logo
"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة" كتاب يولد من رحم الدهشة

"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة" كتاب يولد من رحم الدهشة

الجزيرةمنذ 5 أيام
ماذا لو لم يكن لدينا كتب اليوم؟ وماذا لو لم تُخترع الكتب أصلًا؟
تخيل عالما بلا مكتبات، ولا كتب، ولا روايات، وبلا سطور تحفظ أصوات من رحلوا.
ماذا كان سيبقى منّا حينها؟
وماذا كنا سنعرف عن النابغة، وعن الجاحظ، وعن الثورات، وعن قصص الحب والوفاء؟
ومن الذي قرر أن يخترع الكتابة، وأن يصنع من الكلمات سدًّا في مواجهة النسيان؟
في كتاب "اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرديَّة"، تفتح لنا إيريني باييخو نافذة غير معتادة على تاريخ الكتاب، لا كما اعتدنا أن نقرأه في المراجع، بل كما يُروى في الأساطير، وهذا الكتاب ليس كتابًا عن الكتب فحسب، إنما عن الإنسان الذي لا يتوقف عن السرد والحكاية والطموح.
في زمن تتسارع فيه الخطى وتحيط بنا الشاشات، لا يعود فعل القراءة مجرّد عادة، بل مقاومة رفيعة. ومن بين مئات الكتب التي تتناول تاريخ الكتابة والقراءة، يبرز كتاب "اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَردِيَّة" للكاتبة الإسبانية إيريني باييخو بوصفه عملاً استثنائيًّا يعيد إلينا الأنفاس الأُوَل للكتب.
وهو لا يقدم سردًا تاريخيًّا جافًّا، بل يسرد حكاية نابضة بالحياة، تسير بخطى شاعرية خلال العصور، وتتحدث عن الكتب كما لو كانت مخلوقات حيّة لها قدر ومصير، والكتاب في نظر المؤلفة عالم متّسعٌ لا تنضب معانيه، ومن هنا جاء العنوان "اللامتناهي في برديّة".
وُصف هذا العمل بأنه "أنشودة في حب الكتب"، ولم يكن هذا الوصف مجازًا، بل هو حقيقة تجلت في أكثر من 50 طبعة بالإسبانية، وجوائز أدبية مرموقة حازها، كل ذلك لأنه لامس شيئًا عميقًا في الوعي الإنساني؛ إذ إنَّ باييخو كتبت عن الكتب، ومن أجلها، وبها. ونسخته العربية صدرت عن دار الآداب بترجمة مارك جمال.
وإيريني باييخو كاتبة وأكاديمية إسبانية وُلدت في سرقسطة عام 1979، متخصصة في فقه اللغة الكلاسيكية والأدب اليوناني واللاتيني القديم. تمتاز كتاباتها بمزج فريد بين السرد الأدبي والتأمل الفلسفي، وتُعرف بقدرتها على إحياء التاريخ الثقافي بلغة إنسانية جذابة.
مكتبة الإسكندرية حيث بدأت الرحلة
تنطلق الكاتبة من مكتبة الإسكندرية، لا بوصفها مكانًا فحسب، بل رمزًا ومهدًا لفكرة الكتاب بوصفه موطنًا رمزيًا للمنفيين، كما تقول: "خلقت موطنًا من الورقِ لمَن لا موطن لهم". هناك حيث تعايشت الكلمات وتماهت، انطلقت رحلة البحث عن الكتب، تلك التي قادها فرسان بطليموس في مغامرة تكاد تشبه الأسطورة.
