
الجماعة الكارهة وإسقاط الدولة «2»
فليست سياسات الجماعة الكارهة (الإخوان المسلمين ) التي مزقت التماسك الاجتماعي المصري خلال سنة حكمهم وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الخطاب الإقصائي والممارسات التي سعت إلى خلق مجتمع بديل داخل المجتمع، يقوم على «الولاء للجماعة» لا للوطن. فمنذ تأسيس الجماعة عام 1928 على يد مجرمها الأول حسن البنا، قامت عقيدتها على مفهوم «الصفوة المؤمنة» التي تعتبر نفسها في موقع الطهارة مقابل فساد المجتمع الجاهلي. هذه الرؤية قسمت المجتمع المصري، نظريًا وعمليًا، إلى معسكرين: معسكر «الإسلام الحق» المتمثل في الجماعة الكارهة (الإخوان)، ومعسكر «الضلال والانحراف» المتمثل في بقية الشعب، بما في ذلك المسلمون أنفسهم الذين لا يتبعون فكر الجماعة. وقد عزز هذا الانقسام توجهات فكرية خطيرة كالتكفير، والعنف ضد الدولة، وتفضيل «الأخ في الجماعة» على «الأخ في الوطن». وعبر عقود، مارست الجماعة ازدواجية في الخطاب، حيث خاطبت المجتمع بلغة إصلاحية سلمية في العلن، بينما احتفظت داخل تنظيمها بلغة التحريض ضد الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني. ففي كتابات مجرمها الثاني سيد قطب، أحد أبرز منظري الجماعة، نجد وصف المجتمع المصري بأنه «جاهلي»، مما برر لاحقًا لدى أجيال من شباب الجماعة وأجنحتها المسلحة ممارسة العنف تحت شعار «تطهير المجتمع» أو «إقامة الدولة الإسلامية». والأخطر من ذلك أن الجماعة لم تكتف بإنتاج خطاب كراهية تجاه غير المسلمين، بل توسعت في تكفير المسلمين أنفسهم إذا خالفوهم فكريًا أو سياسيًا، حتى باتت الدولة الحديثة نفسها – بدستورها وقوانينها ومؤسساتها – موضع عداء معلن. ومن هنا، لم تكن محاولات ضرب النسيج الاجتماعي خلال سنة حكمهم طارئة، بل كان تطبيقًا حيويًا لمشروع فكري أُعد منذ عقود، واعتُبر صعودهم السياسي فرصة لتحقيقه...
ومن أخطر ما رسخته الجماعة الكارهة (جماعة الإخوان المسلمين) عبر تاريخها هو ما يمكن تسميته «العنصرية الفكرية المقنّعة»، والتي تقوم على رؤية متعالية لباقي مكونات المجتمع، أساسها أن أعضاء الجماعة هم «الفرقة الناجية» و»النموذج الأخلاقي» الوحيد القادر على قيادة الأمة. هذه النخبوية ليست دينية فحسب، بل اجتماعية أيضًا، إذ جعلت من التنظيم هرمًا مغلقًا، لا يقبل الانفتاح على الآخر ولا الشراكة الحقيقية. فكل من لا ينتمي إلى الجماعة هو مشكوك في دينه.
وقد تكرست هذه العنصرية في أدبيات التنظيم و«قسم البيعة» الذي يضع الولاء للجماعة فوق أي ولاء آخر، حتى إن بعض قادة الجماعة – في مراحل تاريخية مختلفة – وصفوا الأحزاب المدنية والسياسية بأنها أدوات استعمارية أو معاول لهدم الإسلام. هذا النوع من التصنيف العنيف أفسد الحياة السياسية، وأفرغها من مضمونها التعددي، وأسهم في شيطنة كل فكر مختلف، ما أدى إلى تفشي الخوف، والتوتر، وانعدام الثقة المتبادلة بين طوائف المجتمع.
بل إن ممارسات الجماعة خلال سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات – من محاولات اغتيال، وتشكيل تنظيمات مسلحة، والتحالف مع أنظمة خارجية – كانت كلها تعبّر عن استعداد بنيوي للانقلاب على المجتمع باسم الدين، مما جعلها دائمًا عبئًا على التماسك الاجتماعي، لا دعامة له. ..فالإخوان لم يكونوا يومًا فصيلًا «مصلحًا» في جسد الأمة، بل جرثومة دائمة التمرد على الدولة والهوية الوطنية الجامعة..ومثال لذلك التاريخ الأسود للجماعة الكارهة كان عام حكمها مصر الذي مثل تقويضا للتماسك الاجتماعي وتفكيك النسيج الوطني ، وهو مانستعرضه في الحلقة الثانية من سلسلة مقالات (دعوة للتذكر.....).
فلم يكن العام الذي حكم فيه الجماعة الكارهة مصر (يونيو 2012 – يونيو 2013) مجرد تجربة سياسية عابرة، بل كان اختبارًا صعبًا ومفصليًا لهوية الدولة المصرية، وكاشفًا لمشروع الإسلام السياسي في صورته العملية. فخلال هذا العام، تعرّض النسيج الاجتماعي المصري لهزّات عنيفة، نتيجة سياسات وممارسات هذه الجماعة الكارهة التي أرادت اختطاف الدولة، وفرض تصورها الأيديولوجي على مجتمع متنوع ومتعدد بحكم تاريخه وطبيعته...
فمارست سياسات رجعية ومتخلفة وعنصرية بحكم تاريخ نشأتها..وقد أدى كل ما سبق إلى انهيار خطير في الثقة الاجتماعية بين مكونات الشعب المصري. فلم يعد المواطن يشعر بالأمان أو الانتماء لدولة يشعر بأنها اختُطفت لمصلحة جماعة لا تعبّر عنه...لذلك ازداد الشعور بالعزلة لدى الأقليات والطوائف والمثقفين والنساء، وانتشرت مشاعر القلق والخوف والرفض المتبادل بين المصريين، وهي مشاعر استمرت آثارها حتى بعد سقوط حكم هذه الجماعة الكارهة (الإخوان).
فقد مارست الجماعة تمييزًا على أساس ديني وطائفي، وعمّقت النزعات الانتمائية للجماعة على حساب الهوية الوطنية الجامعة. وأصبح الولاء «للجماعة» مقدمًا على الولاء «للوطن»، وهي معادلة خطيرة تمثل نقيضًا لفكرة الدولة الوطنية. وبهذا المسلك، جرى تآكل مفهوم «المواطنة» ذاته، وبرزت الهويات الفرعية المغلقة التي لا تحتمل التعدد أو التنوع.
إن ما تركته هذه الجماعة الكارهة من آثار على النسيج الاجتماعي لم يندمل سريعًا. فقد رسّخوا مشهدًا من الكراهية والانقسام والاستقطاب، وأعادوا تشكيل خريطة الثقة بين الأفراد والمجموعات. وحتى بعد رحيلهم، ظلت آثار هذا الانقسام كامنة في الخطاب السياسي والإعلامي، وأصبح من الصعب استعادة اللحمة الوطنية كما كانت...(وللحديث بقية عن الآثار السلبية لعام حكم هذه الجماعة ).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوابة ماسبيرو
منذ 2 أيام
- بوابة ماسبيرو
يوم المقاومة المصريـة ضـد فقهاء البَدَاوة ودُعاة الرجعية
جماعة الإخوان حاولت طمس الهوية المصرية واستهانت بالرموز الوطنية خرج المصريون فى يوم 30يونيو، منذ اثنتى عشرة عاماً، مدافعين عن الهوية الوطنية والحضارة العريقة والثقافة الحديثة والمدنية، بعد أن قضوا عاماً رأوا فيه طبيعة حكم الإخوان على حقيقته ، رأوا اللِّحى بكافة أحجامها فى "البرلمان " ورأوا " التفاهة " فى العضو الذى وقف ليؤذن للصلاة، من دون احترام للإسلام أو الوعى بالفارق بين البرلمان والمسجد، أو الوعى بالطريقة الصحيحة للخروج من جلسة البرلمان ـ الدنيوى ـ وتهيئة الناس لدخول بيت الله والوقوف بين يدى الخالق عز وجل، أو تقدير لمفهوم "الوطنية" وخلطها بالثأر التاريخى من رجال ثورة 23يوليو 1952، التى حاربت "الإخوان" وأودعت قادتها السجون لحماية المجتمع من شرور قادتهاوأفكارهم الحاقدة على المجتمع .. قلنا بدل المرة ـ مائة مرة ـ إن "جماعة الإخوان" هى جماعة سياسية، اختارت "الحُثالة الإجتماعية" لتكون هى "الجيش الجاهز" للمعارك التى تخوضها قيادة الجماعة لحسابها أو لحساب الغير، واشترطت فى هذه الحُثالة مجموعة شروط منها، الخضوع التام وضعف القدرة على التفكير النقدى، والفقر الثقافى والإجتماعى والإقتصادى، ومن يراجع صورة "الجماعة النواة" التى شكّلها "حسن البنا" فى مدينة الإسماعيلية، سوف يجد قولنا صحيحاً مائة بالمائة، فالمدينة كانت تضم العمال الفقراء، وتضم الأجانب الأغنياء، والجماعة جاءت فى توقيت دقيق وحسّاس، كانت فيه قوة القهر التى تقهر المصريين المسلمين مضاعفة، فهم يعملون فى الأعمال الخدمية فى معسكرات الجيش البريطانى، يعملون فى مهنة وضيعة كانت تسمى "الرابش" وهى بالإنجليزية تعنى "القمامة" وهؤلاء الذين يعملون فى "الرابش" ـ يقومون بنقل قمامة الجيش الإنجليزى خارج "الكامب" أو المعسكر ـ هم المشتاقون للعزة والكرامة وهم الجاهزون للقتال فى سبيل العقيدة، التى فهموا أنها تقوم على "الجهاد" فى سبيل نشر الدعوة إلى الله وكتبه ورسله، وكان الأغنياء منهم يعملون فى تجارة الغلال، والبقالة، أو استيراد الجبن والسمن من القرى وبيعه فى المدن، أو تجارة الأدوات المنزلية "الخردوات" أو يعملون فى الأعمال الخدمية فى البنوك والهيئات الحكومية، ومن هذه الشريحة تشكّلت "النواة الأولى" لجماعة الإخوان، وكان "حسن البنا" نفسه يحمل ذات الوعى الذى تحمله هذه الشريحة، فهو من أسرة متوسطة الحال فى "المحمودية" بمحافظة البحيرة، ودرس فى "دار العلوم" دراسة سمحت له بالعمل فى مدارس وزارة المعارف، والتحق بطريقة صوفية تسمى "الطريقة الحصافية"، وكان الهدف المسيطر على عقول شريحة المسلمين من أبناء المدن والقرى هو "الجامعة الإسلامية" وهى فكرة لها ميراث فى القلوب، فالخلافة التى كانت فى "بغداد" ومن بعدها أصبحت فى الأستانة "تركيا" كانت هى الجامعة التى تجمع المسلمين وتشعرهم بالانتماء إلى "كيان قوى"، وبعد أن أسقط "كمال الدين أتاتورك" هذه "الخلافة الإسلامية" واقتلع الأمة التركية من سياق "الجامعة الإسلامية" شعر المسلمون بالهوان والذعر، وحزنوا لضياع هذه "الخلافة الجامعة"، واستغل "السلفيون" هذه اللحظة ونفخوا فى نار الخوف والذعر الذى أصاب المسلمين، وصوّروا لهم أن الحل فى "الجامعة"، وإن لم تكن الأوضاع قادرة على خلق هذه الجامعة، فلتكن "الجماعة" هى الحل، وهى "اللبنة الأولى" لتأسيس الجامعة، وفى الوقت ذاته كانت الطبقة الغنية ـ المصرية ـ مندمجة فى أوروبا المتحضرة، الاستعمارية، وهذا الاندماج السلوكى، جعل الأغنياء يتعالون على اللغة العربية "كانوا يسمونها لغة الخَدَم" ويتخاطبون في ما بينهم بالفرنسية والإنجليزية وغيرها من اللغات الأوربية، وكانوا يتصارعون على السلطة ويقيمون الأحزاب والصحف ويوزعون "الصدقات" فى الأعياد والمواسم على "الفلاحين" الذين يعملون فى الأراضى التى تملَّكوها وراثةً عن آبائهم وأجدادهم فى القرى والعزب، وهذه البيئة جعلت "الجماعة" مطلوبة من كل الأطراف التى تدير اللعبة السياسية فى ظل "دستور 1923" والنظام الذى أطلق عليه ـ مجازاً ـ الملكى الدستورى . ولأن حلم "الجامعة الإسلامية" داعب جفون "الملك فؤاد" فقد حاول البحث عن مبرر دينى أصولى يسمح له بأن يكون "خليفة" بدل الخليفة العثمانى الذى أسقطه الوطنيون الأتراك، واستدعى الملك شيوخه المقربين وطلب منهم الدعوة له فى الأوساط الشعبية والأزهرية، لكن الشيخ على عبد الرازق، القاضى المسلم الليبرالى المنتمى لعائلة "آل عبد الرازق" التى تهيمن على "حزب الأحرار الدستوريين"، وتملك سبعة آلاف فدان فى الصعيد الأوسط "محافظة المنيا ـ بنى مزار" تصدّى للملك الديكتاتور، الباحث عن سلطات مطلقة لا ينازعه فيها "الشعب" أو "حزب الوفد" وأصدر الشيخ الثائر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وكشف فيه أن الإسلام برىء من "الخليفة والخلافة"، وأن هذا "الخليفة" ليس من أصول الإسلام، بل هو صورة من صور الحكم ابتدعها الناس بعد وفاة الرسول الأعظم "محمد صلى الله عليه وسلم"، وبالتالى فإن المسلمين فى القرن العشرين غير ملزمين بالخضوع للخليفة، بل عليهم البحث عن صورة من صور الحكم تحقق لهم الراحة والسعادة ولا تخرج عن مقاصد الشريعة الإسلامية التى من أهمها حفظ العقل والنفس والمال. توالت الأحداث، ومات "الملك فؤاد" وأكمل "الملك فاروق" السن التى تجعل منه الملك الكامل الأهلية القادر على إدارة شئون المملكة المصرية من دون وصاية من أحد، وفكّر "على ماهر" حليف والده فى خلق ظهير شعبى يسانده فى مواجهة "حزب الوفد"، ولم يجد سوى "جماعة البنا" وكذلك فعل "إسماعيل صدقى"، قرّب "البنا" واستخدمه للهدف ذاته، وهو "منح الملك السلطة الدينية" التى لم يقرها "دستور 1923" وبالتالى كان من الطبيعى أن يهتف أعضاء حزب "الوفد" الشعبى، صاحب التوجه الليبرالى "الشعب مع النحاس"، فيكون هتاف "الإخوان" هو "الله مع الملك"..! وفى مقابل تقديم هذه الخدمات للقصر الملكى، امتلك "حسن البنا" الجريدة التى تحمل شعار الجماعة "سيفان متقاطعان يحتويان المصحف"، وحوله كلمة "وأعدّوا" وهى مجتزأة من قوله عز وجلّ: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة .."، وفى هذه الجريدة التى يمولها أعداء "الشعب" كتب "المرشد العام" لجماعة الإخوان مقالة طالب فيها بفرض "الجزية" على الأقباط أو "النصارىَ" حسب القاموس الإخوانى، فى الوقت الذى كانت فيه "الوحدة الوطنية" بين المسلمين والأقباط مزدهرة، ولها فى حزب الوفد الشعبى النموذج الناصع، فكان "مصطفى النحاس" هو زعيم الوفد، وكان القبطى "مكرم عبيد" هو سكرتير الوفد و"المجاهد الكبير" وكان شعار "الهلال مع الصليب" مكسباً كبيراً حققه الوطنيون المصريون، بعد أن انتصروا على مؤامرة "كرومر" وجماعات "التبشير" البروتستانتى، التى جاءت فى حماية الاستعمار البريطانى قاصدةً القضاء على الكنيسة القبطية المصرية وضم الأقباط إلى الكنيسة الإنجيلية، وكانت حادثة مقتل "بطرس غالى" ـ رئيس الحكومة الموالى للإحتلال ورئيس محكمة دنشواى 1906 التى أعدمت الفلاحين الذين تصدّوا لجيش بريطانيا العظمى ـ هى الذريعة التى تذرّع بها "كرومر" لإثارة العداوة الدينية بين الأقباط والمسلمين، معتمداً على بعض العناصر الموالية للاحتلال من أصحاب الصحف التى تتلقى التمويل من الجيش البريطانى، ولكن "ويصا واصف" وفريق من كبار الأقباط أفسدوا خطة الاحتلال، وتوحد المصريون وثاروا فى "مارس 1919" ورفعوا شعارهم النبيل "الهلال مع الصليب"، واتخذوا الهلال والصليب المتعانقين علماً للثورة. ثورة يوليو الوطنية كانت ثورة الجيش فى 23 يوليو 1952 تعبيراً عن لحظة وطنية جامعة، وهذا نقرأه فى أهداف الثورة التى أعلنتها وطرحتها على "الجماهير" وكانت القوة المسلحة هى الأداة التى تم بها "التغيير الثورى" الذى نقل مصر من "النظام الملكى" إلى "النظام الجمهورى"، وخلق مجتمع "الطبقة المتوسطة" التى تقود المجتمع بالتحالف مع "العمال والفلاحين" بعد أن كانت ـ مصر ـ تعيش حالة من التناقض الكبير بين "الفلاحين" و"الإقطاعيين" ملّاك الأراضى، لدرجة جعلت بمسئولين كبار فى الحكومة البريطانية "التى تحتل مصر" تحذر "الملك فاروق" من هذا الوضع الذى ينذر بثورة عارمة تقتلع "الملكيّة"؛ وتأتى بنظام جديد يحقق العدالة الإجتماعية، ولكن "الملك فاروق" كان يدرك اقتراب سقوط نظامه، فقام بتحويل الأموال الضخمة إلى بنوك أوروبية، وكثر فى حديثه عبارات تدل على أنه يفكر فى مرحلة ما بعد الخروج من مصر، وقد كان خروجه على أيدى "الجيش المصرى" الوطنى، الذى تحول إلى طليعة ثورية أنجزت البرنامج الوطنى الذى ناضل الشعب من أجله منذ "الثورة العرابية" و"ثورة 1919"، ولكن التناقض بين "ثورة يوليو" و"جماعة الإخوان" تفجّر منذ السنوات الأولى، فالإخوان ـ جماعة الحُثالة الإجتماعية ـ تعيش على فتات الموائد الكبرى، تقودها قيادة ميّالة للإحتلال البريطانى والقصر الملكى والجناح اليمينى من طبقة الإقطاعيين، وهذا ما جعلها تسعى لسرقة "ثورة يوليو" والتنسيق مع الإنجليز أثناء مفاوضات الجلاء، وقدم "الإخوان" أنفسهم للمفاوض البريطانى على أنهم البديل الجاهز، وأنهم يستطيعون تصفية "عبد الناصر" ورجال الجيش مقابل صعودهم للحكم بدعم بريطانى، وفى أكتوبر 1954 حاول الإخوان اغتيال "عبد الناصر" فى المنشية بمدينة الإسكندرية، وفشلت المحاولة، وحوكم منفذوها وأُعدم "ستة" من قادة الجماعة، منهم "عبد القادر عودة" و"محمد فرغلى" وهما من قيادات الصف الأول لجماعة، وكانا موجودين فى المشهد السياسى الذى تشكّل فى حرب فلسطين وما بعدها، وكانا داعمين للواء "محمد نجيب" فى أزمة مارس 1954، وقضى "سيد قطب" و"الهضيبى" فى السجن سنوات، وتوالت المواجهات بين "ثورة يوليو" و"جماعة الإخوان" حتى كان اليوم الفارق فى تاريخ هذه الجماعة ـ الإرهابية ـ وتكشفت مؤامرة تنظيم "سيد قطب" التى استهدفت تدمير محطات الكهرباء وإغراق الدلتا وتدمير القناطر الخيرية فى العام 1965، وأُعدم " قطب" فى العام 1966، وكادت "جماعة الإخوان" أنت تموت فى مصر، رغم هروب مئات من المنتسبين إليها وتحالفهم مع دول عربية وأوروبية موالية لأمريكا وبريطانيا وإسرائيل . عودة الحُثالة كان "السادات" فى حاجة إلى ظهير شعبى يتبنَّى انحيازاته السياسية التى تميل إلى أمريكا، والارتماء فى أحضانها، والقضاء على التوجه "الناصرى"، وكانت النصيحة الأمريكية للسادات هى، إخراج " الإخوان " من السجون، وعمل الرئيس الراحل بالنصيحة، وخرجت "الحُثالة" من جديد، حثالة الوعى، والحُثالة الباحثة عن مانح، يمنحها المال وتمنحه ما يريده، من هتافات ومظاهرات وغوغائية تصورها مراكز الأبحاث الأمريكية على أنها "الشعب" والشعب برىء من هذا بالطبع، فالإخوان نجحوا فى استقطاب قطاعات من خريجى الجامعات وقطاع من فقراء المدن والقرى، وخلقوا منهم "الجيش المأجور" الذى يعيش على ريع "الجماعة" ويعتبر انتماءه لها هو "سبب وجوده"، وهنا نعود إلى كتاب "الإخوان المسلمون" للباحث الراحل ـ حسام تمّام ـ وفيه تحليل عميق لتركيبة جماعة الإخوان فى عهد مبارك وهو امتداد عهد السادات السياسى والإقتصادى: ـ زَحْفُ أبناء الريف الذين استقروا بالمدينة على "جماعة الإخوان" فى العقدين الأخيرين، كان موازياً لما جرى من تفكيك العائلات الممتدة، إضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن استضافة هؤلاء فى مؤسسات الجامعة، والتشدد فى شروط السكن بها، إضافة إلى ما شهدته المدينة من تفشِّى أنماط من الترفيه والتغريب، خلقت حالة الخوف من المدينة، جعلت هؤلاء يبحثون عن "حاضنة إجتماعية" وأخلاقية أيضاً، فى نفس الوقت، نشأت ثقافة الطاعة المُطلَقة والإذعان للمسئول التنظيمى، وانتشار ثقافة الثواب والعقاب، وانتشار تعبيرات مثل: عم الحاج، الحاج الكبير، بركتنا، شيخنا، تاج راسنا ..