
صعود أذربيجان الغريب.. تحالف مع تركيا وصراع إيران وتعاون مع إسرائيل
فقد كانت هذه الدولة الصغيرة الغنية بالنفط والغاز الطبيعي غارقة في نزاع دامٍ لعقود مع دولة أرمينيا المجاورة لها حتى عام 2020، ولم تكن تسيطر بالكامل على أراضيها، إذ إن منطقة ناغورني قره باغ المنفصلة عنها، وهي منطقة جبلية يقطنها أرمن ضمن الحدود المعترف بها دوليا لأذربيجان، كانت تُدار بواسطة سُلطة مُعلنة من طرف واحد مدعومة من أرمينيا (وهي سلطة عُرِفَت بجمهورية أرتساخ)*.
تسبَّب هذا الوضع المُعلَّق في تقييد حركة أذربيجان الدبلوماسية، وجَعَل اشتباكها مع العالم الخارجي محدودا، كما جعلها تعتمد إستراتيجيا على غيرها من الدول المجاورة، لا سيَّما روسيا، التي قدَّمت نفسها وسيطا لا غِنى عنه في منطقة القوقاز (التابعة لها ضمن الاتحاد السوفياتي حتى عام 1991)*، حيث استغلَّت موسكو الجمود لإبقاء أرمينيا رهينة الاعتماد على ضماناتها الأمنية، بينما احتفظت بنفوذها في أذربيجان في الوقت نفسه.
اليوم، تغيَّر الوضع جذريا في القوقاز إثر انتصارين عسكريَّيْن لأذربيجان عاميْ 2020 و2023، استطاعت بعدهما باكو أخيرا ضمَّ ناغورني قره باغ وسبع مناطق مجاورة كانت تحت السيطرة الأرمنية منذ أوائل التسعينيات، كما اكتسبت تفوُّقا حاسما على أرمينيا في المنطقة.
في الوقت ذاته، ومع انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، تخلَّت موسكو عن جزء كبير من نفوذها الإقليمي لصالح أذربيجان، ومع عُزلة موسكو عن الأسواق الغربية، باتت أذربيجان ذات أهمية متزايدة بوصفها مُورِّدا عالميا للطاقة، بما في ذلك لأوروبا.
في الوقت نفسه، عزَّزت باكو علاقاتها مع تركيا وإسرائيل، ووسَّعت حضورها الدبلوماسي والاقتصادي في آسيا الوسطى، وزادت من وجودها في الشرق الأوسط، كاشفة عن طموحات إقليمية أوسع. ويبدو أن الحكومة الأذربيجانية لديها أيضا علاقات جيدة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، الذي تربطه علاقات تجارية مع باكو منذ ولايته الأولى.
في خضم هذه الطفرة اللافتة في حظوظها، تواجه أذربيجان مفترقَ طرقٍ مصيريا. فبعد مفاوضات دامت ثلاث سنوات، باتت لديها الآن فرصة نادرة للتوصل إلى سلام دائم مع أرمينيا. ففي منتصف مارس/آذار الماضي، أعلن مسؤولون في باكو ويريفان، عاصمة أرمينيا، أنهم وضعوا اللمسات الأخيرة على صياغة نص اتفاق السلام المُنتَظَر، وإذا ما وُقِّع الاتفاق رسميا، فإنه يكتب نهاية النزاع الطويل بينهما، ويُكرِّس وضعا جديدا في القوقاز بمشاركة الدولة الثالثة في الإقليم، وهي جورجيا.
ولكن ليس واضحا بَعْد ما إن كانت أذربيجان ستغتنم هذه الفرصة، إذ إنها ترى نفسها الآن في موقع قوة، ومن ثمَّ طالبت بمزيد من التنازلات من أرمينيا، ولا يبدو أنها في عجلة لإتمام الاتفاق.
في الوقت نفسه، ورغم ما جلبه الاقتصاد القائم على النفط والغاز من ازدهار في السنوات الأخيرة، فإن هذه المكاسب هشَّة إلى حدٍّ كبير، ولم تصاحبها جهود جِديَّة لتنويع الاقتصاد في أذربيجان، وحتى الانخفاض الطفيف في أسعار الطاقة، الذي بدأ بالفعل هذا العام، فقد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار المالي في باكو والكشف عن مكامن هشاشة أعمق، من بينها تزايد الفجوات الاجتماعية والسخط الشعبي على الوضع الاقتصادي والسياسي.
فبعد أكثر من عشرين عاما في الحكم، يواصل الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، تشديد قبضته السياسية والتضييق على المعارضة، مُعتمدا على النمو الاقتصادي وخطاب القوة القومية لإرضاء الرأي العام.
كل ذلك، مع حالة من عدم اليقين الجيوسياسي تُخيِّم على القوقاز، تجعل صعود أذربيجان محفوفا بالمخاطر. فإذا ما بدأت حرب أوكرانيا في الأفول، قد تُعيد روسيا تركيزها في منطقة لا تزال قادرة على فرض نفوذها فيها، بما في ذلك عبر حليفها التقليدي السابق، أرمينيا، بل وحتى إن ظلت منشغلة بأوكرانيا، يظل بإمكانها أن تُربِك المنطقة، وبالتحديد إذا لم يُوقَّع اتفاق سلام، وبقيت طرق النقل بين أرمينيا وأذربيجان مُغلقة. في مثل هذا السيناريو، قد يُعيد الكرملين فرض نفسه بوصفه ضامنا أساسيا للترابط الإقليمي، لكن وفق شروطه الخاصة.
من دون اتفاق سلام، قد تجد أذربيجان نفسها قد انكشفت اقتصاديا، وبالغت في تمدُّدها السياسي، وعُرضة للركود الإستراتيجي في المنطقة، كما أن غياب ثمار السلام الأوسع، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي والتكامل الاقتصادي الإقليمي، قد يَحرِم أذربيجان من فرصة بناء نظام سياسي مُستدام في الداخل. ونتيجة لذلك، قد تبقى منطقة القوقاز أسيرة للتنافس الإقليمي، وتخسر ربما أفضل فرصة عرفتها للتعاون الحقيقي بين الدول الثلاث.
