
«تاريخ العالم».. الرواية مدونة حياة البشر
الشارقة: علاء الدين محمود
صارت الروايات التاريخية؛ تجد رواجاً كبيراً بين الكتاب والقراء على السواء؛ ذلك لما تشكله أحداث الماضي من أرضية خصبة للسرد، إذ يحرّر الكاتب مخيلته ويطلق لها العنان لمراجعة الوقائع القديمة التي أصبحت من المسلمات، ومن ثم كتابة سرد إما أنه يحاكمها أو يقدم إضافات خيالية يملأ بها فراغات التاريخ.
رواية «تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف»، للكاتب البريطاني جوليان بارنز، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2023، عن دار روايات في الشارقة، بترجمة نوف السعيدي، هي أحد الأعمال السردية الشائقة، التي تغوص عميقاً في التاريخ القديم لتطرح فرضية جديدة يصنعها خيال الروائي، وهي الأطروحة التي تتفق وتتشكك في ذات الوقت في كثير من المرويات القديمة، وربما كانت الأسئلة هي الخطوة الأولى في مشوار كتابة هذه الرواية، بالنسبة للمؤلف، تلك التي تثيرها الكثير من الظواهر التاريخية والحكايات التي قد لا تبدو متسقة، بالتالي فإن المؤلف في هذا العمل يتتبع أثر الماضي مفككاً ومفسراً وممارساً لفعل التأويل في ذات الوقت.
الرواية تبدأ بمراجعة العديد من المرويات التاريخية بكل أحداثها، ولعل البراعة في الرواية أن السرد ينهض على أقوال راوٍ هو بمنزلة شاهد على تلك السير، وهو شخصية غامضة لم ترد في أي من المراجع التاريخية غير أنه يلعب في هذه الرواية دوراً رئيسياً، ويتجول في مسرح الأحداث بين الماضي والحاضر، لتصبح أحداث العمل السردي في حد ذاته مروية جديدة، أو هكذا يريد لها الكاتب والذي لا يقدّم تاريخاً عن العالم فقط من حيث بداياته وتحولاته ومنعطفاته المتعددة، بل يسعى كذلك، وبشكل رئيسي، نحو تقديم بيان في طبيعة التاريخ نفسه، كيف يشتغل؟ وكيف يؤثر؟ ويتبع ذلك بتجوال في كل التواريخ القديمة منذ طوف ميدوسا، وعابرة المحيطات تايتانك، وحتى مركبة صعود القمر، يقدم الكاتب مائدة تختلط فيها الأصناف ما بين الأسطوري المتخيل والواقعي الذي حدث بالفعل.
سؤال التاريخ
هذه الرواية تتضمّن مجموعة من الحكايات والقصص، غير أن خيطاً رفيعاً يربط بين كل الأحداث كما هي أسلوبية بارنز السردية البارعة والمختلفة، والتي لا تكتفي فقط بالوقائع بل تغوص في دواخل النفس البشرية لتفسر السلوك والأفعال، فالتاريخ بالنسبة للمؤلف ليس هو ما يرويه المنتصرون فقط، بعكس ما هو شائع، فرواته في هذه الرواية يأتون من أكثر الأماكن سريةً وعُمقاً من الماضي، والمستقبل أيضاً، ويبرز في ثنايا السرد، بطريقة لا تعكر صفو الحكاية، سؤال التاريخ من حيث ما هو، وهل هو علم أم وقائع تفرض نفسها، أم أن العامل الذاتي يلعب دوراً في تفسير أحداث الماضي ووقائعه بحيث يحمل كل إنسان معنى مغايراً لماهية التاريخ، أو تفسيراً خاصاً له؟ وهل حطت سفن البشرية نحو بر الأمان حقاً، أم لا يزال البشر تائهين في محيط من الغموض والألغاز؟ وتلك لفتات تحمل طابع التأمل الوجودي في الكون والأشياء والظواهر تحفل بها الرواية ذات الطابع الفلسفي.
عوالم مفتوحة
تتعدد عوالم الرواية بحيث إنها لا تتناول تاريخ البشر فقط، بل كذلك الحيوانات والطبيعة والكوارث التي مر بها العالم وكيف تعاملت معها الكائنات وكيف كان تأثيرها في الماضي والحاضر، ويطوف السرد كذلك في قضايا حيوية شديدة الصلة بالإنسان ومحاولاته لجعل العالم أكثر جمالاً مثل الفنون وحضورها البهي في حياة البشر، وبذلك فإن الرواية هي متنوعة ومتعددة الطبقات والأصوات ومصادر الحكايات وهي بعمقها هذا تحمل تحدياً للقارئ؛ إذْ تحرّضه على التفكير في المفاهيم التقليدية للتاريخ والواقع، والخروج عن الرؤى النمطية والسرديات السائدة؛ إذ إن الرواية تدعو لتغيير طرائق التفكير بحيث إن ذلك هو بداية الطريق نحو محاربة المسلمات والمعطيات، سواء التي تقدم من قبل المؤرخين أو في جميع المجالات الأخرى، فمن خلال هذه القصص المتنوعة، يطرح بارنز أسئلة حول معنى التاريخ، وكيف يتم تشكيله.
