
ما وراء الانزعاج الدولي والأممي من تدابير صنعاء بشأن معالجة الأوراق النقدية التالفة؟
عبر سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا لدى اليمن والمبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، عن انزعاجهم الشديد من إجراءات البنك المركزي اليمني في صنعاء المتمثلة في إصدار العملة المعدنية فئة 50 ريالاً، وكذلك إطلاقه الإصدار الثاني من الورقة النقدية فئة 200 ريال، في تطور لافت يفسر تصاعد المخاوف من تآكل شرعية الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في مناطق سلطاتها، على خلفية تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، بعد أن اقتربت قيمة الريال اليمني من حاجز الـ3000 ريال للدولار الواحد.
وقالت كل من سفارة بريطانيا وأمريكا وفرنسا لدى اليمن- في تدوينة موحدة الصيغة، على حساباتها الرسمية بمنصة 'إكس'، رصدها 'يمن إيكو': 'ندين بشدة إصدار الحوثيين غير القانوني للأوراق النقدية والعملات المعدنية، الجديدة'، مؤكدة أن 'السلطة النقدية اليمنية المعترف بها، هي البنك المركزي الذي يتخذ من عدن مقراً له، وأن قراراته وحدها تعتبر شرعية من قبل المجتمع الدولي'، داعية صنعاء إلى الامتثال لتوجيهاته بدون تأخير، حسب تعبير البيان المشترك لواشنطن ولندن وباريس.
من جهته أعرب المبعوث الخاص للأمين العام إلى اليمن هانس غروندبرغ، عن قلقه العميق إزاء قيام أنصار الله بسكّ عملة معدنية فئة 50 ريالاً يمنياً وطباعة أوراق نقدية من فئة 200 ريال يمني، مؤكداً- في بيان نشره على موقع مكتبه الإلكتروني، ورصده 'يمن إيكو'- أن مثل هذه الإجراءات الأحادية الجانب ليست السبيل الأمثل لمعالجة التحديات المتعلقة بالسيولة. بل تُهدد بتقويض الاقتصاد اليمني الهش أصلاً، وتعميق تفكك أطره النقدية والمؤسسية. حسب تعبيره.
واعتبر إجراءات حكومة صنعاء (الحوثيين) خطوة تُعد خرقاً للتفاهمات التي تم التوصل إليها بين الأطراف في 23 يوليو 2024 بشأن التهدئة في المجال الاقتصادي، مجدداً دعوته إلى الامتناع عن الإجراءات الأحادية الجانب، والعمل بدلاً من ذلك على اتباع نهج منسق يعزز الحوار ويدعم جهود الاستقرار الأوسع.
ويلاحظ في بيان المبعوث الأممي، تأكيده، أن اتفاق 23 يوليو تم بين الأطراف، ولم يقل الطرفين، في إشارة إلى (أنصار الله، الحكومة اليمنية، الرياض) وهو الاتفاق الذي أعلنه المبعوث الأممي حينها بصورة مفاجئة، في وقت لم تكن هناك أي مفاوضات في عمان بين 'أنصار الله' والحكومة اليمنية بشأن إجراءات الأخيرة ومن خلفها الرياض ضد بالبنوك التجارية في صنعاء، بل كانت المفاوضات- حينها- بين الطرفين في السلطنة مقصورة على ملف الأسرى، الأمر الذي عزز رواية صنعاء، بأن اتفاق التهدئة تم مع الرياض.
ونص اتفاق 23 يوليو 2024م على إلغاء القرارات والإجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين والتوقف مستقبلاً عن أي قرارات أو إجراءات مماثلة، ولم يتطرق إلى التدابير الموصولة بمعالجة العملة التالفة، ومع ذلك فقد تجاهل المبعوث الأممي هذا المعطى القانوني الهام، وتغافل في الوقت نفسه عن خرق الحكومة اليمنية لنص الاتفاق فاستمرت في تحريض واشنطن على البنوك التجارية في صنعاء ومضايقتها وإجبارها على نقل مقارها الرئيسة إلى عدن، وفقاً لما يراه المراقبون.