تراجُع روسيا بسبب أوكرانيا
لقد كان من المدهش أن تتمكَّن أذربيجان وأرمينيا من التوصُّل إلى مُسودة اتفاق على الإطلاق. فلو لم تُقْدِم روسيا على غزوها الشامل لأوكرانيا، لَكان من غير المُرجَّح أن تبدأ عملية سلام أصلا.
وقد بدأت القصة عام 2020، حين انتصرت أذربيجان على أرمينيا في حرب حاسمة استمرت ستة أسابيع، واستعادت معظم الأراضي التي فقدتها في أوائل التسعينيات. وقد استند الانتصار إلى التكنولوجيا المُتقدِّمة للطائرات المُسيَّرة الإسرائيلية، والجيش الأذربيجاني الذي أُعيد بناؤه عبر إنفاق 40 مليار دولار، وسنوات من التدريب والمناورات المشتركة والتنسيق مع تركيا.
ولكن ما إن بدا أن القوات الأذربيجانية على وشك استعادة آخر المناطق الأرمنية في ناغورني قره باغ، تدخَّلت روسيا وأوقفت الهجوم، ونشرت قوات حفظ سلام على أراضي أذربيجان. في نظر باكو، كانت موسكو قد انتزعت منها نصرا مستحقا، أما الوجود العسكري الروسي فكان بمنزلة عودة إلى الماضي، حيث كانت أذربيجان جمهورية سوفيتية مثلها مثل أرمينيا.
أصبحت أذربيجان منذئذ معتمدة على روسيا، التي استغلت الوضع لخدمة مصالحها الخاصة. وفي غضون ذلك، عهدت أرمينيا فعليا بتأمين سكان ناغورني قره باغ من الأرمن إلى موسكو، بافتراض أن الكرملين -وهو حليف تقليدي لأرمينيا- لن يسمح أبدا لباكو بإعادة بسط سيادتها الكاملة.
ومع عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، كان الكرملين يدفع باتجاه وضع قواعد اشتباك رسمية لقواته لحفظ السلام، تسمح له بالتصرف بوصفه قوة احتلال بحكم الأمر الواقع، لكن أذربيجان قاومت ذلك، وبمجرد أن تورَّطت روسيا في أوكرانيا، اختفت الخطة الروسية بهدوء من جدول الأعمال.
ومع غياب تفويض رسمي لقوات حفظ السلام، وانخفاض انخراط موسكو في القوقاز، بدأت أذربيجان تشعر بالثقة، وراحت تختبر الوجود الروسي عن طريق توغُّلاتها العسكرية المحدودة، وتوسيع مواقعها المتقدمة في المناطق ذات الكثافة الأرمنية.
منذ أوائل عام 2022، أخذت هذه التحرُّكات تُقوِّض تدريجيا الضمانات الأمنية الروسية، مُوجِّهة رسالة واضحة إلى الحكومة الأرمنية وسكان ناغورني قره باغ من الأرمن مفادها أن قوات حفظ السلام لن تتدخل لحمايتهم بعد الآن.
وقد تأكَّدت هذه الرسالة في سبتمبر/أيلول 2023، عندما شنَّت أذربيجان عملية عسكرية واسعة النطاق، وسيطرت في ساعات قليلة على كامل إقليم ناغورني قره باغ دون أي مقاومة روسية. وقد وقفت أرمينيا متفرجة بعدما أدركت عجزها عن المقاومة، تاركة أذربيجان تحقق نصرا مُدوِّيا، ودافعة بآلاف الأرمن من قره باغ إلى النزوح الجماعي نحو أرمينيا، وهم الذين لطالما رفض الكثير منهم الاندماج تحت السيادة الأذربيجانية.
في الوقت ذاته، بدأت حكومة علييف تستغل التحوُّلات الجيوسياسية لتعزيز نفوذها الإقليمي على نطاق أوسع. فمع عزل موسكو عن الغرب بسبب العقوبات، بدأت روسيا تعتمد على طرق تجارية بديلة، وخاصة ما يُعرَف بممر النقل الشمالي-الجنوبي، الذي يمتد من موسكو عبر أذربيجان وإيران حتى موانئ الخليج.
ورغم أن البنية التحتية لهذا المسار لا تزال قيد التطوير، فقد أصبح طريقا حيويا لروسيا المعزولة، مما عزز من قوة أذربيجان في مواجهة الكرملين.
ومع تزايد ضعف روسيا بسبب الحرب، عمَّقت أذربيجان أيضا علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا، ففي إعلان شوشا لعام 2021، وسَّع البلدان تعاونهما العسكري، وجعلا تحالفهما أداة ردع ضد التدخلات الخارجية، حتى باتت موسكو تدرك الآن أن مواجهة باكو قد تُضعِف علاقتها المُعقَّدة والإستراتيجية مع أنقرة.
بعد حرب عام 2020، كانت روسيا تعارض التوصل إلى اتفاق سلام رسمي بين أرمينيا وأذربيجان، إدراكا منها أن ذلك قد يُضعِف نفوذها في المنطقة. لكن بعد غزو أوكرانيا، بادر الاتحاد الأوروبي، بدعم من واشنطن، إلى إطلاق محادثات مباشرة رفيعة المستوى بين باكو ويريفان، وأسهم في إنشاء إطار تفاوضي جديد.
ونتيجة لهذا الدفع، اعترفت أرمينيا رسميا بوحدة الأراضي الأذربيجانية عام 2022، وهي خطوة كانت شبه مستحيلة قبل عام واحد فقط. أما باكو، فقدَّمت نفسها بوصفها فاعلا أكثر استقلالا وقادرا على التعامل مع روسيا وتركيا والغرب بشروطه الخاصة. وبحلول عام 2024، تمكَّنت أذربيجان حتى من إجبار قوات حفظ السلام الروسية على الانسحاب قبل الموعد المُقرَّر، مما مهَّد الطريق أمام سلام ثنائي دائم.
حربُ ممرات التجارة
بالنسبة لأذربيجان، لم يكن السلام مع أرمينيا سوى واحدة من عدة فرص فتحتها حرب أوكرانيا. فبينما سَعَت أوروبا جاهدة لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية، برزت باكو بديلا جزئيا. ورغم أن إمدادات الغاز الأذربيجاني لا تُضاهِي حجم الصادرات الروسية سابقا، فإنها كانت كافية لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي ولو جزئيا، لا سيَّما دول جنوب أوروبا ذات الاحتياجات المتواضعة.