تبديد الغموض
على الرغم من العوالم الشائكة التي تعالجها الرواية، إلا أن أسلوب الكاتب ولغته اتسما بالبساطة والسهولة، وربما لأن المؤلف يسعى نحو تبديد غموض العالم، فهو لا يريد أن يتورط في كتابة معقدة وغامضة، فيقدم مادة مسلية وممتعة رغم طابعها التاريخي والفكري، ومن أجل تمرير ثقل الحمولات الصعبة في السرد والمتمثلة في التاريخ والفلسفة، فإن الكاتب وظف خياله بصورة جبارة لا تعرف الحدود؛ حيث يتعدد الرواة في السرد، وتتم الاستعانة بشخصيات خيالية وأخرى واقعية تتجول في مسرح الأحداث من أجل صناعة حالات مختلفة من المتعة والصور والمشاهد المختلفة، ويستعين السرد كذلك بأحداث وقعت بالفعل هي عبارة عن كوارث بشرية كانت بمنزلة محطات مهمة في تاريخ الإنسانية مثل كارثة تشيرنوبيل «انفجار مفاعل نووي»، والتي كان لها دويّها الهائل وتأثيرها المقيم، وكذلك حادثة غرق سفينة تيتانيك وواقعة اللاجئين على متن سفينة سانت لويس عام 1939، الذين مُنعوا من النزول في الولايات المتحدة ودول أخرى، وكل تلك الأحداث التي تمثل نذيراً بأن الكوارث التي تهدد حياة البشر لا تزال ممكنة الوقوع، وكذلك فإن الرواية تمارس إسقاطاً بارعاً على واقع اليوم، وتضعنا أمام مشهد الهجرات الكبيرة من الدول الفقيرة نحو أمريكا والغرب والمخاطر التي ينطوي عليها ذلك النزوح الكبير بواسطة وسائل خطِرة مثل قوارب الموت، وأثر تلك الهجرات في حياة البشر الذين هاجروا، وكل تلك الرؤى والأفكار يضمّنها المؤلف في العمل بدقة شديدة من الأحداث المترابطة وغير المنسجمة كذلك.
استدعاء
تستدعي الرواية عدداً من الشخصيات الفلسفية التي اهتمت بالتاريخ ومكانته، والتي قدّمت أطروحات متباينة، سواء كانت تنظر لوقائع الماضي بصورة عملية جادة أو نقدية ساخرة، ومن هؤلاء يبرز المفكر كارل ماركس عبر مقولته الشهيرة «التاريخ يعيد نفسه، المرة الأولى كمأساة والثانية كملهاة أو مهزلة»، فذلك الجانب العبثي يرى فيه الكاتب بعداً جمالياً مهماً ورؤية مختلفة للحياة والتاريخ، فهناك أحداث كان بالإمكان تجنبها لولا أخطاء البشر، لكنها وقعت وكانت نتائجها هزلية إلى جانب أنها مأسوية في ذات الوقت، فذلك من ضمن مفارقات الحياة، كما تستدعي الرواية كذلك الفيلسوف هيجل وموقفه من التاريخ، إلى جانب أدباء بحجم شكسبير، يقدّمون إفادات حول وقائع الماضي وأثرها في الحاضر وربما المستقبل.
أسلوب
إلى جانب قوة الوصف والتنوع في صناعة الحبكة والقصص، فإن الرواية تتميز كذلك بأسلوب ساخر ونقدي، حيث يضع علامات استفهام حول الكثير من الحقائق التاريخية المتداولة، ويسخر من بعض المفاهيم غير المنطقية، وعمل المؤلف على توظيف النكتة بشكل مبتكر، والتي تتأمل في واقع البشر وطريقة تفكيرهم وتلقيهم للمرويات التاريخية دون التمحيص فيها، إلى جانب ذلك فالعمل يمكّن القارئ بشكل كبير من تطوير أدواته النقدية والتعمق في تناول الظواهر.
اقتباسات
«يمكنك التعامل مع العقل، أما القلب البشري، فهو يبدو في حالة فوضى عارمة».
«التاريخ ليس ما حدث، التاريخ هو فقط ما يخبرنا به المؤرخون».
«تاريخ العالم مجرد أصوات تتردد في الظلام؛ صور تحترق لقرون».
«لا يخفف ذعرنا وألمنا إلا التخيل المهدئ؛ نسميه تاريخاً».
«لا يُمكنك أن تُحب شخصاً دون أن تبدأ برؤية العالم من منظورٍ مختلف».