وذكر الخبير الاقتصادي رشيد الحداد، في تصريحات إعلامية، أن بنك عدن المركزي نسف اتفاق يوليو 2024 بوقوفه إلى جانب وزارة الخزانة الأمريكية فيما يخص العقوبات، وإيقافه كافة التفاهمات الاقتصادية، وتعمّد التحريض ضد البنوك التجارية والقطاع المصرفي اليمني، وعاود الحرب الاقتصادية محولاً قرار التصنيف الأمريكي إلى وسيلة تهديد وترهيب ضد البنوك التجارية والقطاع المصرفي، في مناطق حكومة صنعاء (الحوثيين).
ومن وجهة نظر تحليلية، فإن تصريحات المبعوث الأممي الأخيرة بشأن إجراءات صنعاء لمعالجة الكتلة النقدية التالفة، تتناقض مع إحاطته الأممية أمام مجلس الأمن في منتصف إبريل 2024م، حيث علق على إصدار صنعاء عملة معدنية فئة 100 ريال بديلة عن التالفة- قائلاً إن 'تلف العملة المتداولة في مناطق سيطرة أنصار الله يشكل معضلة اقتصادية جوهرية للشعب اليمني'، في إشارة إلى ما يمثله الإصدار من حلول محورية للأوراق النقدية التالفة، من فئات (50 و100 و200 ريال).
وأعلن البنك المركزي اليمني بصنعاء، مساء السبت الماضي، عن إدخال عملة معدنية جديدة من فئة (50) ريالاً إلى حيز التداول الرسمي، ابتداءً من 13 يوليو 2025م، وبعد يومين أطلق الإصدار الثاني من الورقة النقدية فئة 200 ريال، وسرى تداولها اعتباراً من أمس الأربعاء، في خطوة قال إنها تهدف إلى مواجهة مشكلة الأوراق النقدية التالفة وتعزيز جودة النقد المتداول، مؤكداً أن هذه التدابير والإجراءات جزء من سياسة مدروسة ومسؤولة لتحديث البنية النقدية بدون أي زيادة في الكتلة النقدية أو تأثير على أسعار الصرف.
ويرى المواطنون والتجار والصيارفة في مناطق سلطات حكومة صنعاء (الحوثيين) أن سك البنك المركزي اليمني للعملة المعدنية من فئة 50 ريالاً، إلى جانب العملة المعدنية السابقة من فئة 100 ريال، وكذلك إطلاقه الإصدار الثاني من الورقة النقدية فئة (200 ريال) إجراء إغاثي يساهم في حل مشاكل السيولة باستبدال مدخراتهم من الأوراق النقدية التالفة التي تسببت في تداعيات سلبية اقتصادية واجتماعية على مدى السنوات الماضية.
وخلال اليومين الماضيين، كثفت البنك المركزي في عدن تحركاته التفاوضية مع المجتمع الدولي، حيث التقى محافظ البنك أحمد غالب بعثة الاتحاد الأوروبي في اليمن، ناقلاً إلى السفراء انزعاجه الكبير، ورفضه الشديد لإجراءات البنك المركزي في صنعاء، ووصفت البعثة الأوروبية- في تدوينة على حسابها الرسمي بمنصة إكس- اجتماعها مع محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي، بأنه 'جاء في الوقت المناسب'، موكدة أن السفراء الأوروبيين أثنوا على العمل المحوري للبنك المركزي في عدن لاستقرار اقتصاد اليمن ودعم العملة'.
ومنذ مطلع العام الجاري، تكبد الريال اليمني في مناطق الحكومة اليمنية خسائر قياسية من قيمته النقدية، أمام الدولار حيث فقد 830 ريالاً، منحدراً لأدنى قاع له في تاريخه، فسجل الدولار خلال تعاملات اليوم الخميس 17 يوليو 2025م صعوداً جديداً، أوصل سعر بيعه إلى 2,899 ريالاً مقارنة مع 2,069 ريالاً للدولار الواحد، مطلع العام الجاري، وفي المقابل ظلت أسعار الصرف ثابتة بدون تغيير في مناطق حكومة صنعاء، حيث يستقر سعر صرف الدولار بيعاً عند 536 ريالاً يمني.