، وهى تعبيرات يجاورها سلوكيات جديدة مثل تقبيل الأيادى والرءوس كما جرى فى الواقعة الشهيرة التى قبَّل فيها نائب إخوانى فى البرلمان يد مرشد الجماعة، وتحولت جماعة الإخوان إلى قرية كبيرة مثل بقية القرى المصرية. وما لم يقله ـ حسام تمام ـ عن "رؤى وعقائد" جماعة الإخوان، عايشته الأجيال التى شهدت الانفجار الوهابى فى مصر، وجماعة الإخوان هى "الحاضنة الأولى" للفكر الوهابى السلفى الإرهابى الدموى، وتاريخها معروف ومسجل، لكن فى سبعينيات القرن العشرين وبرعاية مباشرة من "السادات" وحليفته "أمريكا" ودول عربية أخرى، انفجر الخطاب التكفيرى فى وجه المجتمع المصرى، والهدف كان واضحاً، هو القضاء على بقايا الفكر القومى والعلمانى، وتمزيق الوحدة الوطنية وشغل المصريين بأوهام وحكايات ومعارك قديمة من نوعية "اللحية الشرعية والزى الشرعى والنقاب والحجاب وحكم الشرع فى تهنئة الأقباط بأعيادهم وحُكم الشرع فى من عرض زوجته المسلمة على طبيب مسيحى .."، ولم يكن "مبارك" ونظامه، ومن قبله "السادات" بعيداً عن هذا المشهد الذى بلغ حد اغتيال "السادات" نفسه، وتنظيم حرب عصابات فى الصعيد ضد نظام مبارك طوال سنوات التسعينيات من القرن العشرين، واكتوى المصريون بهذه الجماعات المتفرعة عن الجماعة الأم "جماعة الإخوان"، ولست فى حاجة إلى التذكير بما جرى من تباعد إجتماعى ونفسى بين "الأقباط" و"المسلمين" فى القرى والمناطق الشعبية، بسبب شيوع حالة "الكراهية الدينية" التى نشأت عن هذا الخطاب السلفى الرجعى المعادى لكل ما هو متحضر وإنسانى ووطنى. ورغم حالة الرجعية الفكرية التى أشاعتها ـ الحُثالة السلفية والإخوانية ـ استطاع جيل من المصريين الأقباط والمسلمين أن يسمو فوق هذه الحالة، وتفجّرت الأحلام والأمانى الوطنية مع وقائع الانتفاضة الشعبية فى "25 يناير" لكن هذه "الجماعة" قدمت نفسها من جديد لتكون العائق الذى يحول دون تحقيق هذه الأمانى الوطنية النابعة من حالة "الوحدة الوطنية" وركبت موجة الثورة، واستطاعت بأساليبها الملتوية أن تنسق مع كل القوى التى لا تريد الخير للشعب المصرى، وتمكنت من البرلمان وكان مندوبها "محمد مرسى" ومكتب الإرشاد يقومون بعملية انتقام تاريخى من "السادات" الذى أخرج "الجماعة" من السجون ومنحها الحركة فى الشارع بهدف القضاء على التيار المعادى للأمريكان وإسرائيل، واحتفلت ـ الجماعة الحُثالة ـ بيوم العبور "السادس من أكتوبر" واستدعت من شاركوا فى قتل السادات لتكرمهم بدون داع غير الانتقام السياسى، واستدعت الذين شاركوا فى هزيمة مصر فى "5 يونيو 1967" وكرمتهم أيضاً بهدف الانتقام من جمال عبد الناصر، العدو التاريخى للجماعة، ولكن الحس الوطنى لدى المصريين انتصر، واستطاع إسقاط حكم الجماعة التى تكره الوطن والوطنية مستندة إلى مقولة "الوطن حفنة تراب" التى قالها فيلسوف التكفير "سيد قطب" ومستندة إلى رؤية تبيح الوطن لكل عابر سبيل، وكان يوم 30 يونيو" هو اليوم الذى انتصر فيه "الوجدان المصرى" على هذه الجماعة الإرهابية واستعاد المصريون بلادهم التى ظن "الإخوان" أنهم امتلكوها بعد ثمانين عاماً من القتل والتكفير والتحالف مع القوى المعادية للشعب المصرى، وزال فقهاء البداوة وشيوخ الرجعية، وأسقطهم الشعب من ذاكرته.


بوابة ماسبيرو
منذ 2 أيام
- بوابة ماسبيرو
يوم الطواف العظيم فى مياديـن الحريـة
أسقطت الخونة وكشفت زيف الجماعة منصات الإعلام الدولية وصفت مسيرات المصريين فى الشوارع بأنها أكبر حدث شعبى فى التاريخ خرج المصريون مبكراً رداً على رسائل التخويف التى أرسلتها الجماعة وأنصارها.. وتزينت الشوارع انتظاراً لفرحة كبرى أجمل ما فى ثورة يناير وتوابعها أنها أسقطت الآلهة وأسقطت وَهْم من كانوا يتشدقون بالدين ويتاجرون به الجماعة الإرهابية لم تدرك رسالة المصريين وإصرارهم على الإطاحة بدعاة الرجعية تغزل فى 30 يونيو كما شئت.. قُل عنه يوم القيامة ويوم الحسم العظيم ويوم المصير، لكنك أبداً لن تتمكن من وصف يليق بعظمته وقدسيته.. وصف تخطف به الألباب.. فى هذا اليوم خرج المصريون ليس على حاكم أجهز على ثورة 25 يناير وهوى ببلد عظيم.. حاكم لم يقدّر الكرسى الذى جلس عليه ففرط فى دماء الشهداء بل وسفك دماء جديدة منذ أن حكم.. فى هذا اليوم خرج المصريون على جماعة لا تقدّر معنى الوطنية وترى المصريين أصواتاً يشترونها بالزيت والسكر.. جماعة كانت تظن أن المصريين أدمنوا عبادة الآلهة فلا يستطيعون العيش بدونها.. خرج المصريون مبكراً رداً على رسائل التخويف التى أرسلتها الجماعة وأنصارها.. وتزينت الشوارع انتظاراً لفرحة كبرى. يمكنك أن تقول وضميرك مرتاح أن «الشعب خلّص على الجماعة».. أجهز على أفكارها وتنظيمها.. أجهز على ما كانت تروّجه من أساطير وحكايات عن وطنيتها ونضالها واضطهادها، والأهم أنه عرّاها أمام العالم من أنها جماعة تُعلى من شأن الإسلام وكلمة الله فى الأرض.. الجماعة التى تؤمن بالأستاذية لا تعرف أن الشعب هو الأستاذ.. لا تؤمن أن الشعب الحر حاكم ولو كان محكوماً.. هذا اليوم أثبت للجماعة وهم ما كانوا يصدّعون به أدمغتنا بأنها الوحيدة القادرة على الحشد.. النغمة التى أجبرت أمريكا ألا ترى غيرها بديلاً لنظام مبارك فى حال سقوطه.. فى هذا اليوم جاء المصريون من كل فج عميق.. أكثر من 30 مليون مصرى فى شوارع وميادين مصر حسب وكالة رويتر التى قالت إنه أكبر خروج فى التاريخ.. وكالات عالمية قالت إنهم 17 مليون مصرى.. لكن الجماعة الحاكمة وأنصارها لم تر هذه الملايين بل خرج علينا من يقول إنهم آلاف.. الجماعة لا تريد أن ترى ما يزعجها ولم تصدق أن المصريين خرجوا طواعية.. لم تصدق أن الميادين امتلأت بمصريين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية، ولا يمكن أن تحسبهم على تيار سياسى بعينه.. مصريون ضاقوا بحكمها وممارساتها وقراراتها وتجارتها بالدين.. ضاقوا بمراوغاتها وخداعها لهم.. مصريون قرروا أن