logo
إعادة رسم خرائط أنهار العالم كله لتحسين التنبؤ بالفيضانات

إعادة رسم خرائط أنهار العالم كله لتحسين التنبؤ بالفيضانات

الجزيرة٠٣-٠٦-٢٠٢٥

في خطوة متقدمة، يمكن ان تُشكل نقلة نوعية في مجال التنبؤ بالفيضانات والتخطيط لمخاطر المناخ وإدارة موارد المياه، أنشأ فريق من الباحثين في جامعة أكسفورد خريطة تختلف عن خرائط أنهار العالم السابقة، يمكن ان تُعتبر الأكثر اكتمالًا على الإطلاق.
وتُقدم الدراسة الجديدة، التي نُشرت في دورية ووتر ريسورسز ريسيرتش، نظاما جديدا لرسم الخرائط يظهر كيفية تدفق الأنهار وتفرعها وترابطها بين المناظر الطبيعية.
عيوب الخرائط القديمة
في الوقت الذي تعتبر فيه الأنهار إحدى أهم دعائم الحياة، الا أنها تُشكل أيضًا مخاطر متزايدة، نظرًا للتغيرات المناخية التي أدت إلى عدم انتظام هطول الأمطار وارتفاع منسوب مياه البحر، حيث من المتوقع أن تزداد وتيرة الفيضانات وشدتها في أنحاء كثيرة من العالم، ولهذا وبحسب بيان جامعة أكسفورد، فإن خرائط الأنهار العالمية الحالية قديمة ومبسطة للغاية، إذ إنها تفترض أن الأنهار تتدفق في اتجاه واحد ولا تنقسم أبدًا
ويقول الدكتور ميشيل ورتمان، الذي طوّر برنامج "طوبولوجيا الأنهار العالمية" في جامعة أكسفورد، في تصريحات خاصة للجزيرة نت: "لقد افترضت نماذج الفيضانات في خارطة الأنهار العالمية السابقة، (الخاصة بدول أو قارات العالم بأكمله)، أن الأنهار ستلتحم فقط عند جريانها باتجاه مجرى النهر".
ويضيف "وغفلت هذه الخارطة مسار الأنهار وخاصية انقسام الأنهار"، إذ إن العديد من الأنهار الكبيرة تنقسم عند تدفقها باتجاه مجرى النهر، إما إلى قنوات مختلفة، أو أذرع متعددة في الدلتا، أو قنوات من صنع الإنسان، ولهذا فان شبكتنا النهرية تلتقط هذه الأنهار المنقسمة أو المتفرعة، مما يُمكّن نماذج الفيضانات وأنظمة الإنذار المبكر بالأنهار من تمثيلها بدقة".
ويقول البيان الصحفي الصادر من جامعة أكسفورد "تُعد أنظمة الأنهار المتفرعة هذه مهمة لأنها غالبًا ما توجد في مناطق مكتظة بالسكان ومعرضة للفيضانات، وهي ضرورية لفهم حركة المياه عبر سطح الأرض".
ولمعالجة هذا القصور في خرائط الأنهار الحالية المستخدمة لإدارة المياه والتنبؤ بالفيضانات، طوّر الفريق العلمي في جامعة أكسفورد شبكة عالمية جديدة للأنهار تُسمى "طوبولوجيا الأنهار العالمية"، والتي تشمل تدفق هذه الأنهار المتفرعة والقنوات الكبيرة، وترابطها مُجسّدةً بذلك تعقيدها.
طوبولوجيا الأنهار العالمية
يقول البيان الصادر من جامعة أكسفورد إن الشبكة العالمية لطوبولوجيا الأنهار العالمية، أُنشئت من خلال الجمع بين صور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة للأنهار وبيانات الارتفاعات المتقدمة لسطح الأرض.
وبحسب الدراسة تُظهر الشبكة جميع الأنهار التي يزيد عرضها عن 30 مترًا، بالإضافة إلى أجزاء مجرى النهر، إضافة إلى شبكة الأنهار متعددة الخيوط على نطاق إقليمي في 7 مناطق مُختارة من العالم، مثل نهر فريزر، ونهر الأمازون، ونهر الراين-ميز، ونهر الكونغو، ونهر بادما-براهمابوترا، ونهر ميكونغ، ونهر اللؤلؤ.
