استنزاف الساحات.. ولاية الفقيه بين نيران أميركا ومُر الاستسلام في لبنان
في غضون هذا 'الوقت المستقطع' الهش، تبدو إيران وكأنها تستنزف 'حديقتها الخلفية' في لبنان. هذه الاستراتيجية قد تدفع طهران في النهاية نحو خيارين لا ثالث لهما: إما الاستسلام لمطالب القوى الكبرى أو الانتحار في مواجهة عسكرية شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل معًا، بعدما أصبحت قدراتها ووجودها الإقليمي تحت المجهر.
في ظل الضبابية السائدة حول مصير المفاوضات الأميركية-الإيرانية، وتأرجح الموقف الإيراني إزاء الشروط الموضوعة حول ملفها النووي، يبقى مصير هذا الملف معلقاً. فالقرار الأميركي ما زال غامضاً حول ما إذا كانت واشنطن ستكتفي بالضربات العسكرية التي استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية لإضعاف النظام وشل قدراته على إعادة إحياء تخصيب اليورانيوم، أم أنها ستنتقل إلى مرحلة إسقاط النظام. هذا الخيار الأخير يبدو معقداً للغاية، ليس فقط لغياب البديل الموثوق به لإدارة مرحلة ما بعد ولاية الفقيه، بل أيضاً في ظل التعقيدات الداخلية الناجمة عن وجود قوميات إيرانية متعددة، يرفض بعضها البقاء ضمن الدولة المركزية ويعبر عن رغبته في الاستقلال.
وبانتظار جلاء المشهد الإيراني ومصيره المعلق، تحولت الأنظار الأميركية باتجاه بؤر توتر أخرى في المنطقة. يتصدر ملف غزة حاليًا اهتمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يؤكد على ضرورة إنهاء هذا الملف من خلال التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس، يليه حل شامل لقضية الأسرى.
من جهة أخرى، برز لبنان بقوة على الساحة الإقليمية، خاصة بعد تسلم السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، الملفين السوري واللبناني معًا. وقد زار باراك بيروت للمرة الأولى في محاولة واضحة لانتشال الدولة اللبنانية من التخبط الذي تعيشه، وخصوصًا في ما يتعلق بتطبيق القرارات الدولية. لا يبدو أن الجهود المبذولة في هذا الصدد تحظى بالرضا الأميركي الكامل، وهو ما عبر عنه باراك بوضوح في حديثه إلى صحيفة وول ستريت جورنال، ما يشير إلى أن الضغوط الأميركية على لبنان قد تتصاعد في المرحلة القادمة. في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، وصف توم باراك وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب بين إسرائيل وحزب الله في نوفمبر/تشرين الثاني بأنه 'فشل ذريع' لأن إسرائيل لا تزال تقصف لبنان، بينما ينتهك حزب الله بنود الاتفاق على حد ما نقلت عنه الصحيفة. وأشارت نيويورك تايمز إلى أن براك قدم الشهر الماضي اقتراحاً من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو 'يُحدد للحكومة اللبنانية، وفق أهداف وجداول زمنية محددة، كيفية نزع سلاح حزب الله وإصلاح اقتصاد البلاد'. وتوقعت أن يتلقى رداً عليه الأسبوع المقبل.
ونقلت الصحيفة عن المبعوث الأميركي قوله 'إن نزع سلاح حزب الله يتطلب 'الترغيب والترهيب'، ويتضمن قيام الجيش اللبناني بتفتيش المنازل بحثاً عن الأسلحة. ولإشراك المجتمعات الشيعية في العملية، أشار إلى سعي الولايات المتحدة لتقديم مساعدة مالية من السعودية وقطر تُركز على إعادة إعمار أجزاء من جنوب لبنان التي تضررت خلال الحرب، مضيفاً أنه 'إذا استفاد شيعة لبنان من هذا، فسيتعاونون معه'. تُشير هذه التصريحات بوضوح إلى تحول حاسم في الاستراتيجية الأميركية تجاه لبنان؛ إذ تؤكد رفض واشنطن للوضع الراهن وسعيها المباشر لتحقيق الاستقرار الإقليمي الأوسع عبر منهج شامل يتعامل مع ملف حزب الله الاقتصادي والأمني، وذلك رغم التعقيدات الداخلية للمشهد اللبناني.
