
الجولان... جوهرة سورية المستباحة بين عهدَين
من المفارقات أن يتشابه موقف الإدارة الجديدة في دمشق اليوم مع موقف النظام السابق، لجهة الشعور بالعجز إزاء العدوّ نفسه، إسرائيل التي واصلت، بل صعّدت من اعتداءاتها وتحرّشاتها بالجانب السوري بعد سقوط نظام الأسد، من دون أن يجد الرئيس أحمد الشرع، كما بشّار الأسد من قبل، وسيلةً ناجعة لوقف هذه الاعتداءات.
كانت بعض الاعتداءات الإسرائيلية على سورية في عهد النظام الساقط، تجري، وفق الترجيحات، برضى ضمنيّ منه، أو على الأقل من حليفته روسيا، باعتبار أنها كانت تستهدف أساساً مواقع محسوبة على إيران أو حزب الله، وذلك في إطار مسعى روسيا، ومعها النظام، أو بعض أجنحته، لتقليص الوجود الإيراني في سورية.
كان نظام الأسد يتحرّج أحياناً من هذه الاعتداءات، خصوصاً حين تستهدف المطارات أو العاصمة دمشق، فيحاول إطلاق ما لديه من صواريخ أو مضادّات أرضية، ونجح مرّة في إسقاط طائرة إسرائيلية عام 2018 بصواريخ "إس - 200" الروسية، لكن ردّه لم يتجاوز ذلك، مثل محاولة قصف إسرائيل بالمثل، خشية أن يتلقّى ردّاً إسرائيلياً قوياً، أو أن تنخرط إسرائيل في جهود إطاحته. وكان الاعتقاد السائد، والمدعوم بتصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين، أن نظام الأسد "شيء جيّد" لإسرائيل، ولا يزعجها وجوده، باستثناء عجزه عن إبعاد إيران وحزب الله عن الأراضي السورية، رغم أنه بذل محاولاتٍ في هذا الاتجاه، خصوصاً في الأشهر الأخيرة من حكمه.
الخدمة الأساسية التي قدّمها نظام بشار الأسد لإسرائيل، أنّ تمسُّكه بالحكم في وجه الاحتجاجات الداخلية، أوصل سورية إلى حالة من التمزّق والانقسام والضعف، ويصبّ ذلك كله استراتيجياً في مصلحة إسرائيل. لذلك؛ كانت سياسة الأخيرة، التي التزمت بها أيضاً الولايات المتحدة، تقوم على إطالة أمد الحرب في سورية أطول فترة ممكنة، وعدم تمكين طرف من الانتصار على الآخر، لتبقى البلاد في حالة صراع داخلي يقضي على مقوّمات الدولة السورية، ويُبعد أي خطر محتمل منها على إسرائيل عقوداً.
تعمل إسرائيل على هذه السياسة نفسها في ظل العهد الجديد، أي محاولة إبقاء سورية في حالة ضعف مستديم، عبر تدمير ما تبقّى من بنيتها العسكرية، وتغذية الانقسامات المحلية، بزعم الدفاع عن بعض المكونات السورية، ومواصلة الضغط والابتزاز العسكري على النظام، على أمل استفزازه وجرّه إلى مواجهةٍ تتيح لها القضاء عليه في لحظة ولادته، وقبل أن يستكمل الحصول على مقوّمات الشرعية والقوة، من منطلق أن الخلفية الإسلامية - الجهادية لهذا النظام تؤهله حكماً ليكون معادياً لإسرائيل، بغضّ النظر عمّا يصدُر عنه اليوم من تطميناتٍ لها.
تعمل إسرائيل على إنشاء منطقة سيطرة تمتد نحو 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، إلى جانب منطقة نفوذ بعمق 60 كيلومتراً تنشط فيها المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، بغرض منع نشوء أي تهديد مستقبلي ضدّها من الأراضي السورية.
وفي تصريحات له أخيراً، وصف وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الإدارة الجديدة في سورية بأنها "جماعة إرهابية"، فيما قال وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إنّ إسرائيل لا تثق بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وإنّها ستواصل السيطرة على المنطقة العازلة مع سورية، وتحويل جنوب سورية إلى منطقة منزوعة السلاح.
ووفق صحف إسرائيلية، تعمل إسرائيل على إنشاء منطقة سيطرة تمتد نحو 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، إلى جانب منطقة نفوذ بعمق 60 كيلومتراً تنشط فيها المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، بغرض منع نشوء أي تهديد مستقبلي ضدّها من الأراضي السورية.
ومن الواضح أن الحسابات الإسرائيلية تقوم على فرضيّتَين؛ الأولى عدم ثقتها بالحكم الجديد في سورية، الذي تعتبر أن لديه مرجعيات دينية (جهادية) تدعم محاربة إسرائيل، والثانية افتراض إسرائيلي بأن حركتَي حماس والجهاد الإسلامي سوف تبحثان عن جبهة انطلاق جديدة محاذية للجولان السوري المحتل، لمهاجمة إسرائيل بعد أن خسرتا جبهتَي غزّة وجنوب لبنان.