في مقدمتها، تسرد باييخو المشهد بتصوير حيّ: "فرسان يمتطون صهوات خيولهم جاؤوا من اليونان… الخطر يطاردهم من كلِّ جانب… عمَّ يبحثون؟ عن الكتب؛ إذ زوَّدهم حاكم مصر بطليموس بمبالغ كبيرة من المال، وأمرهم بعبور البحر للحصول على جميع كتب الأرض من أجل مكتبته العظيمة في الإسكندرية".
هكذا تبدأ الرحلة، لا من حبرٍ على ورق، بل من مغامرة تتقاطع فيها السياسة بالثقافة، والقوة بالمعرفة.
تعود بنا باييخو إلى أزمنة ما قبل الأبجدية، إلى الألواح الطينية في بلاد الرافدين، ومكتبات الفراعنة، ومدونات الفينيقيين، وأكاديميات اليونان، ومكتبات روما، وترسم تطور الكتاب من رقوق الجلد، إلى ورق القصب، فالورق المصنَّع، وصولاً إلى الكتاب الرقمي، مرورًا بكل تحولاته: من اللفائف إلى الصفحات، ومن النحت إلى الحبر، ومن الهمس إلى التوثيق.
لكنها لا تكتفي بالسرد الموضوعي، بل تضفي على كل مرحلة بُعدًا شعوريًّا، وتُلبس الوقائع لَبوس الأسطورة، فيغدو كل تحول في شكل الكتاب مشحونًا بالمعنى، كأن لكل مادة ذاكرة.
من أبرز ما يميّز هذا العمل اهتمامه بمن لم يروِ التاريخ أسماءهم؛ مثل الرواة الشفويين، والنُسّاخ، والرهبان، والعبيد، والبائعين، والمترجمين، والمعتقلين، والأطفال الذين حملوا الكتب خلسة، والأسرى الذين نسخوها في المنافي.
وهؤلاء هم أبطال الحكاية الحقيقيون في نظر باييخو، فهي لا تتوقف عند أعلام الفكر وحكّام المعرفة، بل تبحث عن أولئك الذين حموا الكتب في اللحظات الفارقة من التاريخ، وأولئك الذين أنقذوها وحفظوها، وبذلك فالكاتبة لا تسرد حكاية "اختراع الكتب" فحسب، بل حكاية اختراع طرائق حفظها أيضًا.
الكتاب -كما يصفه النقاد- ليس مما يُقرأ على عجل، بل هو كتاب يفرض إيقاعه ونظمه، كتاب لا تُقلب صفحاته كما تُقلب شاشة هاتف، بل يُصغي القارئ لنَفَسه حتى ينسجم مع نغمه.
وهذا ما يحدث مع "اللامتناهي في بردية"، فما إن يفتح القارئ صفحاته حتى يجد نفسه قد أُلزِم بسرده وقواعده الخاصة، فعليه تارة أن يتوقف ويتأمل، وتارة أن يتذكر طفولته الأولى مع الكتب، ويعيد تعريف علاقته بالكلمات.
مصير الكتب في العالم الرقمي
لا تُغفِل باييخو التحوّلات التي تشهدها الكتب في عصر الرقمنة، بل تتأمل بعمق في مصير الحرف أمام الشاشة، ولا تستطيع أن تخفي قلقها: "مواعيد زوال الأشياء تقترب أكثر فأكثر… أجهزتنا تطلب منَّا دائمًا تحديث التطبيقات والبرامج، وإن لم نتنبه ونستيقظ، فسيأخذ العالم منّا زمام المبادرة".