ومن الناحية القانونية والإجرائية، فإن البنك المركزي في صنعاء يستطيع إصدار عملة جديدة، بدون أن يكون لذلك تأثير سلبي على سعر صرف العملات الأجنبية، وليس باستطاعة البنك المركزي في عدن، أو المجتمع الدولي، أو كلاهما معاً، منعه من ذلك، وفقاً لما أكده مسؤول اقتصادي رفيع تابع للحكومة اليمنية في إبريل 2024م في سياق تعليقه على إصدار البنك المركزي اليمني بصنعاء عملة معدنية فئة 100 ريال.
وأكد رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي اليمني في عدن الدكتور محمد حسين حلبوب، حينها في منشور- تحت عنوان إجابات على أسئلة متداولة- على حسابه بفيسبوك، رصده موقع 'يمن إيكو': أن الحوثي (البنك المركزي في صنعاء) باستطاعته إصدار عملة بديلة للعملة التالفة، بدون أن يكون لذلك أي تأثير سلبي على سعر صرف العملات الأجنبية في صنعاء. مضيفاً: 'كما أن باستطاعة الحوثي- أيضاً- إصدار عملة لتغطية العجز في ميزانية حكومته'.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 29 دقائق
- اليمن الآن
اليمن: السماح بدخول صهاريج نقل المياه من الحوبان إلى تعز عبر المنفذ الشرقي
أعلنت قيادة محور تعز العسكري السماح بدخول صهاريج نقل المياه القادمة من منطقة الحوبان الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين إلى المدينة الواقعة تحت نفوذ الحكومة المعترف بها دوليًا، عبر المنفذ الشرقي. وقالت مصادر عسكرية إن القرار يهدف إلى كسر حالة الاحتكار وتخفيف حدة أزمة المياه الخانقة التي يعاني منها سكان المدينة منذ أشهر، مشيرة إلى أن دخول الوايتات سيتم وفق آلية تنظيمية مشددة مع اتخاذ إجراءات أمنية لضمان عدم استغلال الخطوة لأغراض أخرى. ويواجه سكان تعز أزمة مياه خانقة منذ أشهر، إذ قفزت أسعار صهاريج المياه المتنقلة سعة 6 آلاف لتر إلى أكثر من 100 ألف ريال يمني، ما فاقم من معاناة السكان. ومنذ إعادة فتح المنفذ الشرقي في يونيو/حزيران 2024، ظلت الجهات الأمنية تمنع مرور الشاحنات الثقيلة والمحملة بالبضائع بسبب الزحام والحاجة لمزيد من الوقت للتفتيش، غير أن الأشهر الأخيرة شهدت استثناءات محدودة سمحت بمرور بعض الشاحنات مقابل دفع مبالغ مالية للنقاط الأمنية التابعة للطرفين، ما أثار انتقادات واسعة.


اليمن الآن
منذ 29 دقائق
- اليمن الآن
الشرعية ومأزقها الاقتصادي.. هل يكون (العلاج بالكيّ) آخر الحلول؟!