وتدرك إسرائيل ذلك، لكنّها ترمي إلى ما هو أبعد، مثل انتزاع تخلٍّ علنيٍّ من دمشق عن أي التزام بالقضية الفلسطينية، حتى على الصعيدَين السياسي والإعلامي، على نحو ما كان يفعله النظام السابق، الذي كان يمنع النشاط العسكري الفلسطيني، ويكتفي بالدعم الإعلامي، الذي تقلّص أيضاً في الأشهر الأخيرة قبل سقوط النظام، تحت الضغط الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك، تبدو إسرائيل، وهي تعيش هذه الفترة نشوة الانتصار (على "حماس" في غزّة، وحزب الله في لبنان، وتراجع نفوذ إيران في المنطقة ووضعها تحت الضغط)، تسعى إلى جني مكاسب ذات طابع استراتيجي في سورية أيضاً، رغم انزياح النظام الذي كان يتعاون مع إيران وحزب الله، بذريعة عدم ثقتها بالنظام الجديد.
وتندرج هذه المكاسب من محاولة الاستحواذ على أراضٍ سورية معينة تحت عنوان "تدابير مؤقتة" (قد يمتدّ المؤقت عند الإسرائيليّ عقوداً أو يصبح أبدياً طالما أمكن ذلك)، وصولاً إلى محاولة انتزاع اعترافٍ من القيادة الجديدة بالتنازل عن الجولان، وعقد اتفاق سلام مع إسرائيل من دون مقابل، وهو ما ألمح إليه المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في تصريحات له أخيراً.
عين إسرائيل على المياه
الجزء الآخر من الأراضي الذي تطمع فيه إسرائيل هو ما يضمّ المياه ومنابعها، إذ تؤمّن بحيرة طبريا أكثر من ثلث حاجة إسرائيل من المياه، لكن مصادر تغذية البحيرة تقع كلّها في سورية ولبنان وخارج سيطرة القوات الإسرائيلية، الأمر الذي يفسّر مسارعة قوات الاحتلال إلى التمركز قرب تجمّعات المياه، فقد سيطرت على سبعة سدود رئيسية جنوبي سورية: المنطرة (الأكبر جنوب سورية)، والشيخ حسين، وسحم، والوحدة، وكودنا، ورويحينة، وبريقة.
كما سيطرت على منابع الأنهار مثل نهر اليرموك، مهدّدة الأمن المائي لسورية والأردن، وبعد سيطرة قوات الاحتلال على السدود المهمة، بدأت محافظة القنيطرة تعاني من أزمة مياه حادّة، خصوصاً بعد سيطرتها على سدّ المنطرة، ثاني أكبر سد في سورية، الذي يغذّي القنيطرة وريف درعا، ويخزن 40 مليون متر مكعب من المياه، لكن جيش الاحتلال عمد إلى تحديد حصص المياه للسكان، بعد أن تعمّد تخريب شبكات المياه في قرى وبلدات عدّة في المحافظة.
ووفق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في "تقدير موقف"، نُشر في 9 مارس/ آذار الماضي، يشكّل استمرار سيطرة جيش الاحتلال على هذه الموارد المائية خطراً ليس على المجتمع المحلي داخل المنطقة العازلة فحسب (مساحتها 235 كيلومتراً مربعاً)، وإنما أيضاً على مجمل سكان محافظة القنيطرة ويهدّد أمنهم المائي والغذائي.
احتلال الجولان ومفاوضات السّلام
تبلغ مساحة هضبة الجولان نحو 1860 كيلومتراً مربعاً، احتلت منها إسرائيل عام 1967 حوالى 1250 كيلومتراً مربعاً، وهي تطلّ على لبنان والأردن. وحاول الجيش السوري في حرب 1973 استعادة الجولان، لكنّه أخفق، بينما استعادت سورية مدينة القنيطرة سلمياً إثر انسحاب القوات الإسرائيلية التي أحدثت دماراً كبيراً في المباني قبل مغادرتها. وتاريخياً، تُعتبر القنيطرة، التي فُصلت إدارياً عن العاصمة دمشق عام 1966، أكبر مدن إقليم الجولان، وكان عدد سكانها قد بلغ في ذلك العام أكثر من 147 ألف نسمة. لكن الجولان، من الناحية الإدارية، يتبع ما سُمّي لاحقاً محافظة القنيطرة. وقد ضمّت إسرائيل مرتفعات الجولان إليها رسمياً عام 1981، وكان يقيم فيه قبل الاحتلال نحو 140 ألف سوري، نزحوا منه نتيجة حرب 1967، وبات عددهم اليوم أكثر من نصف مليون نسمة، يقيمون في تجمّعات النازحين في درعا والقنيطرة، إضافة إلى محافظة دمشق وريفها.