ومع ذلك فهي لا تستسلم لليأس، بل تُذكّرنا بأن "من الخطأ الاعتقاد بأن كل حداثة تمحو التقليد، لقد جاء الهاتف المحمول تقليدًا للوح الطين في بلاد ما بين النهرين، وفي شاشات هواتفنا نفكك النصوص كما هي الحال في لفائف البردي القديمة"، وأن التكنولوجيا ليست خصمًا للتقاليد، إنما امتداد لها.
تقول باييخو: "لطالما كانت القراءةُ ارتحالًا، سَفَرًا، رحيلًا في سبيلِ العثور على الذات".
في هذا الكتاب، تعيد الكاتبة للقراءة مكانتها الأصلية، لا بوصفها فعلا ثقافيا فحسب، بل حاجة روحية؛ ففي عالم يفيض بالمعلومات ويشحّ فيه المعنى، تصرّ باييخو على أن الكتاب لا يُقرأ فقط، بل يقرؤنا، ويعيدنا إلى ذواتنا، ويمنحنا أفقًا لا يحدّه زمان ولا يأسره مكان.
إيريني باييخو كاتبة تحوّلت إلى ظاهرة
منذ صدور الكتاب تحوّل إلى ظاهرة عالمية؛ تُرجم إلى أكثر من 40 لغة، وحاز جوائز كبرى، ونال إشادة واسعة من رموز الثقافة العالمية الذين رأوا أنه ليس كتابًا فحسب بل تجربة تفيض بالسحر والمعنى، فعلى سبيل المثال وصفت صحيفة لوموند الفرنسية الكتاب بأنه "أنشودة حب عظيمة موجهة إلى الكتب".
وأدرجته ذا إيكونوميست ضمن أفضل كتب الثقافة والأفكار لعام 2022، مبرزةً مهارة باييخو في تحويل التاريخ إلى سرد حي، بوصفه عملا أنيقا ينبض بالذكريات الشخصية ويُكتب بأسلوب معاصر آسِر.
وأشاد الروائي الكبير ماريو بارغاس يوسا به بعبارات مفعمة بالتقدير، قائلاً: "الحب للكتب والقراءة هو الأجواء التي تنبض بها صفحات هذه التحفة".
كذلك لاقت الكاتبة إشادة من أدباء ونقاد آخرين مثل ألبرتو مانغيل فقد وصفه بأنه "بحث ساحر"، وغير هذا كثير.
ولم يكن هذا النجاح صدفة، فالكاتبة فضلا عن كونها حكّاءة بارعة، أستاذة فقه اللغة في جامعتي سرقسطة وفلورنسا، وتملك خلفية واسعة في الفلسفة والتاريخ والآداب، لكنها تعرف كيف تُقدّم كل ذلك بلغة دافئة شفافة لا تنفر القارئ بل تحتضنه.
"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بردية" ليس محض عرضٍ لتاريخ طويل، بل إحياء لحكاية إنسانية ضاربة جذورها في عمق التاريخ والإنسان. إنه سيرة للكتاب، وهو قبل كل شيء سيرة للإنسان القارئ، الإنسان الذي قاوم النسيان بالحرف، وحمل في قلبه المكتبة التي لم تُبْنَ بعد.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فنانون بلجيكيون: لا نريد أن نربي أطفالنا في عالم يموت فيه الآخرون جوعا
فنانون بلجيكيون: لا نريد أن نربي أطفالنا في عالم يموت فيه الآخرون جوعا