«يجب أن نكون دقيقين في الحب، في لغته، وفي تعبيراته».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة الخليج
منذ 12 دقائق
- صحيفة الخليج
أقلام وطنية تشرق كل صباح في «الخليج» (فيديو)
منذ أبصرت صحيفة «الخليج» النور على يد الراحلين تريم عمران تريم، ورفيق دربه الدكتور عبدالله عمران تريم، عام 1970، استطاعت أن تكون علامة فارقة ليس على مستوى الصحافة المحلية، بل تجاوزت ذلك إلى المستوى الخليجي والعربي. وعلى مدار الأعوام نجحت «الخليج» في استقطاب الكفاءات الإماراتية والعربية لتحقيق هذه الغاية، وأسهمت في إعداد المبدعين، والمتميزين الذين تركوا بصمات في الصحافة محلياً ودولياً.


البيان
منذ ساعة واحدة
- البيان
«سيرا» تكرم حارس أمن لتميزه في أداء عمله
كرّمت مؤسسة تنظيم الصناعة الأمنية «سيرا» صباح أمس الحارس الأمني عمّار بهادور ثابا، ومنحته نيشان سيرا للإخلاص، تقديراً لتميزه في أداء عمله بروح إيجابية عالية، وبثه للبهجة والطاقة الإيجابية بين زوار حي دبي للتصميم، ما جعله مثالاً يُحتذى به في الإخلاص والتفاني في العمل. وقد قام بتسليم النيشان خالد البلوشي، مدير العلاقات، ومحمد المازمي، مدير مقدمي الخدمة الأمنية، في احتفال خاص يعكس اهتمام المؤسسة بتكريم النماذج المشرفة في القطاع الأمني الخاص. وبرز الحارس عمّار كرمز للفرح، حيث التقط الجمهور مقاطع فيديو عفوية له أثناء عمله، وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليجسد صورة مشرّفة عن قطاع الأمن الخاص في دبي، ويؤكد أن الإيجابية يمكن أن تكون مصدراً للإلهام حتى في أصعب الظروف. وأطلقت مؤسسة تنظيم الصناعة الأمنية مبادرة مجتمعية جديدة، تدعو من خلالها الجمهور وكافة القائمين في إمارة دبي إلى مشاركة قصصهم الإيجابية والملهمة مع الحراس الأمنيين، في مختلف المواقع عبر الموقع الإلكتروني الرسمي لمؤسسة تنظيم الصناعة الأمنية. تهدف هذه المبادرة إلى إبراز الدور الإنساني الذي يلعبه الحارس الأمني في نشر الأمان والابتسامة بين أفراد المجتمع، وتسليط الضوء على مواقفهم النبيلة التي تستحق التقدير والاحتفاء. وقال خليفة إبراهيم السليس، الرئيس التنفيذي لمؤسسة تنظيم الصناعة الأمنية: «نفخر بإطلاق هذه المبادرة التي تحتفي بالحراس الأمنيين وتُبرز جهودهم التي غالباً ما تكون خفية، رغم أنها تمس قلوبنا جميعاً، ونؤمن بأن كل قصة صغيرة قد تحمل أثراً كبيراً، وأن كل لحظة إيجابية يمكن أن تلهم الآخرين، ندعو الجميع في إمارة دبي إلى مشاركة قصصهم الإنسانية والمواقف التي عاشوها مع الحراس الأمنيين، تقديراً لهم واحتفاءً بجهودهم التي تعكس قيم الإخلاص والعطاء.


الإمارات اليوم
منذ 2 ساعات
- الإمارات اليوم
الفجيرة تطلق أول شارع موسيقي في الوطن العربي يعزف أنغام بيتهوف
أطلقت أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة مشروع "الشارع الموسيقي"، الأول من نوعه على مستوى الدولة والوطن العربي والذي يمتد المشروع على مسافة 750 مترًا في شارع الشيخ خليفة، عند مدخل مدينة الفجيرة. ويمنح المشروع السائقين والركاب تجربة موسيقية استثنائية، حيث تعزف عجلات السيارات عندما تمر على الطريق نغمات من المقطوعة الشهيرة للسيمفونية التاسعة للموسيقار العالمي بيتهوفن. ويأتي هذا المشروع النوعي ضمن مبادرات الأكاديمية لتعزيز الفنون في الفضاء العام، ودمج الموسيقى في تفاصيل الحياة اليومية، بأسلوب مبتكر يعكس الطابع الثقافي والفني لإمارة الفجيرة. وقال سعادة علي عبيد الحفيتي، مدير عام أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة إن مشروع الشارع الموسيقي هو امتداد لرؤية الفجيرة في جعل الفنون جزءاً من الحياة اليومية، وتقديم تجربة فريدة تلامس حواس الناس في أماكن غير تقليدية، ونحن نؤمن أن الموسيقى لغة عالمية قادرة على خلق لحظات استثنائية حتى أثناء قيادة السيارة. وأضاف أن هذا المشروع يربط الفن بالحياة ويجسد رسالة الأكاديمية في نشر الجمال والإبداع في كل زاوية من الإمارة، وخاصة في المجالات الفنية.