وبعد انطلاق مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية في مدريد عام 1991، كانت عودة الجولان السوري البند الرئيسي في المفاوضات بين الجانبين السوري والإسرائيلي، والتي وصلت إلى طريق مسدود بسبب رفض إسرائيل الانسحاب الكامل من الجولان. وظلّت العقدة في جميع هذه المفاوضات تتعلق بحجم الانسحاب الإسرائيلي من مرتفعات الجولان، إذ أصرّت سورية على العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، التي تمنحها موطئ قدم على شاطئ بحيرة طبريا، بينما راوغت إسرائيل في ذلك، وحتى إنها أنكرت لاحقاً ما يمكن اعتباره الإنجاز الوحيد الذي حصل عليه الجانب السوري في المفاوضات، ما يُسمّى "وديعة رابين"، التي قالت سورية إنها تتضمّن تعهداً إسرائيلياً بالانسحاب إلى خط 4 حزيران (1967)، بينما زعمت إسرائيل أن هذا التعهد كان عرضاً افتراضياً من رئيس وزراء إسرائيل آنذاك إسحق رابين لوزير الخارجية الأميركية الأسبق وارن كريستوفر، بصيغة: ماذا ستقدّم سورية لإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان؟
وقد اغتيل رابين عام 1995، وتولى شمعون بيريس رئاسة الحكومة خلفاً له، واستؤنفت المفاوضات في "واي بلانتيشن"، وتناولت تفاصيل الانسحاب وجوهر العلاقات الدبلوماسية والسلمية بين الجانبَين، لكن المفاوضات توقفت بعد وقوع هجمات انتحارية عدّة في فبراير وآذار من ذلك العام، وجرت انتخابات إسرائيلية فاز فيها حزب الليكود اليميني بزعامة بنيامين نتنياهو، إذ توقفت المفاوضات خلال سنوات حكم الليكود، إلى أن عاد حزب العمل إلى الحكم عام 1999، وتولى رئيس الأركان السابق إيهود باراك رئاسة الحكومة، وعُقدت جولة جديدة من المفاوضات في ديسمبر/ كانون الأول عام 2000، ترأسها عن الجانب السوري وزير الخارجية حينها فاروق الشرع، وعن إسرائيل إيهود باراك.
وفي آخر محاولة من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لجمع الطرفين، بعد تحديد نقاط الخلاف والاتفاق بينهما، اجتمع برئيس النظام الأسبق حافظ الأسد في 26 مارس/ آذار في جنيف، وهو يحمل عرضاً من باراك يتضمّن الانسحاب من 99% من هضبة الجولان وتعويض سورية عن الأراضي التي تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية. وتضمّن العرض الإسرائيلي إبقاء شريط بعرض 500 متر بمحاذاة نهر الأردن، وشريط آخر بعرض نحو 70 متراً على الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، فكان رد الأسد أن باراك لا يرغب بالسلام، ورفض حتى النظر في الخرائط التي حملها معه كلينتون، وفشل اللقاء.
الجولان اليوم
وفق الإحصائيات الإسرائيلية، بلغ عدد حملة الجنسية الإسرائيلية من سكان الجولان السوري المحتل حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2021 والمسجّلين مقيمين في قرى الجولان 3792 شخصاً، يشمل ذلك الأبناء ممن ورثوا الجنسية عن آبائهم وأمهاتهم، وكذلك الزيجات من خارج الجولان، والأفراد والعائلات الذين انتقلوا من الجليل والكرمل داخل فلسطين المحتلة أو أماكن أخرى للإقامة في الجولان، من أصل نحو 23 ألفاً من السوريين المقيمين في الجولان، مقابل نحو 25 ألفَ مستوطن يهودي يعيشون في مستوطنات عدّة، أكبرها "كتسرين". وقد قاوم مَن بقي من سكان الجولان طوال عقود المحاولات الإسرائيلية لتهويد منطقتهم، وتمسكوا بالهوية السورية، ورفضوا قبول الجنسية الإسرائيلية برغم ما توفّره لهم من امتيازات حياتية.
وبعد 2011، وما ظهر من انقسام أفقي في الساحة السورية بين موالاة ومعارضة، انسحب المشهد أيضاً على أهالي الجولان الذين توزّعوا بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام، وهو ما كان له أثره في تراجع الشعور بالانتماء لهذا الوطن الممزّق، فتزايد تالياً عدد الذين يقبلون الجنسية الإسرائيلية بدرجة ملحوظة خلال السنوات الماضية، ليصل إلى نحو 20% من سكان الجولان، بعد أن ظل هؤلاء عقوداً محدودي العدد، ومنبوذين من مجتمعهم المحلي.
وترافق ذلك مع تكثيف للجهود الإسرائيلية لتهويد الجولان، إذ وضعت حكومة الاحتلال نهاية عام 2021 خطّة بقيمة 317 مليون دولار لمضاعفة أعداد المستوطنين في الجولان إلى خمسين ألفاً، من خلال بناء 7300 منزل للمستوطنين على مدى خمس سنوات. وبطبيعة الحال، حافَظَ نظام الأسد، الذي قاتل بشراسة للدفاع عن كرسي الحكم، عقوداً على الهدوء التام في جبهة الجولان، من دون أن يُطلق، أو يسمح لأحد بإطلاق طلقة ضد إسرائيل، وهو ما جعله يحظى بالرضى الإسرائيلي الكامل، فيما بدا واضحاً أنه الشرط الإسرائيلي على النظام لمواصلة تل أبيب تزكيته لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، بوصفه خير حليف "سرّي" يرفع شعارات المقاومة والتحرير، بينما يمنع، في الواقع، أيّ مقاومة قد تقود إلى تحرير الأرض المحتلة.
والنظام نفسه لم يُطوّر طوال العقود الماضية أيّ استراتيجية عسكرية أو دبلوماسية تردع إسرائيل، وتجبرها على التفاوض حول مستقبل الجولان، على نحو ما فعل مثلاً حزب الله في لبنان، الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان.