الجزيرة

timeمنذ 9 ساعات

  • الجزيرة

فنانون بلجيكيون: لا نريد أن نربي أطفالنا في عالم يموت فيه الآخرون جوعا

يشهد الوسط الفني والثقافي في بلجيكا تفاعلا متزايدا مع الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، حيث أُطلقت قبل نحو شهرين مبادرة "أنقذوا غزة- SOS Gaza" بدافع "شعور عميق بالمسؤولية" تجاه ما يجري في القطاع. وتسعى المبادرة إلى إيصال أصوات المواطنين المطالبين بالعدالة، في مواجهة ما يعتبره القائمون عليها تجاهلاً رسميًا مقلقًا على المستوى الأوروبي. وأكدت الممثلة البلجيكية كاترين دي رويشر، مؤسسة المبادرة، في حديثها لـ"الجزيرة نت"، أن الهدف من الحملة هو تضخيم أصوات الأفراد الذين ينددون بالمجازر والانتهاكات، في محاولة لكسر حجة الحكومات المتكررة بأنها "لا تستطيع فعل شيء"، مشددة على أن العمل الجماعي يمكن أن يُحدث فرقا حقيقيا. وتوسّعت جهود المبادرة لتشمل الجانب القانوني، إذ أعلنت دعمها للدعوى القضائية التي رفعتها منظمة "الحق من أجل غزة" ضد الحكومة البلجيكية، بتهمة التواطؤ والتقاعس في منع الإبادة الجماعية. وتهدف هذه الخطوة إلى محاسبة السلطات على ما يصفه المنظمون بـ"الصمت المخزي" أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة. وفي ما يتعلق بالوضع الإنساني المتدهور، قالت دي رويشر إن "أطفال غزة يتضورون جوعا أمام أنظار العالم، بينما يغيب أي رد فعل دولي حقيقي تجاه استخدام التجويع كسلاح حرب". وأكدت رفضها لتربية أطفالها في عالم يسمح بمثل هذه الفظائع دون محاسبة أو تدخل فعّال، محذّرة من أن التغاضي عن ما يحدث في غزة "يدفع البشرية نحو الهاوية". وشدّدت على أن المبادرة ستواصل رفع صوتها في مواجهة الظلم، ليس فقط في غزة، بل في أي مكان يُسحق فيه الإنسان، مؤكدة أن الصمت على مثل هذه الجرائم يجعل العالم شريكًا في استمرارها. وفي السياق ذاته، دعا الممثل البلجيكي الشاب كوبا ديبي (20 عامًا) إلى تجاوز المقاربات السياسية في النظر إلى ما يحدث في قطاع غزة، معتبرًا أن الوضع هناك يستدعي "استجابة إنسانية فورية" من قبل الفنانين والشخصيات العامة. وقال ديبي إن ما يجري في غزة "تجاوز النقطة التي يمكن اعتبارها مجرد قضية سياسية"، مشيرًا إلى أن سقوط الضحايا من الأبرياء والأطفال جرّاء الجوع يجعل من الضروري التعامل مع المسألة من منظور إنساني خالص. وأضاف أن ما يدفعه للحديث عن غزة ليس انتماءه للفن، بل إحساسه العميق بمسؤوليته كإنسان، مؤكدًا أن الاستمرار في تسليط الضوء على هذه القضية "هو أقل ما يمكن فعله"، معربًا عن أمله في أن يلهم ذلك الآخرين للانضمام إلى هذه الأصوات حتى لا يعود ممكنًا تجاهلها، سواء من جانب الناس أو السياسيين. وفي حديثه عن دور الفن في التغيير الاجتماعي، أوضح ديبي أن الفنانين والشخصيات العامة يتمتعون بقدرة كبيرة على الوصول إلى جمهور واسع، مما يحمّلهم مسؤولية استخدام هذه المنصة للتوعية بقضايا العدالة والكرامة الإنسانية. ورغم اعترافه بأن تأثيره كممثل شاب لا يزال محدودًا، أعرب عن أمله في أن تسهم مشاركته في إشراك المزيد من الناس ليرفعوا صوتهم قائلين: "كفى"، مؤكدًا أن مواجهة هذه الأزمة الأخلاقية تتطلب تضامنا دوليا حقيقيا، وإرادة إنسانية جماعية لوقف المعاناة.

كروس يعترف: لم أكن مشجعا لريال مدريد في طفولتي
كروس يعترف: لم أكن مشجعا لريال مدريد في طفولتي

