قراءة هادئة في خطاب البطريرك
حين أطلق البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي) صرخته المدوّية، إبّان صلاة الدفن التي أقيمت لضحايا التفجير الإرهابيّ في كنيسة مار الياس في الدويلعة-دمشق، تعاطف معه كُثُر من المسيحيّين في سوريا وخارجها، وذلك على الرغم من أنّ الخطاب بدا انفعاليّاً وغير متماسك في أكثر من موضع - وربّما يكون هذا طبيعيّاً بفعل الارتجال وضغط اللحظة.
من حقّ السلطة السياسيّة في سوريا، طبعاً، أن تفنّد بالنقد بعض مضمون هذا الخطاب. لكنّ ما يبدو اليوم أشدّ أهمّيّةً بما لا يقاس، ضرورةُ أن تتفكّر هذه السلطة في مغزى هذا التعاطف مع موقف البطريرك. لماذا يا ترى؟ لماذا شعر كُثُر من المسيحيّات والمسيحيّين في سوريا بأنّ البطريرك ينطق باسمهم كما لو أنّه "رئيس الملّة" إبّان الزمن العثمانيّ؟
لعلّ السبب الرئيس هو تعثّر الدولة السوريّة الجديدة الفاقع حتّى اليوم في أن تصبح دولة. من مذابح الساحل، مروراً بالاشتباكات في جرمانا وصحنايا، وصولاً إلى مجزرة كنيسة مار الياس، يسيطر شعور على كُثُر من السوريّات والسوريّين، لا المسيحيّين وحسب، بأنّ مشروع دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع في حمى القانون وتوفّر لهم الأمن والأمان، لم يتحقّق بعد بالحدّ الأدنى. يضاف إلى ذلك إحساس بأنّ السلطة السياسيّة غير محايدة تجاه الأديان، بل تحاول، كلّما سنحت لها الفرصة، أن تضيّق على بعض مساحات المجتمع، وأن تأخذه نحو شكل من أشكال الأسلَمة، خَفِر تارةً وسافِر طوراً.
حيال الخوف الذي يعتري المسيحيّين (وغيرهم) من الأسلمة وشعورهم بعدم الأمان، من الطبيعيّ أن يضعف التصاقهم بمشروع الدولة، وأن يشتدّ تماهيهم بالجماعة الدينيّة التي ينتسبون إليها، والتي يشعرون بأنّ انتماءهم إليها مهدّد. ولعلّ هذا ما يسوقهم إلى التعاطف مع قادة هذه الجماعة، واستحضار محطّات من ذاكرتهم التاريخيّة كان فيها هؤلاء القادة "رؤساء الملّة" والناطقين باسمها.
حيال تقهقر مشروع الدولة وعدم قدرته على فرض ذاته بالسرعة المطلوبة، كان من الطبيعيّ والمشروع والضروريّ أن يحمّل البطريرك الحكومة مسؤوليّة مجزرة الكنيسة، مستخدماً كلمات قاسيةً ومتهكّمة. فالقضيّة قضيّة حياة أو موت. وإذا بقيت سوريا على ما هي عليه اليوم، جمهوريّة موز، الكلمة فيها للرعاع وقطّاع الطرق، سيمعن الناس في الافتقار والهجرة، وربّما انفجرت حرب أهليّة لا تبقي ولا تذر.
بيد أنّ مشكلة خطاب البطريرك تكمن في موضعين: أوّلاً أنّه استعاد مذابح العام 1860 في دمشق من دون أيّ مبرّر واضح. ليس الموضوع أنّ الخطاب البطريركيّ ينكأ جراح التاريخ، إذ من حقّنا أن نتكلّم على التاريخ وأن نتفحّصه بالنقد. لكنّ الخطاب أعطى الانطباع أنّ البطريرك يحمّل مسؤوليّة مجزرة الكنيسة للدمشقيّين من أهل السنّة عموماً، وهذه مقاربة إشكاليّة تتجاهل مدى تضامن المسلمين مع المسيحيّين في إثر حادثة الكنيسة. يضاف إلى ذلك أنّ الحديث عن "طوشة 1860"، كما يحلو لأهل دمشق أن يسمّوها، لا يستقيم من دون الحديث عن عبد القادر الجزائريّ، الذي حمى آلاف المسيحيّين ومنع إخوته في الدين من قتلهم.
