
نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب
نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب
المحامية هبة أبو وردة
منذ أن سقطت "ليتل بوي" على هيروشيما، سقط معها مفهوم الإنسان عن نفسهم، وصعدت صراعات الحق في تمثيل السماء؛ حيث أن الإنقلاب الرمزي الذي حدث في الوعي البشري، نتيجة لما تزامن معها من مشاهدات سجلت لأولى مرة من "الأطباق الطائرة" في حادثة روزويل، وما تزامن معها من اشتداد الحرب الباردة، تصاعد سباق التسلّح، تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية وإنتاج عشرات الأفلام الأمريكية عن الكائنات الفضائية، مما جعل الربط بين امتلاك النووي وامتلاك المفاتيح بين الفناء والبقاء.
وهكذا خرجت الحرب من الأفقية والعالم الواقعي، ودخلت في النزاع العمودي في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب، حتى وصلنا إلى الصراع الإيراني الأمريكي، حيث إيران تقاتل لتمهيد الطريق لظهور "الإمام"، وإسرائيل تقاتل لحماية الدولة التي تعتبرها أول ضوء لفجر "الخلاص"، وبين الدعاء والشيفرة، الشوفار والمسبحة، تتقاطع الأسطورة بالتكنولوجيا، والطقس بالعقيدة، والرمز بالسلاح، في قلب معركة يتنصر بها من يملك الدليل السماء معه وأن مركبة الخلاص هبطت في ميدانه.
في قلب المرجعية العقائدية الإيرانية، وتحديدا ضمن المذهب الإثني عشري، يتمركز إيمان راسخ بوجود الإمام "الغائب الحاضر"، الذي يعيش في الغيب ويتابع العالم، إلى حين ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا، هذا البعد الغيبي الذي يمثل جوهرا بنيويا للفكر الديني الشيعي، تمدد مع تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى أصبح حجر الزاوية في التصور السياسي والأمني والثقافي الإيراني، وبات حضور الجن، العوالم غير المرئية والكرامات الخارقة، مكثفا في خطابات القادة، خاصة في المؤسسة العسكرية التي تتعامل معها على أنها بعد حقيقي وفعال لفهم الواقع وصناعة القرار.
الإمام الغائب، حسب الفقه الشيعي التقليدي، في حالة غيبة كبرى لا يرى فيها، إلا أن المزاعم تقول أنه يظهر في الرؤى والمنامات، ليأمر بالمقاومة تارة، ويزف البشرى بالنصر تارة أخرى، مما حول إنتظار المهدي من حالة غيبية كبرى متروكة للمستقبل، إلى حركة سياسية نشطة، بهدف تأطير المعركة السياسية أو العسكرية لتبدو وكأنها معركة بين الظلام والنور، تتجاوز المنطق البشري إلى مشيئة الغيب، وجعل النظام السياسي الإيراني "نظام تمهيد"، وأصبحت ولاية الفقيه نيابة مباشرة عن المعصوم؛ أي أنها تسعى عبر أدوات الدولة والعسكر إلى تسهيل عودة الإمام وتهيئة المسرح الكوني لظهور الإمام.
من قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يردد أسمه على أنه رجلا على تماس مع عالم الغيب، وتروى عنه قصص وحكايات تتجاوز حدود الطبيعة، إلى الحرس الثوري أصبح يتبنى منظومة فكرية واضحة تحت عنوان "التمهيد للظهور"، خرجت هذه المعتقدات من حدود الرمزية، ودخلت العقيدة الأمنية من واسع أبوابها، حيث باتت تربط بعض العمليات العسكرية والسياسية بما يعتبر "واجبا غيبيا"، مدفوعا بإشارات غير مرئية؛ أي أن القرار السياسي الإيراني لا يتخذ بعقلية الدولة فقط، إنما بتوجيهات روحية، ورؤى ماورائية يرونها من السماء احيانا.
وفي ذات السياق، جامع جمكران في قم، والذي يمثل حجر الأساس لهذا البعد العقائدي، أصبح من أبرز المزارات المقدسة المرتبطة بالإمام الغائب، وتنسب إليه خوارق وكرامات، وتزعم بعض القيادات الإيرانية وقوع لقاءات فعلية متعددة بين المرشد الأعلى علي خامنئي والإمام، في سرداب هذا المسجد، حيث قيل إن المرشد اجتمع به ثلاث عشرة مرة وطلب منه النصر لحسن نصر الله في حربه مع إسرائيل، كما ادعى آية الله مكارم شيرازي أن سر نجاحات خامنئي هو علاقته الخاصة بالمهدي الذي "يعينه في إدارة البلاد".
على الرغم أن الفقه الشيعي التقليدي ينفي إمكانية رؤية المهدي في زمن الغيبة، فإن هذه المزاعم توظف ببراعة لترسيخ قداسة القرار السياسي، وقطع الطريق أمام أي نقاش دنيوي أو معارضة عقلانية، لاسيما في توظف الخطابات الإعلامية الإيرانية، أن "الغيب لاستجلاب الهيبة وتكثيف المشروعية"، حيث تظهر في التقارير الرسمية روايات عن طائرات عدو تعطلت فجأة "بدعاء المجاهدين"، و مشاهد عن "نور فوق الجبهة" في لحظة عصيبة، مما يضفي على السياسات الإيرانية بعدا غيبيا مباشرا.
بلغ هذا الاستثمار ذروته مع خروج روايات من داخل بنية النظام ذاته، في الحرب الإيرانية العراقية، وما تلاها من حروب، حيث تم الترويج إليها على أنها محطات لإحياء الأسطورة، تحت شعار "كل يوم هو عاشوراء، وكل أرض هي كربلاء"؛ لتحويل الجبهة إلى امتداد لمعركة الإمام الحسين، ولكي يشعر كل مجاهد بأنه يسير على خطى الشهداء المقدسين، وبهذا تشحذ المعركة الهمم، ويطلب من الفقراء أن يصبروا على العوز، ومن المظلومين أن يتحملوا؛ لأن العدالة ستنزل من السماء حين يظهر الإمام، على هذه الأرض التي ملئت ظلما وجورا.