الجزيرة

timeمنذ 5 أيام

  • الجزيرة

كروس يعترف: لم أكن مشجعا لريال مدريد في طفولتي

كشف الألماني المعتزل توني كروس عن سر طريف ساعده على الانتقال إلى ريال مدريد خلال مسيرته الاحترافية، مقرّا في الوقت ذاته بأنه لم يكن قبلها من مشجعي النادي الملكي. وانتقل كروس إلى ريال مدريد في صيف عام 2015 قادما من بايرن ميونخ في صفقة بلغت 25 مليون يورو، ودافع عن قميص "الميرنغي" حتى اعتزاله في صيف العام الماضي. وقال كروس خلال تكريمه في إحدى الفعاليات بولاية مكلنبورغ-فوربومرن الألمانية "انتشرت لي صورة على مواقع التواصل الاجتماعي وأنا طفل صغير أرتدي فيها قميص لويس فيغو لاعب ريال مدريد، لم أكن أعلم أن تلك الصورة ستساعدني في المستقبل". وأضاف "لم أكن من مشجعي ريال مدريد، لكن أنصار الفريق عندما رأوا تلك الصورة قالوا كروس مدريدي، كان لديه قميص الفريق منذ أن كان في السابعة". وأتم النجم الألماني "لم يكن ذلك صحيحا، لكن الصورة بقميص فيغو ساعدتني". وعلّقت صحيفة "ماركا" الإسبانية على تصريحات كروس هذه بالقول إن كروس "لم ينس في كلمته خلال تكريمه الإشارة إلى النادي الذي منحه الكثير من السعادة على مدار سنوات عديدة". وأضافت "رغم أنه لم يكن مشجعا لريال مدريد في طفولته إلا أنه بعد انضمامه للنادي الملكي وحصده عددا هائلا من الألقاب وخوضه لحظات لا تُنسى، أصبح النادي حاضرا دائما في قلبه، ويحرص على تذكّره في كل فرصة يُسأل فيها عنه". وخلال فترة ارتدائه قميص ريال مدريد والتي استمرت 10 مواسم لعب كروس مع النادي الملكي 465 مباراة بجميع البطولات، وسجل 29 هدفا وقدّم لزملائه 99 تمريرة حاسمة وفق بيانات موقع ترانسفير ماركت الشهير المتخصص في إحصائيات اللاعبين والأندية. كما حقق مع ريال مدريد 23 لقبا أبرزها دوري أبطال أوروبا (5)، كأس العالم للأندية (5)، الدوري الإسباني (4)، كأس السوبر الأوروبي (4). إعلان يُذكر أن كروس اعتزل في صيف عام 2024 بعد موسم رائع (2023-2024) مع ريال مدريد تُوج فيه بلقبي الدوري الإسباني ودوري الأبطال، وبعدها شارك مع منتخب ألمانيا في بطولة كأس أوروبا (يورو 2024) التي ودّعها "المانشافات" من الدور ربع النهائي بالخسارة أمام إسبانيا 1-2 بعد التمديد.

"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة" كتاب يولد من رحم الدهشة
"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة" كتاب يولد من رحم الدهشة

الجزيرة

timeمنذ 5 أيام

  • الجزيرة

"اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة" كتاب يولد من رحم الدهشة