أخبار وتقارير تقرير (الأول) القسم الاقتصادي: ضياع موارد النفط وتماسك مدهش تعود جذور الأزمة، بحسب ردمان، إلى العام 2022، حينما تلقت الشرعية ضربة موجعة بفعل هجمات الحوثيين على موانئ تصدير النفط، ما أدى إلى حرمان الحكومة من أهم مصادر تمويلها. المفارقة، كما يراها الكاتب، أن التدهور لم يحدث بشكل فوري، بل أثار تعجب المراقبين من قدرة الحكومة على البقاء رغم الانهيار التدريجي. الثقة الدولية بالبنك المركزي اليمني ووزارة المالية ساهمت في استعادة أرصدة مجمدة منذ عقود، منها 600 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة تعود إلى زمن الجمهورية العربية اليمنية، تمكّنت الحكومة من استخدامها بفضل وساطة فرنسية وبريطانية. تمويل مشروط لا حرب فيه لكن هذه الموارد لم تكن كافية. فالدعم المالي السعودي والإماراتي، الذي جاء عقب مشاورات الرياض، كان طوق نجاة حاسمًا. غير أن التمويل هذه المرة لم يكن دعما عسكريا أو حربيا، بل استُهدف به دعم التعافي الاقتصادي والحوكمة، ما جعله مشروطًا بتنفيذ "روشتة إصلاحات" ظلت الحكومة تتهرب منها طيلة ثلاث سنوات. 2025: عام الانفجار الاقتصادي وصلت الأزمة ذروتها في عام 2025، حين لم يعد بالإمكان إدارة الوضع دون اتخاذ قرارات موجعة. ويؤكد ردمان أن الحكومة تقف اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: استئناف تصدير النفط، سواء بالتفاهم مع الحوثيين أو رغمًا عنهم. تنفيذ حزمة الإصلاحات المتفق عليها مع الحلفاء والداعمين. ويرى الكاتب أن المسار الأمثل هو الجمع بين الخيارين، لكن الإصلاحات باتت الأكثر إلحاحًا كونها تضمن الاستدامة المالية وتعزز الحوكمة. فجوة استراتيجية مع الحوثي الأخطر، وفق ردمان، أن الأزمة الاقتصادية لا تهدد فقط الحاضنة الشعبية في المناطق المحررة، بل عمّقت الفجوة الاستراتيجية مع جماعة الحوثي. فبالرغم من العقوبات المفروضة على الجماعة وتدمير ميناء الحديدة، فشلت الشرعية في خلق الشروط الذاتية لاستثمار هذه الفرص الاقتصادية. العلاج بالكيّ: خمس إصلاحات حاسمة يكشف المقال عن خطة إصلاحية من خمس نقاط وافق عليها مجلس القيادة الرئاسي، وينتظر تنفيذها: إقرار موازنة عامة للحكومة. تحرير سعر الريال الجمركي، مع استمرار دعم المواد الأساسية. رفع تعرفة الكهرباء على القطاع التجاري والحكومي، وتطبيق نظام الشرائح على المواطنين. إلزام كافة الهيئات والسلطات المحلية بالتوريد إلى حساب الحكومة في البنك المركزي. تشكيل لجنة تغطية الاستيراد، مع تحديد أعضائها بانتظار إصدار القرار. يؤكد ردمان أن هذه الإصلاحات ليست تعجيزية، بل تصب في صالح الدولة والمواطن والمجتمع الدولي، بينما الطرف الوحيد المستفيد من تعطيلها هو الحوثي وبعض التجار الطفيليين المتواطئين. مفترق طرق مصيري في خاتمة مقاله، يضع ردمان الحكومة أمام مسؤولية تاريخية: إما المبادرة إلى "علاج نفسها" عبر تنفيذ الإصلاحات، أو الاستمرار في التآكل حتى تصل إلى مرحلة الانهيار الكامل. ويوجه الكاتب دعوة للنخب السياسية والمجتمع المدني وقادة الرأي لتجاوز الشعبوية، وتحويل الإصلاحات إلى برنامج ضغط مجتمعي واسع، لإنقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة والاقتصاد الوطني. المحرر الاقتصادي لموقع (الأول) الرسالة واضحة من المقال: تأجيل الإصلاحات لم يعد خيارًا.. الشرعية تواجه إما الإنقاذ الجاد أو السقوط المؤكد.


