخرى أكثر حيوية وقدرة على الإنتاج والنمو، ما يهدد بتغيير موازين القوة
القواعد تُصنع لا تُتبع
القوة في العلاقات الدولية لم تعد تقتصر على الجيوش، بل أصبحت متعددة الأبعاد: تكنولوجية، ومالية، وثقافية، ومعرفية.. إن من يمتلك القدرة على تشريع القواعد وتعديلها يمتلك بالضرورة سلطة الهيمنة، خاصة إذا كانت مدعومة برأسمال ضخم وبنية معرفية عالية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تبنّت الولايات المتحدة شعارات جذابة، تحترم الروح القومية المتصاعدة آنذاك، واستخدمت هذه الشعارات كأداة لإعادة تشكيل النظام العالمي بطريقة تضمن بقاءها في موقع القيادة، وتمنحها شرعية واسعة في أعين الشعوب والحكومات التي سعت لإدماجها في منظومتها؛ حيث صاغت النظام العالمي الجديد، مؤسسات وقواعد، واستثمرت في حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، مع ضمان تبعيتهم الناعمة لها.
بذلك، استطاعت واشنطن تحقيق سيطرة فعالة دون صدام مباشر، وهذا الترتيب جاء بعد أن استُنزف الغرب الأوروبي في الحرب، وورثت أميركا قيادة المشروع الغربي الذي جمع بين الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية.
هذا، لا يعني بالضرورة أن الأطراف الأخرى كانت جاهلة بما تفعله القوى الكبرى (وإن لم تكن دائمًا معلَنة بكل تفاصيلها)، ولكنها ربما كانت غير قادرة على التحرك لإيقاف هذا المخطط.
ولهذا، تتبنى الدول والتنظيمات الأقل قوة أحيانًا سياسة المجاراة، حتى تتمكن من تغيير الوضع لمصلحتها لاحقًا، أو الاندماج في الإستراتيجية القائمة، ما دامت أنها تحقق لها بعض المكاسب المرحلية التي يمكن استثمارها مستقبلًا لتحسين وضعها.
ولكن أميركا- وكأي قوة عظمى- أنهكت نفسها من أجل بسط سيطرتها، فالعالم اليوم لا يشبه ما كان عليه عشية الحرب العالمية الثانية.. كثير من الدول تعلمت الدرس، وخبرت كيف تُدار الأمور وفق القواعد التي وضعتها الحضارة الغربية، واكتسبت فهمًا عميقًا لدهاليز النظام العالمي، وطريقة تفكير الولايات المتحدة.
وإذا كانت أميركا قد وصلت إلى القمة، فإن هذا الموقع قد أصابها بشيء من التكبر وخمول القمة، بينما تنشط اليوم مناطق أخرى أكثر حيوية وقدرة على الإنتاج والنمو، ما يهدد بتغيير موازين القوة.
التحدي الداخلي: الديمقراطيون كخصم إستراتيجي؟
تعيش الولايات المتحدة الأميركية اليوم لحظة فارقة من تاريخها السياسي، إذ وجدت نفسها أمام تحدٍّ خطير يفرض إعادة النظر في مكانتها كقوة مهيمنة في العالم.
غير أن هذه الضرورة الإستراتيجية اصطدمت بانقسام داخلي حاد حول الكيفية المثلى للتعامل مع الأزمة، رغم وجود اتفاق عام بين مختلف التيارات على أن ثمة خللًا حقيقيًّا يهدد استمرار الدور الأميركي القيادي عالميًّا.
ففي قلب هذا الانقسام، تظهر معضلة جوهرية: أيجب أن يوجَّه فائض الأرباح نحو تعزيز الرفاه الاجتماعي والاستقرار الداخلي، وتقليل الفوارق الطبقية، أم ينبغي توجيه هذا الفائض نحو دعم كبرى الشركات وتمكينها من إعادة توطين الإنتاج الصناعي في الداخل، لتعويض ما خسرته أميركا من قدرات صناعية خلال العقود الماضية، بعد أن أهمل الغرب الصناعة لصالح التكنولوجيا وتركها لآسيا، حيث برزت قوى شرقية تنافس الغرب في مجالات حيوية كانت حصرًا عليه؟
هذا التوتر، بين التوزيع الاجتماعي للثروة وإعادة بناء القوة الاقتصادية، يدفع بالصراع الأميركي إلى مستويات أعمق من مجرد خلاف حزبي تقليدي.
