
الملح في الذاكرة الشعبية
انتقل الملح من كونه مكوّنًا منزليًا بسيطًا إلى رمز متعدد الأبعاد يرتبط بالعناية الذاتية والرفاهية والتوازن الجسدي والنفسي. فظهور أنواع جديدة مثل ملح الهيمالايا وملح البحر ودخوله في مجالات التجميل والتنقية والعلاج، يعكس اتساع دائرته من وظيفة غذائية إلى مؤشرات ثقافية وصحية تعبّر عن أنماط جديدة في التفكير والعيش. وبالتالي يصبح الملح مدخلًا مهمًا لفهم المجتمع في لحظته الراهنة.
مصادر الملح في السعودية
تنوعت مصادر استخراج الملح في السعودية قديمًا بحسب البيئة الجغرافية، وارتبطت بأسماء أماكن ما تزال تحتفظ بدلالتها حتى اليوم. من أبرزها ممالح القصب وقريات الملح، التي أصبحت موردًا محليًا مهمًا لقرون، وجزءًا من الهوية المحلية. وهاتان البلدتان تمثلان الملح المستخرج يدويًا من أرض المنطقة، وقد دخل في وصفات الطبخ، وفي بعض العادات، وظل علامة على التقاليد الريفية.
ويوجد مصادر أخرى أقل شهرة، لوجود الملح بكميات قليلة؛ حيث تُعد الشّقة، إحدى قرى مدينة بريدة، من المصادر المحلية لاستخراج الملح في نجد. أما في الجنوب، فيوجد جبل من الملح الحجري قرب جازان، يُعدّ ظاهرة جيولوجية نادرة تحمل طبقات متصلبة من الملح الطبيعي.
ويمكن أن يشكل هذا التراث موردًا اقتصاديًا معاصرًا يُعيد إحياء تجارة الملح بنكهة محلية خاصة مع عودة الاهتمام بالمنتجات المحلية والطبيعية والتراثية، والصناعات الغذائية والحِرفية.
كان الناس في السابق يشترون أكياس الملح بسعر زهيد، يأتي على هيئة حبيبات طبيعية تُنقل في شاحنات بسيطة يقودها عمّال يجلبونه من الممالح إلى مختلف أنحاء المملكة. كان هذا المشهد مألوفًا في الأسواق الشعبية، حيث يُباع الملح بلا تغليف ولا علامات تجارية، بل عُرِف بأنه منتج يرتبط بالأرض والذاكرة والممارسة اليومية.
لكن بدأ هذا المشهد يتلاشى مع تغير الأنماط الاجتماعية والاقتصادية، حيث حلّت عبوات الملح المعلبة والناعمة محل الأكياس التقليدية، وتحول الملح من مورد محلي إلى منتج صناعي تجاري.
ومع دخول الأملاح المعالجة والمكررة، فقد الملح شيئًا من حضوره الحسي والمعنوي؛ لم يعد يحمل رائحة الأرض التي استُخرج منها، بل بات يُشترى كسلعة جاهزة.
استخدامات الملح قديمًا
يعد الملح مادة وظيفية متعددة الاستخدامات، فقد استُخدم في التالي:
التجارة: حيث شكّلت تجارة الملح قديمًا موردًا اقتصاديًّا مهمًّا، خاصة في المناطق التي وُجدت فيها ممالح طبيعية.
كان يُستخرج الملح يدويًّا، ثم يُباع في الأسواق المحلية أو يُبادل بالحبوب والتمر، مما أسهم في تنشيط الحركة التجارية داخل القرى وعلى طرق القوافل.
الطهي: فقد استخدم في الطهي بوصفه أساسًا لتحسين النكهة، ومكونًا لا يُستغنى عنه في إعداد الأطعمة.
حفظ الطعام: أدى الملح دورًا حيويًّا بوصفه مادة حافظة، حيث اعتمد الأهالي عليه في حفظ اللحوم والأسماك وتمليحها وتجفيفها تحت الشمس، في صناعة القفر أو «اللحم المقدد».
التداوي: كان الملح جزءًا من أدوات التداوي وتطهير الجروح، حيث كان يُذاب في الماء، ويُستخدم للتغرغر في حالات التهاب الحلق، أو يُخلط بالزيت أو الخل لتدليك الجسم في حالات الروماتيزم أو الإرهاق الجسدي، أو يُوضع مباشرة على الجروح السطحية لمنع تلوثها وتسريع التئامها. كما كان يُستخدم موضعيًّا على لسعات الحشرات.