ماذا لو لم يكن لدينا كتب اليوم؟ وماذا لو لم تُخترع الكتب أصلًا؟ تخيل عالما بلا مكتبات، ولا كتب، ولا روايات، وبلا سطور تحفظ أصوات من رحلوا. ماذا كان سيبقى منّا حينها؟ وماذا كنا سنعرف عن النابغة، وعن الجاحظ، وعن الثورات، وعن قصص الحب والوفاء؟ ومن الذي قرر أن يخترع الكتابة، وأن يصنع من الكلمات سدًّا في مواجهة النسيان؟ في كتاب "اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرديَّة"، تفتح لنا إيريني باييخو نافذة غير معتادة على تاريخ الكتاب، لا كما اعتدنا أن نقرأه في المراجع، بل كما يُروى في الأساطير، وهذا الكتاب ليس كتابًا عن الكتب فحسب، إنما عن الإنسان الذي لا يتوقف عن السرد والحكاية والطموح. في زمن تتسارع فيه الخطى وتحيط بنا الشاشات، لا يعود فعل القراءة مجرّد عادة، بل مقاومة رفيعة. ومن بين مئات الكتب التي تتناول تاريخ الكتابة والقراءة، يبرز كتاب "اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَردِيَّة" للكاتبة الإسبانية إيريني باييخو بوصفه عملاً استثنائيًّا يعيد إلينا الأنفاس الأُوَل للكتب. وهو لا يقدم سردًا تاريخيًّا جافًّا، بل يسرد حكاية نابضة بالحياة، تسير بخطى شاعرية خلال العصور، وتتحدث عن الكتب كما لو كانت مخلوقات حيّة لها قدر ومصير، والكتاب في نظر المؤلفة عالم متّسعٌ لا تنضب معانيه، ومن هنا جاء العنوان "اللامتناهي في برديّة". وُصف هذا العمل بأنه "أنشودة في حب الكتب"، ولم يكن هذا الوصف مجازًا، بل هو حقيقة تجلت في أكثر من 50 طبعة بالإسبانية، وجوائز أدبية مرموقة حازها، كل ذلك لأنه لامس شيئًا عميقًا في الوعي الإنساني؛ إذ إنَّ باييخو كتبت عن الكتب، ومن أجلها، وبها. ونسخته العربية صدرت عن دار الآداب بترجمة مارك جمال. وإيريني باييخو كاتبة وأكاديمية إسبانية وُلدت في سرقسطة عام 1979، متخصصة في فقه اللغة الكلاسيكية والأدب اليوناني واللاتيني القديم. تمتاز كتاباتها بمزج فريد بين السرد الأدبي والتأمل الفلسفي، وتُعرف بقدرتها على إحياء التاريخ الثقافي بلغة إنسانية جذابة. مكتبة الإسكندرية حيث بدأت الرحلة تنطلق الكاتبة من مكتبة الإسكندرية، لا بوصفها مكانًا فحسب، بل رمزًا ومهدًا لفكرة الكتاب بوصفه موطنًا رمزيًا للمنفيين، كما تقول: "خلقت موطنًا من الورقِ لمَن لا موطن لهم". هناك حيث تعايشت الكلمات وتماهت، انطلقت رحلة البحث عن الكتب، تلك التي قادها فرسان بطليموس في مغامرة تكاد تشبه الأسطورة. في مقدمتها، تسرد باييخو المشهد بتصوير حيّ: "فرسان يمتطون صهوات خيولهم جاؤوا من اليونان… الخطر يطاردهم من كلِّ جانب… عمَّ يبحثون؟ عن الكتب؛ إذ زوَّدهم حاكم مصر بطليموس بمبالغ كبيرة من المال، وأمرهم بعبور البحر للحصول على جميع كتب الأرض من أجل مكتبته العظيمة في الإسكندرية". هكذا تبدأ الرحلة، لا من حبرٍ على ورق، بل من مغامرة تتقاطع فيها السياسة بالثقافة، والقوة بالمعرفة. تعود بنا باييخو إلى أزمنة ما قبل الأبجدية، إلى الألواح الطينية في بلاد الرافدين، ومكتبات الفراعنة، ومدونات الفينيقيين، وأكاديميات اليونان، ومكتبات روما، وترسم تطور الكتاب من رقوق الجلد، إلى ورق القصب، فالورق المصنَّع، وصولاً إلى الكتاب الرقمي، مرورًا بكل تحولاته: من اللفائف إلى الصفحات، ومن النحت إلى الحبر، ومن الهمس إلى التوثيق. لكنها لا تكتفي بالسرد الموضوعي، بل تضفي على كل مرحلة بُعدًا شعوريًّا، وتُلبس الوقائع لَبوس الأسطورة، فيغدو كل تحول في شكل الكتاب مشحونًا بالمعنى، كأن لكل مادة ذاكرة. من أبرز ما يميّز هذا العمل اهتمامه بمن لم يروِ التاريخ أسماءهم؛ مثل الرواة