يستردوا البهجة التى أجهزوا عليها.. البهجة التى كانت تصبرهم على فقرهم ومرضهم فى ظل كل الأنظمة التى حكمت مصر.. فى هذا اليوم لم نر أصحاب اللحى سوى فى ميدان رابعة العدوية.. اللحى التى ربما نشاهدها مستقبلاً فى الأفلام والمسلسلات فقط.. فى هذا اليوم اختفت قيادات الجماعة واختفى معها من كانوا يمطروننا بوابل من التصريحات الإرهابية.. توعدوا فيها المصريين بالإبادة إذا ما قرروا الخروج ونزلوا الشوارع.. اختفى هؤلاء من الشوارع واختفوا من على الفضائيات باستثناء أعضاء ينتمون إليهم وكان حضورهم ضعيفاً.. تخلوا فيه عن الغطرسة والكبر والتهديد بالإبادة.. الشعب فى هذا اليوم «خلّص» على الجماعة.. لذلك لم يكن غريباً أن يتندر المصريون ويقولون «الإخوان جماعة أسسها حسن البنا وأغلقها محمد بديع وخيرت الشاطر». كثيرون قبل هذا اليوم كانوا يتوقعون هذا الطوفان البشرى.. كل المؤشرات كانت تؤكد على ذلك.. فالمصريون خرجوا مبكراً.. خرجوا يومى الجمعة والسبت، أى قبل 30 يونيو بيومين.. خرجوا للإطاحة بالجماعة الحاكمة.. لم يكن أمامهم سوى الرد عليها وبقوة.. لقد رأوا منها ما لا يمكن لعاقل أن يقدم عليه.. جماعة لا تسمع ولا ترى.. جماعة لا يعنيها سوى نفسها.. جماعة تقود البلد للجحيم.. جماعة تعاند شعباً بأكمله وتحاصره وتريده يدين بدينها، ويقدس مؤسسها ومرشدها.. الشعب كله فى ميادين مصر والجماعة وأنصارها فى ميدان رابعة العدوية.. رسالة لا يمكن للجماعة أن تدرك معناها ولا تصل لجوهرها ولكى يحدث ذلك هى تحتاج لمعجزة فى زمن انتهت منه المعجزات.. هذا الشعب العظيم لا يمكن لأحد أن يهزمه مهما بلغت قوته.. دول مرت عليه كسرها وأذلها حتى لو طال احتلالها.. أنظمة حكمته ولم تتمكن منه مهما طال سنوات حكمها.. إذاً لا يمكن لهذه الجماعة أن تهزم هذا الشعب مهما تحصنت بالميليشيات ومهما هددت أو حاولت إدخال الرعب فى قلوب الناس. قبل 30 يونيو بيومين وبالتحديد يوم الجمعة كانت الجماعة وأنصارها فى ميدان رابعة العدوية ينظمون مظاهرة قالوا عنها أيضاً إنها مليونية.. مظاهره عنوانها «الشرعية خط أحمر».. الشرعية التى يقصدونها هى شرعية الجماعة الحاكمة وشرعها الخاص.. فى هذه المظاهرة خرج منظموها يتوعدون الغاضبين والمتمردين بالسحل والسحق، ورغم أنهم يدّعون أنهم ينبذون العنف إلا أن خطابهم كان يقطر دماً.. ألسنتهم كانت تقطر سخافات فى حق المعارضين والإعلاميين.. ما من شخص اعتلى المنصة إلا سب وأهان كل من يفكر فى الخروج فى 30 يونيو.. فى هذا اليوم ذهبت الجماعة وأنصارها إلى الميدان.. ذهبوا فى الصباح الباكر بعد أن بنوا 50 حماماً.. ذهبوا ونصبوا الخيام وأعلنوا أنهم سيقيمون فيها حتى يأتى يوم 30 يونيو.. صرفوا النظر عن استمرار الأخوات فى الخيام خوفاً عليهن.. رفعوا أعلام مصر والسعودية وتنظيم الرايات السوداء.. ارتدوا الخوذ وحملوا الشوم والعصى لتحذير كل من تسول له نفسه الاقتراب من قصر الاتحادية.. غنوا أناشيد دينية تحث شباب التيارات الإسلامية على الجهاد.. فى خطبة الجمعة راح خطيب مسجد رابعة العدوية يصور الخروج على محمد مرسى بأنه خروج على الإسلام.. راح يتهم المعارضين بما ليس فيهم ويضرب أمثلة من وحى خياله لتأليب المصريين على المتمردين.. قال إن «واحدة منهم تطالب بفتح قنوات جنسية لتثقيف البنات، وواحد يقول إن الهرم أقدس من القدس، وأن المحجبات معاقات ذهنياً والحجاب تخلف، وأن بالقرآن آيات متناقضة».. كل ما قاله خطيب المسجد كان هدفه النيل من سمعة المتظاهرين والتعريض بهم أخلاقياً.. هدفه أن ينصرف المصريون عنهم لأنهم وبهذا الشكل يدعون إلى الانحلال ولا يلتفتون إلى الدين.. لكن خطيب المسجد فاته أن المصريين أصبحوا أكثر وعياً مما يظن الذين يحكمون.. أصبحوا يفرقون جيداً بين من يعلون كلمة الله الحق ومن يتاجرون بها.. بين من يريدون لهذا الوطن الخير وبين من يضمرون له شراً مبيناً.. بين من ينشدون الحرية وبين من يريدونها ظلاماً وخراباً.. فات الشيخ أن أجمل ما فى ثورة يناير وتوابعها أنها أسقطت الآلهة وأسقطت وهم من كانوا يتشدقون بالدين ويتاجرون به ليحصلوا على أصوات البسطاء فتتحقق مصالحهم الضيقة لا مصلحة الإسلام والمسلمين.. الذين ينبذون العنف خرجوا ليصوروا أن خروج المصريين فى هذا اليوم خروج على الإسلام.. خرجوا ليقولوا إن قتلاهم فى الجنة وقتلانا فى النار.. ببساطة شديدة جردوا الذين ينشدون الحرية من دينهم.. ببساطة وضعوهم فى خندق المشركين فلا تجوز عليهم الرحمة ولا يحق أن نطلق عليهم شهداء.. هم لوحدهم من يتحدثون باسم الله وباسمه يدخلون فئة الجنة وفئة النار.. لو كان هؤلاء يريدون إعلاء كلمة الله وعدم الإساءة للإسلام ما أقحموه أصلاً فى السياسة.. ما رفعوا شعاراته وأنزلوه من عليائه وجعلوه عُرضة لأخطاء بشرية.. لو كان خروج المصريين على الجماعة الحاكمة خروجاً على الإسلام فالذين خرجوا على أنور السادات وقتلوه خرجوا أيضاً على الإسلام.. فالرجل كان حريصا على بناء المساجد ودعم مشيخة الأزهر.. كان حريصاً على صلاة أيام الجمع التى تسبق مناسبات دينية مهمة وربما كان يؤدى صلاة الجمعة لكنه لم ينقلها على الهواء ولم ينشر صورها فى الجرائد.. كان حريصاً أيضاً على أداء العمرة والحج مثله مثل كل الحكام الذين حكموا مصر.. لو كان هذا هو مقياس الجماعة وأنصارها فثورة يناير نفسها خروج على الإسلام.. المصريون لم يتعودوا الإساءة للإسلام.. لقد جُبلوا على احترامه.. يحرصون على أداء فرائضه وتنفيذ تعاليمه دون غلو أو تشدد.. المصريون عندما يخرجون على حاكم تأكد أنهم قد وصلوا لذروة الغضب والاحتقان.. تأكد أنهم فقدوا البهجة وقرروا أن يستردوها.. تأكد أن الحال قد ضاق بهم فلا عيش ولا حياة كريمة ولا حرية ولا عدالة اجتماعية.. تأكد أنهم ضاقوا بطوابير البنزين وطوابير البوتاجاز وطوابير الحياة بالتقسيط.. لقد وعدتهم الجماعة الحاكمة بالجنة فلم يجدوا سوى النار.. وعدتهم بطائر نهضة سيقفز بهم إلى السماء السابعة وإذا بهم يجدون أنفسهم أسفل سافلين، ورغم ذلك تخيل هؤلاء أن الجماعة الحاكمة ربما تتخذ قرارات تنجّى هذا البلد من