في موازاة تحرك المبعوث الأميركي توم باراك وزيارته المرتقبة إلى لبنان، جاءت زيارة الأمير يزيد بن فرحان، نائب وزير خارجية المملكة العربية السعودية. ومعروف أن المملكة تتحرك دائماً خلال الأزمات اللبنانية الخانقة، وتكتسب زيارة الأمير هذه أهمية خاصة. فلا يمكن فصلها عن التحرك الأميركي، ولقاؤه المرتقب مع باراك، والمحاولات الدبلوماسية الرامية إلى تجنيب لبنان إمكانية عودة إسرائيل لاستهدافه بشكل أوسع، بحيث لا يقتصر الأمر على مجرد جولات من الغارات والاغتيالات، والتي قد تحدث بحجة عدم التزام الدولة اللبنانية، ومن ورائها حزب الله، ببنود الاتفاقات الدولية.
تتجه الأنظار الآن نحو ما سينتج عن الاجتماعات المكثفة في بيروت، الرامية إلى صياغة الرد اللبناني على مقترح المبعوث الأميركي توم باراك. وقد تضاربت التسريبات حول مضمون هذا الرد، الذي يشارك في صياغته الرئيس جوزف عون ورئيس الحكومة، بالإضافة إلى الناطق الأساسي باسم الحزب، أو 'عرّاب الاتفاقات' كما يُعرف، رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي يشكل حلقة الوصل المحورية بين حزب الله وباقي الأطراف الدولية والمحلية المعنية، مما يضفي على دوره أهمية خاصة في تحديد مسار هذا الرد ومستقبل لبنان.
مع الإشارة إلى تضارب الروايات حول نص الرد، حيث سُرّب موقف الحزب لناحية موافقته على مبدأ 'خطوة مقابل خطوة' الذي اقترحه رئيس الجمهورية جوزاف عون، في وقت نفى بري في حديث صحفي ما نُسب إليه لناحية تشاؤمه بقوله: 'كل ما يُتردّد ويُنقل على مواقع إعلامية والتواصل الاجتماعي نقلاً عني في خصوص السلاح هو فبركات إعلامية كاذبة لا أساس لها من الصحة'.
ختامًا، تؤكد مصادر متابعة أن طهران ما زالت تحاول إنقاذ نظامها من خلال ما تبقى لها من رصيد في المنطقة، لا سيما في لبنان. وما الاغتيال الذي نفذته إسرائيل في منطقة بيروت، وهوية المستهدف وانتماؤه لفيلق القدس، سوى محاولة لإظهار أن إيران ما زالت فاعلة خارج جغرافيتها.
المصدر: صوت بيروت انترناشونال
الكاتب: كلادس صعب
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

القناة الثالثة والعشرون
منذ 26 دقائق
- القناة الثالثة والعشرون
"حزام ناري" إسرائيلي من الجنوب إلى البقاع تزامنا مع وصول برّاك
إستبق العدو الاسرائيلي زيارة الموفد الأميركي توماس برّاك المقررة اليوم بحزام نازي متنقل بين الجنوب والبقاع. وشنت طائرة حربية إسرائيلية شنّت 3 غارات استهدفت جرود بلدتي بوداي وفلاوي في السلسلة الغربية. وفي الجنوب سجلت غارات متتالية استهدفت مجرى نهر الليطاني في أطراف بلدة أرزي - القاسمية، والوادي الفاصل بين أرزي والزرارية، ما أدى إلى إصابة مسعفَين اثنين من فريق الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية خلال تفقدهم موقع الغارات. كما طالت غارتان محيط بلدة بصليا في إقليم التفاح. وشهدت المناطق الحدودية اللبنانية توغلات إسرائيلية جديدة، حيث قام الجيش الإسرائيلي بتوغل في بلدة كفركلا وتجريف طريق ترابية قرب الجدار عند بوابة فاطمة، بالإضافة إلى توغل آخر في منطقة خلة وردة في عيتا الشعب. وكتبت" نداء الوطن": الجيش الإسرائيلي استبق وصول برّاك إلى بيروت، بموجة غارات وصفها بالـ "استثنائية" على أهداف نوعية شملت بنى تحتية لـ حزب الله" جنوبًا وبقاعًا، ما اعتـُبر مؤشرًا على رفض تل أبيب المسبق لمضمون الردّ اللبناني وتمهيدًا لضربات أعنف وأوسع نطاقًا. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


OTV
منذ 34 دقائق
- OTV
ترامب يصف تأسيس ماسك لحزب سياسي جديد بأنه 'سخيف'
Post Views: 46 انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحد إعلان حليفه السابق إيلون ماسك تأسيس حزب سياسي جديد ووصفه بأنه 'سخيف'. وقال ترامب للصحافيين في نيوجيرسي قبل صعوده طائرته عائداً إلى واشنطن 'أعتقد أن تأسيس حزب ثالث أمر سخيف. نحن نحقق نجاحاً باهراً مع الحزب الجمهوري'، مضيفاً 'لقد كان النظام دائماً قائماً على حزبين، وأعتقد أن تأسيس حزب ثالث يزيد فقط من الارتباك'.


