٠٦-٠٧-٢٠٢٥
زاهي حواس… حين يتكلّم الحجر بلغة عالمٍ لا ينام
في أرضٍ تصرخ حضارةً، وتهمس الرمال بأسرار الملوك والآلهة، وُلد رجلٌ صار اسمه مرادفًا للآثار المصرية، ووجهًا لصورتها عالميًّا. زاهي حواس، العالم الذي لم يكتفِ بأن يكون منقّبًا عن ماضٍ عظيم، بل جعله حاضرًا ناطقًا، يرافقه في المؤتمرات والمتاحف والبرامج الوثائقية، كأنّ الفراعنة منحوه وصيّتهم.
من دمياط، المدينة التي تتعانق فيها ضفاف النيل والبحر، بدأ الحلم. التحق بجامعة الإسكندرية لدراسة الآثار اليونانية والرومانية، لكن قلبه ظلّ معلّقًا بالرمال التي تُخفي أسرار الأهرامات. لم تمضِ سنوات قليلة حتى عاد إلى حضن الحضارة المصرية القديمة، حاملًا شهادة في الآثار المصرية من جامعة القاهرة، ثم الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، كأوّل مصري يحصل عليها في هذا المجال من واحدة من أرقى جامعات أمريكا.
عرفه العالم كمكتشفٍ لا يُكلّ، لا يهدأ له خاطر إلّا إذا أزاح الغبار عن حجر أو سرد حكاية مومياء. وفي وادي الملوك، بين صمت الجدران ونقوش الحياة الآخرة، كشف عن أسرار كثيرة، أبرزها مومياء الملكة حتشبسوت، وتابع أبحاثه في لغز وفاة توت عنخ آمون مستخدمًا أحدث وسائل الطب الشرعي والتصوير بالرنين المغناطيسي.
ولم يكن حواس مكتفيًا بالماضي، بل كان مدافعًا شرسًا عن حاضر الآثار المصرية. طالب باستعادة الكنوز المنهوبة، ونجح بالفعل في إعادة قطع أثرية ثمينة من متاحف كبرى في الخارج، متحدّثًا باسم حضارةٍ ظلّت تُنهب لعقود، فأعاد لها بعضًا من هيبتها المفقودة.
كتب بالعربية والإنجليزية، للكبار والصغار، بأسلوب مبسّط جعل من علم المصريات مادة حيّة، لا حكرًا على النُخب الأكاديمية. ومن كتبه: 'الملك الذهبي'، 'سحر الفراعنة'، 'رمسيس الثاني'، وغيرها من المؤلفات التي تُدرّس وتُترجم.
لكن زاهي حواس لم يكن فقط في الكتب والمقابر. كان حاضرًا في كل بيت عبر شاشات التلفزة. يتجوّل بين الأعمدة والصروح، يشرح، يروي، يبتسم، يندهش، ويُدهش. ظهر في برامج عالمية، وأدار جولات لزعماء ومشاهير من أنحاء العالم، من أوبرا وينفري إلى باراك أوباما، وظلّ يُردّد دائمًا: 'كل حجر في مصر له قصة، وأنا مجرّد راوٍ أمين'.
وإن كان بعضهم رأى في حضوره الإعلامي طغيانًا، أو في سلطته امتدادًا لعصر مركزيّ، يبقى المؤكّد أنّ زاهي حواس، بقبّعته الشهيرة وصوته الجهوري، استطاع أن يُعيد البريق إلى علم الآثار المصري، ويمنحه هوية جذّابة، تُشبه الفراعنة الذين أبهروا الدنيا وما زالوا.
في زمنٍ سريع، نسى فيه البعض أن في الأرض ما يُشبه المعجزة، جاء زاهي حواس ليقول إن الماضي ليس مقبرة، بل مرآة، وأن حضارة الأهرام لا تزال تنبض… فقط، حين تُنصت لحارسها.
وفي هذا السياق، يكتب الدكتور زاهي حواس فصلًا جديدًا في حضوره العالمي، حيث يخوض جولة محاضرات غير مسبوقة في ٣٣ ولاية أميركية، ينتقل بينها كصوتٍ لمصر يجوب قارات التاريخ. ويتوّج هذه الجولة النوعية بمحاضرة في الثاني من أغسطس بمدينة مونتريال، بعد أن تحدّث في كبرى المدن الأميركية عن أسرار الفراعنة أمام جماهير يتراوح عددها ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف شخص في كل محطّة.
قبل كل محاضرة، تطلّ ملامحه على شاشات كبريات القنوات مثل Fox TV وABC وNBC، متحدّثًا عن روعة الحضارة المصرية، فيما تبدأ الأمسية بعرض فيلم قصير عن حياته، تعقبه ندوة مطوّلة تمتدّ لساعة ونصف حول أهم الاكتشافات في الأهرامات ووادي الملوك، ثم حوار مفتوح مع الجمهور، وختامًا توقيع كتبه التي أصبحت مرجعًا محببًا في العالم، ومنها: 'توت عنخ آمون: الفرعون الذهبي'، 'Zahi Hawass: Secret Egypt'، 'رمسيس العظيم'، 'Pyramids'.
الجولة لم تكن مجرّد سلسلة محاضرات، بل حملة دعائية ثقافية كبرى، يُشار إليها بوصفها أضخم ترويج للآثار المصرية في الخارج. وقد حظي حواس في كل محطة بلقاءات خاصة مع كبار الشخصيات، وتفاعل إعلامي غير مسبوق، يؤكّد أنّه لم يعد فقط عالم آثار، بل بات رمزًا ثقافيًّا يُعيد تقديم مصر القديمة بلغةٍ عصرية، جذّابة، وعلمية في آن.
وفي كل خطوة يخطوها فوق تراب المعابد أو بين أعمدة الزمن، يثبت زاهي حواس أن الأثر ليس مجرّد حجر، بل هو نبضُ أمةٍ حيّة، ومرآةٌ لروحٍ تأبى أن تُنسى. لا يحمل في يده معولًا فحسب، بل يحمل رسالة، صوتها يعلو في العواصم، وصداها يصل إلى القلوب… كأنّ مصر تتكلّم من خلاله، وتحكي حكايتها الطويلة بعين عالمٍ، وبقلبٍ عاشقٍ لا يهدأ.