ربطُ مجزرة الكنيسة بمجازر العام 1860، سببه الخوف المتراكم في الوعي الجمعيّ لدى المسيحيّين لأسباب يجدر بالمؤرّخين وعلماء الاجتماع والسيكولوجيا أن يدرسوها. لكن من واجب الخطاب البطريركيّ أن يفكّك هذا الخوف، لا أن يزكيه.
المشكلة الثانية في كلمة البطريرك أنّها خاطبت السلطة السياسيّة بإسم المسيحيّين، لكنّها لم تقدّم خطاباً يتكلّم باسم السوريّات والسوريّين عموماً. في الآونة الأخيرة، كثيراً ما استرجع السيّد البطريرك مآثر سلفه مغبوط الذِّكر، غريغوريوس حدّاد. إنّ سيرة البطريرك الحدّاد تُظهر، بما لا يقبل الجدل، أنّ عبقريّة الديناميّة المسيحيّة تكمن في قدرتها على تقديم خطاب لا يتخطّى الخوف المسيحيّ القابع في مطاوي منظومة أهل الذمّة فحسب، بل يذهب إلى الحيّز الذي يتلاقى فيه السوريّات والسوريّون أجمعون بوصفهم أهل أرض واحدة يتشاركون في الهواء والخبز والإبداع والأحلام، ويستطيعون من هذا المنطلق أن يؤسّسوا عقداً اجتماعيّاً قوامه المشترك بينهم، أي المواطنة.
هذا البحث عن الحيّز المشترك يملي علينا أن نلقي عنّا، إلى غير رجعة، الغباوة التي تفترض، عن وعي أو عن غير وعي، أنّ دماء المسيحيّين أغلى من دماء سواهم، أو أنّهم يشكّلون في منطقتنا حالةً خاصّةً تبرّر لهم التعالي على سواهم. فالمسيحيّون لا يصبحون حالةً "خاصّة" إلّا عبر إخلاصهم لإنجيل المصلوب. وهذا الإنجيل يعلّمهم شيئاً واحداً: أن يكونوا "غَسَلة أرجُل"، وأن أيّ هويّة أخرى لهم من خارج هذه الهويّة الإنجيليّة تفضي بهم إلى اللامعنى.
في غمرة المذبحة، من الصعب أن يختطّ المرء الطريق الذي يأخذنا من الحلقة المفرغة المتّصلة بالهويّة المأزومة، إلى رحاب خطاب يشعر معه الجميع، كائناً مَن كانوا، أنّ أسقف الجماعة المسيحيّة ينطق بإسمهم كما لو كان شيخهم الصوفيّ. لكن هذا تحدّي الكبار. وإذا لم يعكف الكبار على هذه المهمّة، مَن يقوم بها؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ ساعة واحدة
- الديار
"تفجير كنيسة مار الياس في دمشق يستأصل علامات التعايش" الفرزلي لـ "الديار": خطة تستهدف تقسيم سورية ولبنان
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب ما زالت تردّدات مجزرة كنيسة مار الياس في دمشق، والتي أسفرت عن سقوط العشرات بين قتلى وجرحى، تتوالى على أكثر من مستوى داخل سورية وخارجها، وخصوصاً أن الهجوم الإرهابي على الكنيسة خلال قداس مسائي يشارك فيه أبناء دمشق المسيحيين، قد شكّل اعتداءً على كل سورية وليس فقط على المسيحيين فيها، وحمل أكثر من دلالة لجهة التوقيت الملتبس، والذي أتى فيه هذا الاعتداء الذي يُعدّ الأول من نوعه بعد سقوط نظام بشارة الأسد، في لحظة إقليمية بالغة الدقة والخطورة، وفي هذا السياق، قرأ نائب رئيس المجلس النيابي السابق إيلي الفرزلي في حيثيات هذه الجريمة، وقال لـ "الديار"، ردا على سؤال حول موقف البطريرك الأورثوذكسي يوحنا العاشر يازجي الذي حمّل الحكومة السورية مسؤولية حماية المسيحيين:" أولا إن هذا الانفجار هو مُدان بكل المعايير، ومما لا شك فيه أن هدفه الرئيسي هو تهجير المسيحيين من سورية، وهذا أمر يخدم مخطّط تفتيت سورية ونزع الصفة الحضارية التاريخية لهذه الدولة التي منذ نشوئها حتى اليوم، أي منذ عشرة آلاف عام حتى يومنا هذا، لم تكن إلا المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل الطوائف والألوان والمذاهب والمكوّنات والحضارات لتكون مركز الإشعاع الحضاري، وما حصل يؤدي حتما إلى إلغاء وقمع واستئصال كل علامات هذا التعايش". أما عن هدف التفجير الإرهابي، فيرى الرئيس الفرزلي، أنه "إذا صدقت الأقوال وما كتب حول دور يُرسم لأحمد الشرع في إدارة سورية كرمز لوحدتها، وليس كرمز للدولة المشرذمة والمقسّمة، فإن المنطق يقول ان هذا العمل يستهدف مساعي الدولة لتحقيق هدف وحدة سورية، وهذا أمر يرتّب أعباءً أكبر وأقوى على الرئيس الشرع، في إمكان استئصال الحالة التي هي بكنفه، واستلام الدولة الواحدة الموحّدة بقدراتها الشرعية في كل نواحي الحياة العامة في سورية، وإذا لم تكن على هذا الشكل، فأنا أعتقد أن سورية تتعرّض لتصبح دولة فاشلة، والحكم في سورية يتعرّض أيضًا لكي يفقد ما قيل أنه ثقة الغرب والمجتمع الدولي به لتحقيق هذه الغاية". وحول انتقاد البطريرك اليازجي لرسالة التعزية الرسمية من قبل الرئيس الشرع، يشير الرئيس الفرزلي، إلى أنه "من الطبيعي هذا الخطاب التصعيدي من قبل البطريرك الذي يتحدث بلسان المفجوعين من المجزرة الكبيرة جدا، بحيث إنه لم يسبق أن حدثت مع المسيحيين في سورية منذ مئات السنين هكذا عمليات إرهابية، إذ لا عجب أن ينطق البطريرك بمثل هذا الكلام الذي يعبّر فيه عن الألم العميق الذي يعاني منه هو ومن يمثّلهم، فالعبرة في التنفيذ وفي حماية المكوّنات السورية وفي تأكيد وحدة البلد، والعبرة في حماية مشروع حضاري لسورية". ورداً على سؤال حول مستقبل سورية، يقول الرئيس الفرزلي، إنه "من غير الواضح إلى أين يتّجه الوضع في سورية، ولكن الخطة واضحة التي تستهدفها وتستهدف لبنان، وتريد أن تجعل من المنطقة مشلّعة الأجزاء ومقسّمة ضمن حدود سايكس بيكو أو خارج حدود سايكس بيكو.


OTV
منذ 2 ساعات
- OTV
اعترافات خطيرة… هل يهدّد الإرهاب لبنان؟ (الجمهورية)
Post Views: 80 كتبت الجمهورية: حذّر مسؤول كبير عبر «الجمهورية» ممّا سمّاها «مؤشرات يخشى انّها تؤسّس لإدخال لبنان في المجهول، وما يثير القلق في هذا السياق، هو «التصعيد المزدوج» الذي يتجلّى في تزامن تحرّكات الخلايا الإرهابية في غير منطقة لبنانية، مع التصعيد الإسرائيلي الذي ارتفعت وتيرة استهدافاته واعتداءاته على المناطق اللبنانية، بصورة ملحوظة وعالية بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية». حذّر مسؤول كبير عبر «الجمهورية» ممّا سمّاها «مؤشرات يخشى انّها تؤسّس لإدخال لبنان في المجهول، وما يثير القلق في هذا السياق، هو «التصعيد المزدوج» الذي يتجلّى في تزامن تحرّكات الخلايا الإرهابية في غير منطقة لبنانية، مع التصعيد الإسرائيلي الذي ارتفعت وتيرة استهدافاته واعتداءاته على المناطق اللبنانية، بصورة ملحوظة وعالية بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية». يُشار في هذا السياق، إلى أنّ المعطيات الأمنية المرتبطة بالملف الإرهابي، تتقاطع على أنّ «زر الإرهاب» كُبس من مكان ما، فتحرّكت بموجبه بعض الخلايا النائمة (داعشية او من خلايا من ذات العائلة التكفيرية) في بعض المناطق اللبنانية، وأمكن للأجهزة