وعن طريق ممر الغاز الجنوبي، الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا، عزَّزت باكو دورها بوصفها شريكا رئيسيا في مجال الطاقة، حيث صدَّرت أكثر من 44 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي بين عامي 2021-2024.
ومع ذلك، كانت الأرباح أقل مما توقعه البعض في باكو. فرغم ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، لم تجلب صادرات الغاز سوى 12 مليار دولار تقريبا على مدار تلك السنوات الأربع، أي أقل مما تكسبه أذربيجان من النفط في عام واحد فقط، إذ جلبت أسعار النفط المرتفعة عائدات أكبر بكثير.
وزاد من تعقيد المشهد تردُّد أوروبا في توسيع بنيتها التحتية لاستقبال مزيد من الغاز الأذربيجاني، وهو أمر جعل بعض الدول الأعضاء ترى أنه يتعارض مع أهداف الاتحاد الطموحة بشأن المناخ وتقليص الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة.
في الوقت ذاته، ومع انهيار مسارات التجارة التقليدية بين أوروبا وآسيا عبر روسيا نتيجة العقوبات، ظهرت أمام أذربيجان فرص اقتصادية جديدة. فقد اعتمدت روسيا على جنوب القوقاز بوصفه حلقة أساسية في بدائل ممرات التجارة بين الشمال والجنوب، كما استفادت أذربيجان من موقعها بوصفها محطة عبور في ممرات التجارة البديلة بين الشرق والغرب، وبدعم من الجهود الغربية لتحويل تدفقات التجارة من آسيا بعيدا عن روسيا عبر بحر قزوين ، فيما يُعرف حاليا بالممر الأوسط.
ورغم ارتفاع حجم الشحنات عبر هذا المسار، فإنه لا يزال محدودا بسبب ضعف البنية التحتية والاختناقات، ولا يُشكِّل سوى ثلاثة إلى خمسة بالمئة من إجمالي التجارة الأوراسية.
ومع ذلك، فإن الأهمية الاقتصادية المتزايدة لآسيا الوسطى بوصفها مصدرا للمواد الخام الحيوية، ومسارا لتنويع مصادر الطاقة، ومساحة لتحقيق توازن إستراتيجي في مواجهة روسيا والصين ، يجعل من هذه الممرات مشاريع تستحق التطوير. وحتى إن لم يُحقِّق "الممر الأوسط" الطموحات الكبرى التي يروج لها مؤيدوه في أوروبا، فإن الموقع الإستراتيجي لأذربيجان يضمن لها استمرار أهميتها بالنسبة لأوروبا.
التحالف مع إسرائيل والصراع مع إيران
ومع ذلك، فإن هذا النفوذ الجيوسياسي الجديد لم يُحصِّن أذربيجان من التوترات الإقليمية، لا سيَّما مع إيران. فرغم أن أذربيجان أيضا بلد ذو أغلبية شيعية، فإن إيران رأت نفوذها هناك يتراجع باطراد، حيث تدهورت العلاقة تدهورا حادا بعد حرب 2020، التي أعادت لأذربيجان السيطرة على جزء كبير من حدودها مع إيران، ورسَّخت في الوقت ذاته علاقات باكو مع تركيا وإسرائيل.
وقد شكَّل الهجوم المُسلَّح على السفارة الأذربيجانية في طهران أوائل عام 2023 نقطة تدهور كبيرة في العلاقات بين البلدين، حيث رأت باكو أن إيران تغافلت عن كبحه إن لم تكُن قد خطَّطت له.
ورغم أن التوترات تراجعت منذ ذلك الحين، فإن إيران تفقد نفوذها التقليدي في باكو، بما في ذلك علاقاتها التاريخية مع إقليم ناخجيوان، الجيب الأذربيجاني المحاذي للحدود الإيرانية من جهة الغرب. ففي مارس/آذار 2025، دشَّنت تركيا وأذربيجان خط أنابيب غاز جديدا يربط ناخجيوان بشبكة الغاز التركية، مما قلَّل من اعتماد الإقليم الذي دام لعقود على الطاقة الإيرانية.
إذا ما أفضى اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا إلى فتح ممر بري مباشر يربط أذربيجان بالجيب عبر جنوب أرمينيا، فستفقد إيران نقطة نفوذ أخرى (ممر زانغِزور)*. مثل هذا التحوُّل لن يُقلِّص من دور إيران في ممرات الطاقة فحسب، بل وفي نصيبها من التجارة الإقليمية أيضا، حيث كانت لوقت طويل ممرا للبضائع التركية المتجهة إلى آسيا الوسطى، كما أنه يُعزِّز أكثر فأكثر من نفوذ تركيا في المنطقة.
ولدى إيران مخاوف أعمق من أذربيجان، وهي أن باكو قد تُستخدَم نقطة انطلاق لهجوم عسكري إسرائيلي في حال نشب صراع جديد بشأن برنامجها النووي.
يضاف إلى ذلك أن إيران بها أقلية كبيرة من الأتراك الأذر تُقدَّر بنحو 20 مليون نسمة، ما يعادل ربما رُبع السكان في البلاد، وهي تتركَّز في شمال غرب البلاد، وبالنسبة لها فإن تبلور دور أعمق لأذربيجان، مع تركيزها المتزايد على الروابط الإثنية والتاريخية المشتركة معهم، قد يُشكِّل محاولة لتغذية النزعات الإثنية والانفصالية.
باكو والطريق المسدود في الداخل
لم يعزل الصعود الدولي المتزايد لأذربيجان البلاد عن نقاط ضعفها الداخلية. فبعد الانتصار في ناغورني قره باغ، حظي الرئيس علييف بشرعية شعبية هي الأكبر منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي.
نظريا، كان من المُفترَض أن تُشكِّل هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة ضبط المشهد السياسي على نطاق أوسع: فعلى مدى سنوات، جرى تبرير غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمبالغة في الإنفاق العسكري بالصراع الذي لم يُحسَم مع أرمينيا، وقد تطلَّع كثيرون في أذربيجان إلى أن يؤدي النصر أخيرا إلى انفتاح البلاد وصياغة هوية وطنية جديدة لما بعد قره باغ.
