منذ 8 ساعات
"كلمات الحرب"... قلم في مواجهة مدفع
"ألا تزال تعتقد بأن العالم شاسع؟ وأنه إن كانت هناك حرب في مكان ما، فليس لها تأثير في مكان آخر؟ وأنك تستطيع الجلوس بسلام حتى تنقضي، متجاهلاً كل ما تراه؟ نستغرق في النوم كما لو أن الحرب القائمة ضمن حدودنا لم تصل بعد إلى عامها الخامس أصلاً. كما لو أن الشيشان بعيدة من أوروبا بمثل بعد القمر".
بهذه الأسئلة يبدأ فيلم "كلمات الحرب" الذي يروي جزءاً من سيرة الصحافية الروسية آنا بوليتكوفسكايا. أسئلة لم تنتهِ صلاحيتها بعد، على رغم مرور أكثر من 20 عاماً عليها وعلى رغم تغير وجهات القتال.
العمل الذي أخرجه البريطاني جيمس سترونغ وكتبه إريك بوبن حول شجاعة آنا في الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال حرب الشيشان الثانية وانتقادها العلني لنظام فلاديمير بوتين، يستكشف الفترة ما بين عام 1999 حتى عام 2006 ويتابع العنف المتصاعد الذي يهدد استقرار المنطقة، من خلال تقارير صحافية عرضت للعالم الظلم والانحطاط، مما جعلها في النهاية عدواً لبوتين وسلطته على البلاد.
جسدت ماكسين بيك شخصية آنا بوليتكوفسكايا وقام سياران هيندز بدور رئيس تحريرها دميتري موراتوف وجيسون إيزاك بدور زوجها ألكسندر بوليتكوفسكي.
ويعتمد سترونغ على أسلوب سردي يحاكي الوثائقيات، مما يضفي مصداقية وواقعية على الأحداث، مسلطاً الضوء على أهمية حرية الصحافة والتحديات التي يواجهها الصحافيون في بيئات قمعية.
الحرب
حرب الشيشان الثانية، نزاع عسكري بين القوات الروسية والجماعات المسلحة الشيشانية، امتد من عام 1999 حتى عام 2009 بصورة رسمية. وتميزت هذه الحرب بأنها أكثر دموية وتعقيداً من الحرب الأولى (1994-1996)، وأسفرت عن إعادة فرض السيطرة الروسية على جمهورية الشيشان بعدما كانت تمتعت بحكم شبه مستقل.
ويقدّر عدد القتلى بعشرات الآلاف، بينهم مدنيون كثر، وأدت الحرب إلى دمار هائل للبنية التحتية، بخاصة في غروزني التي اعتبرت آنذاك "أكثر مدينة مدمرة في العالم". وأسفر ذلك عن تصاعد القبضة الأمنية الروسية بقيادة فلاديمير بوتين الذي استخدم الحرب لصعوده السياسي ووصوله إلى الرئاسة، وسيطرة نظام قديروف على الشيشان، في ظل تحالف قوي مع الكرملين، وانتشار التطرف الإسلامي خارج حدود الشيشان نحو جمهوريات شمال القوقاز.
في أحد المشاهد، يقول صحافي، "لا أحتاج إلى مراسل حربي، فالجميع لديه واحد من هؤلاء. نحن بحاجة إلى مراسلة شعبية حساسة، متعاطفة، ولكن أيضاً صارمة العقل، مستعدة لمواجهة الأقوياء من خلال طرح الأسئلة الصعبة".
والمراسلة التي تنطبق عليها هذه المواصفات هي آنا بوليتكوفسكايا، وكانت تكتب عن أمور بسيطة في روسيا، لكن حين انغمست في حرب الشيشان، اكتشفت الفظائع التي يقوم بها الجيش الروسي هناك، وباتت صوتاً لمهمشي هذا البلد.
