وقفة مع كتاب العرب ومستقبل الصين
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي «سامر خير أحمد»، كاتب أردنيّ من مواليد عام 1974، حاصل على بكالوريوس الهندسة الكيميائية من الجامعة الأردنية، لكنه رغب عن ممارسة الهندسة إلى العمل في الكتابة والتأليف والإدارة الثقافية، كتب في الصحف التالية: «الرأي»، «الغد» و»العربي الجديد». حصل على جوائز عدة على مؤلفاته المتميزة، اختص بموضوعات النقد الحضاري لأزمة النهضة العربية، من زواياها الفكرية والسياسية والتنموية. له مجموعة من المؤلفات القيّمة منها: الجوهر والتجليات: نقد ثقافي لأزمة النهضة العربية (2024)، نهضة الشرق (2019)، العرب ومستقبل الصين، وقد صدر بالعربية في دبي وعمّان وبالصينية في بكين وبالإنجليزية في لندن. العلمانية المؤمنة (2012). الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام (2007). الحركة الطلابية الأردنية (2000).
في وقفتنا مع كتاب العرب ومستقبل الصين، الذي قدمه الكاتب بأسلوبه الخاص المتفرد، وعمق رؤيته، واتساع فكره، وبلاغة لغته، وصدر بثلاث لغات هي العربية والإنجليزية والصينية، فقد فاز هذا الكتاب بجائزة المساهمات المتميزة في التأليف من بكين وهي أرفع جائزة حكومية ثقافية، وفاز بجائزة جامعة فيلادلفيا الأردنية لأحسن كتاب.
يبدأ الكتاب بنقد تعطل المشروع النهضوي العربي من خلال مقارنته بالنجاح النهضوي الكبير الذي حققته الصين في العقود الأخيرة، إذ استطاعت الصين استخدام التنمية لنهوضها وازدهارها، ووصولها إلى ما وصلت إليه الآن. وهكذا يستعرض الكتاب التأسيس البرغماتي للمشروع النهضوي العربي قبل نحوي مئتي عام، وذلك عندما وضع رفاعة الطهطاوي كتابه (تخليص الابريز في تلخيص باريز) عام 1834 في ظل دولة محمد علي التي حرص فيها على بناء دولة حديثة، من خلال الاهتمام بالمؤسسات التعليمية، وكان لكتاب الطهطاوي أثراً كبيراً على المشروع النهضوي العربي، من خلال الاعتبار بما رآه في باريس على مستوى المجتمع والحياة اليومية.
لقد كان التأسيس البراغماتي لمشروع النهضوي العربي، كما يقول كتاب «العرب ومستقبل الصين»، علامة مميزة في الفكر العربي في تلك المرحلة. غير أن ذلك التوجه البرغماتي عانى من ردة كبيرة بعد وصول الاستعمار العسكري إلى البلاد العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشرـ إذ تمثل رد العرب على وصول الاستعمار الأوروبي بالتخلي عما قدمه رفاعي الطهطاوي في كتابه. لقد ظهرت مدرستان تبنتا استكمال مشروع النهضة لكن عبر ارتدادهما عن فكر الطهطاوي.
الأولى هي المغرقة في التراثية انطلقت مع جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، وسيطرت على كل التيارات الفكرية الإسلامية، حتى اليوم. أما المدرسة الثانية فهي التي نظرت للنهضة الأوروبية كأيديولوجيا، واعتبرت أن أوروبا تملك الحقيقة المطلقة بسبب ما حققته من نهوض، وأن على العرب من ثم أن يقلدوا أوروبا بأفكارها ونجاحاتها.