بيد أن تلك الآمال أخذت تتلاشى بسرعة. فمنذ عام 2023، شددت الحكومة قبضتها الأمنية، فسجنت الصحفيين والنشطاء والمعارضين، وقيَّدت دخول الإعلام الأجنبي، وقلَّصت أنشطة عدد من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية.
وفي هذا السياق، واصلت الحكومة تصوير أرمينيا على أنها تهديد لها، مُعتمدة على تجربة الحروب وفقدان الأراضي والنزوح الجماعي التي لا تزال ماثلة في الأذهان. ولكن بعد استعادة الأراضي المحتلة وضعف شهية الناس لخوض حرب جديدة، لم تعُد تلك السردية تلقى الصدى السابق نفسه.
لا تُبدي الحكومة في باكو رغبة تُذكَر في تجاوز السردية القديمة، ليس فقط لأنها تساعد في شرْعَنة السيطرة الداخلية، بل وكذلك لعدم ظهور سردية وطنية بديلة واضحة. ومع ضعف السردية الرسمية، فإن التحديات الهيكلية التي لطالما أخفاها الخطاب القديم بدأت تظهر إلى النور ويصبح تجاهلها أصعب، ومن بينها الإحباط الشعبي من محدودية الفرص الاقتصادية، وعلامات الاستفهام بشأن الشفافية في حُكم البلاد.
ثمَّة هشاشة اقتصادية متزايدة إذن وراء مشهد الانتصارات الجيوسياسية، إذ تعتمد أذربيجان بدرجة كبيرة على إيرادات النفط والغاز المُتقلِّبة من بحر قزوين. وقد انخفض إنتاج النفط من ذروته عام 2010، حين بلغ 823 ألف برميل يوميا، إلى 566 ألفا فقط بحلول عام 2025، وذلك بسبب تزايد صعوبة استخراج النفط.
وقد يستغرق تطوير احتياطيات جديدة سنوات ويتطلب استثمارات أجنبية ضخمة، وهو أمر صعب في عالم يتجه نحو الطاقة المتجددة، بل إن الانخفاض المعتدل في أسعار النفط هذا العام، من نحو 80 دولارا للبرميل في أوائل السنة إلى 64 دولارا في أواخر مايو/أيار، قد يؤدي إلى خسارة أكثر من 20% من عائدات الدولة إن استمر الانخفاض حتى نهاية العام.
وتُعقِّد هذه المخاطر الهيكلية طموحات أذربيجان الأوسع. فموقع باكو الجغرافي وحده لا يكفي لجعلها مركزا حيويا للطاقة والتجارة بين الشرق والغرب، إذ إن الدول التي تنجح في توظيف موقعها، سواء في أوروبا أو الخليج أو آسيا الوسطى، تُعزِّز ذلك ببناء مؤسسات موثوقة، وشفافية إدارية، وحدٍّ أدنى من الاستقرار السياسي.
ورغم أن المستثمرين الأجانب لا يشترطون وجود الديمقراطية، فإنهم يطلبون أنظمة قائمة على قواعد واضحة، تجعل من السهل التنبؤ بالقرارات، مع عمل المؤسسات باستمرارية، وضبط للتدخُّلات السياسية والفساد. وبدون ذلك، لن يحقق أي ممر تجاري، مهما كانت أهميته الإستراتيجية، إمكاناته الكاملة.السلام المفقود في القوقاز
لقد غيَّرت الحرب في أوكرانيا موقع أذربيجان على نحو لم يكن من الممكن تخيله في السابق. ولكن هذه المكاسب قصيرة الأجل لا تضمن الاستقرار الدائم، وقد يؤدي إفراط الحكومة في الثقة بصعود البلاد إلى نتائج عكسية.
ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، على سبيل المثال، أسقط صاروخ روسي بالخطأ طائرة مدنية أذربيجانية، فوجَّه الرئيس علييف بنفسه انتقادا علنيا للكرملين. وكان رد باكو المنفتح والمتحدي إشارة إلى موقف جديد مفاده أنها لم تعد تخشى موسكو كما في السابق، لكن هذا قد يتغيَّر إذا ما استعادت روسيا نفوذها في القوقاز.
وبالمثل، يبدو أن المسؤولين الأذربيجانيين يفترضون أن قُرب بلادهم دبلوماسيا من إسرائيل، وجغرافيًّا من إيران، يجعل من باكو شريكا لا غنى عنه للمصالح الأميركية بعيدة المدى، بغض النظر عمَّن يكون في البيت الأبيض، بل إن حكومة علييف عبَّرت علنا عن تفضيلها لإدارة ثانية لترامب، على اعتبار أنه سيكون أكثر تشدُّدا مع إيران.
ومع ذلك، فإن هذا الانحياز يحمل في طيَّاته مخاطر خاصة به، فإذا ما تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة ، قد تنتقم طهران من أذربيجان عسكريا أو عبر استخدام نفوذها لدى رجال الدين الشيعة لإثارة اضطرابات داخلية، لا سيَّما إذا بدا أن باكو تدعم إسرائيل.
وفي الوقت نفسه، لا تزال أذربيجان تُعرقل فرصة تاريخية لتحقيق سلام دائم في المنطقة، فقد أجَّلت الاتفاق مع أرمينيا ووضعت شرطيْن أساسيَّيْن: تعديل الدستور الأرمني لإزالة نصوص تعتبرها بمنزلة دعاوى إقليمية ضِمنية بخصوص أراضٍ داخل أذربيجان، ومنح ممر بري غير منقطع يربط أذربيجان بجيب ناخجيوان (ومن ثمَّ بتركيا)*.
وبشكل غير مُعلَن، يُلمِّح المسؤولون في أذربيجان إلى أنهم قد يطالبون أيضا بضمان استثماري فوري من الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الغربية للمساعدة في إعادة إعمار المناطق التي كانت تحت السيطرة الأرمينية.