تضليل إعلامي
واللافت هنا أن الجمهور الروسي لم يكُن يعلم شيئاً عما يحصل في هذه الحرب لأن الإعلام بكل بساطة كان يستقي معلوماته من مصادر رسمية مضللة. ويقول المتهكمون إننا نعيش في عصر "ما بعد الحقيقة"، حيث مصادر الأخبار منقسمة ومنعزلة، ولا يوجد فهم مشترك للمفاهيم الرئيسة مثل الحقائق أو الإثبات أو المنطق النقدي.
وأحد أسباب ذلك، التضليل المتعمد الذي كان الاتحاد السوفياتي ينشره عبر محو الأشخاص الذين لا يحظون بالقبول في الصور التاريخية، قبل أيام الـ"فوتوشوب" بوقت طويل، حتى إن روسيا "الديمقراطية" الجديدة أوائل التسعينيات واصلت السيطرة على المعلومات في الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، كانت لدى ميخائيل غورباتشوف رؤية لصحافة أكثر استقلالية. فاستخدم الأموال التي حصل عليها من جائزة "نوبل" للسلام (1990) في إنشاء صحيفة لم تكُن الحكومة تسيطر عليها. وكانت تسمى "نوفايا غازيتا" التي تعني صحيفة على الطراز الجديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلم غورباتشوف أن المجتمع القائم على الثقة والعدالة والحقيقة، وحده الذي يمكن أن يحافظ على الديمقراطية. ومن خلال تقارير بوليتكوفسكايا، نشرت الصحيفة قصصاً عن الحرب الروسية في الشيشان. حاول الروس إيقافها بالتهديدات والإساءات والسموم. وحطموا جهاز التسجيل الخاص بها وتسببوا في طرد زوجها، وهو صحافي تلفزيوني روسي بارز، من العمل. وأخيراً، أطلقوا عليها النار.
أكثر الأجزاء المؤثرة في الفيلم تفاعلات بوليتكوفسكايا مع المدنيين في الشيشان الذين يشعرون في البداية بالقلق بسبب خبرتهم مع الصحافيين الذين لا يهتمون إلا بالدعاية. إن استماع بيك إليهم مؤثر للغاية، وتجعلنا نرى كيف أن تعاطف بوليتكوفسكايا مهم في كسب ثقتهم بقدر التزامها إخبار العالم بما تراه.
وهذا له نتيجة مفجعة في وقت لاحق من الفيلم عندما تخبرها السلطات الروسية بأنها تحتاج إليها للتفاوض حول وضع الرهائن لأنها الوحيدة التي يثق بها الإرهابيون. وأدى إيمانها بقدرتها على إيجاد حل سلمي والتزامها حماية حتى الإرهابيين من الشيشان إلى وضع ثقتها في المكان الخطأ.
يصف المنتج التنفيذي شون بن الفيلم بأنه "شخصي أكثر منه جدلي"، ومن الواضح أنه ليس جدلياً. فحجته الوحيدة هي قول الحقيقة. إنه فيلم درامي تقليدي يستند إلى قصة حقيقية، لكنه ليس شخصياً حقاً. فهو لا يُظهر لنا أبداً سبب استعداد بوليتكوفسكايا لتحمل أخطار نقل هذه القصة أو مدى تحملها المسؤولية عن وفاة كثير من الرهائن.
ضعف الحبكة
ومن أضعف أجزاء الفيلم المشاهد مع عائلة بوليتكوفسكايا، فمن المفهوم أن زوجها (جيسون إيزاك) وأطفالها البالغين منزعجون للغاية من الأخطار التي تتعرض لها والوقت الذي تقضيه بعيدة منهم، لكن هذه المقاطع تبدو وكأنها ساذجة.
وأفضل المشاهد مع رئيس تحريرها ديمتري (سياران هيندز) الذي يعجب بها ويدعمها ولكنه على استعداد للتصدي لها عندما تفقد وجهة نظرها. والمشهد الأقوى في العمل محادثتها الحذرة مع أحد الروس الذين أرسلوا لتخويفها، والذي يؤدي دوره إيان هارت بذكاء ماكر ولمسة من الذكاء.