الشفويين، والنُسّاخ، والرهبان، والعبيد، والبائعين، والمترجمين، والمعتقلين، والأطفال الذين حملوا الكتب خلسة، والأسرى الذين نسخوها في المنافي. وهؤلاء هم أبطال الحكاية الحقيقيون في نظر باييخو، فهي لا تتوقف عند أعلام الفكر وحكّام المعرفة، بل تبحث عن أولئك الذين حموا الكتب في اللحظات الفارقة من التاريخ، وأولئك الذين أنقذوها وحفظوها، وبذلك فالكاتبة لا تسرد حكاية "اختراع الكتب" فحسب، بل حكاية اختراع طرائق حفظها أيضًا. الكتاب -كما يصفه النقاد- ليس مما يُقرأ على عجل، بل هو كتاب يفرض إيقاعه ونظمه، كتاب لا تُقلب صفحاته كما تُقلب شاشة هاتف، بل يُصغي القارئ لنَفَسه حتى ينسجم مع نغمه. وهذا ما يحدث مع "اللامتناهي في بردية"، فما إن يفتح القارئ صفحاته حتى يجد نفسه قد أُلزِم بسرده وقواعده الخاصة، فعليه تارة أن يتوقف ويتأمل، وتارة أن يتذكر طفولته الأولى مع الكتب، ويعيد تعريف علاقته بالكلمات. مصير الكتب في العالم الرقمي لا تُغفِل باييخو التحوّلات التي تشهدها الكتب في عصر الرقمنة، بل تتأمل بعمق في مصير الحرف أمام الشاشة، ولا تستطيع أن تخفي قلقها: "مواعيد زوال الأشياء تقترب أكثر فأكثر… أجهزتنا تطلب منَّا دائمًا تحديث التطبيقات والبرامج، وإن لم نتنبه ونستيقظ، فسيأخذ العالم منّا زمام المبادرة". ومع ذلك فهي لا تستسلم لليأس، بل تُذكّرنا بأن "من الخطأ الاعتقاد بأن كل حداثة تمحو التقليد، لقد جاء الهاتف المحمول تقليدًا للوح الطين في بلاد ما بين النهرين، وفي شاشات هواتفنا نفكك النصوص كما هي الحال في لفائف البردي القديمة"، وأن التكنولوجيا ليست خصمًا للتقاليد، إنما امتداد لها. تقول باييخو: "لطالما كانت القراءةُ ارتحالًا، سَفَرًا، رحيلًا في سبيلِ العثور على الذات". في هذا الكتاب، تعيد الكاتبة للقراءة مكانتها الأصلية، لا بوصفها فعلا ثقافيا فحسب، بل حاجة روحية؛ ففي عالم يفيض بالمعلومات ويشحّ فيه المعنى، تصرّ باييخو على أن الكتاب لا يُقرأ فقط، بل يقرؤنا، ويعيدنا إلى ذواتنا، ويمنحنا أفقًا لا يحدّه زمان ولا يأسره مكان. إيريني باييخو كاتبة تحوّلت إلى ظاهرة منذ صدور الكتاب تحوّل إلى ظاهرة عالمية؛ تُرجم إلى أكثر من 40 لغة، وحاز جوائز كبرى، ونال إشادة واسعة من رموز الثقافة العالمية الذين رأوا أنه ليس كتابًا فحسب بل تجربة تفيض بالسحر والمعنى، فعلى سبيل المثال وصفت صحيفة لوموند الفرنسية الكتاب بأنه "أنشودة حب عظيمة موجهة إلى الكتب". وأدرجته ذا إيكونوميست ضمن أفضل كتب الثقافة والأفكار لعام 2022، مبرزةً مهارة باييخو في تحويل التاريخ إلى سرد حي، بوصفه عملا أنيقا ينبض بالذكريات الشخصية ويُكتب بأسلوب معاصر آسِر. وأشاد الروائي الكبير ماريو بارغاس يوسا به بعبارات مفعمة بالتقدير، قائلاً: "الحب للكتب والقراءة هو الأجواء التي تنبض بها صفحات هذه التحفة". كذلك لاقت الكاتبة إشادة من أدباء ونقاد آخرين مثل ألبرتو مانغيل فقد وصفه بأنه "بحث ساحر"، وغير هذا كثير. ولم يكن هذا النجاح صدفة، فالكاتبة فضلا عن كونها حكّاءة بارعة، أستاذة فقه اللغة في جامعتي سرقسطة وفلورنسا، وتملك خلفية واسعة في الفلسفة والتاريخ والآداب، لكنها تعرف كيف تُقدّم كل ذلك بلغة دافئة شفافة لا تنفر القارئ بل تحتضنه. "اختراع الكتب.. اللامتناهي في بردية" ليس محض عرضٍ لتاريخ طويل، بل إحياء لحكاية إنسانية ضاربة جذورها في عمق التاريخ والإنسان. إنه سيرة للكتاب، وهو قبل كل شيء سيرة للإنسان القارئ، الإنسان الذي قاوم النسيان بالحرف، وحمل في قلبه المكتبة التي لم تُبْنَ بعد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store