هذه الشبكة لا تشمل قنوات الأنهار الأساسية فحسب، بل تُوفر أيضًا معلومات عن اتجاهات تدفق الأنهار وعرضها ونقاط انقسامها، حيث يبلغ الطول الإجمالي لأنهار خارطة الشبكة العالمية 19.6 مليون كيلومتر، وتشمل 67 ألف تشعب.
يقول الدكتور ميشيل ورتمان في تصريحه الذي تضمنه بيان جامعة أكسفورد: "كنا بحاجة إلى خريطة عالمية تعكس سلوك الأنهار الفعلي، إذ لا يكفي افتراض أن الأنهار تنحدر في خط مستقيم، خاصةً عندما نحاول التنبؤ بالفيضانات، أو فهم النظم البيئية، أو التخطيط لتأثيرات المناخ، وبالتالي فان هذه الخارطة تظهر أنهار العالم بكل تعقيداتها".
وحول الأنهار العربية التي شملتها خريطة أنهار العالم الجديدة، يقول ميشيل روثمان في تصريحاته للجزيرة نت: "نعم، تشمل خريطة شبكتنا جميع أنهار العالم التي تزيد مساحة تصريفها عن 50 كيلومترًا مربعًا. وهذا يشمل أيضًا أنهار الشرق الأوسط ذات القنوات الكبيرة والتشعبات النهرية، وعلى سبيل المثال، نهر دجلة حيث ينقسم شط الغراف عن فرع دجلة الرئيسي.، وهذا التشعب الكبير وغيره من التشعبات النهرية لم يُمثل في شبكات الأنهار السابقة. "
مميزات وتطلعات
بحسب بيان جامعة أكسفورد، تُعدّ الأنهار حيوية للنظم البيئية والحياة البشرية، ولكن مع ازدياد تطرف الطقس بفعل تغير المناخ، فإنها تزداد خطورة – خاصةً أثناء الفيضانات.
وللاستعداد، يحتاج العلماء والحكومات إلى فهم أين يُحتمل أن تتجه المياه على نطاق واسع، وبالتالي فأنه من المتوقع أن تُحسّن شبكة طوبولوجيا الأنهار العالمية، بشكل كبير التطبيقات في مجالات علم المياه والبيئة والجيومورفولوجيا وإدارة الفيضانات، كما يمكن أن تُشكل خطوة كبيرة إلى الأمام في مجال التنبؤ بالفيضانات والتكيف مع تغير المناخ.
يتيح نظام شبكة الأنهار الجديدة رؤية أكثر شمولاً لحركة المياه، مما يُساعد على تحسين نماذج الفيضانات، وأنظمة إدارة المياه، والتخطيط للكوارث، إضافة الى ذلك فان نظام الشبكة الجديدة، تدعم تطوير نماذج عالمية قائمة على البيانات (الذكاء الاصطناعي) للفيضانات، والجفاف، وجودة المياه، والحفاظ على الموائل، والمخاطر البيئية، وتمثل قفزة إلى الأمام.
ويقول ميشيل ورتمان في تصريحه للجزيرة نت: "يستخدم نظام شبكتنا أيضًا صور الأقمار الصناعية للأنهار، فإن هذا يُمكّنه من إظهار طبيعة الأنهار المعقدة، وكيفية تفرّعها عبر المناظر الطبيعية، كما يُتيح لنا تضمين قنوات متعددة للنهر نفسه، أو قنوات كبيرة تتصل بالأنهار، أو فروع الأنهار المتعددة في الدلتا، كما هو الحال في دلتا النيل".
من جانب آخر، قالت لويز سلاتر، أستاذة علم المناخ المائي بجامعة أكسفورد: "لقد صُمم نظام شبكة الأنهار الجديدة ليتطور نظرًا لكونها آلية بالكامل، على عكس الشبكات العالمية السابقة، يُمكننا تحديثها باستمرار بأحدث صور الأقمار الصناعية والبيانات الطبوغرافية، لفهم التغيرات في الأنهار والمناظر الطبيعية ".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ردود فعل سلبية في بريطانيا بسبب حقن إنقاص الوزن
ردود فعل سلبية في بريطانيا بسبب حقن إنقاص الوزن