الجحيم.. قرارات توقف شلال الدم الذى بدأ فى الانفجار بالمحافظات، وكان من المتوقع ألا تتوقف وحدث فعلاً وأمطرتنا الجماعة الفاشية بعمليات إرهابية لا حصر لها.. تخيلوا أنه ربما تتنازل الجماعة عن عنادها وتستغنى عن خدمات النائب العام طلعت عبدالله فإذا بها تتمسك به، ليس هذا فحسب وإنما راحت تعرّض بالنائب العام السابق عبدالمجيد محمود وتعرّض بالقضاة وتتهم أحدهم بالتزوير.. تخيلوا أنها ستقيل حكومة هشام قنديل الفاشلة وتأتى بحكومة ائتلاف وطنية فإذا بها تثنى على أداء حكومة قنديل وتثمن دور كل وزير فيها وكأنه أتى بما لم يأت به الأوائل.. تخيلوا أنها من الممكن أن تفوت الفرصة على الغاضبين والمتمردين وتدعو هي -من باب أضعف الإيمان- ليس لانتخابات رئاسية مبكرة وإنما استفتاء على استكمال محمد مرسى مدته من عدمه؛ وهو اقتراح ينجى الجماعة ويبقيها فى الصورة، وربما كان تبرئة لكل التهم التى وجهت لها.. لكن الجماعة لمن يعرفها لم ولن تتنازل وقد وصلت إلى كرسى لم تكن تحلم به يوماً ما.. ركبت الجماعة رأسها حتى لا يظن المصريون أنها ضعيفة وأن تقديمها لأى تنازل سيطمع المصريين فيها، وبدلاً من مطالبهم هذه يطالبون برحيل الجماعة.. خافوا أن يتكرر سيناريو الإطاحة بمبارك معهم، ونسوا أنهم يمشون على خطاه ويرتكبون نفس أخطائه وربما يلقون مصيراً أقسى من مصيره.. أخذه الكبر فى الأيام الأولى للثورة، واستهان بمطالب الثوار ولم يلتفت إليها فوجد ما لم يسره.. فبعد أن كانوا يطالبون بتغيير الحكومة وإلغاء نتيجة انتخابات مجلس الشعب طالبوا برأسه.. هتفوا «الشعب يريد إسقاط مبارك».. أخذ نظامه الكبر وظهر ذلك فى خطاباته فأجبروه أن يغير لهجته فخرج عليهم بخطاب عاطفى، ولولا موقعة الجمل لأكمل مبارك مدته.. ظل النظام طوال أيام الثورة يتهم الثوار بالعمالة والخيانة والتحرش فى الميدان وشرب الخمر وممارسة الرذيلة فى الخيام.. ما فعله نظام مبارك أعادته الجماعة حرفياً.. تبقى فقط النهاية التى يصر المصريون على كتابتها انتصاراً لحريتهم.. النهاية التى يسعون فيها لاسترداد الوطن من جماعة أصرت طوال فترة حكمها على اختصاره فى تنظيم.. مجرد تنظيم.. هم يعرفون أن مهر هذا الوطن غالٍ لكنهم مؤمنون بدفعه.. مؤمنون بأن أرواحهم فداء له وضمان لمستقبل «نظيف» لأبنائهم ولجيل مقبل يستحق حياة أفضل من التى عشناها.. هم يعرفون أن الجماعة الحاكمة لن تستسلم بسهولة وستدفع بأبناء غيرها -لا أبناء قياداتها- فى هذه المعركة.. لكنهم مستعدون للمواجهة والتضحية. لقد كان يوم الجمعة بروفة ليوم الأحد المقدس -30 يونيو-.. امتلأت ميادين مصر كلها بالمصريين فى مواجهة جماعة.. مجرد جماعة.. خرجوا مبكراً عن الموعد المحدد رداً على رسائل التخويف التى أرسلتها الجماعة وأنصارها طوال الأيام الماضية.. تزينت الشوارع لاستقبال المصريين انتظاراً لفرحة كبرى.. فى طريقى إلى ميدان التحرير - يوم الجمعة- وجدت إصراراً لا مثيل له على إسقاط هذه الجماعة.. فى المعادى خرج الأهالى فى مظاهرة هتفوا فيها برحيل محمد مرسى، ورفعوا لافتات مكتوب عليها «يا رئيس الجمهورية.. المعادى مش بلطجية» و«يسقط يسقط حكم المرشد».. كانوا يرددون الأغانى الوطنية ومعظمها كان من نصيب العندليب عبدالحليم حافظ.. الأغانى التى جرى تقديمها فى زمن الزعيم جمال عبدالناصر.. فى شارع البحر الأعظم نظم الأهالى مظاهرة أستعانوا فيها بالدى جى ولافتات مكتوب عليها كل كوارث الجماعة الحاكمة فى سنة.. لم يضق أصحاب السيارات بالمظاهرة بل راحوا يشجعون المتظاهرين بكلاكسات تضامناً معهم واستجابة للافتة مكتوب عليها «اللى بيكره الإخوان يضرب كلاكس».. فى ميدان التحرير كان المشهد رائعاً.. مشهد استعاد معه الميدان أجواء ثورة يناير.. منصة وحيدة أمام الجامعة الأمريكية.. أغانى وطنية وباعة جائلون يرزقون من بيع الشاى والمياه والشعارات والأعلام وصور الزعماء والرؤساء بمن فيهم الذين أساءوا لهذا الوطن.. القبطى بجوار المسلم يرفعان الصليب مع المصحف.. محجبات ومنقبات.. أسر بكاملها.. أطفال وشباب وكبار فى السن.. الحماس يضرب الميدان والحضور على قلب رجل واحد.. لا تجد واحداً يرفض مَن بجواره حتى لو كان مؤمناً بأشخاص خربوا هذا البلد وأصبحوا من الماضى.. الكل نحى رأيه فى معارضين يأكلون على كل موائد الأنظمة.. معارضين يرفعون شعارات ولا يعملون بها.. معارضين لا يسعون لشىء سوى مصالحهم ومكاسبهم الشخصية.. الكل هدفه رحيل الجماعة أولاً ثم يبدأ الحساب فيما بعد للمعارضين المزيفين والمنافقين والطبالين والزمارين العابرين للأنظمة.. الكل ارتضى بأن يكون سيناريو ما بعد رحيل هذه الجماعة أن يتولى السلطة رئيس المحكمة الدستورية -رئاسة شرفية- على أن تشكل حكومة ائتلاف وطنية تترأسها شخصية وطنية لا تنتمى لأى حزب مع تشكيل مجلس رئاسى يعبر عن كل أطياف المجتمع، ويتم خلال المرحلة الانتقالية -6 شهور- كتابة دستور جديد وبعده الإعلان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية. كان خروج المصريين فى المحافظات متجلياً.. فى المحلة خرجوا فى مظاهرات مهيبة تندد بسياسات الإخوان.. رافضين لتهديداتها وإهاناتها للقضاء والإعلاميين.. خرجوا وقد صمموا على إقصاء هذه الجماعة.. لم يثنهم عن الصمود محاولات التيارات الإسلامية إفساد مظاهراتهم بالتحرش والضرب وإطلاق الخرطوش.. المحلة تبدأ وعلينا جميعاً أن نتذكر أهاليها عندما يغضبون.. علينا ألا ننسى أن أهل المحلة أحرقوا صور مبارك وهو فى الحكم.. حدث هذا فى سنة 2008.. أهل المحلة لا يخافون.. يحملون أرواحهم على أكفهم.. نفس الحالة ستجدها فى بورسعيد.. المدينة الباسلة.. المدينة التى كسرت إرادة الجماعة الفاشية عندما قررت إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول.. لا شىء يخيف أهالى بورسعيد وقد تعودوا على مواجهة المحتلين.. جيناتهم تؤكد على أنهم الأبرع فى المقاومة.. ما جرى فى هذه المحافظة من قبل هذه الجماعة أثناء حكمها كان من الممكن أن ينال من عزيمتها وإرادتها.. مدينة جرت فيها مجزرة فى استادها لا أحد حتى هذه اللحظة يعرف مَن وراءها.. جرى