ويستعرض كتاب «العرب ومستقبل الصين» انتقال المشروع النهضوي العربي من البراغماتية التي لا تنطلق من الحاجة الداخلية للتطور والنهوض، إلى ردود المؤدلجة دفعتنا لأن نكون أمام أحد خيارين: إما الارتداد نحو الماضي أو التوجه نحو الغرب، هذا مقابل صورة المشروع الصيني في التقدم والنمو والنهوض الذي حدث في العقود الأخيرة التي اعتمدت البرغماتية. وهكذا ينطلق الكتاب بعد هذا المدخل التاريخي ليدرس الفلسفة التي قام عليها النهوض الصيني والطريقة التي استطاع من خلالها الصينيون إحراز كل ما أحرزوه من تقدم اقتصادي وحضور سياسي في العالم.
يبدأ هذا الجزء الحديث عن الصين، ومراجعة تاريخها وصولاً إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية هام 1949، ثم التركيز على نقطة التحول الأساسية في التاريخ الصيني المعاصر وهي وصول الزعيم دينغ شياو بينغ إلى السلطة في منتصف السبعينيات، وإطلاقه خطة الإصلاح والانفتاح عام 1978. كذلك يفرد الكتاب مساحات لاستعراض واقع العلاقات العربية الصينية وآفاق تمتينها خصوصاً مع الدول النفطية. كذلك محاولة لتوسيع علاقاتها ونفوذها في العالم.
ويوضح الكتاب أن العلاقة العربية مع الصين لم تكن ذات طابع استراتيجي لسنوات طويلة، بل انحصرت في الجانب التجاري، إذ لم تتطور إلى محاولة الاستفادة من الفلسفة الصينية في النهوض. ويطرح الكتاب فكرة «المصاحبة الحضارية» التي مفادها أن الإمكانية المعقولة الوحيدة بالنسبة للأمم المتأخرة للحاق بركب الحضارة والدخول في مجال التأثير الإنساني، تتمثل في إقامة تحالفات حضارية مع الأمم التي تفوقها تحضّراً، كي تستفيد مما لديها من منجزات، من موقع الشريك لا من موقع المستهلك، فتتمكن من هضم تلك المنجزات ضمن مساعيها التحضّرية، على أن يكون ثمة لديها بالمقابل ما تقدمه لحليفتها الناهضة، مما يفيد تلك الحليفة في ما هي عليه من تقدم، أو تستعمله في إدامة وتطوير تقدمها. داعياً إلى تطبيق فكرة «المصاحبة الحضارية» على علاقة العرب مع الصين؛ كي يستفيد العرب من مستقبل الصين المفتوح على مزيد من النهوض والتأثير الدولي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 8 ساعات
- أخبارنا
محمد ابو رمان : تصنيف الجامعات.. بين سوء الفهم وحقيقة التحوّل
أخبارنا : أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، عزمي محافظة، حول تصنيف الجامعات الأردنية، جدلاً واسعاً، لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي استند فيه الوزير إلى ملاحظة واقعية استخدم فيها تعبير «جامعات»، لا للتعميم، بل لوصف ظاهرة موجودة، وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات، ومن المعروف عن د. عزمي جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها! هذا الجدل فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية. مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة. هنالك يقظة حقيقية في بعض الجامعات، واستفاقة لضرورة الانخراط في معايير الجودة العالمية، بل وتحقيق بعض الإنجازات اللافتة التي يجب أن تُذكر وتُكرّم لا أن تُطمس في خضم الجدل. ولعلّ إحدى أهم هذه النقاط تتمثل في موضوع تصنيف الجامعات، الذي يبدو أنّه لا يزال غير مفهوم بدقة - لدى كثيرين ممن تناولوا تصريحات الوزير- وكأنّه موضوع هامشي أو اختياري أو لا صلة له بجوهر