وما يشير أيضاً إلى هذا الإهمال الجسيم لقضية الجولان وسكّانه، مصير سكان الجولان النازحين منه، الذين يزيد عددهم اليوم عن نصف مليون نسمة يعيشون في مناطق مهمّشة على أطراف المدن.
ماذا تريد إسرائيل من دمشق؟
بعد إطاحة نظام الأسد، حاولت حكومة الاحتلال اللعب على التناقضات الداخلية في سورية، ومنها ورقة دروز السويداء، وقدّمت عرضاً تراجعت عنه لاحقاً باستقدام عمالة منهم للعمل في الجولان والتجمّعات الدرزية داخل فلسطين المحتلة.
ويبدو أن إسرائيل تطمح أيضاً إلى ربط سورية بها اقتصادياً من خلال تزويدها بالغاز، وإنْ على نحوٍ غير مباشر. ووفق صحيفة معاريف، لدى إسرائيل خطط لتوريد الغاز إلى النظام الجديد في سورية، لاستغلال حاجة سورية إلى الطاقة، وذلك عبر مصر والأردن، أي سيبدو الغاز وكأن مصدره مصر والأردن عبر "خط الغاز العربي"، بينما هو في الحقيقة غاز إسرائيلي،
كما يمكن ملاحظة بداية تراجع إسرائيلي عن خطاب الإملاءات بعد محادثات نتنياهو في واشنطن مع الرئيس دونالد ترامب، الذي نصحه بالتعقّل في تعامله مع الرئيس التركي أردوغان، وعرض التوسّط بينهما.
وبدا ما يشبه التحوّل في الخطاب الإسرائيلي من خلال بعض الإشارات، مثل تصريح الناطق باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، من القنيطرة: "لا يعنينا الاقتتال الداخلي في سورية"، بينما كانت الرسائل الإسرائيلية السابقة تعد بدعم هذا الطرف أو ذاك في سورية، بزعم حماية الأقليات.
وعموماً، لم تُفصح إسرائيل عن أيّ مطالب محدّدة من الحكومة الجديدة في دمشق، باستثناء المزاعم الأمنية. ومن غير المرجّح أن تكون الحكومة في دمشق قد تلقّت أيّ عروض رسمية للتطبيع مع إسرائيل، وكانت تصريحات المبعوث الأميركي ربما نوعاً من جسّ النبض. وما تزال دمشق في موقف الترقب، بانتظار نضوج سياسة أميركية واضحة تجاه سورية يمكن البناء عليها، إضافة إلى أن هذه الحكومة ربما لا تعوّل كثيراً على ما يصدر من مواقف وتصريحات من حكومة نتنياهو المأزومة داخلياً، التي تفتح جبهات عسكرية عدّة في غزة ولبنان وسورية، ولا يمكن تالياً معرفة السياسة الإسرائيلية الحقيقية تجاه سورية، ما لم تصل إلى السلطة حكومة إسرائيلية أكثر تعقّلاً من الحكومة الراهنة، التي تعيش في ذروة أوهام القوة، وتظنّ أن في وسعها فعل ما تريد في المنطقة من دون رادع من أحد.
وهنا، ينبغي ألّا نغفل دور القوى الإقليمية في صياغة العلاقة بين الإدارة في دمشق وإسرائيل، خصوصاً الموقف التركي، وما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات محتملة بين الرئيس أردوغان ونظيره الأميركي ترامب، بشأن ملفات عدّو، في مقدّمتها الملف السوري.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 2 ساعات
- القدس العربي
ترامب يغيّر قواعد الاشتباك مع إيران.. خمس قضايا ترسم سيناريوهات المرحلة القادمة
واشنطن- 'القدس العربي': أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشنّ ضربة عسكرية ضد إيران، في خطوة مفاجئة من شأنها أن تعيد رسم ملامح الصراع في الشرق الأوسط وتترك أثرًا بالغًا على مستقبله السياسي. ورغم تأكيد الإدارة الأمريكية أن هدفها ليس الانزلاق إلى حرب شاملة، بل منع إيران من امتلاك سلاح نووي، إلا أن تداعيات الضربة بدت منذ اللحظة الأولى مفتوحة على احتمالات تصعيد خطير. وأعرب مسؤولون في الإدارة، الأحد، عن أملهم في أن تعود طهران إلى طاولة المفاوضات، لكن التطورات على الأرض أشارت إلى ردّ أكثر تشددًا، مع إعلان وسائل إعلام رسمية أن البرلمان الإيراني أقرّ مشروع قانون لإغلاق مضيق هرمز، في خطوة تهدد باضطراب كبير في أسواق الطاقة العالمية، وخاصة في الولايات المتحدة. ورغم أن القرار النهائي يبقى بيد المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، فإن مجرد التلويح بهذا الخيار كفيل بإثارة قلق دولي واسع. ووحّد معظم الجمهوريين مواقفهم خلف ترامب بعد تنفيذ الضربة، متجاهلين الانقسامات السابقة داخل تيار 'لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا'، الذي لطالما عبّر عن تحفظه تجاه التورط في نزاعات الشرق الأوسط. وسبق أن عبّرت شخصيات مؤثرة مثل مارغوري تايلور غرين وتاكر كارلسون وستيف بانون، عن رفضها لأي تدخل عسكري أوسع، إلا أن البيت الأبيض سارع إلى التأكيد على أن الضربة موجّهة للمنشآت النووية الإيرانية، وليست إعلان حرب على الدولة الإيرانية، وفقا لصحيفة 'ذا هيل'. وروّج ترامب في منشور له على منصة 'تروث سوشال' لما سمّاه 'وحدة عظيمة' داخل الحزب الجمهوري، داعيًا إلى تحويل التركيز نحو إقرار أجندته الاقتصادية في الكونغرس. لكن استمرار هذا التماسك سيكون مرهونًا بما قد تقدم عليه طهران في الأيام المقبلة. وفتح الديمقراطيون النار على الرئيس فور إعلان الهجوم، حيث وصفه السناتور بيرني ساندرز بأنه غير دستوري، فيما اعتبرته النائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز فعلًا يستوجب العزل، رغم تردد الحزب في العودة إلى هذا المسار بعد محاولتين فاشلتين في الولاية السابقة. وذكّر معارضو ترامب بقانون سلطات الحرب، معتبرين أن الضربة تجاوزت الصلاحيات الممنوحة للرئيس دون تفويض من الكونغرس. ودعا زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، إلى التصويت الفوري على تفويض الضربة، مؤكدًا أنه سيصوت لصالحها، رغم انتقاداته السابقة لإدارة ترامب. أما السيناتور جون فيترمان، ففاجأ الجميع بإعادة نشر تصريح ترامب مؤيدًا الهجوم. هذا التباين في المواقف كشف عن انقسام متزايد داخل الحزب الديمقراطي بين جناحين، أحدهما تقدمي يرفض التصعيد، وآخر معتدل يخشى الظهور بمظهر المتساهل تجاه إيران. وتحوّلت الأنظار سريعًا نحو سؤال جوهري: هل تخلّى ترامب عن عقيدته المناهضة للحروب؟ طوال سنوات، بنى الرئيس سمعته على انتقاد الحروب في العراق وأفغانستان، وعلى وعوده بعدم الزجّ بالقوات الأمريكية في نزاعات خارجية. لكن الضربة ضد إيران، التي شملت استخدام واحدة من أعتى القنابل غير النووية في الترسانة الأمريكية، توحي بتغير محتمل في النهج، حتى لو بدا مدفوعًا بظروف آنية لا بتحول استراتيجي عميق. وقال محللون أمريكيون إن الهجوم الإسرائيلي على إيران في 13 يونيو/ حزيران الجاري مهد الطريق أمام التصعيد، بعدما أثبت نجاحًا عسكريًا كبيرًا في اختراق الدفاعات الإيرانية. وبينما كانت واشنطن في البداية متحفظة، إلا أن نجاح إسرائيل في فرض السيطرة على الأجواء ربما شجع ترامب على التحرك. كما أن انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا واهتزاز موقف حلفاء إيران مثل حزب الله وحماس، سهّل الموقف الأمريكي. وكشفت دائرة المقربين من ترامب عن حضور قوي للتيار المتشدد، مع وجود أسماء مثل ليندسي غراهام، وماركو روبيو، وجيه دي فانس إلى جانبه لحظة إعلان الضربة، إضافة إلى وزير الدفاع بيت هيغسث. كما انضمّ إلى قائمة المؤيدين غير المتوقعين كل من جون بولتون وميتش ماكونيل، المعروفين بانتقاداتهم السابقة للرئيس. هذا التماسك داخل دائرة صنع القرار، مقابل غياب الأصوات المعارضة، عزز الانطباع بأن قرارات ترامب تُصاغ في نطاق ضيّق، بعيدًا عن التوازنات التقليدية. وقد سلّط تقرير موسّع نشرته صحيفة 'ذا هيل' الضوء على الطابع الشخصي الذي يطغى على خيارات ترامب في ولايته الثانية، وعلى قدرته على اتخاذ قرارات مفصلية دون مقاومة تذكر من داخل إدارته، وهو ما قد يكون عاملًا حاسمًا في مسار الأزمة المقبلة.