ففي المعسكر الليبرالي، وتحديدًا داخل الحزب الديمقراطي، تتصاعد أصوات التيار التقدمي المدافعة عن قضايا اجتماعية وحقوقية، قد تبدو في غير محلها في ظل السياق الجيوسياسي الراهن؛ إذ تساهم هذه القضايا- من حيث لا تدري- في تشتيت الجهود وصرف الانتباه عن جوهر الصراع: استعادة الهيمنة العالمية.
أما التيار المعتدل داخل الحزب ذاته، فيجد نفسه مضطرًا للتماهي مع هذه المطالب التقدمية، بحكم ارتباطه بشريحة من قاعدته الانتخابية.
في المقابل، استطاع دونالد ترامب، بعد عودته إلى سدة الحكم 2025 توحيد البيت الجمهوري خلفه، وهو يسعى الآن لتوسيع هذا التماسك إلى نطاق وطني.
وقد ركّز بشكل ملحوظ على مهاجمة التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي؛ لأنه يشكّل الحلقة الأضعف جماهيريًّا، ما يجعل ضربه أسهل وسيلة لزعزعة صورة الحزب ككل، دون الدخول في تعقيدات الصراع مع بقية التيارات، أو طرح بدائل تفصيلية لسياساته.
يرى ترامب أن الحل يكمن في تبني خيارات اقتصادية قاسية، تتطلب خفضًا في التكاليف الإنتاجية، وهو ما يعني بالضرورة إفقار بعض الطبقات داخل المجتمع الأميركي.
وهذه الفئات، بإحساسها المتنامي بالظلم، تصبح وقودًا لاضطرابات داخلية قد تقوّض الاستقرار الأميركي من الداخل، خاصة أن الشعور بالظلم كان ولا يزال من أقوى محركات الفعل الجماعي في التاريخ البشري، وهذا بدوره سيغذي الحزب الديمقراطي، مما سيدفع نحو مزيد من التوتر.
وبينما يرى ترامب أن الدولة الأميركية لم تعد تملك ترف التساهل أو اللين، فإن التيارات التقدمية تتعامل- من وجهة نظره- برؤية لا تعترف بخطورة التحديات التي تواجه أميركا، وتبدو كأنها منفصلة عن الواقع.
إن التحدي الأكبر للولايات المتحدة اليوم لا يأتي من الخارج فقط، بل من الداخل أيضًا؛ فالفشل في إيجاد توازن بين المطالب الاجتماعية الضرورية من جهة، ومتطلبات إعادة بناء القوة الاقتصادية من جهة أخرى، قد يسرّع انحدار الولايات المتحدة إلى نقطة تصعب العودة منها.
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن كلا الطرفين يمتلك جزءًا من الحقيقة، مما يوسّع الهوة بينهما، ويجعل التوصل إلى أرضية مشتركة أمرًا بالغ الصعوبة.
وفي ظل استمرار هذا الانقسام العميق، يبدو أن ثمة سيناريوهين محتملين: إما بروز شخصية قوية قادرة على فرض رؤيتها، وتوحيد الداخل خلفها بالقوة إن لزم الأمر، وهو ما يسعى ترامب لتجسيده؛ أو استمرار التشرذم والانقسام، ما قد يؤدي إلى إضعاف أميركا من الداخل، حتى قبل أن تخسر موقعها في النظام العالمي.
يقدم ترامب المعركة على أنها ليست فقط ضد خصومه في الحزب الديمقراطي، بل ضد حالة من التراخي والتفكك الداخلي الذي يراه الخطر؛ فهو يخوض معركة على جبهتين: داخلية تمس هوية الدولة واتجاهها الاقتصادي والاجتماعي، وخارجية تتعلق بإعادة فرض الهيمنة الأميركية على عالم بات أقل استعدادًا للخضوع.
أوروبا: الحليف المنهك
التحالف الأميركي الأوروبي، الذي شكّل محور الهيمنة الغربية بعد الحرب، بدأ يفقد بريقه. أوروبا، الغارقة في البيروقراطية، لم تعد تملك نفس القوة التي كانت تؤهلها للعب دور الشريك الرئيسي كما في السابق، خاصة بعد أن فقدت الكثير من نفوذها في مناطق مثل أفريقيا لصالح قوى صاعدة كالصين وروسيا وبعض دول الخليج العربي.