العملية التعليمية. والحقيقة غير ذلك تماماً. فالتصنيفات العالمية، مثل QS وTimes Higher Education، أصبحت اليوم بمثابة «بطاقة الهوية» للجامعات، تحدد سمعتها، وجاذبيتها للطلاب المحليين والدوليين، وتنعكس بشكل مباشر على خريجيها في سوق العمل. الجامعات الغربية والعربية أيضاً باتت تولي هذه التصنيفات اهتماماً بالغاً، لأنها تدرك أن موقعها في هذه القوائم هو أحد أهم مقاييس النجاح في عصر تنافسي مفتوح لا يرحم. تجاوز الجامعة الأردنية لعدد كبير من الجامعات العالمية مؤخراً ليس مجرد «رقم» في قائمة، بل هو حصيلة جهد وتراكم طويل في تطوير المخرجات، وتحسين جودة التعليم، والارتباط بسوق العمل، والدخول في شراكات علمية ومجتمعية حقيقية. من يرى أن التصنيف مجرد ترف أو مظهر خارجي، يغفل أن معاييره تشمل الاقتباسات العلمية، ونسب التوظيف، والبحث العلمي، والتنوع الطلابي، والانخراط المجتمعي، والسمعة الأكاديمية – وهي جميعها مؤشرات نوعية جوهرية. صحيح أنّ بعض المؤشرات في التصنيفات بحاجة إلى مراجعة علمية، وبأنّ هنالك «اقتصاداً» كاملاً يقوم اليوم على هذه التصنيفات من قبل بعض الشركات العالمية، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نخضع لها، ونحاول فهمها، وأن نطوّر أداءنا بناءً عليها، لا أن ننكر وجودها أو نقلل من أثرها. بل إنّ النقد الحقيقي يجب أن يأتي من داخل الحقل الأكاديمي نفسه، من المتخصصين والخبراء، لا من ردود فعل انفعالية أو غير دقيقة. ما هو مشجّع اليوم أنّ بعض الجامعات، بخاصة الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بدأت فعلًا تتحرّك في الاتجاه الصحيح: برامج للإعداد الوظيفي، تطوير في البنية الرقمية، قاعات تدريس حديثة، تقليص ظواهر العنف، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتشبيك فعّال مع سوق العمل، تقدم مدهش في التصنيف الدولي للجامعات، ابتعاث أعداد كبيرة من طلاب الدراسات العليا للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، والدخول بقوة إلى مجال الاعتمادات الدولية لتخصصات الجامعة،بما يجعلها مركزاً إقليمياً للتعليم العالي في المنطقة، فهذه المؤشرات يجب أن تُدعم وتُعزّز، لأنّها تشكّل الملامح الأولى لمسار تصحيحي طال انتظاره. في النهاية، لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع.

الدستور
منذ 9 ساعات
- الدستور
تصنيف الجامعات.. بين سوء الفهم وحقيقة التحوّل
أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، عزمي محافظة، حول تصنيف الجامعات الأردنية، جدلاً واسعاً، لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي استند فيه الوزير إلى ملاحظة واقعية استخدم فيها تعبير «جامعات»، لا للتعميم، بل لوصف ظاهرة موجودة، وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات، ومن المعروف عن د. عزمي جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها!هذا الجدل فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية. مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة. هنالك يقظة حقيقية في بعض الجامعات، واستفاقة لضرورة الانخراط في معايير الجودة العالمية، بل وتحقيق بعض الإنجازات اللافتة التي يجب أن تُذكر وتُكرّم لا أن تُطمس في خضم الجدل.