العربي الجديد
منذ 4 ساعات
- العربي الجديد
تعمّق الأزمة الإسرائيلية: الحرب في غزة وإيران فتحت جبهة استنزاف اقتصادي
فتح العدوان على غزة الذي اندلع في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تبعه من تصعيد مع حزب الله في الشمال والمواجهة مع إيران، جبهة استنزاف اقتصادي عميق في إسرائيل ، ما ينذر بتداعيات قاسية على الناتج المحلي الإجمالي في الحاضر والمستقبل. وذكر موقع "فيرجيليو" الإيطالي في تقرير صدر بتاريخ 21 يونيو/ حزيران تحت عنوان "الحرب ضد حماس وإيران، التكلفة بالنسبة لإسرائيل ونتنياهو: مشكلات لاقتصاد البلاد" أنه مع ارتفاع وتيرة القتال، تتصاعد التساؤلات حول التكلفة الحقيقية لهذه الحروب، خاصة بعد صدور تقديرات اقتصادية أولية تنبّه إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي قد يواجه أزمة حادة إذا استمرت هذه النفقات بالوتيرة نفسها. وفي هذا السياق، أشار تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن التكلفة اليومية للحروب التي تشنها إسرائيل تقدر بمئات ملايين الدولارات. بينما أفاد "معهد أهارون للسياسات الاقتصادية" التابع لجامعة رايخمان بأن تكلفة شهر واحد فقط من الحرب قد تصل إلى نحو 12 مليار دولار. وثمة مفارقة لافتة كشفها تقرير صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، إذ تبين أن اعتراض صاروخ يكلف ما لا يقل عن عشرة أضعاف سعر الصاروخ ذاته. ووفقًا للباحث يشوعا كاليزكي من "معهد الدراسات الأمنية القومية"، فإن استخدام منظومة "مقلاع داوود" لاعتراض صاروخ واحد يكلف حوالي 700 ألف دولار، بينما ترتفع الكلفة إلى 3 ملايين دولار مع منظومة "أرو 2" وتصل إلى 4 ملايين مع "أرو 3". وبحسب المعطيات الرسمية الإسرائيلية، فإن إيران أطلقت أكثر من 400 صاروخ خلال الأيام التي سبقت وقف إطلاق النار، ما يجعل كلفة التصدي لها باهظة للغاية. وأضاف الموقع أن التكاليف العسكرية تتجاوز حدود الدفاع الجوي، لتشمل أيضًا أعباء كبيرة على صعيد البنية التحتية وتكاليف تشغيل سلاح الجو: تشغيل مقاتلة مثل "إف-35" يتطلب ما يصل إلى عشرة آلاف دولار للساعة، هذا فضلًا عن استخدام قنابل موجهة عالية الدقة مثل JDAM وMK84، ما أدى إلى ارتفاع التكاليف بشكل غير مسبوق مقارنة بالحروب السابقة ضد حزب الله أو حماس في غزة. وأشار إلى أن هذه النفقات تضاف إليها كلفة إعادة بناء البنية التحتية المدنية المتضررة. ووفق الهيئة الإسرائيلية للدبلوماسية العامة، فقد تم تدمير مئات المباني، وتم إجلاء آلاف الأشخاص. وتقدر وكالة الأنباء الإيطالية الرسمية "أنسا" وصول النفقات العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى أكثر من 67 مليار دولار حتى نهاية عام 2024، تشمل نفقات القتال والدعم المدني وخسائر الإيرادات من دون احتساب انخفاض الإنتاجية والاضطرابات في سلاسل التوريد. كلفة الحرب أما ضد إيران، فتشير التقديرات إلى أن إسرائيل كانت أنفقت نحو 735 مليون دولار يوميًا: 300 مليون لوقود الطائرات والأسلحة و200 مليون لاعتراض الصواريخ الإيرانية ما ينعكس أيضًا على الإنتاجية نتيجة استدعاء الاحتياط. وتابع التقرير أن الإنفاق الحربي يمثل حوالي 7% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل، في وقت بلغ العجز المالي 4.9% من الناتج المحلي، أي ما يعادل 27.6 مليار دولار، ما يضع الميزانية العامة تحت ضغط شديد، بحسب "أنسا". كما تم خفض توقعات النمو الاقتصادي لعام 2025 من 4.3% إلى 3.6%. من جهته، ذكر المنسق العلمي لمرصد البحر المتوسط التابع لمعهد بيوس الخامس للدراسات السياسية، الدكتور فرنشيسكو أنغيلوني، أن "الحرب في غزة وقرار إسرائيل ضرب إيران يمثلان لحظة محورية للتوازن الجيوسياسي والاقتصادي الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط". اقتصاد الناس التحديثات الحية خسائر مليارية.. مزارعو البرازيل يدفعون ثمن حرب إيران وإسرائيل وأوضح أنغيلوني، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، أن إسرائيل ترزح، من الناحية الاقتصادية، تحت ضغوط قاسية ومستمرة، إذ تستنزف العمليات العسكرية المستمرة منذ ما يقرب من عامين موارد الدولة بمعدلات باهظة، حيث تُقدَّر الكلفة اليومية للحرب بين 700 و790 مليون دولار، فيما بلغت النفقات العسكرية خلال الـ 48 ساعة الأولى من الهجمات على إيران نحو 1.45 مليار دولار". وتابع أن "هذا التدهور تعكسه المؤشرات الاقتصادية؛ فقد تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي من +6.5% في عام 2022 إلى نحو +2% في عام 2023. فيما انخفضت معدلات الاستهلاك الخاص بنسبة 26.9% والاستثمارات بنسبة 67.8% والصادرات بـ18.3% والواردات بـ42%، بينما قفز الإنفاق العام بنسبة 88%، ما زاد من حدة الاختلالات المالية. كما شهدت المناطق الجنوبية والشمالية الانكماشات الاقتصادية الأشد، لا سيما في القطاعات كثيفة العمالة". أما الخدمات اللوجستية والتجارة البحرية فقد تأثرت بشدة أيضًا، وفقاً للخبير الإيطالي، فقد أجبر التوتر المستمر في البحر الأحمر ومضيق باب المندب العديد من شركات الشحن على تغيير مساراتها لتسلك طريق رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى إطالة زمن الرحلات البحرية بنحو 10 إلى 14 يومًا، وارتفاع كلفة شحن الحاويات من 1,975 دولارًا إلى أكثر من 2,300 دولار. كما ارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب للسفن التي ترسو في الموانئ الإسرائيلية من 0.2% إلى 1.0% من قيمة السفينة". ورأى أن "التدهور الاقتصادي على الصعيد الداخلي، يفاقم الاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي تعاني منه إسرائيل بالفعل. ويهدد تصاعد الضغوط المعيشية بتعميق حالة السخط الشعبي في مجتمع منقسم بالفعل حول قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتوازن بين الأمن القومي والحوكمة الديمقراطية"، مضيفاً أن "هذه التطورات قد تؤدي إلى تآكل مركز إسرائيل، على الساحة الدولية، شريكاً اقتصادياً مستقراً وموثوقاً به. فقد ألقى الغموض الجيوسياسي وهشاشة البنى التحتية بظلال من الشك على تموضع إسرائيل الاستراتيجي".