بالضرورة، لا تسعى الولايات المتحدة إلى التخلص من حليفها الأوروبي، بل إلى إعادة تقييم العلاقة، وصياغة شراكة جديدة تنسجم مع موازين القوة الراهنة في العالم.
يمثل ترامب القوة التي تتبى رؤية أن أوروبا لم تعد تحتل ذات المكانة الإستراتيجية التي كانت لها في السابق، وهو يسعى لدفعها لتحمل جزء أكبر من أعباء الدفاع عن هذا الثغر.
هذا التوجه لا ينبع من عداء، بل من قراءة واقعية لمعادلات النفوذ المتغيرة، حيث أصبحت مناطق مثل الشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ أكثر حيوية وتأثيرًا في المستقبل.
ومن خلال هذا، يسعى ترامب إلى إعادة توزيع النفوذ بطريقة تُبقي الولايات المتحدة في موقع القيادة، عبر تدوير التحالفات والسيطرة على سلم الصعود والهبوط الدولي، بحيث تظل أميركا طرفًا لا غنى عنه لكل من يطمح إلى الصعود أو يخشى التراجع.
لقد تبنّت أميركا قيادة العالم من بعد بريطانيا كوريث شرعي لقيم ومؤسسات الغرب، خاصة بعد أن استُنزف الغرب الأوروبي بالحرب العالمية، بينما كانت أميركا- التي نشأت من رحم مجتمعات مشابهة لأوروبا- مستعدة لحمل الراية الغربية: الديمقراطية، والرأسمالية، والليبرالية. سعت واشنطن لاحتواء الحلفاء القدامى ودعمهم لضمان تبعيتهم المستمرة ضمن نظام عالمي جديد تقوده هي.
ومن بين أبرز محفزات هذا التحالف كان التهديد المستمر من الشرق (الاتحاد السوفياتي)، الذي برز بعد الحرب كقوة كبرى تهدد الهيمنة الغربية.
لقد شكل الاتحاد السوفياتي تهديدًا دائمًا للقارة، وهو ما منح أميركا شرعية لحماية أوروبا وتوسيع نفوذها من خلال الناتو. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، تمادت واشنطن في التمدد شرقًا، مما أشعر روسيا- وريثة الاتحاد السوفياتي- بالحصار والتهميش.
إعلان
وعادت موسكو اليوم، من خلال حربها في أوكرانيا، لتشكل تهديدًا جديدًا للمنظومة الغربية، تسعى أميركا لاستثماره على أكثر من صعيد: من خلال تحفيز أوروبا على الاصطفاف من جديد تحت رايتها وفقًا لشروط جديدة، واستنزاف روسيا في حرب تدور على عتبة دارها.
تُدرك واشنطن أن روسيا اليوم ليست خصمًا مكافئًا، لكنها تمثل تهديدًا يُمكن توظيفه لإعادة إنتاج قيادة أميركا للتحالف الغربي، مع كلفة منخفضة نسبيًّا، ريثما تتفرغ للمواجهة الكبرى مع الصين، التي من المرجح أن تتحالف مع روسيا (لذلك تفضل روسيا أضعف وأقرب للغرب) في حال دارت حرب بينها وبين أميركا. هكذا ترى أميركا أن الخطر الروسي هو أداة ضغط وشرعية لإعادة هندسة التحالفات الأوروبية، بينما تبقى الصين الخطر الأكبر والأكثر جدية في الصراع العالمي المقبل.
هكذا تبدو التحديات التي تواجه ترامب في الغرب، فماذا عن الشرق؟. هذا ما نستعرضه في الجزء الثاني من المقال.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 دقائق
- الجزيرة
شبكة الجزيرة الإعلامية: جيش الاحتلال والناطقون باسمه يصعدون تحريضهم ضد صحفيينا خصوصا الزميل المراسل أنس الشريف
شبكة الجزيرة الإعلامية: جيش الاحتلال والناطقون باسمه يصعدون تحريضهم ضد صحفيينا خصوصا الزميل المراسل أنس الشريف. نعرب عن استنكارنا وتنديدنا بالحملات التحريضية ضد كوادرنا منذ بدء تغطية حرب غزة. نعتبر الحملة التحريضية محاولة خطيرة لتبرير استهداف صحفيينا في قطاع غزة. نحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن سلامة كوادرنا في قطاع غزة. ندعو الدول الفاعلة والمنظمات الدولية إلى توفير الحماية لجميع الصحفيين في قطاع غزة..


