logo
أوشفيتز - غزّة

أوشفيتز - غزّة

العربي الجديدمنذ 2 أيام
تذكر المصادر التاريخية أن النسبة الأعظم من الموتى في معسكرات الاعتقال النازية ماتوا جوعاً، عبر سياسة ممنهجة كنت تستهدف التخلّص من هؤلاء الأعداء المفترضين. وينبغي التذكير هنا بأن الضحايا لم يكونوا يهوداً فحسب، وإنما كانوا خليطاً من الغجر واليهود والمعارضين سياسياً والفئات المصنّفة نازياً أنهم من "غير المرغوب فيهم". ومنذ أشرف هاينريش هيملر، في 27 إبريل/ نيسان 1940، على تأسيس معسكر أوشفيتز، شرع النازيون في تقييم علمي للمقاومة الجسدية للسجناء، وحساب دقيق للسعرات الحرارية والحصص الغذائية باسم نظام بيولوجي متفوّق، ينطوي على تحويل الضحايا "بشراً دون البشر"، يُستغلُّون بوحشية ثمّ يُهملون كنفايات عضوية. ورغم فظاعة هذه المظاهر وبشاعتها في ظلّ الحكم النازي، إلا أن اقتصاد الإبادة هذا لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير. وإذا كان استخدام الجوع سلاحاً باستمرار في أوقات الحرب لإجبار العدوّ على الرضوخ، فقد ارتقى الكيان الصهيوني بتنظيم الجوع داخل غزّة إلى مستوى غير مسبوق من الإجرام. المفارقة الغريبة أن الصهاينة، الذين تاجروا طويلاً بضحايا معسكرات الاعتقال النازي، وفي مقدمتهم ضحايا معسكر أوشفيتز، استبطنوا الممارسات النازية ونقلوها بشكل أكثر وحشية لتطبيقها على الشعب الفلسطيني.
لا تُخفي بعض القيادات الصهيونية توجّهاتها الاستئصالية التي تتبنّى الإبادة على الطريقة النازية منهجاً للتعامل مع قطاع غزّة المُحتلّ، فقد تباهى وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو بالقول إن "الحكومة مندفعة نحو محو غزّة. نشكر الله على أننا نمحو هذا الشرّ ونمحو السكّان. غزّة ستكون يهودية". وبالتوازي، تتصاعد الدعوات إلى إنشاء ما تسمّى "المدينة الإنسانية"، وهي تسمية شاعرية لما سيكون معسكر اعتقال داخل القطاع لاستكمال مخطّط الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرّة من خلال عملية فرز فردي للتمييز بين من ينبغي قتله في المحرقة، ومن سيُهجَّر. في المرحلة الحالية، تحاول سلطة الاحتلال استغلال المجاعة لممارسة هيمنتها. تصبح المجاعة، بالتالي، وسيلة تلاعب خطيرة، إذ لا يمكن لأيّ حاجة أخرى أن تحلّ محلّ الحاجة إلى الطعام. هذه الضرورة الأساسية هي التي تعرّض السكّان الجائعين لضعف شديد، وتضعهم في موقف اعتماد على أولئك الذين يتحكّمون في الوصول إلى الغذاء. يقيم استغلال المجاعة علاقة قوة بين من يعانون من الأزمة الغذائية ومن يتلاعبون بها لأغراض سياسية. تصبح المجاعة بذلك سلاحاً مرناً، يمكن استخدامه لممارسة هيمنة كلّية أو جزئية على السكّان، من طريق التمييز العرقي.
لقد استخدمت المجاعة سلاحاً في سياق الحرب الصهيونية على القطاع، فبتجويع سكّان غزّة، لم يكن الصهاينة يأملون فقط في إضعاف قدرة الفلسطينيين على المقاومة، بل أيضاً في إيجاد بيئة مواتية للاحتلال الصهيوني، من خلال القضاء على (أو تهجير) السكّان، والهيمنة بشكل نهائي على قطاع غزّة. ينبغي أن نميّز هنا بين أمرَين: استغلال المجاعة لأغراض عسكرية للقضاء على الخصم، وهو الشائع في الحروب، ومن ناحية أخرى، المجاعة التي هدفها تدمير الإنسان، إذ تختزل هذه المجاعة الأفراد في طبيعتهم البيولوجية، وتجبرهم على عيش وجود يشبه حياة الحيوانات. في الواقع، ما يميز الماهية الإنسانية عن مجرّد الوظيفة الغذائية الحيوانية هو الثقافة الطهوية والقدرة على تجاوز الاحتياجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يسمّى عادةً فنّ الطهو. لكن هذا الأخير يُهمل عند حدوث مجاعة. في لحظات الأزمات هذه، يصبح البقاء في قيد الحياة الهدف الأسمى، ويعيد الإنسانية إلى غرائزها الأكثر بدائية.
تعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام
تكون عملية تحويل البشر حيواناتٍ شديدةً إلى درجة أن السكّان المتضرّرين من هذه المجاعة يُجرّدون من إنسانيتهم بالكامل. وبمجرّد اعتبار هؤلاء السكّان حيواناتٍ تماماً، من خلال التسلسل الهرمي القائم بين الحيوانات والبشر، تصبح الأعمال المرتكبة ضدّهم مبرّرة بهذه الدونية المزعومة، وهذا ما يفسّر سلسلة المجازر التي حدثت في نقاط توزيع المساعدات بقطاع غزّة، وتقع على عاتق مؤسّسة أُنشئت في الولايات المتحدة ويديرها جنود ورجال أعمال إسرائيليون، وشركاتها الخاصّة. وتعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام.
وتهدف هذه الازدواجية (مؤسّسة للإغاثة والتحكّم في المجاعة في الوقت نفسه) غالباً إلى إزالة أيّ شعور بالذنب لدى الجلّادين، فبتجريد الضحايا من إنسانيتهم، يسعى مرتكبو الإبادات الجماعية إلى التخلّص من أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه أفعالهم. في الواقع، هذه طريقتهم لإقناع أنفسهم بأنهم لا يقمعون بشراً مثلهم. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار الحيوان الذي يُضحّى به، ويُحوّل إلى لحم، فإن الفلسطيني لا يُسمح له بالبقاء إلا إن كان مفيداً.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة
علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة

أصدر علماء السنة في محافظة كردستان غربي إيران فتوى تدعو لـ"الجهاد" دفاعاً عن سكان غزة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية وسياسة التجويع التي أدخلت القطاع المحاصر بمرحلة مجاعة قاتلة. جاء ذلك في مؤتمر جماهيري حاشد عُقد داخل مسجد قباء، أكبر مساجد مدينة سنندج عاصمة المحافظة، بحضور عدد كبير من العلماء الكرد ولفيف من الناشطين والجمهور. وأكد العلماء المشاركون أن "الجهاد الدفاعي ضد الكيان الصهيوني المعتدي، الذي يمعن في قتل الأطفال والنساء، هو واجب شرعي على كل الأمة الإسلامية"، معتبرين أن الصمت والتقاعس عن نصرة غزة يبقى "خيانة تاريخية لا تُغتفر". وأضافت فتوى علماء كردستان إيران أن "المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس والمجاهدين الفلسطينيين، سيبقون رمزاً لعزة الأمة وخط الدفاع الأول عن كرامتها". الصورة مؤتمر في كردستان إيران لنصرة غزة، 26 يوليو 2025 (العربي الجديد) وشدد بيان الفتوى على أن "الصمت واللامبالاة تجاه هذه المجازر يعدان جريمةً لا تغتفر وخيانة تاريخية"، مؤكداً أن "إيمان أهل غزة ومقاوميها وصبرهم وثباتهم يمثل حجة دامغة على الضمائر الغافلة، وإنذاراً لكل المسلمين حول العالم". ودعت الفتوى الأمة الإسلامية إلى "اليقظة والنهوض العاجل، وجعل المساجد منصات لإحياء الوعي ودعم القضية، ورفض التطبيع مع الاحتلال ومقاطعة بضائع الكيان الصهيوني وأعوانه". كما دعت لتوظيف المنابر الدولية والإعلامية في "حشد الشعوب وتحريك الضمائر"، مشددة على أن "دعم فلسطين اختبار إلهي لمدى إخلاص المسلمين للعدالة وبرهان على التضامن الإسلامي". وحذرت الفتوى "الحكام والدول المطبّعة" مع إسرائيل من عواقب "المواقف المرتجفة"، مؤكدة أن "التاريخ سيشهد عليكم، والأمة الإسلامية لن تغفر خيانة القدس الشريف. إن غضب الله وصحوة الشعوب ستطاردكم عاجلاً أم آجلا". وطالب العلماء المنظمات الدولية والأممية والحقوقية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بالخروج عن صمتهم "المميت" واتخاذ خطوات عملية وقانونية عاجلة للانتصار لغزة، رافضين الاكتفاء بالبيانات "الفارغة" في مواجهة الإبادة الجماعية التي يشهدها القطاع. وشهد المؤتمر كلمات مؤثرة لعدد من العلماء؛ إذ دعا ماموستا أيوب غنجي إلى "بذل الغالي والنفيس لنصرة غزة"، وأدان صمت الحكام والمجتمعات الإسلامية والعربية، مشيرا إلى أن شعب غزة "يسجل أسمى معاني التضحية والثبات بينما يمعن الاحتلال في جرائمه". أما العالم عبد الجبار لطفي، فشدد على ضرورة التوحد لنصرة غزة وكسر الحصار، مُشيداً بصمود أهلها "الأسطوري"، بينما ركّز العالم فؤاد محمدي على وحشية الحرب الإسرائيلية ومسعاها لإبادة شعب بأكمله، منوهاً بصبر الفلسطينيين وقدرة مقاومتهم على إرباك الحسابات الإسرائيلية وتكبيدها الهزائم رغم عامين من حرب الإبادة. تقارير عربية التحديثات الحية تهديدات ترامب لـ"حماس".. انقلاب أميركي إسرائيلي على مباحثات غزة وشارك في المؤتمر عبر رسالة مسجّلة من غزة الشيخ فیصل سهیل مزید، عضو رابطة علماء فلسطين وأمين سر المؤسسات العاملة للقدس والمسجد الأقصى، إذ أكد ثبات أهل غزة رغم ما يحيط بهم من جوع ومجازر، داعياً علماء الأمة عامة لقيادة نهضة جماعية نصرة لغزة والقدس. من جانبه، عبّر المستشار علاء الدين العكلوك، رئيس التجمع الوطني للقبائل والعشائر الفلسطينية، عن شكره لعلماء كردستان إيران، مُستذكراً الروابط التاريخية الممتدة بين غزة وكردستان من زمن القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي. وتوجّه العكلوك لعلماء ومفكري الأمة بتساؤل: "أين أنتم مما يجري على أرض فلسطين؟ أطفالنا يُذبحون، نساؤنا تُهان، أرضنا تُغتصب، ومساجدنا تُدنس، والعالم يلوذ بصمته المرير". واختتم المؤتمر بكلمة لخطيب الجمعة في مسجد قباء، ماموستا أحسن حسيني، مزج فيها بين البيان الشعري والوصف الواقعي لمظلومية أهل غزة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وسط تفاعل الحضور بالأناشيد التي تمجد المقاومة وتدعو لنصرة فلسطين من كل الأعراق والقوميات الإسلامية.

الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي
الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟... ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة. الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية... ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟ وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت "اتفاقيات أبراهام"، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ "7 أكتوبر" (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت. ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: "ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا". إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية. الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.

أوشفيتز - غزّة
أوشفيتز - غزّة

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

أوشفيتز - غزّة

تذكر المصادر التاريخية أن النسبة الأعظم من الموتى في معسكرات الاعتقال النازية ماتوا جوعاً، عبر سياسة ممنهجة كنت تستهدف التخلّص من هؤلاء الأعداء المفترضين. وينبغي التذكير هنا بأن الضحايا لم يكونوا يهوداً فحسب، وإنما كانوا خليطاً من الغجر واليهود والمعارضين سياسياً والفئات المصنّفة نازياً أنهم من "غير المرغوب فيهم". ومنذ أشرف هاينريش هيملر، في 27 إبريل/ نيسان 1940، على تأسيس معسكر أوشفيتز، شرع النازيون في تقييم علمي للمقاومة الجسدية للسجناء، وحساب دقيق للسعرات الحرارية والحصص الغذائية باسم نظام بيولوجي متفوّق، ينطوي على تحويل الضحايا "بشراً دون البشر"، يُستغلُّون بوحشية ثمّ يُهملون كنفايات عضوية. ورغم فظاعة هذه المظاهر وبشاعتها في ظلّ الحكم النازي، إلا أن اقتصاد الإبادة هذا لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير. وإذا كان استخدام الجوع سلاحاً باستمرار في أوقات الحرب لإجبار العدوّ على الرضوخ، فقد ارتقى الكيان الصهيوني بتنظيم الجوع داخل غزّة إلى مستوى غير مسبوق من الإجرام. المفارقة الغريبة أن الصهاينة، الذين تاجروا طويلاً بضحايا معسكرات الاعتقال النازي، وفي مقدمتهم ضحايا معسكر أوشفيتز، استبطنوا الممارسات النازية ونقلوها بشكل أكثر وحشية لتطبيقها على الشعب الفلسطيني. لا تُخفي بعض القيادات الصهيونية توجّهاتها الاستئصالية التي تتبنّى الإبادة على الطريقة النازية منهجاً للتعامل مع قطاع غزّة المُحتلّ، فقد تباهى وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو بالقول إن "الحكومة مندفعة نحو محو غزّة. نشكر الله على أننا نمحو هذا الشرّ ونمحو السكّان. غزّة ستكون يهودية". وبالتوازي، تتصاعد الدعوات إلى إنشاء ما تسمّى "المدينة الإنسانية"، وهي تسمية شاعرية لما سيكون معسكر اعتقال داخل القطاع لاستكمال مخطّط الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرّة من خلال عملية فرز فردي للتمييز بين من ينبغي قتله في المحرقة، ومن