سيدر نيوز
منذ 35 دقائق
- سيدر نيوز
كيف يستخدم ترامب 'نظرية الرجل المجنون' لمحاولة تغيير العالم (وينجح بالفعل)؟ #عاجل
عندما سُئل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الشهر الماضي عما إذا كان يخطط للانضمام إلى إسرائيل في مهاجمة إيران، قال: 'قد أفعل ذلك. وقد لا أفعل. لا أحد يعلم ما سأفعله'. أوحى للعالم بأنه وافق على مهلة لمدة أسبوعين للسماح لإيران باستئناف المفاوضات. ثم قصفها، كما تعلمون. ثمة نمط آخذ في الظهور: أكثر ما يمكن التنبؤ به في ترامب هو عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته، فهو يغير رأيه، ويناقض نفسه، إنه متناقض. يقول بيتر تروبويتز، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد: 'لقد بنى ترامب عملية صنع سياسات شديدة المركزية. يمكن القول إنها الأكثر مركزية، على الأقل في مجال السياسة الخارجية، منذ عهد ريتشارد نيكسون'. 'وهذا يجعل قرارات السياسة أكثر اعتماداً على شخصية ترامب وتفضيلاته ومزاجه'. لقد وظّف ترامب هذا الأمر سياسياً؛ لقد جعل من عدم قابليته للتنبؤ رصيداً استراتيجياً وسياسياً أساسياً لنفسه. لقد ارتقى بعدم قابليته للتنبؤ إلى أن باتت مبدأً. والآن، تُوجّه سمات الشخصية التي جلبها إلى البيت الأبيض السياسة الخارجية والأمنية. إنها تُغيّر شكل العالم. يُطلق علماء السياسة على هذه النظرية اسم 'نظرية الرجل المجنون'، حيث يسعى زعيم عالمي إلى إقناع خصمه بأنه قادر على فعل أي شيء وفق حالته المزاجية المتقلبة، لانتزاع تنازلات. إذا استُخدمت بنجاح، فقد تُصبح شكلاً من أشكال الإكراه، ويعتقد ترامب أنها تُؤتي ثمارها، إذ تضع حلفاء الولايات المتحدة في المكان الذي يريده. ولكن هل هذا نهج يُمكن أن يُجدي نفعاً ضد الأعداء؟ وهل يمكن أن يكون العيب في هذا الأسلوب أنه ليس مجرد خدعة مصممة لخداع الخصوم، بل هو في الواقع مبني على سمات شخصية راسخة وموثقة بوضوح، مما يجعل من السهل التنبؤ بسلوكه؟ هجمات وإهانات وتفاهمات بدأ ترامب رئاسته الثانية بالانفتاح على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومهاجمة حلفاء أمريكا. أهان كندا بقوله إنها يجب أن تصبح الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة. وقال إنه مستعد للنظر في استخدام القوة العسكرية لضم غرينلاند، وهو إقليم يتمتع بالحكم الذاتي تابع لحليفة أمريكا، الدنمارك. وأضاف أن على الولايات المتحدة استعادة ملكية قناة بنما والسيطرة عليها. تُلزم المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (ناتو) كل عضو بالدفاع عن جميع الأعضاء الآخرين. وقد أثار ترامب شكوكاً حول التزام أمريكا بذلك. وصرح بن والاس، وزير الدفاع البريطاني السابق، قائلاً: 'أعتقد أن المادة الخامسة على وشك الانهيار'. وقال المدعي العام المحافظ دومينيك غريف: 'في الوقت الحالي، انتهى التحالف عبر الأطلسي'. كشفت سلسلة من الرسائل النصية المسربة عن ثقافة الازدراء السائدة في البيت الأبيض بقيادة ترامب تجاه الحلفاء الأوروبيين. وقال وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، لزملائه (في إدارة ترامب): 'أشارككم تماماً كراهيتكم للمستغلين الأوروبيين'، مضيفاً: 'هذا مثير للشفقة'. في ميونيخ، في وقت سابق من هذا العام، صرّح نائب الرئيس ترامب، جيه دي فانس، بأن الولايات المتحدة لن تكون بعد الآن ضامنة للأمن الأوروبي. بدا أن هذا يُطوي صفحة 80 عاماً من التضامن عبر الأطلسي. يقول البروفيسور تروبويتز: 'ما فعله ترامب هو إثارة شكوك وتساؤلات جدية حول مصداقية التزامات أمريكا الدولية'. 