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
فوق السلطة: وئام وهاب متهم بالعمالة وأبو شباب يطالب بحماية دولية
ركز برنامج 'فوق السلطة' -في حلقته بتاريخ (2025/7/25)- على جملة من الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وأبرزها أحداث السويداء جنوبي سوريا وتطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
الوطن بين خطر الطائفية وتبعاتٍ أيديولوجية موقوتة
لم تعد الأوطان حاضنة للقضايا المصيرية، بل انكمشت جغرافيتها بين حدود وضعية وتأطير روحي يُختزل فيه الوطن بين خطوط طولية ودوائر عرضية، مفرغًا تمامًا من قضيته الوجودية، خاضعًا ومكبلًا بسلاح الطائفية الناعمة كقنبلة مؤجلة، تعمل القوى الكبرى على إعادة برمجتها وتشغيلها عند كل مفترق تاريخي. لقد شكلت قوة النفوذ والهيمنة "البراغماتية" معايير بناء الأوطان وتصميم ملامحها، وتقاطعت الجغرافيا مع الهوية ليتأجج السؤال برواية حارقة: أما زال الوطن هو الحاضن، أم إن ساحاته "المهلهلة" تحولت إلى أوكار تُصنع فيها فكرة الطائفية دون مصالح مشتركة؟ النفوذ الغربي يرسم رقصاته على وقع لحن الدمار، ويعيد قرع نُذر الحرب تارة ويرممها بندوب السلام تارة أخرى، والمشهد يطول، والواقع يتأرجح على حد السيف، والوجهة على صفيح ملتهب. لقد تجاوزت الطائفية فكرة ومصطلح الاختلاف الطبيعي في أنماط التدين والتفكير، لتبرز بشكل "سافر" وتكون مشروعًا تدميريًّا يقاد من قبل أجهزة الاستخبارات لذلك، ومن بين قعقعة السلاح "الطائر"، وقوة الاقتصاد الغارق في رأسمالية الاحتكار والتملك والاستحواذ، واشتداد بروز "شوفينية" الرموز وعنجهيتها، وتقاطع وازدواجية المصالح؛ تبرز لديّ تساؤلات مرهقة: وماذا بعد؟ هل تبقّى شيء لم يجرَّب؟ ألا يوجد رأي رشيد حصيف؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ وبمن نحتمي؟ لم يعد هناك ما يُخفى، ولن يتبلور ما يُرى ويُرتجى، فهنا من يرى ما لا نرى؛ وعلى مد البصر وفي وضح النهار تشتعل الجبهات، ويشتد وطيس المعارك، ويتعمق شتات الأمر من قضايا كانت هامشية وتعود إلى السطح وفق تمكّن القوى العظمى من تحريك وتوجيه البوصلة. فهذا الواقع يرزخ تحت وطأة التعددية الإثنية، وعلو كعب الجماعات غير المتجانسة التي انفصلت عن الواقع وفق مجريات الأولويات والانتماءات الدينية، وممارسة السادية السياسية على شعوب تبحث عن معنى الاستقرار، فلا هم في العير ولا في النفير. إن الانحراف عن الفطرة يولّد ثقافة القطيع، ويدفع إلى تبني حالات الولاء الأعمى، وطغيان القوة على شعوب غُلبت في أمرها؛ فانتقلت من سمو تأليه الخالق إلى سطحية وانحدار تأليه البشر، الذين طفقوا ضربًا واضطهادًا بما يخالف المصالح. في الأندلس، تفرقت الطوائف وتناحرت فدخل العدو من الباب مع هتافات "النصر"، وفي العراق العباسي برزت العصبيات العمياء فأحرق المغول بغداد، وفي القرن العشرين أفل نجم الدولة العثمانية، ليس من ضعف عسكري بل لانشغالها بالداخل المقسم والمجزأ. التاريخ لم ينسَ تلك اللحظات، وها هي الكرة تعاد من جديد وعلى ذات البرمجة في هذا العصر. لقد تجاوزت الطائفية فكرة ومصطلح الاختلاف الطبيعي في أنماط التدين