الجزيرة

timeمنذ 7 ساعات

  • الجزيرة

ردود فعل سلبية في بريطانيا بسبب حقن إنقاص الوزن

أبلغ المئات عن مشاكل في البنكرياس مرتبطة بتناول حقن إنقاص الوزن وعلاج السكري، مما دفع مسؤولي الصحة في المملكة المتحدة لإطلاق دراسة جديدة حول الآثار الجانبية. بعض حالات التهاب البنكرياس المبلغ عنها، والمرتبطة بأدوية GLP-1 (ناهضات مستقبلات الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1)، كانت مميتة. تظهر البيانات الصادرة عن هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية (MHRA) أنه منذ ترخيص هذه الأدوية، سُجلت مئات الحالات من التهاب البنكرياس الحاد والمزمن بين الأشخاص الذين يتناولون أدوية GLP-1. يشمل ذلك: 181 حالة مُبلغ عنها من التهاب البنكرياس الحاد والمزمن مرتبطة بالتيرزيباتايد (المكون النشط لمونجارو). توفي 5 أشخاص. 116 رد فعل مُبلغ عنه من هذا النوع مرتبط بالليراجلوتايد، كان أحدها مميتًا. 113 حالة من التهاب البنكرياس الحاد والمزمن مرتبطة بالسيماجلوتايد (المكون النشط لأوزيمبيك وويغوفي). توفي شخص واحد. 101 رد فعل مُبلغ عنه من هذا النوع مرتبط بالإكسيناتيد، توفي 3 أشخاص. 52 رد فعل مُبلغ عنه من هذا النوع مرتبط بالدولاجلوتايد، و11 رد فعل مُبلغ عنه بالليكسيسيناتيد. لم تُربط أي وفيات بأي من هذين الدواءين. هذه الحالات ليست مؤكدة على أنها ناجمة عن الأدوية، لكن الشخص الذي أبلغ عنها اشتبه في ذلك. ومع ذلك، سيقوم مشروع "يلو كارد بايوبنك" (Yellow Card Biobank)، الذي أطلقته هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية (MHRA) بالتعاون مع "جينوميكس إنجلاند" في المملكة المتحدة، بفحص ما إذا كانت حالات التهاب البنكرياس المرتبطة بأدوية GLP-1 قد تتأثر بالتركيب الجيني للأشخاص. وسيُطلب من المرضى تقديم المزيد من المعلومات وعينة لعاب سيتم تقييمها لاستكشاف ما إذا كان بعض الأشخاص معرضين لخطر أعلى للإصابة بالتهاب البنكرياس الحاد عند تناول هذه الأدوية بسبب جيناتهم. يمكن لناهضات GLP-1 أن تخفض مستويات السكر في الدم لدى الأشخاص المصابين بداء السكري من النوع الثاني، ويمكن وصفها أيضًا لدعم بعض الأشخاص في إنقاص الوزن. 1.5 مليون شخص في المملكة المتحدة تشير التقديرات الأخيرة إلى أن حوالي 1.5 مليون شخص في المملكة المتحدة يتناولون حقن إنقاص الوزن. وقد اقترح مسؤولو الصحة أنها يمكن أن تساعد في مواجهة السمنة، لكنهم أكدوا أنها ليست حلا سحريا ولها آثار جانبية. معظم الآثار الجانبية المرتبطة بالحقن هي مشاكل في الجهاز الهضمي تشمل الغثيان والإمساك والإسهال. وقد حذرت هيئة تنظيم الأدوية مؤخرًا من أن "مونجارو" قد يجعل حبوب منع الحمل الفموية أقل فعالية لدى بعض المرضى. وقالت الدكتورة أليسون كيف، كبيرة مسؤولي السلامة في هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية (MHRA): "تظهر الأدلة أن ما يقرب من ثلث الآثار الجانبية للأدوية يمكن الوقاية منها بإدخال الفحص الجيني، ويُتوقع أن تكلف التفاعلات الدوائية الضارة هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) أكثر من 2.2 مليار جنيه إسترليني سنويا في الإقامات بالمستشفيات وحدها". وأضافت: "ستساعدنا المعلومات من بنك "يلو كارد بايوبنك" على التنبؤ بشكل أفضل بمن هم الأكثر عرضة لخطر التفاعلات السلبية، مما يمكّن المرضى في جميع أنحاء المملكة المتحدة من الحصول على الدواء الأكثر أمانًا لهم، بناءً على تركيبهم الجيني". واختتمت: "لمساعدتنا في مساعدتكم، نطلب من أي شخص أُدخل المستشفى بسبب التهاب البنكرياس الحاد أثناء تناول دواء GLP-1 إبلاغنا بذلك عبر نظام "يلو كارد" الخاص بنا. حتى إذا لم تستوفِ معايير هذه المرحلة من دراسة "بايوبنك"، فإن المعلومات حول رد فعلك تجاه الدواء دائمًا ما تكون قيّمة للغاية في المساعدة على تحسين سلامة المرضى". وقال البروفيسور مات براون، كبير المسؤولين العلميين في "جينوميكس إنجلاند": "أدوية GLP-1 مثل أوزيمبيك وويغوفي تتصدر عناوين الأخبار، ولكن مثل جميع الأدوية، قد يكون هناك خطر من آثار جانبية خطيرة". وتابع: "نعتقد أن هناك إمكانية حقيقية لتقليل هذه الآثار، حيث إن العديد من التفاعلات السلبية لها سبب جيني. هذه الخطوة التالية في شراكتنا مع هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية (MHRA) ستولد بيانات وأدلة لعلاج أكثر أمانًا وفعالية من خلال نهج أكثر تخصيصًا للوصفات الطبية، ودعم التحول نحو نظام رعاية صحية يركز بشكل متزايد على الوقاية".