الأبعد من ذلك كان في العقيدة الغيبية للحرب السورية، حيث وظفت العديد من الروايات الشيعية لتفسير الصراع باعتباره أحد "علامات الظهور"، وتحولت سوريا إلى "مسرح قدري"، وكل العدو هو معيق لتحقق الخلاص الإلهي المنتظر، وعليه فإنها أعادت تعريف الجهاد الإسلامي، على أنها تعبيد الطريق لظهور الإمام، وكل مسيرة، صاروخ، طلقة ودم سائل هو نقطة ضوء في هذا المسار، الأمر الذي جعل الشباب الذين يزج بهم في ساحات القتال يرون أنفسهم طلائع "جيش الإمام"، مما حول السياسة إلى واجب غيبي، ووسيلة لتهيئة الأرض للغيب الأعلى؛ فمن يعارض الجمهورية الإسلامية، إنما يعارض الإمام المهدي نفسه، ومن يرفض سياسة خامنئي، إنما يرفض توجيه المعصوم.
على الصعيد الآخر إسرائيل، صاحبة التجذر المرجعي الغيبي في نصوص التوراة والتلمود، حيث تمتلئ أسفار العهد القديم بالإشارات إلى مركبات نارية طائرة، كما في قصة صعود النبي إيليا إلى السماء، والتي أعيد تفسيرها في ضوء الحداثة التكنولوجية لتقرأ بوصفها رموزا عن تقنيات خارقة أو تواصل مع كيانات فضائية، هذا التأويل خرج من دائرة الحاخامات، ودخل في المادة إعلامية بتكرار دائم، يتردد صداه في أفلام الخيال العلمي الإسرائيلية التي تتناول "الاختطاف الفضائي"، "الوعي الكوني" و"العقل الكوني اليهودي"، وكأن إسرائيل تجربة ماورائية ممهدة لنهاية الزمان.
الصهيونية السياسية، وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، نشأت كحركة علمانية، فإنها وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، جوهرها عقيدة الاصطفاء، الإيمان بأن اليهود هم شعب الله المختار وإقامة الدولة الإسرائيلية هو تحقيق لوعد إلهي خالد للورثة الشرعيين "لأرض الميعاد"، بدأت من لحظة غيبية انصهرت فيها الأسطورة بالنار، حين تسلم الكيان القدس، وصعد الحاخام غورين إلى حائط المبكى، ونفخ في البوق، ليعلن العودة كمعجزة إلهية.
أما في الجانب الغامض من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فتعمل وحدات "أمان" و"الموساد"، على تتبع كل ما يشتبه أنه ظاهرة خارقة، كالرؤية عن بعد، التجارب فوق الحسية والاتصال بعوالم ذكية، وقد كشفت بعض الوثائق التي تم تسريبها عن برامج استكشافية تربط بين العقل البشري والطاقة والرموز الكونية، ولا تنفصل التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية عن هذا البعد الغيبي؛ حيث إن هناك وحدات تروج لنفسها بوصفها "كلية نبوءات رقمية"، تشارك في مشاريع ذات طابع رمزي مثل "شعاع داوود"، أو تطوير شيفرات تتداخل فيها الأسماء المقدسة مع الذكاء الاصطناعي، وقد تكرست هذه المقاربة في عقل الدولة، كاحتمال استراتيجي قابل للاستثمار.
الدبابة الإسرائيلية الأبرز، والتي تم تسميتها "ميركافا، هي اقتباس مباشر من رؤيا إيليا، والمركبة النارية التي حملته إلى السماء عادت على هيئة دبابة، كما أن الصواريخ الباليستية "أريحا"، تيمنا بمدينة أريحا التي سقطت بمعجزة، ومنظومة الدفاع الصاروخي "مقلاع داوود"، هذه التسميات رغم ظاهرها العسكري، تحمل دلالات كونية، وتقدم للمجتمع الإسرائيلي كأدلة على مرافقة العناية الإلهية، والذي ربط حتى صلاة السبت بهذه الخرافات، حيث تم إدراج عبارات تصف الكيان بأنه أول بزوغ للفداء، بمعنى آخر أنه بداية الخلاص الموعود، والخطوة الأولى نحو مملكة المسيح المنتظر.
رغم الفارق الجذري بين العقيدتين، تتقاطع كل من المرجعية الشيعية الإيرانية والصهيونية الدينية الإسرائيلية، في توظيف الغيب كسلاح تعبوي، رمز شرعي ومعيار مصيري لفهم الصراع والوجود؛ بين من يعتبر النار السماوية حقا توراتيا لا يمس، دليل اصطفاء إلهي، والردع المخبأ تحت صحراء النقب ليس مجرد غموض عسكري، إنما غموض ديني مقصود، يتوج بـ"خيار شمشون" كرسالة واضحة أن "من يقترب يحرق"، وبين من يعتبره جزء من التمهيد للظهور، القنطرة التقنية ليوم "العدل المطلق"، وكل خطوة تخصيب تغلف بخطاب رمزي لولاية الفقيه، الانتظار، الحرس الثوري "جنود الغيب" والرسالة الواضحة "لا احتكار للسماء".
فالحرب بين الطرفين، في جوهرها العميق، هي معركة بين عالمين من الغيب، وما بينهما يتجاوز كونه مجرد "توازن عسكري"، فقد تحول إلى نزاع على من يحق له أن يمثل الإرادة الكونية، ومن هو المكلف بفتح أو غلق أبواب الظهور والخلاص، إسرائيل تهمس "لدينا ما لا يقال"، وإيران تصرخ "نحن أصحاب القرار الموعود"، وبذات الوقت لا تزال التقارير الأميركية للعامين ترصد تصاعدا في بلاغات الأجسام الغريبة، خصوصا فوق ساحات التجارب النووية، ولا زلنا لا ندري من الأقوى في إحتكار هذه السردية ومن صاحب هذه الصحون الدوارة في الأفق.