السلاح: ويدخل الملح ضمن مكونات الصناعات اليدوية، ومنها صناعة البارود والرصاص «الفشق». ففي بعض مناطق الجزيرة العربية، استُخدم نوع خاص من الأملاح يُعرف شعبيًّا «ملح البارود»، ويُقصد به نترات البوتاسيوم، وهي مادة تُستخرج من التربة أو من رماد النبات وروث الحيوانات المجفف، وتُخلط مع الفحم والكبريت لتكوين البارود.
وكان هذا البارود يُعبأ يدويًّا داخل رصاص البنادق القديمة مثل «المقمع» و»أم خمس».
ويكشف هذا الاستخدام عن وعي محلي بالخواص الكيميائية للمواد، وقدرة على توظيفها في أدوات الصيد والدفاع قبل ظهور التصنيع الحديث، ما يعزز حضوره في الذاكرة الشعبية كمادة نافعة لا يستغنى عنها.
تعويذة: كما تحوّل الملح إلى تعويذة شعبية تُستخدم للوقاية من العين والحسد، فيُذاب في الماء المقروء عليه ويُرش في زوايا البيوت، أو يُنثر في مداخل البيوت والمزارع، أو يُرافق المواليد الجدد «لكسر النفس»، بحسب الاعتقاد الشعبي، يقول حميدان الشويعر (من أهالي القصب وعاش في القرن الثامن عشر):
أنا من قومٍ تجرتهم
أرطى الضاحي ودوا الغيرة
ما يجعله مادة تُلامس احتياجات الإنسان في طعامه وجسده وروحه معًا. وهذه المكانة المركبة منحت الملح حضورًا دائمًا في الوعي الشعبي.
الملح في الحياة اليومية
تسلل استخدام وظائف الملح إلى تفاصيل الحياة اليومية ليحمل دلالات أعمق ترتبط بالعلاقات والقيم والمعاني الرمزية. ففي الموروث الشعبي، تعني عبارة «بيننا عيش وملح» رابطة عميقة لا يمكن خيانتها، وتجسّد شعورًا بالوفاء والمشاركة.
كما كان رشّ الملح على مداخل المنازل وزواياه عملية متوارثة في الثقافة الشعبية، لطرد الحسد ودرء السوء، وهو ما يعكس إيمانًا راسخًا بقدرة هذه المادة الطبيعية على توفير الحماية وتعزيز الشعور بالأمان النفسي. ويجسد هذا الاستخدام البعد الرمزي للملح.
ويُستخدم وصف «مملوح» للدلالة على جمال طبيعي ومتوازن، لا يلفت الأنظار بتكلف، ويترك أثرًا ناعمًا ومستقرًا يشبه دور الملح في الطعام؛ ويعكس هذا الوصف رؤية اجتماعية للجمال ترتكز على البساطة والاتزان والقبول الفطري.
ويظهر الملح في الثقافة كرمز للهشاشة والتحلل، كأن يُقال «جبل من ملح» للتعبير عن بناء اجتماعي أو موقف لا يحتمل الصدمات، وتعكس هذه الرموز فهمًا شعبيًا عميقًا للتغيرات الاجتماعية، وكيف يمكن أن تبدو بعض العلاقات أو القيم متماسكة لكنها تذوب مع أول اختبار.
تحوّلات ثقافة الملح
شهدت ثقافة استهلاك الملح في المجتمع تحولات ملحوظة مع تصاعد وعي الأفراد بالصحة والتغذية المتوازنة، ما أدى إلى تنوّع أنواعه واستخداماته بشكل يعكس أنماطًا استهلاكية ذات طابع طبقي وثقافي متباين، وبرزت أنواع أخرى تحمل دلالات صحية واجتماعية مميزة.
دخل ملح البحر إلى دائرة الاستخدام اليومي ليكون عنصرًا فعّالًا في ممارسات العناية بالبشرة والتجميل، ما يجعله رمزًا مرتبطًا بثقافة الرفاهية والعناية الذاتية. أما الملح الصخري، فيُستخدم في مجالات صناعية إلى جانب بعض الاستخدامات الغذائية المحددة، ما يعكس انتقاله من الاستخدام المنزلي إلى إطار وظيفي وتقني أكثر تخصّصًا.