اليمن الآن
منذ 29 دقائق
- اليمن الآن
حينما يختلط الثأر والإنتقام بالطاغوت والمقدس
لاريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة ومجتمعنا العربي الإسلامية تحديداً، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورا طاغيا وعنيفا في حياتنا الراهنة وهذا ما نلاحظه كل يوم من احداث فضيعة ، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام. الخ . وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف أخطرها على الاطلاق، ذلك لان (الثأر الحر) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما كانت صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) الى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي برمته، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا هو ما نراه كل يوم في اليمن الذي عجزت نخبه السياسية عن تأسيس دولته العادلة – اقصد الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة هي البيت السياسي المشترك للموطنين القاطنين في مكان وزمان متعينيين بينما السياسية هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السطلة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل . الخ. فاذا لم تأسس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حق متساوي لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها. وبسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة بوصفها مؤسسة المؤسسات السياسية ظلت المؤسسة الثأر التقليدية القبلية العشائرية الجاهلية حية وفاعلة في مختلف الاقطار العربية فالسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية (الاحوال المناخية التي منها: الرياح والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والإعصار والزلازل والبراكين والأوبئة حسب بول فاليري. وما حدث في سوريا وفلسطين واليمن والعراق وليبيا وفي غيرها من البلدان العربية يعد أسوأ بما لايقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية فتكا. فما أخطر السياسية وما أفدح شرورها إذ تركت تمشي على حل شعرها؟! ربما كان الفرق بين الكوارث الطبيعية والشرور الاجتماعية يكمن في أن الطبيعية لا تفرق بين الكائنات الحية وغير الحية التي تفتك بها بينما الشرور الاجتماعية والسياسية تستهدف ضحاياها بمبررات ايديولوجية عبثية لم ينزل الله بها من سلطان. الطبيعية تعيد الإنسان إلى حالته البيولوجية الأولى بوصفه كائنا أرضيا بين الكائنات الأخرى التي تقع على درجة متساوية من الظلم والضرر لأنها ببساطة بلا قلب ولا عيون! بينما السياسة والايديولوجيا تختار ضحاياها بقسوة لا مثيل لها بل إن السياسة تؤثر في حياة الناس تأثيرات بعيدة المدى وفادحة النتائج ويبلغ تأثيرها الغائر الطبقات العميقة للذاتية الاجتماعية والفردية. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسية في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة والحالة السورية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية. إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع الى تصاعد كارثي لا سيما في مجتمعنا المساواتي وفِي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة، فنحن جميعا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى، فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد إناس ينساقون اليه بعفوية وحماسة لاشعورية، ويوجد أخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكن هولاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبا الذين يتيحون له الفرصة والشيوع والهيمنة. ويشبه رينيه جيرار في كتابه المهم (العنف المقدس) يشبه العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن (باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقي عليه بهدف إطفائه). 'بدأت المواجهات في السويداء منذ عشرة أيام بعد سلب تاجر درزي سيارة خضار وهو عائد إلى السويداء على طريق دمشق العام، ثم تبادل بين الطرفين: اختطاف أبناء طائفة من الأحيمر وخطف عشرة أفراد من قبل فصائل درزية كردّ على ذلك إذ تصاعد العنف المتبادل بشكل سريع في بين الدروز والعشائر البدوية مع تدخل الجيش والأمن واسرائيل ذاتها التي مهدت السبيل لبلوغ سوريا هذا الحال والمآل: عمليات انتقامية وتقابلية على الهويات الطائفية والعشائرية والقبلية والعنصرية، حيث فتحت النار جماعات مسلحة من الطرفين، ما أدى إلى سقوط قتلى وإصابات عديدة، إضافة لتضرر المدنيين. الاستخدام المكثف للأسلحة المتوسطة والثقيلة ساهم في ارتفاع عدد الضحايا.. مشاهد العنف الذي يجري بين الأطراف المتناحرة في سوريا اليوم شديدة القسوة والفظاعة فليس هناك ما هو اخطر ولا افظع من العنف المقدس، العدوان متأصل في طبيعة الانسان ولا مهرب من ذلك، لكن يظل العنف معقول وممكن في حدود الطبيعة البشرية منذ أن قام قابيل بقتل اخوه هابيل ، وهذا هو معنى' من يفسد في الارض ويسفك الدماء' كما جاء في التنزيل الكريم. والعنف في هذه الحالة يكتسب صيغة بشرية بوصفه عنفا بين الاخوة الاعداء, بين أشخاص متخاصمين , بين ذات وأخر , لكن الخطر يكمن حينما يتحول إلى عنف مقدس بين ملائكة وشياطين ! كما هو حال حروب الطوائف المشتعلة اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها, هنا يخرج العنف عن حدود معقوليته ويتحول إلى حالة ما قبل متوحشة, حيث ينشب المحاربين مخالبهم بعضهم ببعض كاسراطين البحر حتى الموت ّّ!. ومن هنا يمكن لنا فهم حجم القسوة المهول الذي يتميز به هذا النمط من انماط العنف المقدس, انه لا يكتفي فقط بهزيمة الخصوم , لأنه غير موجودين هنا , بل هو سعي محموم لتخليص العالم من (شر مستطير) هو الشيطان الرجيم عدو (الله سبحانه وتعالى برحمته عما يصفون) ومن يعتقد انه تمكن من الامساك بالشيطان , ماذا تريده أن يفعل به؟ مع الشياطين كل شيء مباح ولا حرمات يمكنها ايقاف الغل المخزون من الاندياح. لكن المسألة تكمن في عدوى العنف وانتشاره مثل النار بالهشيم. إذ إن العنف الثأري المتبادل بين طائفتين كل منها تعتقد انها ملاك والأخر شيطان , يشبه اللهب الذي يلتهم كل شيء يلقي عليها بغرض اطفاءه . انه غل مركب من الثأر الجاهلي والتعصب الطائفي. وفي سبيل فهم ما يحدث في سوريا اليوم لابد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمر قابلاً للوجود والحضور والازدهار والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل: لماذا يفعلون ما يفعلونه؟ ويعتقدون ما يعتقدونه؟ ويقولون ما يقولونه؟ وذلك في سياق ممارستهم اليومية الحي المباشرة الفورية؟! وذلك لان العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية ، فما هو الثأر ؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة ؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي ((لويس مير)) إن للثار معاني متعددة أهمها: 1. العداء الناجم عن اعتداء. 2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه. 3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها ،لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه. 4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل هذا معناه إن الثأر مرتبط ارتباطا حميما بالبينة الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل، بل يتصرف ويعمل وينظر أليه على إنه عضواً أو جزءاً من جماعة معينة سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية الخ. فالقاتل حين يقتل شخصا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية فإن عمله لا يعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل ، بل جريمة موجهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي أليها القتيل ، فلا ينصب الأهتمام أكثر ما يكون على المذنب وإنما على الضحايا الذين لم يثأر لهم. وبالنتيجة فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمر ذلك لإنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لانفسهم واجبا للثأر منه. إذ أن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه وكي يوقف الثأر ، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر. إن الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وايقافه تبقى وقتية وعابرة، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جدوره وستمضي سنين طويلة قبل أن يكشف الناس إنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين؛ (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب) كما يقول رينيه جيرار . وهذا المبدأ أما أن يكون عادلاً وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم وأما أن لا توجد أي عدالة عامة وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي : الثأر الذي لا ثأر له ، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفل بآخذ القصاص العادل من المجرم فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام ، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف أسُتبعد الى الأبد . والثأر اللا متناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقاما وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة ، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله، ولهذا فان الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدا. هكذا إذا كان الثأر عملية لانهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواءه، ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية أي الدولة والقانون، المتعارف عليها جميع المواطنيين الذين يخضعون للسلطتها بقناعتهم. أن النظام القضائي العادل، لا يلغي الثأر بل يعقلنه، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى أخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب. فالسلطة القضائية التي وكلت من الجميع بشكل كامل والتي ليست شيئا أخر سوى ذاتها ولاتعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارا مطلقا، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف. فهل عرفنا ألان البؤرة التي تتطّلع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية و منها العنف الثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. الم يحن الاوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء وبلا قلب ولا عيون.