تابعو جهينة نيوز على

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جهينة نيوز
منذ 3 أيام
- جهينة نيوز
نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب
تاريخ النشر : 2025-06-29 - 12:36 pm نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب المحامية هبة أبو وردة منذ أن سقطت "ليتل بوي" على هيروشيما، سقط معها مفهوم الإنسان عن نفسهم، وصعدت صراعات الحق في تمثيل السماء؛ حيث أن الإنقلاب الرمزي الذي حدث في الوعي البشري، نتيجة لما تزامن معها من مشاهدات سجلت لأولى مرة من "الأطباق الطائرة" في حادثة روزويل، وما تزامن معها من اشتداد الحرب الباردة، تصاعد سباق التسلّح، تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية وإنتاج عشرات الأفلام الأمريكية عن الكائنات الفضائية، مما جعل الربط بين امتلاك النووي وامتلاك المفاتيح بين الفناء والبقاء. وهكذا خرجت الحرب من الأفقية والعالم الواقعي، ودخلت في النزاع العمودي في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب، حتى وصلنا إلى الصراع الإيراني الأمريكي، حيث إيران تقاتل لتمهيد الطريق لظهور "الإمام"، وإسرائيل تقاتل لحماية الدولة التي تعتبرها أول ضوء لفجر "الخلاص"، وبين الدعاء والشيفرة، الشوفار والمسبحة، تتقاطع الأسطورة بالتكنولوجيا، والطقس بالعقيدة، والرمز بالسلاح، في قلب معركة يتنصر بها من يملك الدليل السماء معه وأن مركبة الخلاص هبطت في ميدانه. في قلب المرجعية العقائدية الإيرانية، وتحديدا ضمن المذهب الإثني عشري، يتمركز إيمان راسخ بوجود الإمام "الغائب الحاضر"، الذي يعيش في الغيب ويتابع العالم، إلى حين ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا، هذا البعد الغيبي الذي يمثل جوهرا بنيويا للفكر الديني الشيعي، تمدد مع تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى أصبح حجر الزاوية في التصور السياسي والأمني والثقافي الإيراني، وبات حضور الجن، العوالم غير المرئية والكرامات الخارقة، مكثفا في خطابات القادة، خاصة في المؤسسة العسكرية التي تتعامل معها على أنها بعد حقيقي وفعال لفهم الواقع وصناعة القرار. الإمام الغائب، حسب الفقه الشيعي التقليدي، في حالة غيبة كبرى لا يرى فيها، إلا أن المزاعم تقول أنه يظهر في الرؤى والمنامات، ليأمر بالمقاومة تارة، ويزف البشرى بالنصر تارة أخرى، مما حول إنتظار المهدي من حالة غيبية كبرى متروكة للمستقبل، إلى حركة سياسية نشطة، بهدف تأطير المعركة السياسية أو العسكرية لتبدو وكأنها معركة بين الظلام والنور، تتجاوز المنطق البشري إلى مشيئة الغيب، وجعل النظام السياسي الإيراني "نظام تمهيد"، وأصبحت ولاية الفقيه نيابة مباشرة عن المعصوم؛ أي أنها تسعى عبر أدوات الدولة والعسكر إلى تسهيل عودة الإمام وتهيئة المسرح الكوني لظهور الإمام. من قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يردد أسمه على أنه رجلا على تماس مع عالم الغيب، وتروى عنه قصص وحكايات تتجاوز حدود الطبيعة، إلى الحرس الثوري أصبح يتبنى منظومة فكرية واضحة تحت عنوان "التمهيد للظهور"، خرجت هذه المعتقدات من حدود الرمزية، ودخلت العقيدة الأمنية من واسع أبوابها، حيث باتت تربط بعض العمليات العسكرية والسياسية بما يعتبر "واجبا غيبيا"، مدفوعا بإشارات غير مرئية؛ أي أن القرار السياسي الإيراني لا يتخذ بعقلية الدولة فقط، إنما بتوجيهات روحية، ورؤى ماورائية يرونها من السماء احيانا. وفي ذات السياق، جامع جمكران في قم، والذي يمثل حجر الأساس لهذا البعد العقائدي، أصبح من أبرز المزارات المقدسة المرتبطة بالإمام الغائب، وتنسب إليه خوارق وكرامات، وتزعم بعض القيادات الإيرانية وقوع لقاءات فعلية متعددة بين المرشد الأعلى علي خامنئي والإمام، في سرداب هذا المسجد، حيث قيل إن المرشد اجتمع به ثلاث عشرة مرة وطلب منه النصر لحسن نصر الله في حربه مع إسرائيل، كما ادعى آية الله مكارم شيرازي أن سر نجاحات خامنئي هو علاقته الخاصة بالمهدي الذي "يعينه في إدارة البلاد". على الرغم أن الفقه الشيعي التقليدي ينفي إمكانية رؤية المهدي في زمن الغيبة، فإن هذه المزاعم توظف ببراعة لترسيخ قداسة القرار السياسي، وقطع الطريق أمام أي نقاش دنيوي أو معارضة عقلانية، لاسيما في توظف الخطابات الإعلامية الإيرانية، أن "الغيب لاستجلاب الهيبة وتكثيف المشروعية"، حيث تظهر في التقارير الرسمية روايات عن طائرات عدو تعطلت فجأة "بدعاء المجاهدين"، و مشاهد عن "نور فوق الجبهة" في لحظة عصيبة، مما يضفي على السياسات الإيرانية بعدا غيبيا مباشرا. بلغ هذا الاستثمار ذروته مع خروج روايات من داخل بنية النظام ذاته، في الحرب الإيرانية العراقية، وما تلاها من حروب، حيث تم الترويج إليها على أنها محطات لإحياء الأسطورة، تحت شعار "كل يوم هو عاشوراء، وكل أرض هي كربلاء"؛ لتحويل الجبهة إلى امتداد لمعركة