واكتسب ملح الهيمالايا رمزية خاصة، بوصفه منتجًا طبيعيًا غنيًا بالمعادن، يتماشى مع ثقافة «العيش النظيف» والطب البديل، ما جعله خيارًا يُفضله أصحاب أنماط الحياة الصحية، وينظر إليه في بعض الأوساط كمؤشر على ذوق راقٍ ووعي غذائي متقدّم.
وإلى جانب هذه الأنواع، ظهرت أيضًا أملاح جديدة أقل شهرة مثل ملح الكوشر لتتبيل اللحوم والخضروات والمخللات، والملح المدخن فأضفى نكهة على الشواء، التي تدخل في الطهي المتخصص والمطابخ العالمية، ما يعكس انفتاحًا ثقافيًا وارتفاعًا في التمايز الذوقي والاستهلاكي داخل المجتمع.
ويُستخدم الملح أيضًا في إزالة الثلوج من الطرقات في الدول الباردة، وفي تنظيف الثلاجات من الروائح والبكتيريا، كما يدخل في عدد من الصناعات الكيميائية والصحية، مثل صناعة الأدوية والمحاليل الطبية ومعالجة المياه. وهو ما يدل على تعدد وظائفه وتنوّع أدواره، مما يعكس مرونة هذه المادة وبقاءها عنصرًا حيويًا في الحياة الحديثة.
تُبرز هذه التغيرات كيف تحوّل الملح من عنصر موحّد في الاستخدامات اليومية إلى منتج يعكس اختلافات اجتماعية وثقافية واقتصادية، حيث لم يعد نوع الملح مجرد اختيار غذائي، بل إشارة ضمنية إلى أسلوب الحياة، ومستوى الوعي الصحي، والانتماء الطبقي في المجتمع المعاصر.
وقد بدأت حركات استعادة الموروث الغذائي في المجتمع السعودي تحاول إعادة الاعتبار للملح الطبيعي، كجزء من عودة أوسع نحو الأصالة، والمنتجات المحلية، والطعم الحقيقي الذي يحفظ تاريخًا طويلًا من التعايش بين الإنسان وبيئته.
ختام
يمتد حضور الملح ليشكل رمزًا ثقافيًا ذا دلالات متعددة، تتقاطع فيها مفاهيم النقاء والبقاء والعِشرة والخوف والقوة. فقد أدى دورًا محوريًا في الحياة اليومية، بدءًا من حفظ الطعام، ومرورًا باستخدامه في الممارسات الشعبية، ووصولًا إلى موقعه الراسخ في الأمثال والتوصيفات الجمالية، ما يجعله عنصرًا مركزيًا في الذاكرة الشعبية.
ومع بروز التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، شهد الملح تحوّلًا جوهريًا في وظيفته وحضوره، حيث تراجع دوره كمورد محلي مرتبط بالمكان، ليُصبح منتجًا صناعيًا معلبًا يخضع لأنماط السوق والاستهلاك، ما أفقده كثيرًا من أبعاده الرمزية والاجتماعية.