والتفكير، لتبرز بشكل "سافر" وتكون مشروعًا تدميريًّا يقاد من قبل أجهزة الاستخبارات، ويكبُر ويتوسع بين حضانات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتحفظه عن ظهر قلب أصوات مأجورة تبحث عن الاختلاف وذاتيتها المطحونة. فمنذ عام 2003 تفكك العراق على أسس طائفية، وفي لبنان تأخر "الوطن" وتبعثر الأمل وسط مجموعة طوائف تبحث عن دولة، وهناك في المربط الأموي، وفي قلب الشام، ها هي الطائفية تعود كجواز سفر للحياة والموت في آن واحد، لتبحث عن حماية أممية تبيح للكيان الإسرائيلي العبث بها؛ فالقنبلة الطائفية طويلة الأمد لا تنفجر دفعة واحدة، وإنما تبرمج وفق مصلحة المستحوِذ والمتحكم. الطائفية الافتراضية لقد أصبح من السهولة بمكان إحداث الفوضى وتوجيه الرأي العام نحو غوغائية التبعية بكبسة زر واحدة؛ وذلك من خلال منصات "التناحر" الاجتماعي، التي شكّلت الرأي وضده، في حلبة صراع سريعة الاشتعال، بل أصبحت هي الموجه للأنظمة، وهي بقعة الرضا والشعور بالانتماء، وهي نمط من أنماط الطائفية العصرية. تلك الطائفية الجديدة تفننت في استخدام منابر التراشق وإشعال فتيل الصراع؛ فساهمت في تحوير حقائق الفكر "المقاوم" بمختلف هوامشه ومتونه، فتغذت على الانحرافات الفكرية والانفصام السلوكي المغيب للقيم الإنسانية، وبُنيت على فكرة الفوضى المنظمة التي تبررها نظريات "الردع الاستباقي" والأمن القومي. إننا نسير بطوق من الأسلاك الشائكة وكاميرات رقابية كثيرة الحساسية، من أجل محاصرة الفكر وتقييد حرية العقل، للدخول في "زريبة" إذعان الوعي المؤمم والمطلق، أو ما يسمى "اللافكر" أو العدم العقلي، وهذا ما تقوم عليه الأنظمة القمعية التي تقيد حرية التعبير، وتدفع المواطن إلى الصمت فيعتبره أمانًا. إن النهج القمعي الموجه ولّد الاختلاف بين اهتمامات الشعوب، وجعلها رهينة فكر واحد ضمن نطاق جغرافي محدود بعيدًا عن الولاء الديني، فما يتحدث به الآخر ويطالب به ويتبناه، من حيث حقه في الدفاع عن نفسه وعرضه ووطنه، يراه الآخر في الجوار بأنه هلاك ودمار للبنى الأساسية، وعليه الرضوخ والرضا بواقعه، وأن يتعايش معه، فيما يرى هو ذاته ضمن نطاقه الجغرافي بأنه "خط أحمر" لا يمكن أن يُتهم تصريحًا أو تلميحًا بشيء من الواقع في ظواهره المجتمعية، ولا يمكن أن يسمح لأحد أن ينال منه، وما خالف الإيجابيات فهو خطأ لا يمكن أن يقع البتة في ذلك الحيز. وهذه هي النظرة الشوفينية التي تدعو إلى التحزب والتعصب تجاه النفس والانتماء، مع تعزيز وتكريس الأفكار بالتقليل من شأن الآخرين والتحامل عليهم، بل وشن الحملات التكفيرية ضدهم. وبذلك، فإن وطننا الإسلامي المترامي بطوائفه وقومياته تحوّل إلى ساحة للحفلات، يكثر فيها "نبيب التيوس وثُغاء المعزات"، خاصة عندما تكون الوجهة نحو التحرر في الشكل على حساب المضمون الذي كُبّل بالقيود القمعية. أيديولوجيًّا؛ تمادت الطائفية لإضعاف المشروعات الدينية، ولتعويض الغياب السياسي في حالة الفوضى، خاصة مع بروز "المحاصصة الطائفية" التي أفرغت الفكر من مضامينه الوطنية، واستبدلت بسردية الوطن العادل الطائفة المنتصرة تلك هي الساحة التي أشغلت الشعوب عن مصائرها، وساهمت