الإمام الحسين، ولكي يشعر كل مجاهد بأنه يسير على خطى الشهداء المقدسين، وبهذا تشحذ المعركة الهمم، ويطلب من الفقراء أن يصبروا على العوز، ومن المظلومين أن يتحملوا؛ لأن العدالة ستنزل من السماء حين يظهر الإمام، على هذه الأرض التي ملئت ظلما وجورا. الأبعد من ذلك كان في العقيدة الغيبية للحرب السورية، حيث وظفت العديد من الروايات الشيعية لتفسير الصراع باعتباره أحد "علامات الظهور"، وتحولت سوريا إلى "مسرح قدري"، وكل العدو هو معيق لتحقق الخلاص الإلهي المنتظر، وعليه فإنها أعادت تعريف الجهاد الإسلامي، على أنها تعبيد الطريق لظهور الإمام، وكل مسيرة، صاروخ، طلقة ودم سائل هو نقطة ضوء في هذا المسار، الأمر الذي جعل الشباب الذين يزج بهم في ساحات القتال يرون أنفسهم طلائع "جيش الإمام"، مما حول السياسة إلى واجب غيبي، ووسيلة لتهيئة الأرض للغيب الأعلى؛ فمن يعارض الجمهورية الإسلامية، إنما يعارض الإمام المهدي نفسه، ومن يرفض سياسة خامنئي، إنما يرفض توجيه المعصوم. على الصعيد الآخر إسرائيل، صاحبة التجذر المرجعي الغيبي في نصوص التوراة والتلمود، حيث تمتلئ أسفار العهد القديم بالإشارات إلى مركبات نارية طائرة، كما في قصة صعود النبي إيليا إلى السماء، والتي أعيد تفسيرها في ضوء الحداثة التكنولوجية لتقرأ بوصفها رموزا عن تقنيات خارقة أو تواصل مع كيانات فضائية، هذا التأويل خرج من دائرة الحاخامات، ودخل في المادة إعلامية بتكرار دائم، يتردد صداه في أفلام الخيال العلمي الإسرائيلية التي تتناول "الاختطاف الفضائي"، "الوعي الكوني" و"العقل الكوني اليهودي"، وكأن إسرائيل تجربة ماورائية ممهدة لنهاية الزمان. الصهيونية السياسية، وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، نشأت كحركة علمانية، فإنها وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، جوهرها عقيدة الاصطفاء، الإيمان بأن اليهود هم شعب الله المختار وإقامة الدولة الإسرائيلية هو تحقيق لوعد إلهي خالد للورثة الشرعيين "لأرض الميعاد"، بدأت من لحظة غيبية انصهرت فيها الأسطورة بالنار، حين تسلم الكيان القدس، وصعد الحاخام غورين إلى حائط المبكى، ونفخ في البوق، ليعلن العودة كمعجزة إلهية. أما في الجانب الغامض من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فتعمل وحدات "أمان" و"الموساد"، على تتبع كل ما يشتبه أنه ظاهرة خارقة، كالرؤية عن بعد، التجارب فوق الحسية والاتصال بعوالم ذكية، وقد كشفت بعض الوثائق التي تم تسريبها عن برامج استكشافية تربط بين العقل البشري والطاقة والرموز الكونية، ولا تنفصل التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية عن هذا البعد الغيبي؛ حيث إن هناك وحدات تروج لنفسها بوصفها "كلية نبوءات رقمية"، تشارك في مشاريع ذات طابع رمزي مثل "شعاع داوود"، أو تطوير شيفرات تتداخل فيها الأسماء المقدسة مع الذكاء الاصطناعي، وقد تكرست هذه المقاربة في عقل الدولة، كاحتمال استراتيجي قابل للاستثمار. الدبابة الإسرائيلية الأبرز، والتي تم تسميتها "ميركافا، هي اقتباس مباشر من رؤيا إيليا، والمركبة النارية التي حملته إلى السماء عادت على هيئة دبابة، كما أن الصواريخ الباليستية "أريحا"، تيمنا بمدينة أريحا التي سقطت بمعجزة، ومنظومة الدفاع الصاروخي "مقلاع داوود"، هذه التسميات رغم ظاهرها العسكري، تحمل دلالات كونية، وتقدم للمجتمع الإسرائيلي كأدلة على مرافقة العناية الإلهية، والذي ربط حتى صلاة السبت بهذه الخرافات، حيث تم إدراج عبارات تصف الكيان بأنه أول بزوغ للفداء، بمعنى آخر أنه بداية الخلاص الموعود، والخطوة الأولى نحو مملكة المسيح المنتظر. رغم الفارق الجذري بين العقيدتين، تتقاطع كل من المرجعية الشيعية الإيرانية والصهيونية الدينية الإسرائيلية، في توظيف الغيب كسلاح تعبوي، رمز شرعي ومعيار مصيري لفهم الصراع والوجود؛ بين من يعتبر النار السماوية حقا توراتيا لا يمس، دليل اصطفاء إلهي، والردع المخبأ تحت صحراء النقب ليس مجرد غموض عسكري، إنما غموض ديني مقصود، يتوج بـ"خيار شمشون" كرسالة واضحة أن "من يقترب يحرق"، وبين من يعتبره جزء من التمهيد للظهور، القنطرة التقنية ليوم "العدل المطلق"، وكل خطوة تخصيب تغلف بخطاب رمزي لولاية الفقيه، الانتظار، الحرس الثوري "جنود الغيب" والرسالة الواضحة "لا احتكار للسماء". فالحرب بين الطرفين، في جوهرها العميق، هي معركة بين عالمين من الغيب، وما بينهما يتجاوز كونه مجرد "توازن عسكري"، فقد تحول إلى نزاع على من يحق له أن يمثل الإرادة الكونية، ومن هو المكلف بفتح أو غلق أبواب الظهور والخلاص، إسرائيل تهمس "لدينا ما لا يقال"، وإيران تصرخ "نحن أصحاب القرار الموعود"، وبذات الوقت لا تزال التقارير الأميركية للعامين ترصد تصاعدا في بلاغات الأجسام الغريبة، خصوصا فوق ساحات التجارب النووية، ولا زلنا لا ندري من الأقوى في إحتكار هذه السردية ومن صاحب هذه الصحون الدوارة في الأفق. تابعو جهينة نيوز على