إلا أن الجهود المعاصرة في استعادة الموروث الغذائي، تشير إلى وعي متجدد بقيمة الملح الطبيعية والثقافية، وتسعى إلى إعادة ربطه بالبيئة المحلية والتاريخية التي انبثق منها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 2 ساعات
- صحيفة سبق
استشارية: سهر الأبناء في الإجازة يُضعف التركيز ويقود لتقلبات مزاجية واكتئاب
حذّرت استشارية طب النوم بمدينة الملك فهد الطبية، الدكتورة نورة بديوي، من تأثير السهر خلال الإجازة الصيفية على الأطفال والمراهقين، مشيرة إلى أن قلة عدد ساعات النوم قد تسبب تقلبات مزاجية، وضعفًا في التركيز والإدراك، وقد تصل إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب على المدى الطويل. وأكدت أن مسؤولية تنظيم نوم الأبناء خلال الصيف تقع على عاتق الأسرة، مشددة على أهمية الحد من استخدام الأجهزة الإلكترونية، وتجنب تناول الكافيين قبل النوم، وتوفير بيئة هادئة ومناسبة تساعد على نوم عميق ومتواصل. استشارية طب النوم بمدينة الملك فهد الطبية د. نورة بديوي: السهر في الصيف يسبب تقلبات المزاج وقلة التركيز وقد يصل إلى الاكتئاب على المدى البعيد، وينبغي على الأهل تنظيم نوم أبنائهم وإبعادهم عن الأجهزة والكافيين #نشرة_النهار | #الإخبارية — قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) July 5, 2025 وأضافت أن تعزيز النشاط البدني خلال النهار، وتقليل وقت الشاشات، عوامل مهمة لتحسين جودة النوم عند الأطفال، خاصة في فترات الإجازة التي تكثر فيها العادات غير الصحية. وأوضحت "بديوي" أن لكل شخص ساعة بيولوجية داخلية ترتبط بتوقيت التعرض للضوء، وتحديدًا أشعة الشمس. وأكدت أن عدم التزامن بين هذه الساعة والتعرض للضوء الطبيعي، خصوصًا عند النوم نهارًا والسهر ليلًا، يؤدي إلى اضطرابات في عمل أجهزة الجسم. استشارية طب النوم بمدينة الملك فهد الطبية د. نورة بديوي: لكل شخص ساعة بيولوجية تعتمد على ضوء الشمس وعدم التزامن معها وقلة النوم يضعفان الصحة والمناعة #نشرة_النهار | #الإخبارية — قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) July 5, 2025 وبيّنت أن النوم الجيد، خصوصًا في الليل، يعزّز مناعة الجسم عبر تحفيز إنتاج خلايا مناعية وبروتينات مقاومة للأمراض، فيما يؤدي نقص النوم المزمن إلى ضعف الجهاز المناعي، وزيادة احتمالية الإصابة بالعدوى والالتهابات. وشددت على أن النوم ليلاً والتعرض لضوء الشمس في الصباح من أهم العوامل التي تحافظ على توازن الجسم العقلي والجسدي، وتحمي الإنسان من الإرهاق، وسرعة التوتر، والانخفاض في الأداء الذهني والمعرفي.


عكاظ
منذ 3 ساعات
- عكاظ
توسيع مشروع «معاذ» في مكة بتفعيل 52 منشأة
واصلت هيئة الهلال الأحمر السعودي توسّعها في مشروع «معاذ» بمنطقة مكة ليشمل 52 منشأة، ويُدرّب أكثر من 1200 موظف وموظفة على الإسعافات الأولية، دعماً للاستجابة السريعة في الحالات الطارئة، وتعزيزاً لبيئة أكثر أماناً في مقرات العمل والأماكن العامة. ويأتي المشروع لرفع الجاهزية للتعامل مع الحالات الإسعافية الحرجة، لاسيما في لحظاتها الأولى، خصوصاً حالات توقف القلب المفاجئ. ويرتكز المشروع على 3 مسارات رئيسية هي: توفير أجهزة الرجفان القلبي (AED) داخل المنشآت، وتسهيل الوصول إلى الخدمة، وتقليص زمن الاستجابة، وتدريب العاملين على مهارات الإسعافات الأولية من خلال برنامج المهارات الأساسية. كما يدعم المشروع مساراً صحياً سريعاً بالتنسيق مع وزارة الصحة، يتيح تحويل حالات توقف القلب مباشرة من الميدان إلى غرف القسطرة القلبية (Cath Lab) في المستشفيات المختصة، لضمان تقديم الرعاية العاجلة في وقتها. أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
الرئيس الكونغولي يعلن حالة الإنذار القصوى لمواجهة تفشي الكوليرا
أعلن الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي حالة الإنذار القصوى لمواجهة تفشي وباء الكوليرا في العاصمة كينشاسا. وذكرت وكالة الأنباء الكونغولية أن الرئيس تشيسيكيدي دعا خلال اجتماع لمجلس الوزراء إلى تعبئة عامة لتفادي حدوث أزمة صحية في المدينة،وأمر بتحرك مختلف القطاعات بشكل عاجل لمواجهة تفشي الوباء، ويشمل ذلك نشر مراكز علاج متنقلة، وتوزيع مياه الشرب، وتعقيم الأماكن العامة، وتوزيع كميات كبيرة من مستلزمات النظافة، وتفعيل خطة طوارئ بدعم من الشركاء الدوليين.