وتجري حاليا إعادة توطين ناغورني قره باغ والمناطق المحيطة بها تدريجيا ببعض من أكثر من 600 ألف أذربيجاني شُرِّدوا أثناء حرب التسعينيات، لكن التقدم بطيء، إذ لم يَعُد إلا نحو 13 ألفا حتى الآن. وقد تعرَّضت العديد من البلدات لدمار كبير، وكل شيء تقريبا من البنية التحتية إلى المساكن يحتاج إلى إعادة بناء من الصفر وسط استمرار عمليات إزالة الألغام. ومع ذلك، فإن الاستثمار الغربي قد لا يأتي أبدا.
لكن مع قليل من الإبداع والصبر والثقة، يمكن حل كثير من هذه القضايا. فرئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان يُعَد من أبرز الداعمين لاتفاق السلام، وإذا نجح في إقناع الأرمن بأن تعديل الدستور ليس سوى خطوة لبناء الثقة المتبادلة، التي ستجلب مكاسب اقتصادية أكبر على المدى البعيد، فقد يتمكَّن من تمريرها.
أما إذا أقدم على هذه الخطوة المثيرة للجدل قبل الانتخابات البرلمانية الحاسمة عام 2026، فقد يتهمه معارضوه بالتفريط في المصالح الوطنية، وهو ما يُمكن أن ينسف عملية السلام بأكملها.
اللافت أن باشينيان هو الشخصية السياسية الكبرى الوحيدة في يريفان التي تدفع باتجاه تسوية دائمة، حيث وصف أعضاء من المعارضة الأرمنية تعديل الدستور المقترح بأنه خيانة للمصالح الوطنية. وإذا ما خسر باشينيان السلطة، فقد يُمهِّد ذلك الطريق لقيادة أرمينية مختلفة تماما، ويُرجَّح أن تتكوَّن من شخصيات انتقامية تميل إلى روسيا، وقد ترى أن المواجهة المتجددة مع أذربيجان تصبُّ في صالحها السياسي.
بين أوروبا وتركيا
علاوة على ذلك، فإن قضية إعادة فتح طرق التجارة والحدود، التي أُغلق بعضها لأكثر من ثلاثة عقود، تظل مسألة حساسة سياسيا لكثير من الأرمن، لا سيَّما الطريق المقترح الذي يربط أذربيجان بناخجيوان.
وفي هذا السياق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطرح ترتيبات عملية تلبي توقعات الطرفين بشأن الوصول والسيطرة، إلى جانب تقديم دعم مالي واستثمارات في البنية التحتية ومساعدة فنية لتسهيل التنفيذ، إذ إن الاتحاد يُنظر إليه على أنه وسيط موثوق من الجانبين. وستحقق أوروبا فوائد أخرى في غضون ذلك، إذ يمكن لاتفاق ناجح أن يساعد على تحويل ميزان القوى الجيوسياسي في القوقاز بعيدا عن روسيا بشكل دائم.
سيكون لدور تركيا أهمية حاسمة أيضا. فأنقرة ترى القوقاز جزءا من باحتها الخلفية إستراتيجيا، وتعتبر التطبيع مع أرمينيا وسيلة للمشاركة في تشكيل النظام الإقليمي بعد النزاع، لا للهيمنة عليه. وقد تبعت تركيا موقف باكو في كل خطوة، مؤكدة أنها لن تفتح حدودها مع أرمينيا إلا بموافقة أذربيجان.
وسيمنح اتفاق السلام أنقرة الضوء الأخضر، ويساعد على بلورة نظام إقليمي جديد تُشكِّل فيه المشاركة التركية، المدعومة بالدبلوماسية الأوروبية، شريانَ حياة إستراتيجيا لأرمينيا وتقييدا من قدرة روسيا على العودة. كما أن دورا إقليميا أقوى لتركيا سيخدم أذربيجان، التي تعتمد في النهاية على أنقرة لموازنة أي ضغط روسي متجدد.
إن السؤال ليس ما إذا كان اتفاق السلام مرغوبا فيه، بل ما إذا كان بالإمكان التوصل إليه قبل أن تُغلق النافذة التي جعلته ممكنا. فكلما تأخرت التسوية، ازداد تعرض العملية لتقلُّبات السياسة الداخلية والتدخُّلات الخارجية، إذ إن هشاشة الوضع الداخلي في أرمينيا، وتراجع الاهتمام الدولي بالقوقاز، وتجدُّد الاهتمام الروسي، كلها عوامل يمكن أن تُقوِّض التقدُّم الإيجابي الذي تحقق في السنوات الثلاث الماضية.
إن الفرصة الإستراتيجية التي أتاحها انشغال موسكو في أوكرانيا لن تدوم للأبد، وإذا حدثت تحوُّلات جيوسياسية جديدة من دون تسوية دائمة، فقد تجد روسيا طُرُقا لاستعادة نفوذها في القوقاز، ليس بالضرورة لاستعادة سيطرتها الكاملة، بل لتعطيل التقدُّم الجاري بدونها، وتمديد حالة الغموض، وضمان الحفاظ على مصالحها، دون أن يكون ذلك في مصلحة أي طرف في المنطقة بالضرورة.