الانباط اليومية
منذ 3 أيام
- الانباط اليومية
نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب
الأنباط - نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب المحامية هبة أبو وردة منذ أن سقطت "ليتل بوي" على هيروشيما، سقط معها مفهوم الإنسان عن نفسهم، وصعدت صراعات الحق في تمثيل السماء؛ حيث أن الإنقلاب الرمزي الذي حدث في الوعي البشري، نتيجة لما تزامن معها من مشاهدات سجلت لأولى مرة من "الأطباق الطائرة" في حادثة روزويل، وما تزامن معها من اشتداد الحرب الباردة، تصاعد سباق التسلّح، تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية وإنتاج عشرات الأفلام الأمريكية عن الكائنات الفضائية، مما جعل الربط بين امتلاك النووي وامتلاك المفاتيح بين الفناء والبقاء. وهكذا خرجت الحرب من الأفقية والعالم الواقعي، ودخلت في النزاع العمودي في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب، حتى وصلنا إلى الصراع الإيراني الأمريكي، حيث إيران تقاتل لتمهيد الطريق لظهور "الإمام"، وإسرائيل تقاتل لحماية الدولة التي تعتبرها أول ضوء لفجر "الخلاص"، وبين الدعاء والشيفرة، الشوفار والمسبحة، تتقاطع الأسطورة بالتكنولوجيا، والطقس بالعقيدة، والرمز بالسلاح، في قلب معركة يتنصر بها من يملك الدليل السماء معه وأن مركبة الخلاص هبطت في ميدانه. في قلب المرجعية العقائدية الإيرانية، وتحديدا ضمن المذهب الإثني عشري، يتمركز إيمان راسخ بوجود الإمام "الغائب الحاضر"، الذي يعيش في الغيب ويتابع العالم، إلى حين ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا، هذا البعد الغيبي الذي يمثل جوهرا بنيويا للفكر الديني الشيعي، تمدد مع تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى أصبح حجر الزاوية في التصور السياسي والأمني والثقافي الإيراني، وبات حضور الجن، العوالم غير المرئية والكرامات الخارقة، مكثفا في خطابات القادة، خاصة في المؤسسة العسكرية التي تتعامل معها على أنها بعد حقيقي وفعال لفهم الواقع وصناعة القرار. الإمام الغائب، حسب الفقه الشيعي التقليدي، في حالة غيبة كبرى لا يرى فيها، إلا أن المزاعم تقول أنه يظهر في الرؤى والمنامات، ليأمر بالمقاومة تارة، ويزف البشرى بالنصر تارة أخرى، مما حول إنتظار المهدي من حالة غيبية كبرى متروكة للمستقبل، إلى حركة سياسية نشطة، بهدف تأطير المعركة السياسية أو العسكرية لتبدو وكأنها معركة بين الظلام والنور، تتجاوز المنطق البشري إلى مشيئة الغيب، وجعل النظام السياسي الإيراني "نظام تمهيد"، وأصبحت ولاية الفقيه نيابة مباشرة عن المعصوم؛ أي أنها تسعى عبر أدوات الدولة والعسكر إلى تسهيل عودة الإمام وتهيئة المسرح الكوني لظهور الإمام. من قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يردد أسمه على أنه رجلا على تماس مع عالم الغيب، وتروى عنه قصص وحكايات تتجاوز حدود الطبيعة، إلى الحرس الثوري أصبح يتبنى منظومة فكرية واضحة تحت عنوان "التمهيد للظهور"، خرجت هذه المعتقدات من حدود الرمزية، ودخلت العقيدة الأمنية من واسع أبوابها، حيث باتت تربط بعض العمليات العسكرية والسياسية بما يعتبر "واجبا غيبيا"، مدفوعا بإشارات غير مرئية؛ أي أن القرار السياسي الإيراني لا يتخذ بعقلية الدولة فقط، إنما بتوجيهات روحية، ورؤى ماورائية يرونها من السماء احيانا. وفي ذات السياق، جامع جمكران في قم، والذي يمثل حجر الأساس لهذا البعد العقائدي، أصبح من أبرز المزارات المقدسة المرتبطة بالإمام الغائب، وتنسب إليه خوارق وكرامات، وتزعم بعض القيادات الإيرانية وقوع لقاءات فعلية متعددة بين المرشد الأعلى علي خامنئي والإمام، في سرداب هذا المسجد، حيث قيل إن المرشد اجتمع به ثلاث عشرة مرة وطلب منه النصر لحسن نصر الله في حربه مع إسرائيل، كما ادعى آية الله مكارم شيرازي أن سر نجاحات خامنئي هو علاقته الخاصة بالمهدي الذي "يعينه في إدارة البلاد". على الرغم أن الفقه الشيعي التقليدي ينفي إمكانية رؤية المهدي في زمن الغيبة، فإن هذه المزاعم توظف ببراعة لترسيخ قداسة القرار السياسي، وقطع الطريق أمام أي نقاش دنيوي أو معارضة عقلانية، لاسيما في توظف الخطابات الإعلامية الإيرانية، أن "الغيب لاستجلاب الهيبة وتكثيف المشروعية"، حيث تظهر في التقارير الرسمية روايات عن طائرات عدو تعطلت فجأة "بدعاء المجاهدين"، و مشاهد عن "نور فوق الجبهة" في لحظة عصيبة، مما يضفي على السياسات الإيرانية بعدا غيبيا مباشرا. بلغ هذا الاستثمار ذروته مع خروج روايات من داخل بنية النظام ذاته، في الحرب الإيرانية العراقية، وما تلاها من حروب، حيث تم الترويج إليها على أنها محطات لإحياء الأسطورة، تحت شعار "كل يوم هو عاشوراء، وكل أرض هي كربلاء"؛ لتحويل الجبهة إلى امتداد لمعركة الإمام الحسين، ولكي يشعر كل مجاهد