سيُهجَّر. في المرحلة الحالية، تحاول سلطة الاحتلال استغلال المجاعة لممارسة هيمنتها. تصبح المجاعة، بالتالي، وسيلة تلاعب خطيرة، إذ لا يمكن لأيّ حاجة أخرى أن تحلّ محلّ الحاجة إلى الطعام. هذه الضرورة الأساسية هي التي تعرّض السكّان الجائعين لضعف شديد، وتضعهم في موقف اعتماد على أولئك الذين يتحكّمون في الوصول إلى الغذاء. يقيم استغلال المجاعة علاقة قوة بين من يعانون من الأزمة الغذائية ومن يتلاعبون بها لأغراض سياسية. تصبح المجاعة بذلك سلاحاً مرناً، يمكن استخدامه لممارسة هيمنة كلّية أو جزئية على السكّان، من طريق التمييز العرقي. لقد استخدمت المجاعة سلاحاً في سياق الحرب الصهيونية على القطاع، فبتجويع سكّان غزّة، لم يكن الصهاينة يأملون فقط في إضعاف قدرة الفلسطينيين على المقاومة، بل أيضاً في إيجاد بيئة مواتية للاحتلال الصهيوني، من خلال القضاء على (أو تهجير) السكّان، والهيمنة بشكل نهائي على قطاع غزّة. ينبغي أن نميّز هنا بين أمرَين: استغلال المجاعة لأغراض عسكرية للقضاء على الخصم، وهو الشائع في الحروب، ومن ناحية أخرى، المجاعة التي هدفها تدمير الإنسان، إذ تختزل هذه المجاعة الأفراد في طبيعتهم البيولوجية، وتجبرهم على عيش وجود يشبه حياة الحيوانات. في الواقع، ما يميز الماهية الإنسانية عن مجرّد الوظيفة الغذائية الحيوانية هو الثقافة الطهوية والقدرة على تجاوز الاحتياجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يسمّى عادةً فنّ الطهو. لكن هذا الأخير يُهمل عند حدوث مجاعة. في لحظات الأزمات هذه، يصبح البقاء في قيد الحياة الهدف الأسمى، ويعيد الإنسانية إلى غرائزها الأكثر بدائية. تعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام تكون عملية تحويل البشر حيواناتٍ شديدةً إلى درجة أن السكّان المتضرّرين من هذه المجاعة يُجرّدون من إنسانيتهم بالكامل. وبمجرّد اعتبار هؤلاء السكّان حيواناتٍ تماماً، من خلال التسلسل الهرمي القائم بين الحيوانات والبشر، تصبح الأعمال المرتكبة ضدّهم مبرّرة بهذه الدونية المزعومة، وهذا ما يفسّر سلسلة المجازر التي حدثت في نقاط توزيع المساعدات بقطاع غزّة، وتقع على عاتق مؤسّسة أُنشئت في الولايات المتحدة ويديرها جنود ورجال أعمال إسرائيليون، وشركاتها الخاصّة. وتعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام. وتهدف هذه الازدواجية (مؤسّسة للإغاثة والتحكّم في المجاعة في الوقت نفسه) غالباً إلى إزالة أيّ شعور بالذنب لدى الجلّادين، فبتجريد الضحايا من إنسانيتهم، يسعى مرتكبو الإبادات الجماعية إلى التخلّص من أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه أفعالهم. في الواقع، هذه طريقتهم لإقناع أنفسهم بأنهم لا يقمعون بشراً مثلهم. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار الحيوان الذي يُضحّى به، ويُحوّل إلى لحم، فإن الفلسطيني لا يُسمح له بالبقاء إلا إن كان مفيداً.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store