يوصف بوتين ضمن العمل بـ"المستبد المتوحش المتعطش للسلطة"، "بوتين يحتقرنا نحن الشعب"، كما تقول بوليتكوفسكايا وهي تتعمق في الشكاوى ضد القوات الروسية في الشيشان، مع وصف مباشر للتعذيب والمجازر والمقابر الجماعية التي تنقلها مباشرة إلى الكاميرا بتأثير قوي.
وانتقدت تقارير بوليتكوفسكايا الجريئة والحماسية عن حرب الشيشان الثانية الكرملين والجيش الروسي وفلاديمير بوتين شخصياً بشدة. (وحقيقة أنها قتلت في يوم عيد ميلاده لم تكُن مصادفة بالتأكيد.) وبعد مرور 19 عاماً على وفاتها، لا تزال بطلة شعبية لمقاومة الاستبداد، بخاصة في ظل تصاعد القمع في كل مكان والتهديدات المستمرة للصحافيين.
بالنظر إلى كل ذلك، فإن الفيلم يستحق الاحترام لموضوعه، على رغم أنه عرض بسيط جداً لقصة بوليتكوفسكايا، لكنه عمل مليء بالعاطفة المبجلة والـ"كليشيهات". ويشار أيضاً إلى أن عائلة بوليتكوفسكايا لم تمنح الفيلم مباركتها، وقد لا يكون بعضهم سعيداً، على سبيل المثال، بالشخصيات المكتوبة بصورة ركيكة لنظرائهم الخياليين، كابنها إيليا (هاري لوتاي) الذي يبدو مزعجاً ومغروراً حتى عندما تكون مشاعره مفهومة.
عملت بوليتكوفسكايا كمفاوضة بين قوات الأمن الروسية والإرهابيين الشيشان، بخاصة خلال الحصار بمسرح دوبروفكا في موسكو، وهو حدث كارثي يستحق صناعة فيلم أكثر ديناميكية من الحركة البطيئة والصوت الخافت المقدم هنا.
سُمّمت الصحافية الروسية لاحقاً على متن طائرة متجهة إلى بيسلان، حيث قصفت مدرسة مليئة بالأطفال على يد الإرهابيين أيضاً. نجت بوليتكوفسكايا من محاولة الاغتيال تلك تحديداً، لكن المحاولة الثانية عام 2006 وخفت صوت الصحافية الاستقصائية أخيراً.
يُحسب للفيلم أنه يذكرنا قبل تتر النهاية، بأن بوليتكوفسكايا لم تكُن وحدها، إذ قُتل أكثر من 1700 صحافي خلال السنوات الـ25 الماضية بسبب تغطيتهم لقصص كان أصحابها على استعداد للقتل لإبقاء الأمر سراً.
ويقول منتج الفيلم شون بين إن "فيلم 'كلمات الحرب' تكريم لآنا بوليتكوفسكايا وللصحافيين في جميع أنحاء العالم الذين تعد تقاريرهم الشجاعة عن الحروب الوحشية وانتقادهم الصريح للقادة المتوحشين أمراً ضرورياً لحرياتنا جميعاً".
سيرة
آنا ستيبانوفنا بوليتكوفسكايا (1958 - 2006) صحافية وكاتبة وناشطة حقوق إنسان روسية عرفت بمعارضتها للحرب الشيشانية الثانية وللرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2006، تعرضت لإطلاق النار عليها وقتلت أمام المجمع السكني الذي تقطنه، وهي عملية اغتيال لم تُحل، وما زالت تثير اهتمام المجتمع الدولي.
صنعت بوليتكوفسكايا شهرتها من تغطية الأحداث في الشيشان. وتحولت مقالاتها بعد عام 1999، حول الأوضاع في الشيشان إلى كثير من الكتب التي نشر معظمها خارج روسيا، وتابع القراء الروس تحقيقاتها ومنشوراتها من خلال صحيفة "نوفيا غازيتا" الروسية المعروفة بتحقيقاتها التي تغطي الشؤون السياسية والاجتماعية الروسية الحساسة. ومنذ عام 2000، نالت كثيراً من الجوائز الدولية، بينها جائزة "يونيسكو/غييرمو كانو العالمية لحرية الصحافة عن سنة 2007 (بعد وفاتها).