ماذا تعرف عن عُقدة النقص؟
ماذا تعرف عن عُقدة النقص؟

الجزيرة

timeمنذ 7 ساعات

  • الجزيرة

ماذا تعرف عن عُقدة النقص؟

قال المعالج النفسي الألماني جريجور مولر، إن عُقدة النقص هي شعور أساسي بالشك الذاتي وانعدام الثقة في النفس؛ حيث يشعر المرء بالدونية وعدم الكفاءة وعدم القدرة على جذب الانتباه. وأضاف مولر، أن الشك الذاتي يهيمن على جميع أفكار وأفعال الشخص المصاب بعُقدة النقص؛ حيث يشعر بأنه فاشل ويعتقد أنه دائما ما يخطئ في كل شيء، وأنه بذلك عديم الفائدة ولا قيمة له أو غير محبوب. تناقض بين "الذات المثالية والواقع" ومن جانبها، قالت المعالجة النفسية الألمانية إيفا ماريا كلاين، إن الشخص المصاب بعقدة النقص يعاني من تناقض بين "ذاته المثالية والواقع"، موضحة أن هذا التناقض ينشأ عندما تكون لديه توقعات أو مطالب عالية من نفسه، وغالبا ما يكمن سبب ذلك في توقعات الأداء العالية، التي وضعها الوالدان في طفولته. وإذا لم يتوافق الواقع مع هذه التوقعات والمطالب، فإن المرء كثيرا ما يقع فريسة لعقدة النقص. وشددت كلاين على ضرورة الخضوع للعلاج النفسي في أقرب وقت ممكن، وذلك لتجنب العواقب الوخيمة، التي قد تترتب على عُقدة النقص المتمثلة في الإصابة بالاكتئاب وإيذاء النفس أو الآخرين. العلاج النفسي ويساعد العلاج النفسي المريض في المقام الأول على تقبل نفسه كما هو، مع العمل على زيادة الثقة بالنفس وتقدير الذات بتحديد مواطن القوة والنقاط الإيجابية، التي يتمتع بها المرء، وكذلك تحديد النجاحات والإنجازات، التي حققها المرء في حياته. ومن المهم أيضا تحديد مواطن الضعف والنقاط السلبية في شخصية المرء والعمل على علاجها وتغييرها.