'مهما كانت التفاهمات التي تربط تلك البلدان (في أوروبا) مع الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالأمن أو الاقتصاد أو غير ذلك من المسائل، فإنها أصبحت الآن موضع تفاوض في أي لحظة'. 'أشعر أن معظم من يُحيطون بترامب يعتقدون أن عدم القدرة على التنبؤ (بسلوكه) أمر جيد، لأنه يسمح لدونالد ترامب باستغلال نفوذ أمريكا لتحقيق أقصى مكاسب…' 'هذا أحد الدروس التي استخلصها من التفاوض في عالم العقارات'. لقد أتى نهج ترامب بثماره. فقبل أربعة أشهر فقط، صرّح رئيس الوزراء البريطاني السير، كير ستارمر، أمام مجلس العموم بأن بريطانيا ستزيد إنفاقها الدفاعي والأمني من 2.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5 في المئة. في الشهر الماضي، خلال قمة لحلف الناتو، ارتفعت هذه النسبة إلى 5 في المئة، وهي زيادة هائلة، تُضاهيها الآن جميع الدول الأعضاء الأخرى في الحلف. إمكانية التنبؤ بعدم القدرة على التنبؤ ليس ترامب أول رئيس أمريكي يتبنى مبدأ عدم القدرة على التنبؤ. ففي عام 1968، عندما كان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يحاول إنهاء حرب فيتنام، وجد عدوه (فيتنام الشمالية) عنيداً. يقول مايكل ديش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة نوتردام: 'في مرحلة ما، قال نيكسون لمستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر: 'عليك أن تُخبر المفاوضين الفيتناميين الشماليين بأن نيكسون مجنون، وأنك لا تعرف ما الذي سيفعله، لذا من الأفضل أن يتوصلوا إلى اتفاق قبل أن تتفاقم الأمور''. ويضيف: 'هذه هي نظرية الرجل المجنون'. تتفق جولي نورمان، أستاذة العلوم السياسية في كلية لندن الجامعية، على وجود مبدأ عدم القدرة على التنبؤ. وتُجادل قائلةً: 'من الصعب جداَ معرفة ما سيحدث بين يوم وآخر. وهذا هو نهج ترامب دائماً'. نجح ترامب في استغلال سمعته كرجل متقلب المزاج لتغيير العلاقة الدفاعية عبر الأطلسي. ويبدو أن بعض القادة الأوروبيين، للحفاظ على دعم ترامب، قد أثنوا عليه وتملقوه. كانت قمة الناتو الشهر الماضي في لاهاي بمثابة تمرين على التودد المذل. وكان الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، قد أرسل في وقت سابق رسالة نصية إلى الرئيس ترامب أو 'عزيزي دونالد'، كما سربها ترامب. وكتب: 'تهانينا، وشكراً لك على عملكم الحاسم في إيران، لقد كان استثنائياً حقاً'. حول الإعلان المرتقب عن موافقة جميع أعضاء الناتو على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، تابع قائلاً: 'ستحققون شيئاً لم يستطع أي رئيس (أمريكي) تحقيقه لعقود'. وقال أنتوني سكاراموتشي، الذي شغل سابقاً منصب مدير الاتصالات في إدارة ترامب في ولايته الأولى: 'السيد روته، إنه يحاول إحراجك يا سيدي. إنه يجلس حرفياً