معاقبتها على جريمة لم ترتكبها.. عاقبوها فقط لأن المجزرة جرت على أرضها، وقتها تم شن حملة سخيفة على البورسعيدية بهدف عزلها، وفشلت الحملة.. ثم كانت محاكمة المتهمين وحدثت فوضى راح ضحيتها أكثر من 60 شهيداً.. خرج أبناء المدينة لتوديعهم فتعاملت معهم الشرطة بقسوة مفرطة وعنف شديد زاد من غضب البورسعيدية تجاه الجماعة الحاكمة التى لم تجد ما تفعله سوى إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول فما كان منهم سوى أن دهسوه تحت أقدامهم.. بورسعيد أشعلت الدنيا ثورة وخرج الآلاف فى مظاهرات حاشدة يرفضون حكم الجماعة.. قدمت بورسعيد أول شهيد صحفى كان موجوداً فى مكان جرى تفجيره بعبوة ناسفة بدائية الصنع.. سقوط شهيد يعنى أن البورسعيدية سيصمدون حتى جلاء حكم الجماعة وهو ما حدث فعلاً. أما الإسكندرية فدائماً ما تعطى درساً للمصريين جميعاً.. دائماً ما تنتشر من بوابتها الأفكار لتعم مصر كلها.. المسيحية جاءت عبر بوابتها وانتشرت فى مصر، والإسلام أيضاً دخل مصر عن طريقها.. حتى الأفكار الوهابية دخلت لنا مصر عبرها، لكنها انتفضت منذ فترة ونفضت عنها غبار السلفية.. اغتسلت من الأفكار الوهابية، وها هى الآن تنتفض من جديد ضد الجماعة وأنصارها.. ها هى تقدم شهداء من أجل حرية وطن بأكمله.. فى الإسكندرية قُتل أمريكى لا أحد يعرف من قتله، وجرى الترويج للحادث للنيل من هذه المظاهرات.. كما حدث وجرى الترويج لواقعة تحرش بسائحة أمريكية لتشويه المظاهرات قبل أن تصل إلى ذروتها يوم 30 يونيو.. لم تمر مظاهرات الإسكندرية كما فى باقى المحافظات على خير.. وقعت اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين راح ضحيتها أكثر من 70 مصاباً وفق إحصائية لوزارة الصحة.. كما تم حرق مقر لحزب الحرية والعدالة لم يتبين بعد من قام بحرقه. اشتعلت أيضاً الغربية والمنصورة والشرقية والمنوفية بالمظاهرات ووقعت اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين أصيب فيها نحو 500 شخص.. كما انتفضت بنى سويف المعروفة بسيطرة السلفيين عليها ومسقط رأس المرشد محمد بديع.. كما انتفضت المنيا وسوهاج وأعلنت قبائل هوارة بمحافظة قنا انضمامها لمظاهرات 30 يونيو. 30 يونيو كانت نقطة تحول فى الصعيد وموقفه من الجماعة الحاكمة.. فقد كان منحازاً لها ومنحها أصواته فى انتخابات الرئاسة وقبلها الانتخابات البرلمانية.. لكنه فى هذا اليوم قرر أن يتخلص من هذا العقد غير الأبدى.. سوهاج خرجت فى هذا اليوم وأعلنت استقلالها عن مصر حتى يظهر لنا رئيس، ومثلها فعلت الأقصر التى أعلنت أنها مدينة مستقلة، ولأول مرة العرب والهوارة يتفقان على شىء وهو إسقاط الجماعة الحاكمة.. الجماعة التى عليها الآن أن تؤمن أن ملايين المصريين يكرهونها الآن.. فقدوا تعاطفهم معها واتخذوا منها عدواً أبدياً! خرج الشعب على الجماعة وأبهر العالم كله.. كان فقط أمامه خطوة واحدة ليتوج انتصاره وترحل الجماعة نهائياً.. فى هذه اللحظة ظهر الجيش المصرى العظيم ليؤدى دوره كما عهدناه.. كان يعنيه أن يوقف بحور الدم المحتملة.. فخرج ببيان قوى «شهدت الساحة المصرية والعالم أجمع أمس مظاهرات وخروج شعب مصر العظيم.. ليعبر عن رأيه وإرادته بشكل سلمى وحضارى غير مسبوق.. لقد رأى الجميع حركة الشعب المصرى.. وسمعوا صوته بأقصى درجات الاحترام.. ومن المحدد أن يتلقى الشعب رداً على حركته وعلى ندائه من كل طرف يتحمل قدراً من المسئولية فى هذه الظروف الخطيرة.. المحيطة بالوطن» وهو ما أدى إلى خروج الشعب بتصميم وإصرار وبكامل حريته.. كان البيان يمهل القوى السياسية 48 ساعة لتحمل أعباء الظرف التاريخى وأنه فى حال لم تتحقق مطالب الشعب خلال هذه المدة فإن القوات المسلحة ستعلن عن خارطة مستقبل وإجراءات تشرف على تنفيذها. كالعادة لم تستجب الجماعة لمطالب الذين خرجوا عليها.. لم يكن أمامها سوى تهديد المصريين بالإبادة.. بل وتهديد قادة الجيش كما سبق وأن فعلوها أثناء الانتخابات الرئاسية التى جرت بعد 25 يناير، وبالتحديد عند جولة الإعادة بين شفيق ومرسى، ونجحت الجماعة وبالتحديد مرشدها الفعلى خيرت الشاطر فى تهديده وخاف المسئولون وقتها على البلد وعلى المصريين من إراقة الدماء.. لكن فى 30 يونيو فشل خيرت الشاطر ووجد ما لا يسره عندما حاول إعادة تهديده مرة أخرى بإراقة دماء المصريين، نسى هذه المرة أن المصريين فى الشارع فهموا طبيعة الجماعة الفاشية.. هذه المرة لن يتعاطفوا معها وقد سقط القناع عنها.. كان الرد على خيرت الشاطر قاسياً جداً.. عاد إلى مكتب الإرشاد ليس حزيناً بل خائفاً من مصير ينتظره هو وجماعته.. عاد وقد تأكد له أن الجيش المصرى العظيم سوف ينحاز وكعادته إلى الشعب لا أحد غيره.. عاد وقد تأكد له أن الجماعة لن تعود إلى كرسى الحكم مرة أخرى.. لقد كان على رأس الجيش الفريق عبدالفتاح السيسى.. تحمل سخافات قادة الجماعة الفاشية وفوت عليهم ألاعيبهم وتصدى لتهديداتهم عندما كانوا فى الحكم.. فى مساء 2 يوليو خرج علينا الفريق عبدالفتاح السيسى ببيان أنهى فيه حكم الجماعة الفاشية.. وعرض خارطة طريق سياسية للبلاد اجتمعت عليها كل الأطياف.. الأزهر والكنيسة والتيار السلفى وحركة تمرد ومحمد البرادعى وغيرهم.. الصورة التى ظهر يتوسطها الفريق السيسى كانت تضم الجميع باستثناء الجماعة الفاشية وأنصارها من التيارات الدينية المتطرفة.. اتفق المجتمعون على تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، وأداء رئيس المحكمة الدستورية العليا اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.. كان الفريق عبدالفتاح السيسى حريصاً على أن يؤكد فى بيانه أمام الجميع على ضرورة التزام كل أطياف الشعب بالتظاهر السلمى وتجنب العنف الذى يؤدى إلى مزيد من الاحتقان وإراقة دماء الأبرياء، وأن القوات المسلحة سوف تتصدى بالتعاون مع وزارة الداخلية بكل قوة وحسم لأى خروج عن السلمية طبقاً للقانون وذلك من منطلق مسئوليتها الوطنية والتاريخية.. كان البيان تتويجاً لخروج الشعب المصرى على الجماعة الفاشية.. انتصر الشعب ولم تجنِ الجماعة سوى الحسرة والندم.