وعام 2004، نشرت أشهر أعمالها كتاب "روسيا بوتين". ولفتت قصة آنا بوليتكوفسكايا انتباه العالم بعد أن ظهرت انتقاداتها الصريحة لحكم فلاديمير بوتين للشيشان والفظائع المكثفة التي ارتكبت خلال الحرب.
وفي شباط (فبراير) 2001، وبينما كانت تحقق في عمليات الاغتصاب والضرب والقتل التي ارتكبها الجيش الروسي في قرية خاتوني، اعتقلها الجيش الروسي واحتجزها لمدة ثلاثة أيام، بزعم أن أوراق اعتمادها الصحافية لم تكُن سليمة. وخلال تلك الفترة، ذكرت أن الجنود الروس هددوها بإطلاق النار عليها واغتصابها وإيذاء أطفالها.
تخرجت بوليتكوفسكايا في جامعة موسكو الحكومية بشهادة في الصحافة عام 1980، وعملت في كثير من الصحف التجارية قبل أن تنتقل إلى صحيفة "أوبشايا غازيتا" الأسبوعية التي عملت لديها من 1994-1999، ثم انتقلت إلى صحيفة "نوفايا غازيتا" عام 1999. وهي مؤلفة كتاب "حرب قذرة: مراسلة روسية في الشيشان".
قُتلت بوليتكوفسكايا في السابع من أكتوبر 2006، بعد إطلاق النار عليها أمام شقتها وسط موسكو. وقالت الشرطة إنه عُثر إلى جانب جثتها على مسدس وأربعة فوارغ رصاصات فارغة، وأشارت التقارير إلى أن عملية القتل تمت بالتعاقد.
واجهت بوليتكوفسكايا احتمال الموت برزانتها المميزة. وقالت خلال مقابلة مع صانع الأفلام إريك بيرغكراوت "يقولون إنك إذا تحدثت عن الكارثة يمكن أن تتسبب في وقوعها. وهذا هو السبب في أنني لا أقول أبداً بصوت عالٍ ما أخشاه. فقط حتى لا يحدث ذلك". كانت تعتقد بأن مهمتها تقديم تقرير عن "الحرب القذرة" في الشيشان التي شنها نظام بوتين في خريف عام 1999.
وبحلول وقت وفاتها، كانت بوليتكوفسكايا قامت بما لا يقل عن 50 رحلة إلى الشيشان، وهو مكان وحشي وخطر تجنب معظم الصحافيين الروس الآخرين القيام به.
ومن الخطاب الذي ألقته لدى قبولها جائزة الشجاعة في الصحافة "من المتعارف عليه أن الصحافيين يذهبون إلى الأماكن التي تندلع فيها الحروب والكوارث لأن الناس والعالم يريدون معرفة الحقيقة والأخبار عن هذه الأحداث. في روسيا الأمور اليوم عكس ذلك تماماً. فالناس لا يريدون معرفة الحقيقة حول الحرب الدائرة. لقد تعرضوا لعملية غسيل دماغ أيديولوجية قوية ودُفعوا إلى الاعتقاد بأن الأحداث في الشيشان ليست سوى عملية مكافحة الإرهاب، وهم لا يريدون معرفة حقيقة ما يحدث هناك. إنهم لا يريدون أن يسمعوا عن الجرائم التي يرتكبها الجيش أو عن معاناة السكان المدنيين أو عن آلاف الضحايا من جميع الأطراف. لذا، فإن شجاعة الصحافي في مثل هذه الظروف تتمثل في إعطاء هذه المعلومات إلى الناس، رغماً عنهم إلى حد كبير، وجعلهم يفكرون في المأساة التي تمر بها البلاد، والتفكير في ضرورة وقف ذلك".