بالسير إلى الابتذال في التعري، ناهيك عن التصيّد الذي لعبت به خوارزميات الواقع الافتراضي، وحولته إلى أجندة سياسية تهاجم بها الشعوب نفسها وتتصادم مع ذواتها، في وضع يشير إلى حالة الإلهاء عن الأولويات، والدفع باتجاهات الرأي وحشده تجاه قضايا هامشية وربما وهمية، لنكون أمام نمط الطائفية الجديدة. إن الخطر الأكبر الذي يهدد التمازج البشري في بقعة جغرافية هي التشكلات النمطية وفق المتطلبات الراهنة، وهي "الطائفية الجديدة" التي لا تتطلب مؤسسة دينية تقليدية، بل تعمل تحت ستار الحرية وتعدد الرأي، تدفع بالاختلاف الطائفي بلباس الحداثة والوعي، وتدفع بالكراهية تجاه الرأي المخالف. تبرز الطائفية الجديدة في إعادة الخطاب الطائفي بأدوات رقمية، فيما تقوم خوارزميات الانحياز والتغذية الراجعة بإثارة التفاعل من خلال محاصرة الأفراد في إطار قناعاتهم الطائفية، أو ما تسمى "الفقاعة الطائفية"، بل تصل إلى سحب القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى المربع الطائفي، فتعاد برمجتها كأنها صراع طائفي، ليتكشف بعد ذلك "الترويند" أو الاتجاه السائد، أو- كما يسمى- الأكثر تداولًا. تظهر هنا كذلك فلسفة التحريض الرقمي، الذي يقوم على حملات ممنهجة، وبث معلومات مفبركة توقظ وتُلهب النعرات الطائفية باستخدام أو "الهاشتقات"، وهو يدعم الاصطفاف والانحياز من أجل تبرير مشاعر المظلومية والتفوق لإشعال معارك رقمية. وبالتالي، تقوم الجهات الخارجية وفق عملية التلاعب السياسي باستخدام الحسابات الوهمية لزعزعة الاستقرار، وتشتيت الرأي العام عن قضاياه المصيرية والمركزية، وتعميق التناقضات الداخلية، لتتحول رمزية الواقع الطائفي إلى هوية افتراضية لبعض المستخدمين للتعريف عن أنفسهم، مع احتمالية كبيرة بأن تكون هذه الهوية أكثر تطرفًا من الواقع؛ بسبب التحرر من المحاسبة، وسهولة الاندماج في الجماعات الرقمية. أيديولوجيات موقوتة أيديولوجيًّا؛ تمادت الطائفية لإضعاف المشروعات الدينية، ولتعويض الغياب السياسي في حالة الفوضى، خاصة مع بروز "المحاصصة الطائفية" التي أفرغت الفكر من مضامينه الوطنية، واستبدلت بسردية الوطن العادل الطائفة المنتصرة. تطور التبعات الأيديولوجية من خطاب متعصب إلى صراع طويل الأمد، يدفع بتدوير الخراب وإنتاج خوف جمعي يُفرغ الفكر من عمقه التحرري، ليعلن المحتل المغتصب بأنه المدافع عن تلك الطائفة، ويعطي نفسه الحق بإنقاذها من بطش عصابات النظام، على حد وصف "نتنياهو" ظهيرة قصف وزارة الدفاع السورية في عمق دمشق بجرأة سافرة، وعلى مرأى العالم. إنه الوطن الذي اختل معناه وضاقت حدوده واتسعت غربته… إنه الوطن الذي يُقصى فيه الفكر ويُحتفى فيه بالتبعية المؤدلجة… إنه الوطن الذي يُختزل فيه الانتماء في رقم مدني يمثل الهوية… إنه المكان الذي تُقاس فيه الوطنية بمدى الولاء للسلطة لا للحق. أوطاننا أصبحت سجنًا لا مأوى روحيًّا يؤثر ويتأثر به الإنسان، وغدونا نحرس الطائفية أكثر من الثروة الوطنية! فيا أيها العقلاء: إن الوطن لا يقاس بخارطة فقط؛ بل بقضية وفكر ووعي وكرامة واستقلال، حتى لا يمسي الوطن بين خطر الطائفية وتبعاتٍ أيديولوجية موقوتة تتربص بما تبقّى.