بأنه يسير على خطى الشهداء المقدسين، وبهذا تشحذ المعركة الهمم، ويطلب من الفقراء أن يصبروا على العوز، ومن المظلومين أن يتحملوا؛ لأن العدالة ستنزل من السماء حين يظهر الإمام، على هذه الأرض التي ملئت ظلما وجورا. الأبعد من ذلك كان في العقيدة الغيبية للحرب السورية، حيث وظفت العديد من الروايات الشيعية لتفسير الصراع باعتباره أحد "علامات الظهور"، وتحولت سوريا إلى "مسرح قدري"، وكل العدو هو معيق لتحقق الخلاص الإلهي المنتظر، وعليه فإنها أعادت تعريف الجهاد الإسلامي، على أنها تعبيد الطريق لظهور الإمام، وكل مسيرة، صاروخ، طلقة ودم سائل هو نقطة ضوء في هذا المسار، الأمر الذي جعل الشباب الذين يزج بهم في ساحات القتال يرون أنفسهم طلائع "جيش الإمام"، مما حول السياسة إلى واجب غيبي، ووسيلة لتهيئة الأرض للغيب الأعلى؛ فمن يعارض الجمهورية الإسلامية، إنما يعارض الإمام المهدي نفسه، ومن يرفض سياسة خامنئي، إنما يرفض توجيه المعصوم. على الصعيد الآخر إسرائيل، صاحبة التجذر المرجعي الغيبي في نصوص التوراة والتلمود، حيث تمتلئ أسفار العهد القديم بالإشارات إلى مركبات نارية طائرة، كما في قصة صعود النبي إيليا إلى السماء، والتي أعيد تفسيرها في ضوء الحداثة التكنولوجية لتقرأ بوصفها رموزا عن تقنيات خارقة أو تواصل مع كيانات فضائية، هذا التأويل خرج من دائرة الحاخامات، ودخل في المادة إعلامية بتكرار دائم، يتردد صداه في أفلام الخيال العلمي الإسرائيلية التي تتناول "الاختطاف الفضائي"، "الوعي الكوني" و"العقل الكوني اليهودي"، وكأن إسرائيل تجربة ماورائية ممهدة لنهاية الزمان. الصهيونية السياسية، وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، نشأت كحركة علمانية، فإنها وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، جوهرها عقيدة الاصطفاء، الإيمان بأن اليهود هم شعب الله المختار وإقامة الدولة الإسرائيلية هو تحقيق لوعد إلهي خالد للورثة الشرعيين "لأرض الميعاد"، بدأت من لحظة غيبية انصهرت فيها الأسطورة بالنار، حين تسلم الكيان القدس، وصعد الحاخام غورين إلى حائط المبكى، ونفخ في البوق، ليعلن العودة كمعجزة إلهية. أما في الجانب الغامض من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فتعمل وحدات "أمان" و"الموساد"، على تتبع كل ما يشتبه أنه ظاهرة خارقة، كالرؤية عن بعد، التجارب فوق الحسية والاتصال بعوالم ذكية، وقد كشفت بعض الوثائق التي تم تسريبها عن برامج استكشافية تربط بين العقل البشري والطاقة والرموز الكونية، ولا تنفصل التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية عن هذا البعد الغيبي؛ حيث إن هناك وحدات تروج لنفسها بوصفها "كلية نبوءات رقمية"، تشارك في مشاريع ذات طابع رمزي مثل "شعاع داوود"، أو تطوير شيفرات تتداخل فيها الأسماء المقدسة مع الذكاء الاصطناعي، وقد تكرست هذه المقاربة في عقل الدولة، كاحتمال استراتيجي قابل للاستثمار. الدبابة الإسرائيلية الأبرز، والتي تم تسميتها "ميركافا، هي اقتباس مباشر من رؤيا إيليا، والمركبة النارية التي حملته إلى السماء عادت على هيئة دبابة، كما أن الصواريخ الباليستية "أريحا"، تيمنا بمدينة أريحا التي سقطت بمعجزة، ومنظومة الدفاع الصاروخي "مقلاع داوود"، هذه التسميات رغم ظاهرها العسكري، تحمل دلالات كونية، وتقدم للمجتمع الإسرائيلي كأدلة على مرافقة العناية الإلهية، والذي ربط حتى صلاة السبت بهذه الخرافات، حيث تم إدراج عبارات تصف الكيان بأنه أول بزوغ للفداء، بمعنى آخر أنه بداية الخلاص الموعود، والخطوة الأولى نحو مملكة المسيح المنتظر. رغم الفارق الجذري بين العقيدتين، تتقاطع كل من المرجعية الشيعية الإيرانية والصهيونية الدينية الإسرائيلية، في توظيف الغيب كسلاح تعبوي، رمز شرعي ومعيار مصيري لفهم الصراع والوجود؛ بين من يعتبر النار السماوية حقا توراتيا لا يمس، دليل اصطفاء إلهي، والردع المخبأ تحت صحراء النقب ليس مجرد غموض عسكري، إنما غموض ديني مقصود، يتوج بـ"خيار شمشون" كرسالة واضحة أن "من يقترب يحرق"، وبين من يعتبره جزء من التمهيد للظهور، القنطرة التقنية ليوم "العدل المطلق"، وكل خطوة تخصيب تغلف بخطاب رمزي لولاية الفقيه، الانتظار، الحرس الثوري "جنود الغيب" والرسالة الواضحة "لا احتكار للسماء". فالحرب بين الطرفين، في جوهرها العميق، هي معركة بين عالمين من الغيب، وما بينهما يتجاوز كونه مجرد "توازن عسكري"، فقد تحول إلى نزاع على من يحق له أن يمثل الإرادة الكونية، ومن هو المكلف بفتح أو غلق أبواب الظهور والخلاص، إسرائيل تهمس "لدينا ما لا يقال"، وإيران تصرخ "نحن أصحاب القرار الموعود"، وبذات الوقت لا تزال التقارير الأميركية للعامين ترصد تصاعدا في بلاغات الأجسام الغريبة، خصوصا فوق ساحات التجارب النووية، ولا زلنا لا ندري من الأقوى في إحتكار هذه السردية ومن صاحب هذه الصحون الدوارة في الأفق.