العربي الجديد
منذ 6 ساعات
- العربي الجديد
سورية إلى استعادة الحياة البرلمانية
شكّل الرئيس السوري أحمد الشرع "اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب"، في خطوة تؤسّس لاستعادة الحياة البرلمانية، بعد انهيار نظام الاستبداد، وتنهي عقوداً من العدمية السياسية، وتدفع إلى بناء دولة ديمقراطية حديثة، قدّم السوريون ثمناً باهظاً من أجل الوصول إليها. وأناط المرسوم الرئاسي باللجنة الإشراف على تشكيل هيئات فرعية في المحافظات، تنتخب ثلثي أعضاء "مجلس الشعب"، على أن يعيّن الرئيس الثلث الأخير كما نصّ الإعلان الدستوري الناظم للحياة السياسية للبلاد خلال الفترة الانتقالية، والمحدّدة بنحو خمس سنوات. ويتكون المجلس التشريعي المنتظر من 150 عضواً، موزّعين حسب عدد السكان على المحافظات، وفق فئتي الأعيان والمثقفين، ووفق شروط تقرّها اللجنة العليا للانتخابات. ولم يحدّد المرسوم فترة لهذه اللجنة للانتهاء من مهامها التي تتطلب زيارة المحافظات السورية لتشكيل هيئات ناخبة. ولا تزال واحدة من أكبر المحافظات السورية وأكثرها أهمية، وهي الحسكة، خارج سيطرة الدولة السورية، فضلاً عن الجزء الأكبر من محافظتي الرقّة، وجانب من محافظة دير الزور وآخر من ريف حلب الشمالي الشرقي، وكل هذه المناطق تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي لم تدخل الحياة السياسية في البلاد بعد. وحافظ المرسوم على التسمية التي كانت معتمدة لدى النظام البائد للمجلس التشريعي، وهي "مجلس الشعب"، ما فجّر مخاوف لدى قطاع واسع من السوريين من اتجاه الإدارة إلى اتباع الآليات نفسها التي اعتمدها "البائد" في اختيار أعضاء هذا المجلس. وبعد تشكيل اللجنة، دبّت الحياة من جديد في مبنى المجلس في سوق الصالحية في دمشق، والذي يعد من معالم العاصمة السياسية، ويرتبط بذاكرة السوريين ارتباطاً كبيراً، فهو عنوان بارز لمجدهم من جهة، وغفلتهم من جهة أخرى. في 1928، جرت انتخابات لـ"مجلس تأسيسي" وضع أول دستور للبلاد، في أعقاب القضاء على الثورة السورية الكبرى عرف السوريون الحياة البرلمانية قبل 105 سنوات، فبلادهم كانت من الدول العربية السبّاقة في هذا المجال الذي لم يكن سائداً في هذه الدول، سواء التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية أو خارجها. ويُنظر إلى المؤتمر السوري الأول في منتصف عام 1919 في النادي العربي بدمشق بعد خروج الأتراك من سورية أنه أول صيغة تشريعية تمثيلية للشعب في التاريخ السياسي للبلاد. وكان عدد أعضائه 90 عضواً من أنحاء سورية الطبيعية كافة (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين)، واستمرّت أعماله نحو عام، شرّع خلاله الحكم الملكي بقيادة فيصل بن الحسين (1883- 1933)، وصاغ أول دستور في تاريخ البلاد، اختار النظام البرلماني الدستوري للحكم. ولكنه لم يدم، فمع دخول الفرنسيين إلى سورية منتصف عام 1920 حلّت قوة الانتداب المؤتمر السوري، وبذلك دخلت البلاد فراغاً سياسياً وثورات ضد قوة الاحتلال الجديدة التي قسّمت سورية إلى دويلات على أسس طائفية فجة. وفي 1928، جرت انتخابات لـ"مجلس تأسيسي" وضع أول دستور للبلاد، في أعقاب القضاء على الثورة السورية الكبرى، ذهبت أغلب مقاعده إلى "الكتلة الوطنية" التي كانت أبرز التشكيلات السياسية في ذاك الحين. لكن الفرنسيين عطّلوا المجلس بسبب الخلاف على مواد الدستور إلى أن جرت انتخابات أخرى في 1932، ثم جرت انتخابات أخرى في 1936. ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 أدّى إلى تعطيل الدستور في سورية إلى 1943، حيث نُظّمت انتخابات برلمانية فازت بها "الكتلة الوطنية" مرة أخرى. وفي 29 مايو/ أيار، رفضت حامية المجلس النيابي في دمشق إنزال العلم السوري عنه وتحية العلم الفرنسي، فقصفت القوات الفرنسية المبنى ما أدّى إلى مقتل عناصر من هذه الحامية، في موقف بطولي لا يزال حاضراً في الذاكرة، مهّد الطريق أمام استقلال سورية وخروج الفرنسيين منها بشكل نهائي في إبريل/ نيسان 1946. وبعد استقلال سورية بعام، نُظّمت انتخابات جديدة نتج عنها مجلس نيابي لم يعمّر طويلاً، فقد وقع في 1949 أول انقلاب عسكري في سورية، قاده حسني الزعيم الذي قتل بعد أشهر في انقلاب آخر قاده سامي الحناوي والذي لقي هو الآخر حتفه في 1950. ولكن يُحسب لهذا الرجل أنه رفض تولي السلطة بنفسه، وسلّمها لسياسيين تقليديين وانتخبت جمعية تأسيسية وضعت الدستور الأشهر في 1950. في نهاية 1949 شهدت البلاد انقلاباً ثالثاً قاده أديب الشيشكلي الذي حيّد الدستور، ووضع دستوراً آخر أجريت على أساسه انتخابات لمجلس نيابي جديد راحت أغلب مقاعده لحركة التحرير العربي (تزعّمها أديب الشيشكلي)، والحزب القومي السوري. في 1954، غادر الشيشكلي البلاد بعد انقلاب عليه. وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، عادت الحياة البرلمانية إلى سورية، فجرت انتخابات دفعت أحزاباً قومية إلى الواجهة، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي. أقر ذاك المجلس الوحدة مع مصر في 1958، والتي لم تدم طويلاً فحدث الانفصال في 1961 أعقبته انتخابات نيابية كانت الأخيرة في البلاد التي دخلت عام 1963 مرحلة جديدة ساد فيها الاستبداد وتحكّم الحزب الواحد بالحياة السياسية. استولى في 1970 حافظ الأسد على السلطة ووضع في 1974 دستوراً نص على أن حزب البعث "قائد الدولة والمجتمع"، واعتمد على مبدأ تعيين أعضاء مجلس الشعب من الحزب الحاكم وأحزاب ما سمّيت "الجبهة الوطنية"، التي تدور في فلكه وبعض المستقلين المقرّبين منه. وفي عقد التسعينيات، سمح الأسد بانتخابات للمستقلين، ما سمح بدخول بعض الأسماء المعارضة للنظام، لعل أبرزها رياض سيف، والذي لم يحتمل النظام وجود معارض حقيقي له تحت قبّة مجلس الشعب، فاعتقله سنوات. مرّ قرن وأكثر على أول تجربة نيابية ديمقراطية في سورية، تجدّد آمال السوريين باستعادتها بشكل أكثر تطوّراً وتمثيلاً وقدرة على الفعل في منتصف عام 2000 توفي حافظ الأسد، فاجتمع مجلس الشعب بعد شهر وعدّل خلال دقائق المادة 83 من الدستور التي تنص على أن سن الرئيس يمكن أن تكون 34 سنة، وهي سن بشار الأسد في ذلك الوقت. جرت قبل انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011 أكثر من عملية انتخابية، كلها كرّست سلطة حزب البعث، وسطوة الأجهزة الأمنية في بلاد بلا سياسة. في 2012 وفي سياق محاولات فاشلة لوأد الثورة، وضع بشّار الأسد دستوراً على مقاسه، ألغى شكلاً المادة الثامنة من دستور أبيه والتي تنص على قيادة "البعث" الدولة والمجتمع. لم يتغيّر شيء في المشهد السياسي على الإطلاق، ما خلا إدخال النظام البائد متهمين بارتكاب جرائم حرب ومتزعمي مليشيات وتجار مخدّرات الى مجلس الشعب الذي كان يكتفي بالفرجة على بلاد تحترق طوال سنوات. كان مجرّد واجهة خالية من أي قيمة سياسية، مهمّته التصديق على ما يردّه من قوانين صادرة عن بشار الأسد لا أكثر ولا أقل. لم يكن السوري يعيره أي اهتمام وأي احترام، تعلوه الكآبة كلّما مرّ في شارع الصالحية أمام مبنى البرلمان الذي كان عنواناً بائساً للعجز والاستبداد واللهو السياسي الماجن، والعدمية. مرّ قرن وأكثر على أول تجربة نيابية ديمقراطية في سورية، تجدّد آمال السوريين باستعادتها بشكل أكثر تطوّراً وتمثيلاً وقدرة على الفعل، وربما يعتبر تشكيل "اللجنة العليا للانتخابات"، خطوة في اتجاه حياة برلمانية حقيقية بناء على دستور عصري يفتح أبواب سورية ونوافذها التي ظلت مغلقة حيناً ثقيلاً من الزمان، أمام التغيير الذي دفع من أجله السوريون ثمناً باهظاً، لتعبيد الطريق أمام مجلس حقيقي لـ الشعب.