على متن طائرة الرئاسة (الأمريكية) ويضحك عليك'. وقد يكون هذا هو نقطة الضعف في جوهر مبدأ ترامب 'عدم القدرة على التنبؤ': فقد تكون أفعالهم مبنية على فكرة أن ترامب يتوق إلى الإطراء، أو أنه يسعى إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل، مفضلاً إياها على العمليات الطويلة والمعقدة. إذا كان هذا هو الحال وكان افتراضهم صحيحاً، فإن ذلك يحد من قدرة ترامب على ممارسة الحيل لخداع خصومه – بل إنه يمتلك سمات شخصية راسخة وموثقة بوضوح أصبحوا على دراية بها. ثم هناك سؤالٌ، حول ما إذا كان مبدأ عدم القدرة على التنبؤ أو نظرية الرجل المجنون سينجحان مع الخصوم. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الحليف الذي تعرض لتوبيخ شديد من ترامب وفانس في المكتب البيضاوي، وافق لاحقاً على منح الولايات المتحدة حقوقاً مربحة لاستغلال الموارد المعدنية الأوكرانية. من ناحية أخرى، يبدو أن فلاديمير بوتين لا يزال غير متأثر بسحر ترامب وتهديداته على حد سواء. يوم الخميس، عقب مكالمة هاتفية، قال ترامب إنه 'يشعر بخيبة أمل' لعدم استعداد بوتين لإنهاء الحرب ضد أوكرانيا. وماذا عن إيران؟ وعد ترامب قاعدته الشعبية بأنه سينهي التدخل الأمريكي في 'حروب الشرق الأوسط التي لا تنتهي'. ولعل قراره بضرب المنشآت النووية الإيرانية كان الخيار السياسي الأكثر تقلباً في ولايته الثانية حتى الآن. والسؤال هو: هل سيحقق هذا القرار التأثير المنشود؟ يرى وزير الخارجية البريطاني الأسبق، ويليام هيغ، أن ذلك سيؤدي إلى عكس المنشود تماماً: 'سيزيد، ولا يقلل، من احتمال سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية'. ويتفق البروفيسور مايكل ديش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة نوتردام، مع هذا الرأي. يقول: 'أعتقد أنه من المرجح جداً الآن أن تتخذ إيران قراراً بالسعي لامتلاك سلاح نووي. لذا لن أتفاجأ إذا ما التزموا الصمت وبذلوا قصارى جهدهم لإكمال دورة الوقود النووي الكاملة وإجراء تجربة نووية'. 'أعتقد أن درس صدام حسين ومعمر القذافي لم يغب عن بال الطغاة الآخرين، الذين يواجهون الولايات المتحدة، واحتمال تغيير أنظمتهم…' 'لذا سيشعر الإيرانيون بشدة بالحاجة إلى رادع نهائي، وسينظرون إلى صدام والقذافي كمثالين سلبيين، وكيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية، كمثال إيجابي'. ومن السيناريوهات المحتملة تماسك الجمهورية الإسلامية، وفقا لـ محسن ميلاني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جنوب فلوريدا ومؤلف كتاب 'صعود إيران وتنافسها مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط'. ويقول: 'في عام 1980، عندما هاجم صدام حسين إيران، كان هدفه انهيار الجمهورية الإسلامية. ما حدث هو العكس تماماً'. 'كانت هذه هي الحسابات الإسرائيلية والأمريكية أيضاً… إذا تخلصنا من كبار القادة، فستستسلم إيران بسرعة أو سينهار النظام بأكمله'. بالنظر إلى المستقبل، قد لا تُجدي عدم القدرة على التنبؤ نفعاً مع الخصوم، ولكن من غير الواضح ما إذا كان من الممكن الحفاظ على التحولات الأخيرة التي أحدثتها بين الحلفاء. وإن كانت هذه العملية ممكنة، إلا أنها مبنية إلى حد كبير على الاندفاع. وقد يكون هناك قلق من أن يُنظر إلى الولايات المتحدة كوسيط غير موثوق. تقول البروفيسور جولي نورمان: 'لن يرغب الناس في التعامل مع الولايات المتحدة إذا لم يثقوا بها في المفاوضات، وإذا لم يكونوا متأكدين من أنها ستدعمهم في قضايا الدفاع والأمن'. 