"عصر الضبابية".. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
"عصر الضبابية".. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

"عصر الضبابية".. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط

ماذا يحدث حين يبلغ الإنسان ذروة فهمه للطبيعة، ثم يكتشف أن هذا الفهم نفسه يحمل في أعماقه بذور الكارثة؟ كيف يتحول العقل إلى سلاح ذي حدين: طريق إلى النجاة، وفي الوقت ذاته درب إلى الهلاك؟ وكيف يغدو العلماء -الذين لطالما اعتُبروا مشاعل للنور- شهودا على كوارث صنعوها بأيديهم؟ وهل تكون أكثر لحظات البشرية نورا هي نفسها أشدها عتمة؟ وفي كتابه "عصر الضبابية: سنوات الفيزياء الساطعة والمظلمة 1895-1945" يأخذنا توبياس هورتر في رحلة فريدة تمتد بين مختبرات الفيزياء وأعماق النفس البشرية، بين بريق الاكتشافات النووية والانفجارات الأخلاقية التي رافقتها. ويرسم الكاتب مشهدا لحقبة استثنائية لا تتكرر، ما تزال تلقي بظلالها الثقيلة على حاضرنا حتى اليوم. وبداية، ليس من السهل -بلا شك- كتابة تاريخ علمي من دون الوقوع في فخ الجفاف الأكاديمي، لكن هورتر ينجح هنا في كتابه بالإمساك بخيط رفيع، ينسج به سردا متماسكا، يمزج به بين الحديث عن البراعة الفيزيائية والعواصف السياسية. وقد صدر الكتاب في نسخته الأصلية بالألمانية عام 2021، وصدرت ترجمته العربية عن دار عصير الكتب عام 2024، بتوقيع المترجم محمد رمضان حسين. لكن هذا العمل ليس مجرد حكاية نظريات ومعادلات، بل قصة رجال ونساء عاشوا في قلب الانفجار المعرفي والأخلاقي. فكانت سيرهم شهادة على 50 عاما من العبقرية المتقدة والضمائر القلقة. أما مؤلف الكتاب فهو كاتب وصحفي ألماني وُلد عام 1972، ويحمل دكتوراه في الفلسفة، ويتميّز بأسلوب تحليلي عميق في تناول القضايا العلمية والفكرية. وقد كتب في مجلات وصحف مرموقة، ويشتهر بقدرته على الربط بين التحولات الكبرى في العلم والفلسفة وبين الأسئلة الإنسانية الوجودية. ملامح الحقبة: من الأشعة السينية إلى القنبلة الذرية ينطلق هورتر من 1895 العام الذي اكتُشفت فيه الأشعة السينية على يد رونتغن، وهو الاكتشاف الذي مثل شرارة الدخول في عصر جديد من الفيزياء. وتبع هذا الكشف عن النشاط الإشعاعي، ثم سلسلة من الثورات النظرية التي زعزعت يقين الفيزياء الكلاسيكية، ودفعت البشرية إلى أعتاب عصر الكم والنسبية. وخلال نصف قرن، تسارعت الاكتشافات بوتيرة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل حيث ظهر ماكس بلانك بنظريته حول الكم، وتبعه نيلس بور، وهايزنبرغ، وشرودنغر، وأخيرا أينشتاين الذي وضع نظرية النسبية الخاصة عام 1905 ثم العامة عام 1915. وهذه الأسماء لم تكتب تاريخ الفيزياء فحسب، بل أعادت تعريف حدود