ولعلّ إحدى أهم هذه النقاط تتمثل في موضوع تصنيف الجامعات، الذي يبدو أنّه لا يزال غير مفهوم بدقة - لدى كثيرين ممن تناولوا تصريحات الوزير- وكأنّه موضوع هامشي أو اختياري أو لا صلة له بجوهر العملية التعليمية. والحقيقة غير ذلك تماماً.فالتصنيفات العالمية، مثل QS وTimes Higher Education، أصبحت اليوم بمثابة «بطاقة الهوية» للجامعات، تحدد سمعتها، وجاذبيتها للطلاب المحليين والدوليين، وتنعكس بشكل مباشر على خريجيها في سوق العمل. الجامعات الغربية والعربية أيضاً باتت تولي هذه التصنيفات اهتماماً بالغاً، لأنها تدرك أن موقعها في هذه القوائم هو أحد أهم مقاييس النجاح في عصر تنافسي مفتوح لا يرحم.تجاوز الجامعة الأردنية لعدد كبير من الجامعات العالمية مؤخراً ليس مجرد «رقم» في قائمة، بل هو حصيلة جهد وتراكم طويل في تطوير المخرجات، وتحسين جودة التعليم، والارتباط بسوق العمل، والدخول في شراكات علمية ومجتمعية حقيقية. من يرى أن التصنيف مجرد ترف أو مظهر خارجي، يغفل أن معاييره تشمل الاقتباسات العلمية، ونسب التوظيف، والبحث العلمي، والتنوع الطلابي، والانخراط المجتمعي، والسمعة الأكاديمية – وهي جميعها مؤشرات نوعية جوهرية.صحيح أنّ بعض المؤشرات في التصنيفات بحاجة إلى مراجعة علمية، وبأنّ هنالك «اقتصاداً» كاملاً يقوم اليوم على هذه التصنيفات من قبل بعض الشركات العالمية، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نخضع لها، ونحاول فهمها، وأن نطوّر أداءنا بناءً عليها، لا أن ننكر وجودها أو نقلل من أثرها. بل إنّ النقد الحقيقي يجب أن يأتي من داخل الحقل الأكاديمي نفسه، من المتخصصين والخبراء، لا من ردود فعل انفعالية أو غير دقيقة.ما هو مشجّع اليوم أنّ بعض الجامعات، بخاصة الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بدأت فعلًا تتحرّك في الاتجاه الصحيح: برامج للإعداد الوظيفي، تطوير في البنية الرقمية، قاعات تدريس حديثة، تقليص ظواهر العنف، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتشبيك فعّال مع سوق العمل، تقدم مدهش في التصنيف الدولي للجامعات، ابتعاث أعداد كبيرة من طلاب الدراسات العليا للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، والدخول بقوة إلى مجال الاعتمادات الدولية لتخصصات الجامعة،بما يجعلها مركزاً إقليمياً للتعليم العالي في المنطقة، فهذه المؤشرات يجب أن تُدعم وتُعزّز، لأنّها تشكّل الملامح الأولى لمسار تصحيحي طال انتظاره.في النهاية، لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع.


سواليف احمد الزعبي
منذ 3 أيام
- سواليف احمد الزعبي
حين يُقال للحق: قف!
حين يُقال للحق: قف! بقلم: الأستاذ #الدكتور_عزام_عنانزة أستاذ الإعلام في #جامعة_اليرموك في خضم الجدل الذي أثارته تصريحات معالي وزير التربية والتعليم والتعليم العالي الدكتور عزمي محافظة، وجدنا أنفسنا أمام لحظة مفصلية من تاريخ التعليم العالي في الأردن. لحظة لا تُمتحن فيها صدقية المؤسسات فحسب، بل أيضاً أخلاقياتنا الأكاديمية وقدرتنا على مواجهة ذواتنا بالحقيقة، لا تجميلها. إن ما طرحه الوزير لم يكن زلّة لسان، ولا نزوة سياسية، ولا انتقاصاً من مكانة جامعاتنا العريقة، بل كان صوتاً صريحاً شجاعاً يُعبّر عن قراءة موضوعية، تستند إلى بيانات ومؤشرات وتغذية راجعة متراكمة من جهات رقابية ومؤسسات تقييم دولية. الصدمة التي أحدثها هذا التصريح مردّها أن الرجل قال ما لم يجرؤ عليه كثيرون. وضع إصبعه على الجرح النازف في منظومة التعليم العالي، وقالها بوضوح: هناك فساد أكاديمي، هناك عبث بمنظومة النشر والترقيات، وهناك تلاعب بالمجلات والتصنيفات. ومَن يملك الشجاعة ليقول ذلك من على كرسي المسؤولية؟ القليل فقط. إن الاعتراف بالخلل هو الخطوة الأولى في طريق الإصلاح. هذا ما تعلمناه من أعظم تجارب الجامعات العالمية التي لا تعتبر النقد مؤامرة، بل علاجاً مبكراً قبل استفحال المرض. أما نحن، فما زلنا نُصدم من الحقيقة، ونُجيد دفن رؤوسنا في رمال المجاملات. الوزير لم يهاجم الجامعات الأردنية كافة، ولم ينكر منجزات الرائدتين: الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وهما مؤسستان تتمتعان بتاريخ مشرف وعطاء أكاديمي لا يُشكك فيه عاقل. لكنه تحدث عن منظومة فيها الكثير من الفجوات التي تُستغل، وعن فساد فكري ومنهجي لا يُمكن السكوت عنه بعد اليوم. الغريب في حملة التشويه التي طالت الوزير أن غالبية من هاجموه، لا يميزون بين 'معامل التأثير' و'معامل الاقتباس'، ولم يفتحوا يوماً بوابة البحث العلمي، ولا يدركوا معنى 'Scopus' أو 'Web of Science'، ولا يعرفون كيف تُصنّف المجلات أو تُقوَّم الأبحاث. فكيف يُسمح لهم بالتصدي لحوار علمي، في ساحة ينبغي أن يكون النقاش فيها للخبراء والمختصين؟ للأسف، تحوّل النقاش إلى جدل شعبوي، تسلّق فيه كثير من غير المختصين المنبر الإعلامي والبرلماني، فشوّهوا الرسالة، وابتعدوا عن جوهر التصريح. فهل أصبحت الحقيقة تُقابل بالتحريض؟ وهل كل من دعا للإصلاح أصبح خائناً للمنظومة؟ الوزير لم يهدم صرحاً، بل قرع الجرس. هو لم يطالب بإغلاق الجامعات، بل بإصلاحها. لم يشكك في مكانة الأكاديميين المخلصين، بل طالب بتطهير البيئة من الانتهازيين والمزوّرين والانتهاكات التي تُقترف تحت عباءة البحث العلمي. إنَّ رفضنا لمكاشفة الواقع هو ما أوصل بعض جامعاتنا إلى تراجع خطير في التصنيفات الدولية، وما أنتج خريجين لا يملكون المهارات الأساسية، وأساتذة ينشرون أبحاثاً في مجلات 'مفبركة'، لا يسمع بها سوى مواقع النصب الأكاديمي. دعوتي هنا صريحة إلى الإعلاميين، وأعضاء مجلس النواب، ورئيس الوزراء، وسائر المسؤولين: دعوا هذا الشأن للخبراء، دعوه لأهل الجامعة. لا تجعلوا من التعليم العالي ساحة للتجاذبات السياسية، ولا تصفوا حساباتكم على حساب مؤسسة وطنية كان يفترض أن تكون محمية من العبث. نحن في لحظة تاريخية يُعاد فيها تقييم رؤساء الجامعات، وتُرسم فيها سياسات للمرحلة القادمة. فهل من المعقول أن نُقصي من يجرؤ على طرح الأسئلة؟ أم أن المطلوب هو وزير يُجيد التصفيق، لا المحاسبة؟ كل من يُهاجم الوزير اليوم، دون فهم لما قال، هو إما خائف من المحاسبة، أو منتفع من بقاء الخلل، أو عاجز عن فهم حقيقة ما يجري. أما من يدرك حجم الأزمة، ويُدرك خطر الصمت، فسيعلم أن ما قاله الوزير هو موقف شجاع، لا يُقابل بالتشويه، بل بالدعم والمساندة. نُريد جامعاتنا أن تُنافس لا أن تُنافَق، نُريد باحثينا أن ينشروا علماً لا حشواً، نُريد وزراءً يُواجهون الخلل لا يُسايرونه. وهذا ما فعله معالي الدكتور عزمي محافظة. فليحفظ الله الأردن، وليحمِ مؤسساته العلمية، ولتبقَ جامعاتنا مناراتٍ للعلم لا مسارحَ للمصالح. وليُكتَب لهذا الوطن أن يتقدم، بصدق القول ونقاء الضمير. والله من وراء القصد.