'لذا، أعتقد أن العزلة التي يسعى إليها الكثيرون في عالم ماغا – حركة ماغا (لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً) المؤيدة لترامب – ستأتي بنتائج عكسية'. قال المستشار الألماني فريدريش ميرتس، على سبيل المثال، إن أوروبا بحاجة الآن إلى أن تصبح مستقلة عملياً عن الولايات المتحدة. يقول البروفيسور تروبويتز: 'تكمن أهمية تعليق المستشار الألماني في أنه إدراكٌ لتغير الأولويات الاستراتيجية الأمريكية. لن تعود هذه الأولويات إلى ما كانت عليه قبل تولي ترامب منصبه'. 'لذا، نعم، سيتعين على أوروبا أن تصبح أكثر استقلالية عملياً'. يجادل البروفيسور ديش بأن هذا سيتطلب من الدول الأوروبية تطوير صناعة دفاع أوروبية أكبر بكثير، للحصول على معدات وقدرات لا تمتلكها حالياً سوى الولايات المتحدة. على سبيل المثال، يمتلك الأوروبيون بعض القدرات الاستخباراتية العالمية المتطورة، كما يقول، لكن الولايات المتحدة تزودهم بالكثير منها. ويتابع: 'إذا اضطرت أوروبا إلى الاعتماد على نفسها، فستحتاج أيضاً إلى زيادة كبيرة في قدرتها على إنتاج الأسلحة بشكل مستقل. ستكون القوى العاملة أيضاً مشكلة. سيتعين على أوروبا الغربية أن تنظر إلى بولندا لمعرفة مستوى القوى العاملة التي ستحتاجها'. سيستغرق بناء كل ذلك سنوات. فهل دفع عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب الأوروبيين، حقاً، إلى إجراء أكبر تغيير جذري في البنية الأمنية للعالم الغربي منذ نهاية الحرب الباردة؟ يقول البروفيسور تروبويتز: 'لقد ساهم ذلك في الأمر بالفعل. لكن الأهم من ذلك، أن ترامب قد كشف النقاب عن أمرٍ ما… لقد تغيرت السياسة في الولايات المتحدة. تغيرت الأولويات. بالنسبة لتحالف ماغا، تُمثل الصين مشكلة أكبر من روسيا. ربما لا ينطبق هذا على الأوروبيين'. ووفقاً للبروفيسور ميلاني، يحاول ترامب ترسيخ النفوذ الأمريكي في النظام العالمي. 'من المستبعد جداً أن يُغير النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. إنه يريد ترسيخ مكانة أمريكا فيه، لأن الصين باتت تُشكل تحدياً لها'. لكن كل هذا يعني أن ضرورات الدفاع والأمن التي تواجهها الولايات المتحدة وأوروبا متباينة. قد يكون الحلفاء الأوروبيون راضين عن أنهم، من خلال الإطراء والتحولات السياسية الحقيقية، قد حافظوا على ترامب في صفهم بشكل عام، لقد أعاد، في نهاية المطاف، تأكيد التزامه بالمادة الخامسة في أحدث قمة لحلف الناتو. لكن عدم القدرة على التنبؤ يعني استحالة ضمان ذلك – ويبدو أنهم قد تقبلوا أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة، للوفاء بالتزامها التاريخي بالدفاع عنهم. وبهذا المعنى، حتى لو كانت عقيدة – عدم القدرة على التنبؤ – نابعة من مزيج من الاختيار الواعي وسمات شخصية ترامب الحقيقية، فإنها تُجدي نفعاً، على الأقل، على الأقل مع البعض.