جهينة نيوز
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- جهينة نيوز
إسرائيل الأداة التي تحرق يد صاحبها
تاريخ النشر : 2025-05-12 - 12:03 pm المحامية هبة أبو وردة المصالح الدولية، دائما ما تبنى بتوظيف أدوات تصاغ وفقا لموازين المرحلة، إلا أن إسرائيل هي أغرب ما ابتكرته القوى العظمى من أدوات؛ كيانا كاملا بإسم دولة شرعية، لكنه لم تكن يوما إلا "أداة استراتيجية"، زرعت في قلب الشرق الأوسط، لتحقيق التفوق الغربي فيه، وضمان تفكيك أي مشروع إقليمي مستقل. وعلى الرغم من ذلك، إلا إنه كان الأداة المدللة لدى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لما اختصرته من مشروع كامل للهيمنة على المنطقة، ومن هذا المنطلق ألبسته ثوب "الحليف الصديق التاريخي"، كما أن بعض الرؤساء السابقين، يتعاملون مع إسرائيل على أنها "امتداد طبيعي للمصالح الأمريكية" في الشرق الأوسط، وبين التماهي السياسي والتنسيق الإستراتيجي الكامل، تشكل في المشهد السياسي الكبير أن هذا التحالف عهد أخلاقي تاريخي، يجمعه مصير مشترك. بعد عقود من هذا التحالف الأعمي، وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن أمام مفترق طرق؛ بين المشروع التي تعول عليه لإبقاء النظام الأمريكي العالمي على قيد الحياة، وبين الحليف الذي أصبح عبء استراتيجي وأخلاقي؛ يهدد صورة أمريكا بالكامل، في الداخل والخارج. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدهائه الغريزي، قرأ المشهد سريعا، مما جعله يبدأ بسياسة الإشارات رمزية تدريجية، خلال اللقاء الثاني الذي جمعه بنتنياهو في دورته الحالي؛ فمن لون ربطة عنقه، إلى اللقاء المغلق، وصولا لإلغاء المؤتمر الصحفي، جميعها كانت تحمل رسائل واضحة، عكست للمجتمع الدولي أن نتنياهو بات عبء بصورة حليف. إستمرار نتنياهو بالتصعيد، بعد هذا اللقاء، دفع ترامي للجوء إلى أساليب تحذيرية أكثر وضوحا، عبر التصريح عن رغبته في إنهاء الحرب على القطاع تمهيدا لوقف إطلاق النار ثم الحل السياسي، مقيدا نتنياهو بمهلة زمنية محددة، تخللها إحاطة الإعلام الأمريكي برواية جديدة تقول إن نتنياهو لم يعد حليفا، وبات ورقة انتهت صلاحيتها، لكن نتنياهو لم يلتقط الرسائل، أو ربما التقطها، لكنه تجاهلها تحت ضغط الخوف من المصير الفردي. حيث بات واضحا للعين السياسية، أن نتنياهو يخض حربا ضد الزمن، ضد المحاكمة وضد السقوط، وكل جولة تصعيد يشعلها، متزامنة مع مواعيد مفصلية في محاكمته، ما هي إلا محاولة لتأجيل الحساب، بالتالي وقف الحرب يعني عودة الملفات الثلاثة إلى طاولة المحاكمة، استئناف مثوله أمام القضاء. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يواجه ثلاث لوائح إتهام رسمية، صادرة عن المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، الملف 1000 لما تلقي هدايا فاخرة من رجال أعمال، والملف 2000 بشأن التفاوض لتحسين تغطية إعلامية من صحيفة "يديعوت أحرونوت"، والملف 4000 المتعلق بتقديم امتيازات ضخمة لشركة "بيزك" مقابل تغطية إعلامية إيجابية، غير أن جميع هذه المحاكمات معلقة لحين وقف الحرب، لأسباب أمنية أو سياسية. وعلى هامش الملفات التي تنتظر على طاولة المحكمة، تقف ملفات أخرى في طابور التحقيق، تشمل شبهات بإساءة إستخدام المنصب، وتجاوزات مالية وإدارية، وأخرى تتعلق بطريقة إدارة الحرب والتجاوز الصلاحيات باتخاذ قرارات أمنية دون العودة للجيش أو الكبينت المصغر، جميعها لم تفتح رسميا بعد، لكنها موضوعة بعناية في خانة "الإستدعاء القادم"، في ظل أن هذه الملفات الجنائية، تهدد نتنياهو بفقدان أهليته السياسية، بموجب قوانين الداخل الإسرائيلية، إلا أنه ما ينتظره دوليا أكثر خطورة وتعقيدا، ولن تسعفه الذرائع التي يسوقها بأن التصعيدات الدموية التي قام بها جاءت ضمن "ضرورات أمنية، تماما كما لم تقنع المؤسسات العسكرية الإسرائيلية. لكن، حتى وإن تمكن نتنياهو من إثبات الضرورات الأمنية المشروعة، التي دفعته لهذه التصعيدات، القانون الدولي لا يحاسب على الدوافع، إنما على الآثار والوسيلة المستخدمة؛ فالحرب له قواعد نبيلة، لم يعرها أي أهمية، حيث أسقط "مبدأ التمييز الدولي" تماما؛ فجميع مباني القطاع هدف مؤجل، وأذاب الحدود بين المقاتلين والمدنيين؛ فجميع العائلات والأطفال والشيوخ مسقط رأس صاروخ قادم، وأعدم "مبدأ التناسب الدولي" شنقا حتى الموت؛ فالصواريخ بدائية الصنع لا يمكن أن تبرر محو قطاع كامل عن الخارطة، ناهيك عن استهداف الصحفيين والمراكز الإعلامية ومرافق الإغاثة، مما يضعه تحت دائرة "جرائم حرب" و "جرائم ضد الإنسانية"، وفقا لنظام روما الأساسي. وقد سبق، للمدعي العام السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، "فاتو بنسودا" أن أعلنت رسميا عن فتح تحقيق رسمي في