الواقع وإمكانات المعرفة. العلم بين النبوغ والشك المنهجي يبين هورتر في كتابه أن التصورات التقليدية للعلم، بوصفه نشاطا عقلانيا خالصا قائما على الحتمية واليقين، قد تعرضت لزعزعة عميقة مع نشوء ميكانيكا الكم أوائل القرن العشرين. إذ إن المفاهيم الفيزيائية الكلاسيكية -التي كانت تفترض أن الكون يعمل مثل آلة دقيقة يمكن التنبؤ بحركتها- استُبدلت بنظرة جديدة ترى الواقع بوصفه مجالا غير حتمي، تحكمه قوانين الاحتمال، ومبادئ الشك، والتراكب الكمومي، مما قاد إلى إعادة النظر في أسس المعرفة العلمية ذاتها. وكان نيلس بور من أبرز المدافعين عن التفسير الاحتمالي للواقع الكمومي، بل إنه وضع أسس ما عُرف لاحقا بـ"تفسير كوبنهاغن". وبحسب هذا التصور، لا يمكن الحديث عن خواص الجسيمات أو مواقعها إلا لحظة رصدها، أما قبل ذلك فهي في حالة "تراكب" احتمالي، تجمع بين جميع الحالات الممكنة في آنٍ واحد. وقد كان لهذا التفسير أثر فلسفي عميق، إذ قبل بأن تكون الجسيمات دون الذرية في أكثر من حالة في آن واحد، إلى أن تُرصَد، وهو ما بدا لكثير من العلماء تجاوزا للمعقول الفيزيائي. وقد عارض شرودنغر هذا التفسير بمثاله الشهير "قطة شرودنغر" وهي تجربة فكرية تهدف إلى إظهار الطابع المربك لتفسير كوبنهاغن. إذ تُظهر كيف أن القَبول بأن الجسيمات قد توجد في حالتين متراكبتين -كأن تكون القطة حية وميتة في آنٍ واحد- يؤدي إلى نتائج عبثية عند تطبيقها على الواقع العياني. وكان اعتراض شرودنغر تعبيرا عن رفضه لاختزال الواقع إلى مجرد احتمالات لا تكتسب صفة "الواقعية" إلا حين تدخّلِ الراصد. في حين رفض أينشتاين الطابع الاحتمالي الذي جاءت به ميكانيكا الكم، متمسّكًا بفكرة أن الكون تحكمه قوانين دقيقة، حتى إن لم نستطع رصدها بعد. ولم يكن اعتراضه تعصبا للحتمية الكلاسيكية، بل الإيمان بأن ما يبدو فوضويا في الظاهر قد يخفي نظاما أعمق لم يُكتشف بعد. ولهذا قال عبارته الشهيرة "الله لا يلعب النرد" دلالةً على رفضه لفكرة أن أساس الكون يقوم على المصادفة واللايقين. الفيزياء والسياسة في القسم الأشد إثارة من الكتاب، يرصد هورتر تداخل الفيزياء مع السياسة في زمن النازية والحرب العالمية الثانية. فمع صعود الأنظمة الشمولية، وجد العلماء أنفسهم أمام أسئلة وجودية: هل يبقى العالِم في معمله، أم يفر بضميره؟ هل يشارك في سباق التسلح أم يعارض؟ وهل يمكن أصلا الفصل بين "العلم النقي" و"الاستخدام السياسي"؟ فقد انخرط عدد من علماء الفيزياء البارزين في مشاريع عسكرية كبرى خلال القرن العشرين. من بينهم فيرنر هايزنبرغ -الذي قاد البرنامج النووي الألماني في ظل الحكم النازي- في دور لا يزال محط جدل بين المؤرخين حول مدى دعمه الفعلي لصناعة القنبلة، وكذلك روبرت أوبنهايمر الذي أشرف على مشروع مانهاتن الأميركي، فقد مثّل التناقض بأوضح صوره: عالِم بارع، ومثقف إنساني، انخرط في صنع القنبلة بكل طاقته، ثم قضى ما تبقى من عمره محاطا بالندم والتساؤلات. وعلى النقيض من الانخراط المباشر في المشاريع العسكرية، فقد اتخذ أينشتاين موقفا أخلاقيا من الحروب والتسلح، وقد غادر ألمانيا مبكرا بعد صعود النازية، وارتبط اسمه لاحقا بالدعوة إلى السلام ونزع السلاح النووي. ومع ذلك، وفي لحظة فارقة من القلق العالمي، وقع عام 1939 رسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت حذر فيها من احتمال أن تكون ألمانيا النازية بصدد تطوير قنبلة ذرية. ولم تكن الرسالة دعوة مباشرة إلى التسلح، بل كانت تحذيرا وقائيا ينبه إلى خطر سباق نووي محتمل. لكنها اشتملت ضمنا على توصية بتسريع الأبحاث الأميركية بهذا المجال، وهو ما مهد لاحقا لانطلاق مشروع مانهاتن. ورغم أن أينشتاين لم يشارك في المشروع ذاته، فقد شعر بندم عميق إزاء مساهمته غير المباشرة، وصرح لاحقا بأسى "لو كنت أعلم أن الألمان لن ينجحوا، لما كنت وقعت الرسالة قط". لقد مثل موقفه هذا مأزقا أخلاقيا بالغ التعقيد، يعكس التوتر بين الالتزام الإنساني ومخاوف اللحظة التاريخية. من المعمل إلى العالم: انهيار المسافة بين النظرية والتاريخ ما يميز الكتاب أنه لا يحصر الفيزياء في إطارها العلمي، بل يرصد تحوّلها إلى قوة حضارية، تؤثر في السياسة، والاقتصاد، وحتى في الفلسفة. فالاكتشافات الذرية لم تبق في المختبر، بل خرجت إلى العالم حقائق لا يمكن تجاهلها، وصارت مصدرا للرهبة والتأمل معا. ومما يجدر ذكره أن توقف الكتاب عند عام 1945 لم يكن قرارا زمنيا عشوائيا، بل كان اختيارا رمزيا دقيقا. ففي ذلك العام، أُسقطت القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناغازاكي، لتُعلَن نهاية الحرب وبداية عصر جديد. لكنه لم يكن إعلانا عن هذا فحسب بل كان أيضا إعلانا عن نهاية البراءة العلمية إذ لم يعد العلم سعيا خالصا نحو الحقيقة بل صار مشروعا ذا تبعات كونية، قد تنقذ أو تدمر. ويمتاز أسلوب هورتر بالسرد المتداخل، حيث يربط بين السياق الزمني، والتطورات العلمية، والحكايات الشخصية، دون أن يُفقد القارئ توازنه. إن "عصر الضبابية" ليس مجرد تاريخ للفيزياء الحديثة، بل هو تأريخ لعصر فاض بالعبقرية، لكنه افتقر إلى الطمأنينة، وأشعل النور من قلب الذرة، لكنه أحرق به نفسه أيضا. إنها إذن دعوة للتفكر في معنى التقدم، وفي ثمن الحقيقة، وفي هشاشة الضمير العلمي حين يُزاح من سياقه الإنساني. إن هذا الكتاب يذكرنا أن وراء كل معادلة عقلا قلقا، ووراء كل اكتشاف مسؤولية قد تغير العالم إلى الأبد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store