الأمنية والعسكريّة أن تلقي القبض على رؤوس إرهابيّة كبيرة ومجموعة من العناصر والخلايا في مناطق مختلفة. وما رشح عن التحقيقات معهم أنّهم كانوا بصدد تنفيذ عمليّات إرهابية في بعض المناطق اللبنانية وضدّ الجيش اللبناني. واكّد مصدر أمني لـ«الجمهورية» أنّ التحقيقات مع الموقوفين مستمرّة، وقد أدلوا باعترافات خطيرة يُفضّل عدم البوح بها، وخصوصاً أنّ التحقيقات لم تنته بعد، وهناك متوارين يجري البحث عنهم ومن بينهم لبنانيون وغير لبنانيين. ورداً على سؤال عمّا كان يجري التحضير له، وما إذا كان ذلك عملاً إفرادياً او ضمن خطة منظّمة، قال المصدر: «المعطيات تؤشر إلى عمل منظّم وليس عملاً إفرادياً، فالغرفة الإرهابية واحدة ولها امتداداتها، وما يمكن قوله هو أنّ توقيف الإرهابيين أحبط أمراً خطيراً جداً كانوا يعدّون له، وبكلام اوضح كانوا على وشك تنفيذه». مضيفاً: «لا يمكن فصل هذه التحركات الإرهابية عن العدوان الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس في دمشق قبل ايام. كما لا يمكن فصل هذه التحرّكات عن التصعيد الإسرائيلي».


النشرة
منذ 5 ساعات
- النشرة
في صحف اليوم: مخاوف من عمل مبيّت للبنان وسط تصعيد أمني وخلايا إرهابية نائمة
اعتبر مسؤول كبير في حديث لصحيفة "الجمهورية" أن التطورات الأمنية التي تلاحقت بوتيرة متسارعة في الفترة الأخيرة، توحي وكأنّ أمراً ما مبيّتاً للبنان، محذرا ممّا سمّاها "مؤشرات يخشى انّها تؤسّس لإدخال لبنان في المجهول، وما يثير القلق في هذا السياق، هو التصعيد المزدوج الذي يتجلّى في تزامن تحرّكات الخلايا الإرهابية في غير منطقة لبنانية، مع التصعيد الإسرائيلي الذي ارتفعت وتيرة استهدافاته واعتداءاته على المناطق اللبنانية، بصورة ملحوظة وعالية بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية". يُشار في هذا السياق، إلى أنّ المعطيات الأمنية المرتبطة بالملف الإرهابي، تتقاطع على أنّ "زر الإرهاب" كُبس من مكان ما، فتحرّكت بموجبه بعض الخلايا النائمة ( داعش ية او من خلايا من ذات العائلة التكفيرية) في بعض المناطق اللبنانية، وأمكن للأجهزة الأمنية والعسكريّة أن تلقي القبض على رؤوس إرهابيّة كبيرة ومجموعة من العناصر والخلايا في مناطق مختلفة. وما رشح عن التحقيقات معهم أنّهم كانوا بصدد تنفيذ عمليّات إرهابية في بعض المناطق اللبنانية وضدّ الجيش اللبناني. واكّد مصدر أمني لـ"الجمهورية" أنّ التحقيقات مع الموقوفين مستمرّة، وقد أدلوا باعترافات خطيرة يُفضّل عدم البوح بها، وخصوصاً أنّ التحقيقات لم تنته بعد، وهناك متوارين يجري البحث عنهم ومن بينهم لبنانيون وغير لبنانيين. ورداً على سؤال عمّا كان يجري التحضير له، وما إذا كان ذلك عملاً إفرادياً او ضمن خطة منظّمة، قال المصدر: "المعطيات تؤشر إلى عمل منظّم وليس عملاً إفرادياً، فالغرفة الإرهابية واحدة ولها امتداداتها، وما يمكن قوله هو أنّ توقيف الإرهابيين أحبط أمراً خطيراً جداً كانوا يعدّون له، وبكلام اوضح كانوا على وشك تنفيذه". مضيفاً: "لا يمكن فصل هذه التحركات الإرهابية عن العدوان الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس في دمشق قبل ايام. كما لا يمكن فصل هذه التحرّكات عن التصعيد الإسرائيلي".