جرائم محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مستمدة صلاحيتها في الملاحقة من أن فلسطين دولة عضو في المحكمة، مؤكدة أن الوقائع تشير إلى انتهاكات تصنف بوضوح كجرائم حرب. لم يتوقف الأثر الكارثي عند هذا الحد دوليا؛ فقد عمد إلى توسيع المستوطنات بشكل ممنهج، بما يشكل خرقا مباشرا لاتفاقية جنيف الرابعة، إضافة إلى محاولة فتح واجهات إقتصادية داخل الضفة الغربية، وربطها بمنظومة الإستطينات، وهي ما تشكل وحدها خرقا مزدوجا، قانونيا وسياسيا. في ذروة أزمة نتنياهو القانونية، يصبح السير مع التوجيهات الأمريكية، التي تبدو بأمس الحاجة إلى تهدئة في الشرق الأوسط، لإعادة فرض الهيمنة قبل أن يباغتها نظام عالمي جديد، مجازفة مكلفة سيدفع ثمنها منفردا، فرفض أن يطفئ النيران، خوفا من أن يعيش تحتها، مما أحدث تصادم على طريق المسار الإقتصادي، نتنياهو بقضاياه ومغامراته، وترامب بمشروعه الذي يعول عليه إبقاء النظام الأمريكي العالمي قيد الحياة. وجود ترامب، كأول رئيس أمريكي لم يكن يوما إبن المؤسسة، ويتعامل مع أمريكا على أنها شركة على وشك الإفلاس، ويبحث لها عن شركاء مليئين، بمنطق السوق وحدس التاجر، لتصبح شرعية قوة، ربح وخسارة، ثم فتح المزاد السياسي العلني، على مصراعيه، جميع التحالفات قابلة للبيع والشراء، جعل فكرة التردد عن تحييد التحالف عن إسرائيل غير واردة. ترامب رجل صفقة، ونتنياهو يربكه في ملفات أهم، دفعه نحو الهاوية، وإحالة إسرائيل للتقييم الوظيفي، خطوة طبيعية وضرورية لحماية التوازن الأكبر؛ حيث النظام الأمريكي العالمي، مقابل الأنظمة البديلة التي تشهد تصاعد متسارع، وتسير بإتجاه تحالفات جديدة، بخطوات القائد المتيقن من مصيره. كما أن الاستغناء المرحلي عن مشاريع الربط الإقتصادي، وفقا للمخطط الرئيسي، بإستخدام القطاع كنقطة تمرير، خطوة قانونية محسوبة؛ فالهندسة الصامتة خلف المشروع تعي تماما أن الإستمرار بطرحه، يلقي على عاتق أمريكا عبء المسؤولية غير المباشرة، بموجب للقوانين الدولية، التي تحظر صراحة الإستفادة من أي أرض محتلة، وفي ظل ما يقوم به الكيان من جرائم حرب جارية، يصبح مجرد تطرحه كفكرة ذات شرعية، هو عدم إحترام لاتفاقيات جنيف وقرارات مجلس الأمن. وفي عالم السياسة، جميع التفاصيل يمكن تحويلها إلى أداة لتحقيق الغاية، واليوم ترامب يوظف ما لم توظفه واشنطن من قبل، التحييد الرمزي عن إسرائيل، الاستغناء عن الجريمة لتمرير المشروع؛ لتحقيق ثلاث أهداف بضربة واحدة، أولها ظهوره كراعٍ لتحالف سلمي وتبييض الصفحة الأمريكية، ثانيها إقناع الدول المنوي التحالف معها بلا عائق يسبب حرج دولي، ثالثها حصانة سياسية أخلاقية لواشنطن، تضمن إعادة السيطرة على المنطقة. وبعين القارئ السياسي، تحييد إسرائيل هو خطوة استباقية، في محاولة إعادة تعريف مشروعها الإقتصادي، بأنه تحالف اقتصادي دولي بين دول مستقرة، غير منخرطة في أي حروب، كأداة لإقناع الدول الأخرى، بتمرير مشروع تحالف اقتصادي جديد عبر أراضيها وموانئها، بمفهوم يضمن دعمه قانونيا، تمريره سياسيا ومشاركته أخلاقيا. الخريطة الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة، تحتاج إلى صفحة أنظف، خاصة وأن المنافس المتصاعد، أدواته جميعها تتمحور حول حقيبة مشاريع وتمويلات استراتيجية، ومواجهته لن تكون إلا عبر إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالحه، وبناء تحالفات مؤقتة، تحت مسمى بوابات "سلام"، وعلى وجه الخصوص إحتواء إيران باتفاق مرحلي، ومد يد مختلفة اللون إلى السعودية. ومن هنا لا يمكن للقارئ السياسي، أن يقرأ المشهد بإغفال تفصيلين جوهريين، أولهما أن الحدث المفصلي المتزامن في إتخاذ ترامب موقفا جديا من نتنياهو، هو إعلان السعودية رسميا عن تجميد أي مسار إقتصادي مع أمريكا، وثانيهما التوقيت كعنصر هام جدا في هذا التحييد، يسبق زيارته الأولى إلى المملكة العربية السعودية في هذه الدورة؛ كمبرر يحمل الأمل الأخير لإعادة فتح أبواب التحالف الإقتصادي. السعودية اليوم، في منطق ترامب، هي قلب الخليج، ونافذة الغرب نحو الصين، تملك مفاتيح الطاقة والتكنولوجيا والاستثمارات العابرة للقارات، وتستطيع بشبكة تحالفاتها الجديدة، تحديد وزن أي تحالف عالمي، أي أن تحالفها مع واشنطن هو "البيضة الذهبية" التي سترجح كفتها، في المنافسة الإقتصادية القائمة. أي أن الغاية، هي إعتراف ضمني بأنها عبء أخلاقي وقانوني، لتحييد الفضيحة، وتحقيق مصالح محددة، دون تفكيك العلاقة، أو قطع التحالف الاستراتيجي التاريخي؛ وبالتالي اكتفى بالتخلي الهادئ دون تصريح مباشر أو تقديم الإعتذار عن التحالف الكارثي، بمعنى أوضح، إسرائيل ستبقى أداة أمريكا الأكثر طواعية وانقياد، لكن كونها تحولت للأداة التي تحرق صاحبها، وجب تجميدها. تابعو جهينة نيوز على