___________________________
*إضافة المُترجم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
ماذا فعلت إسرائيل في السودان؟
(في كمبالا سلّمت السفارة الإسرائيلية رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، هنأته فيها وحكومته وشعب الله المختار وأطفال إسرائيل على الانتصار على العرب في حرب 1967)، من مذكرات الفريق جوزيف لاقو أحد مؤسسي حركة التمرد في جنوب السودان. في السياسة، يحتاج قادة الدول إلى امتلاك فكر إستراتيجي يحيط بطبيعة التحديات التي يواجهونها، ومعرفة البيئة الدولية والداخلية التي تُبنى على أساسها الخطط. وبهذا المعنى، ينطبق عليها تعريف الفيلسوف الألماني أرنست هيجل بأن "السياسة هي علم الأحياء التطبيقي". ولأن علم الأحياء يساعد على فهم البيئة ودورها في نمو الكائنات الحية، فإن فهم البيئة السياسية بصورة واقعية يساعد على إنتاج الأفكار التي تمكّن القادة من التعامل مع الظواهر السياسية بواقعية وعقلانية. ومن الظواهر التي غشيت العقل العربي وسيطرت عليه لعقود طويلة، نظرية المؤامرة التي تفترض وجود جهة ما تكيد للدول العربية بانتظام. وخطورة سيطرة ذلك النوع من التفكير أنه أفضى إلى إعفاء الذات من تحمّل نتائج التقصير والفشل من ناحية، كما أفقد العقل العربي ميزة التفكير الموضوعي لمعالجة الظواهر السياسية بعقلانية دون "تهويل أو تهوين"، كما يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي. وفي هذا المقال، الذي نعالج فيه أسباب استمرار الحروب في السودان بصورة حيّرت المراقبين، سنحاول تلمّس الأسباب الجوهرية لهذه الظاهرة، مع التركيز على أصابع خفية ظلّت تحتفظ بدور بارز وكبير في تحريك الأحداث. وإذ نفعل ذلك، سنحاول تجنّب التفسيرات الباطنية التي تُعظّم نظرية المؤامرة وتستسهل من خلالها الوصول إلى النتائج. ما نعنيه بالأصابع الخفية في حروب السودان، التي امتدت منذ العام 1955 قبل سنة من إعلان استقلال السودان وإلى الآن، هي التدخلات الخارجية التي يُمثّل فيها الكيان الإسرائيلي رأس الرمح والماكينة التي تُحرّك الأحداث من وراء المشهد، وذلك دون إغفال الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها النخبة السودانية بجميع توجهاتها الفكرية وانحيازاتها السياسية. واحدة من هذه الأخطاء هي عدم الإدراك الصحيح للدور الإسرائيلي في حروب السودان، وعدم إيجاد المقاربات الناجعة للتعامل معه. فقد حرصت إسرائيل باكرًا على فهم السودان وتعقيداته، وبلورت إستراتيجية للتعامل معه، مدفوعة بمخاوف أمنية وتفسيرات أسطورية قديمة، تعتقد أن تابوت نبي الله موسى، عليه السلام، دُفن في كنيسة أكسوم الحبشية، وأن الملوك الإثيوبيين الذين حكموا السودان في زمان غابر تجري فيهم دماء يهودية من نسل نبي الله سليمان، عليه السلام، وأن هناك سبطًا من بني إسرائيل ضاع في منطقة البحيرات وجنوب السودان ولا بد من العثور عليه. أما النص الحاكم للسياسة الإسرائيلية تجاه السودان، فيتلخص في التصريح الشهير لديفيد بن غوريون الذي يقول فيه: "نحن شعب صغير وإمكاناتنا محدودة، ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها، وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية، حتى نضخّم هذه النقاط إلى درجة التحول إلى معضلة يصعب حلها أو احتواؤها". يؤسس هذا "النص الحاكم" للنهج الإسرائيلي في التعامل مع الدول العربية، حيث صاغت من خلاله الدولة العبرية نظرية "شد الأطراف" للدول العربية أو "بترها" إذا لزم الأمر، كما حدث في جنوب السودان. وتقوم تلك النظرية على إحداث القلاقل في أطراف البلدان العربية، إما استثمارًا للخلافات العرقية، أو تحريكًا للنزاعات الحدودية، وهو ما يحقق الهدف المركزي بإشغال هذه الدول بأنفسها حتى لا تكون جيوشها عامل دعم لدول المقاومة التي تقاتل إسرائيل. وللتأكيد على قِدم المخطط الإسرائيلي، نستعين بمحاضرة رئيس الموساد مائير عاميت عام 1959 والتي قدمها بمناسبة تخريج دفعة جديدة، حيث يقول: "لِمحاصرة التهديد الذي جسدته حركة المد القومي، كان لا بد أن ننجح في إثارة النوازع النفسية لدى الجماعات غير العربية داخل الدول العربية، وخاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، والسودان". ولتتبّع حجم الخراب الذي قامت به "الأصابع الخفية" في السودان، نحتاج إلى دراسة عدد من الوثائق على النحو التالي: وثيقة "كيفونيم" التي قدّمها آرييل شارون 1983 لاجتماع وزراء حلف الناتو، والتي لخّصت إستراتيجيات إسرائيل في التعامل مع دول العالم العربي والإسلامي. وفيما يتعلق بالسودان، ورد ما يلي: "السودان أكثر دول العالم العربي والإسلامي تفككًا، فإنه يتكوّن من أربع مجموعات سكانية كلٌّ منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سُنيّة تسيطر على أغلبية غير عربية، إلى وثنيين، إلى مسيحيين." وتقرّر تلك الوثيقة في خاتمتها مؤكدة: "إن دولًا مثل ليبيا والسودان لن يكون لها حضور بصورتها الحالية". في العام 2008، ألقى آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، محاضرة لكبار القادة الأمنيين، وورد فيها ما يلي: "السودان شكّل عمقًا إستراتيجيًا لمصر في حربها حيث تحوّل إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، وأرسل قواته لمنطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف. لذلك، كان لا بد أن نعمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه، ومنعه من بناء دولة قوية موحدة، فهذا ضروري لدعم وتقوية الأمن القومي الإسرائيلي". في كتابي (مهمة الموساد في جنوب السودان) لعميل الموساد ديفيد بن عوزيل، والمعروف باسمه الحركي "الجنرال جون"، وكتاب (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان) للكاتب الإسرائيلي والعميد المتقاعد من جهاز الموساد موشيه فرجي، ترد تفاصيل مخيفة عن حجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الذي قدّمته إسرائيل لحركة التمرد في جنوب السودان، حيث شمل إرسال شحنات السلاح، وإرسال الخبراء، وتدريب عشرات الآلاف من الجنود، والمساهمة في تفجير الكباري واحتلال بعض المدن، وتعطيل مشاريع التنمية. يقول موشيه فرجي في كتابه إن التحرك الإسرائيلي نجح في جنوب السودان لعدة عوامل، أبرزها: إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية. توقيف العمل في قناة جونقلي التي كان من المؤمل أن توفر 5 مليارات متر مكعب من المياه تتقاسمها مصر والسودان، حيث حذّرت إسرائيل الجنوبيين من أن ذلك المشروع سيكون وبالًا عليهم. كما أن إسرائيل نجحت في تنمية المشاعر القومية لدى الجنوبيين، مما ساعدهم على حسم خيار الانفصال عن الشمال. نستخلص من هذه الوثائق أن إسرائيل صنّفت السودان منذ البداية باعتباره عدوًا إستراتيجيًا، ولذلك تعاملت معه على هذا الأساس في مخططاتها التي هدفت إلى إشغاله طوال الوقت بالنزاعات الداخلية. يقول وزير الأمن الإسرائيلي السابق، آفي ديختر: "أقدمنا على إنتاج وتصعيد بؤرة دارفور لمنع السودان من إيجاد الوقت لتعظيم قدراته. إستراتيجيتنا، التي تُرجمت على أرض الجنوب سابقًا وفي غربه حاليًا، نجحت في تغيير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزّم والانقسام. الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلًا أو آجلًا بتقسيمه إلى عدة دول أو كيانات". ونستطيع تلخيص الرؤية الإسرائيلية تجاه السودان في النقاط التالية: استهداف مصر عبر جارها الجنوبي، والعمل الجاد على تعطيل استفادتها من جهود هذا الجار. إشغال السودان بإشعال النزاعات فيه، وتأجيج روح الخلاف بين المكونات المختلفة. السعي لعدم استفادة السودان من موارده الهائلة حتى لا يتحول إلى دولة مركزية. إضعاف السودان عبر سياسة شد الأطراف أو بترها، وهو ما يؤكده آفي ديختر: "سودان هش ومجزأ خير من سودان قوي وفاعل". ولم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي للسودان على إشعال النزاعات وإشغاله بالحروب فقط، بل تواصلت المساعي الإسرائيلية في المجالات الدبلوماسية والمنظمات الدولية لخنق السودان وتشديد الحصار عليه. ففي أوج أزمة دارفور، أنشأت المنظمات اليهودية تحالفًا ضم أكثر من 180 منظمة حول العالم للترويج لفكرة الإبادة الجماعية في دارفور، وانطلقت أنشطة تلك المنظمات من متحف الهولوكوست بواشنطن تحت رعاية منظمة "أنقذوا دارفور" والوكالة اليهودية للخدمة الدولية، وتوجت تلك الجهود بإحالة ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية. في الحرب الحالية التي اندلعت بعدما شنّت مليشيا الدعم السريع هجومًا مباغتًا على القوات المسلحة، قبل أن توسّع تكتيكاتها الحربية إلى استهداف البنية التحتية وتدمير المؤسسات العامة والخاصة بغرض إعادة السودان قرونًا إلى الوراء، كانت إسرائيل الحاضر الخفي الأبرز في المشهد. فقد اندلعت الحرب بعد نشاط إسرائيلي محموم في البلاد بعيد تطبيع العلاقات مع السودان وتوقيع حكومة الفترة الانتقالية برئاسة حمدوك على "الاتفاقيات الأبراهامية"، حيث انخرطت إسرائيل في نشاط دبلوماسي مكثف تجاه الخرطوم، ركّز على الانشغالات الإسرائيلية الخاصة بجمع معلومات حول منظومة الصناعات الدفاعية السودانية و"تجنيب السودان مخاطر الخلايا الإيرانية"، كما صرّح مسؤول إسرائيلي بعد زيارة للعاصمة الخرطوم 2020. ولإخفاء نواياها الحقيقية بإطالة أمد الحرب، عرضت إسرائيل وساطة بين الجيش والدعم السريع. وفقًا لبيان أصدره وزير الخارجية وقتها إيلي كوهين، الذي أكّد أن إسرائيل تعمل عبر عدة قنوات من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار، لكن لم يرد أيّ ذكر لتلك الوساطة مرة أخرى، مما يشير إلى أن الدولة العبرية تساهم في إطالة أمد الحرب لإضعاف الطرفين، تنفيذًا لنظرية الأكاديمي الصهيوني إدوارد لوتواك "امنحوا الحرب فرصة". كما أن المعلومات بدأت تتكشّف عن حجم العلاقات الكبيرة بين إسرائيل وحميدتي، الذي حرص على فتح قنوات تواصل مستقلة عن الجيش والدولة منذ فترة مبكرة. ففي تقرير نشره موقع "واللا" الإخباري، قيل إن طائرة رئيس الموساد حطّت في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2021، وكان على متنها قيادات من الموساد التقت بحميدتي وقادة من الدعم السريع. بعد نشوب الحرب، نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالًا بعنوان "كيف ستكسب إسرائيل الحرب في السودان؟"، أكّد فيه أن إسرائيل حريصة على كسب الدعم السريع للحرب، بالنظر إلى الخدمات التي قدّمها حميدتي في ليبيا بمحاربة الإسلاميين هناك، وتعهّده بـ"تفكيك الإسلاميين داخل الجيش السوداني". وفي الفترة الأخيرة، وبعد أن مالت كفة الانتصار لصالح الجيش، وبدا أن الجيش قادر على حسم المعركة، تعالت أصوات إسرائيلية تتهم السودان بالتعاون مع إيران، وتنادي بالتدخل الإسرائيلي المباشر، لأن الجيش السوداني أصبح "حماس أفريقيا" حسب تلك المزاعم. تحتاج القيادة السودانية إلى إعادة تكييف علاقاتها الخارجية بما يضمن محاصرة المخططات الآثمة ووأدها قبل أن تواصل تدمير المقدرات السودانية. وفي هذا الخصوص، فإن السودان بحاجة إلى جهود أصدقائه للمساهمة في دعم الشرعية التي يمثلها الجيش السوداني والحكومة المدنية برئاسة الدكتور كامل إدريس، كما أن القيادة السودانية بحاجة إلى مجهودات تعزز تماسك الجبهة الداخلية وتُفوّت على المتربصين مخططاتهم الآثمة.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
مئات الحاخامات اليهود يطالبون إسرائيل بوقف التجويع وقتل المدنيين