بوابة الأهرام
منذ 3 أيام
- بوابة الأهرام
الجماعة الكارهة وإسقاط الدولة «2»
أنهينا مقالنا السابق بعنوان (دعوة للتذكر ..الجماعة الكارهة وإسقاط الدولة) ، بالانقلاب الدستوري الذي أصدره مندوب الجماعة في قصر الاتحادية...وقبل استكمال ما فعلته الجماعة بعد هذا الإعلان، لابد من الرجوع قليلا لنتذكر الجذور التاريخية للجماعة الكارهة (الإخوان المسلمين ) في ضرب التماسك الاجتماعي وبث الفتنة والعنصرية والانقسام المجتمعي) وهو الحلقة الثانية من هذه السلسلة)... فليست سياسات الجماعة الكارهة (الإخوان المسلمين ) التي مزقت التماسك الاجتماعي المصري خلال سنة حكمهم وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الخطاب الإقصائي والممارسات التي سعت إلى خلق مجتمع بديل داخل المجتمع، يقوم على «الولاء للجماعة» لا للوطن. فمنذ تأسيس الجماعة عام 1928 على يد مجرمها الأول حسن البنا، قامت عقيدتها على مفهوم «الصفوة المؤمنة» التي تعتبر نفسها في موقع الطهارة مقابل فساد المجتمع الجاهلي. هذه الرؤية قسمت المجتمع المصري، نظريًا وعمليًا، إلى معسكرين: معسكر «الإسلام الحق» المتمثل في الجماعة الكارهة (الإخوان)، ومعسكر «الضلال والانحراف» المتمثل في بقية الشعب، بما في ذلك المسلمون أنفسهم الذين لا يتبعون فكر الجماعة. وقد عزز هذا الانقسام توجهات فكرية خطيرة كالتكفير، والعنف ضد الدولة، وتفضيل «الأخ في الجماعة» على «الأخ في الوطن». وعبر عقود، مارست الجماعة ازدواجية في الخطاب، حيث خاطبت المجتمع بلغة إصلاحية سلمية في العلن، بينما احتفظت داخل تنظيمها بلغة التحريض ضد الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني. ففي كتابات مجرمها الثاني سيد قطب، أحد أبرز منظري الجماعة، نجد وصف المجتمع المصري بأنه «جاهلي»، مما برر لاحقًا لدى أجيال من شباب الجماعة وأجنحتها المسلحة ممارسة العنف تحت شعار «تطهير المجتمع» أو «إقامة الدولة الإسلامية». والأخطر من ذلك أن الجماعة لم تكتف بإنتاج خطاب كراهية تجاه غير المسلمين، بل توسعت في تكفير المسلمين أنفسهم إذا خالفوهم فكريًا أو سياسيًا، حتى باتت الدولة الحديثة نفسها – بدستورها وقوانينها ومؤسساتها – موضع عداء معلن. ومن هنا، لم تكن محاولات ضرب النسيج الاجتماعي خلال سنة حكمهم طارئة، بل كان تطبيقًا حيويًا لمشروع فكري أُعد منذ عقود، واعتُبر صعودهم السياسي فرصة لتحقيقه... ومن أخطر ما رسخته الجماعة الكارهة (جماعة الإخوان المسلمين) عبر تاريخها هو ما يمكن تسميته «العنصرية الفكرية المقنّعة»، والتي تقوم على رؤية متعالية لباقي مكونات المجتمع، أساسها أن أعضاء الجماعة هم «الفرقة الناجية» و»النموذج الأخلاقي» الوحيد القادر على قيادة الأمة. هذه النخبوية ليست دينية فحسب، بل اجتماعية أيضًا، إذ جعلت من التنظيم هرمًا مغلقًا، لا يقبل الانفتاح على الآخر ولا الشراكة الحقيقية. فكل من لا ينتمي إلى الجماعة هو مشكوك في دينه. وقد تكرست هذه العنصرية في أدبيات التنظيم و«قسم البيعة» الذي يضع الولاء للجماعة فوق أي ولاء آخر، حتى إن بعض قادة الجماعة – في مراحل تاريخية مختلفة – وصفوا الأحزاب المدنية والسياسية بأنها أدوات استعمارية أو معاول لهدم الإسلام. هذا النوع من التصنيف العنيف أفسد الحياة السياسية، وأفرغها من مضمونها التعددي، وأسهم في شيطنة كل فكر مختلف، ما أدى إلى تفشي الخوف، والتوتر، وانعدام الثقة المتبادلة بين طوائف المجتمع. بل إن ممارسات الجماعة خلال سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات – من محاولات اغتيال، وتشكيل تنظيمات مسلحة، والتحالف مع أنظمة خارجية – كانت كلها تعبّر عن استعداد بنيوي للانقلاب على المجتمع باسم الدين، مما جعلها دائمًا عبئًا على التماسك الاجتماعي، لا دعامة له. ..فالإخوان لم يكونوا يومًا فصيلًا «مصلحًا» في جسد الأمة، بل جرثومة دائمة التمرد على الدولة والهوية الوطنية الجامعة..ومثال لذلك التاريخ الأسود للجماعة الكارهة كان عام حكمها مصر الذي مثل تقويضا للتماسك الاجتماعي وتفكيك النسيج الوطني ، وهو مانستعرضه في الحلقة الثانية من سلسلة مقالات (دعوة للتذكر.....). فلم يكن العام الذي حكم فيه الجماعة الكارهة مصر (يونيو 2012 – يونيو 2013) مجرد تجربة سياسية عابرة، بل كان اختبارًا صعبًا ومفصليًا لهوية الدولة المصرية، وكاشفًا لمشروع الإسلام السياسي في صورته العملية. فخلال هذا العام، تعرّض النسيج الاجتماعي المصري لهزّات عنيفة، نتيجة سياسات وممارسات هذه الجماعة الكارهة التي أرادت اختطاف الدولة، وفرض تصورها الأيديولوجي على مجتمع متنوع ومتعدد بحكم تاريخه وطبيعته... فمارست سياسات رجعية ومتخلفة وعنصرية بحكم تاريخ نشأتها..وقد أدى كل ما سبق إلى انهيار خطير في الثقة الاجتماعية بين مكونات الشعب المصري. فلم يعد المواطن يشعر بالأمان أو الانتماء لدولة يشعر بأنها اختُطفت لمصلحة جماعة لا تعبّر عنه...لذلك ازداد الشعور بالعزلة لدى الأقليات والطوائف والمثقفين والنساء، وانتشرت مشاعر القلق والخوف والرفض المتبادل بين المصريين، وهي مشاعر استمرت آثارها حتى بعد سقوط حكم هذه الجماعة الكارهة (الإخوان). فقد مارست الجماعة تمييزًا على أساس ديني وطائفي، وعمّقت النزعات الانتمائية للجماعة على حساب الهوية الوطنية الجامعة. وأصبح الولاء «للجماعة» مقدمًا على الولاء «للوطن»، وهي معادلة خطيرة تمثل نقيضًا لفكرة الدولة الوطنية. وبهذا المسلك، جرى تآكل مفهوم «المواطنة» ذاته، وبرزت الهويات الفرعية المغلقة التي لا تحتمل التعدد أو التنوع. إن ما تركته هذه الجماعة الكارهة من آثار على النسيج الاجتماعي لم يندمل سريعًا. فقد رسّخوا مشهدًا من الكراهية والانقسام والاستقطاب، وأعادوا تشكيل خريطة الثقة بين الأفراد والمجموعات. وحتى بعد رحيلهم، ظلت آثار هذا الانقسام كامنة في الخطاب السياسي والإعلامي، وأصبح من الصعب استعادة اللحمة الوطنية كما كانت...(وللحديث بقية عن الآثار السلبية لعام حكم هذه الجماعة ).