وقّع مئات الحاخامات اليهود من مختلف أنحاء العالم، الذين يتبعون تيارات دينية متعددة، على رسالة تدعو إسرائيل إلى وقف استخدام التجويع كسلاح حرب. وحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أمس الأحد، فإنّ مئات من الحاخامات (رجال دين يهود) في مختلف أنحاء العالم وقعوا على رسالة، جاء فيها أنّ "الشعب اليهودي يواجه أزمة أخلاقية خطيرة". وأوضحوا في الرسالة: "لا يمكننا أن نغض الطرف عن القتل الجماعي للمدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن، أو استخدام التجويع كسلاح حرب". ووصفت الرسالة ما اعتبرته "تقليص المساعدات الإنسانية إلى غزة"، ومنع الغذاء والماء والأدوية عن المدنيين، بأنه "يتعارض مع القيم اليهودية الأساسية". ورغم تأكيد الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن إسرائيل تتسبب في تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، فإن حكومة بنيامين نتنياهو زعمت تنفيذ إجراءات لتسهيل دخول المساعدات، منها فتح ممرات جديدة وإلقاء مساعدات من الجو وتحديد فترات وقف إطلاق نار مؤقتة. كما انتقدت الرسالة سياسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية ، ودعت إلى وقف عنف المستوطنين وملاحقة المعتدين من بينهم. واختُتمت الرسالة بالدعوة إلى حوار يضمن الأمن للإسرائيليين، والكرامة والأمل للفلسطينيين، ومستقبلًا سلميا للمنطقة. وتأتي الرسالة في ظل تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية نتيجة استفحال المجاعة بالقطاع وتحذيرات من خطر موت جماعي يهدد أكثر من 100 ألف طفل في القطاع. ويعيش قطاع غزة إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه وفي التاريخ المعاصر، حيث تتداخل حالة التجويع القاسية مع حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومع الإغلاق الكامل للمعابر ومنع دخول الغذاء والدواء منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، تفشت المجاعة في أنحاء القطاع، وظهرت أعراض سوء التغذية الحاد على الأطفال والمرضى. لمحكمة العدل الدولية بوقفها. وخلفت الإبادة، بدعم أميركي، أكثر من 204 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
صحيفة عن مسؤولين بإدارة ترامب: الوقت مناسب لصفقة شاملة تنهي الحرب
نقلت صحيفة جيروزاليم بوست عن مصدر مطلع -اليوم الاثنين- قوله إن مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يرون أن الوقت أصبح مناسبا للتوصل إلى صفقة شاملة تؤدي إلى إطلاق جميع "الرهائن" وإنهاء الحرب الدائرة في قطاع غزة. وذكرت الصحيفة ذاتها -نقلا عن المصدر نفسه- أن الاتصالات استمرت خلال اليومين الماضيين بين إسرائيل والوسطاء في قطر ومصر بهدف إحياء المفاوضات، مشيرة إلى لقاءات عقدها المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف مع مسؤولين قطريين كبار عدة مرات في جزيرة سردينيا الإيطالية. وكانت شبكة فوكس نيوز قد نقلت -صباح أمس الأحد- عن المبعوث ويتكوف تأكيده عودة المفاوضات مع حركة حماس إلى مسارها بعد فترة من التعثر. وأضاف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو -في تصريحات للشبكة- أن تقدما كبيرا تحقق في المفاوضات بشأن غزة، معربا عن أمله في التوصل إلى وقف إطلاق نار يشمل الإفراج عن نصف "الرهائن" فورا، ثم الإفراج عن الباقين مع انتهاء مهلة الـ60 يوما. وقال روبيو إن "الحل لما يحدث في غزة بسيط للغاية؛ أطلقوا سراح الرهائن وألقوا أسلحتكم وستنتهي الحرب". وفي السياق ذاته، نقلت القناة الـ14 الإسرائيلية عن مسؤول سياسي إسرائيلي تأكيده أن المفاوضات مع حركة حماس لا تزال مستمرة، وذلك بعد مغادرة الوفد الإسرائيلي العاصمة القطرية الدوحة الخميس الماضي عقب تلقي رد من حماس على مقترح يتعلق بصفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار. ووصفت مصادر رسمية في تل أبيب الرد بأنه "سلبي"، مشيرة إلى أن الفجوات لا تزال كبيرة وتتطلب اتخاذ قرارات صعبة. وكان 6 أعضاء بالكونغرس الأميركي قد دعوا -في بيان مشترك- إدارة ترامب إلى الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الأسرى، واصفين الأوضاع الإنسانية في القطاع بأنها "مروعة وغير مقبولة". في هذه الأثناء، نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مسؤول إسرائيلي رفيع قوله إن العملية العسكرية في غزة قد تدخل مرحلة "أكثر تصعيدا" إذا لم يحدث تقدم ملحوظ في المفاوضات، مضيفا أن الجيش الإسرائيلي قد يلجأ إلى خلق "تهديد عسكري حقيقي في مناطق معينة" كوسيلة للضغط من أجل التوصل إلى صفقة جزئية مع حماس. حماس: لا معنى لاستمرار المفاوضات وفي المقابل، كشف رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة خليل الحية عن تفاجؤ قيادة المقاومة بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جولة المفاوضات الأخيرة، رغم التقدم الواضح الذي تحقق والتوافق إلى حد كبير مع ما عرضه الوسطاء. وإزاء هذا التطور، أعلن الحية أنه "لا معنى لاستمرار المفاوضات تحت الحصار والإبادة والتجويع" لأطفال ونساء وأهالي قطاع غزة. وفي استعراض تفصيلي لمسار المفاوضات، أوضح الحية -خلال كلمة على شاشة الجزيرة- أن قيادة المقاومة قدمت كل مرونة ممكنة خلال 22 شهرا من المفاوضات الشاقة، وضعت فيها مصلحة الشعب وحقن دمائه نصب أعينها، وتجاوبت مع الوسطاء في كل المحطات. وبناء على هذه الجهود المستمرة، أكد أن الجولة الأخيرة شهدت تقدما واضحا وتوافقا كبيرا، خاصة في ملف الانسحاب والأسرى ودخول المساعدات، مع تلقي ردود إيجابية من الاحتلال. غير أن المفاجأة جاءت، وفق الحية، عند انسحاب الاحتلال الصهيوني من جولة المفاوضات، الذي تساوق معه مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ، في خطوة وصفها الحية بـ"المفضوحة المكشوفة" التي تهدف إلى "حرق الوقت" ومزيد من الإبادة للشعب الفلسطيني. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق على غزة أسفرت عن دمار هائل ووضع إنساني كارثي، وسط إدانات دولية واسعة ومطالبات بوقف فوري للقتال.