منذ يوم واحد
الـمدارس المركزية بين التمكين والاستدامة
تجسد الحكمة الصينية الشهيرة "إذا أردت سنةً من الرخاء فازرع حبوبًا، وإذا أردت عشر سنوات فازرع أشجارًا، وإذا أردت مئة عام فازرع إنسانًا"، أهمية الاستثمار في رأس المال البشري؛ فبناء الإنسان أبقى وأعمق أثرًا لا سيما في منظومة التعليم. واستجابةً لهذا التوجه تُسّجل المدارس السعودية في المدن حضورًا لافتًا في ميادين التميز مُحققةً جوائز محلية، وخليجية، وعالمية، ومُتصدّرةً مؤشرات الأداء وفق معايير هيئة تقويم التعليم والتدريب للتقويم المدرسي، والتي أُعلنت في عام 2024 عن تمّيز أكثر من (292) مدرسة، وتواصل هذه المدارس حصد الإنجازات في ظل دعم حكومة رشيدة تُؤمن أن الاستثمار في تنمية رأس المال البشري. لكن على الجانب الآخر، ما زالت مدارس المناطق النائية تواجه تحديات هيكلية مزمنة تُؤثر سلبًا على جودة مخرجاتها التعليمية، وعلى قدرتها على تحقيق الاستدامة.وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف نردم الفجوة بين مُخرجات التعليم في المدن ونظيراتها في البيئات النائية والريفية لضمان تعليم مُنصف وشامل للجميع؟
يواجه التعليم بالمناطق النائية عدداً من التحديات ومنها تسرب الطلبة، أو تأخر التحاقهم بالمدارس. كذلك ندرة الموارد، وتحديات البنية التحتية، وضعف الكفاءات من المعلمين والإداريين، وانخفاض دافعيتهم، إلى جانب ضعف الحوافز لاستقطاب المؤهلين، ومعدلات عالية من الدوران في الكوادر التعليمية والقيادية بما ينعكس سلبًا على جودة المخرجات واستدامتها. وفي ظل توجه وزارة التعليم نحو تطبيق نموذج المدارس المركزية وما يصاحبه من إلحاق عدد من المدارس في المناطق النائية بهذه المنظومة، يأتي هذا التوجه سعيًا لتحسين جودة التعليم وتعزيز استدامته. ويهدف النموذج التشغيلي لتلك المدارس إلى دمج المدارس الصغيرة تحت إدارة مركزية تقوم على تدريس بعض التخصصات إلكترونيًا بما يُوفر فرص تعليمية متكافئة للطلبة جميعًا، مع استمرار تدريس المقررات الأساسية (لغتي، والرياضيات، والعلوم) حضوريًا. وتُعد المدارس المركزية نموذجًا تعليميًا مُبتكرًا يسعى إلى إحداث تحول نوعي في بنية التعليم، يوازن بين الكفاءة التشغيلية وعدالة الفرص التعليمية، مُعززًا بممارسات قيادية حديثة. وفي ضوء التحديات المجتمعية المتراكمة في المناطق النائية تبرز الحاجة الملحّة إلى إعداد قادة تربويين ذوي كفايات متعددة تتجاوز الإدارة التقليدية، من خلال تصميم برامج تأهيلية تراعي خصوصية تلك البيئات، وتمكّن القادة من ممارسة القيادة الثقافية المستجيبة الواعية بتنوع السياقات المحلية، بما يعزز تواصل المدرسة مع المجتمع المحلي، ويدعم فاعلية الخطط التربوية. كما أنه من الضروري تفعيل الشراكات البحثية بين الجامعات وإدارات التعليم، بهدف تطوير الممارسات القيادية وبناء حلول تطبيقية للتحديات الميدانية. ويتطلب نجاح هذا النموذج أيضًا إنشاء دعم مهني للقادة في المناطق النائية، تُخفف من شعور العزلة الإدارية، وتُسهم في دعم اتخاذ القرار التشاركي، يُضاف إلى ذلك أهمية تدريب القادة على إدارة مهامهم المتعددة، بما يشمل القيادة الأكاديمية، وتوظيف الموارد بكفاءة، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، والتواصل المجتمعي.
ختامًا، في ضوء تمكين المدرسة لم يعد الاستثمار في تطوير القيادات التعليمية خيارًا؛ بل ضرورة مُلحة لبناء مُستقبل تعليمي مُزدهر، كما أن نموذج المدارس المركزية يُمثل نقلة نوعية في معالجة التحديات التعليمية في المناطق النائية، حيث تُوفر نموذجًا مستدامًا يوازن بين الكفاءة التشغيلية والجودة التربوية. ولتحقيق أقصى استفادة يجب مواصلة الاستثمار في إعداد قادة تعليميين يمتلكون كفايات مُتعددة قادرة على إحداث التحول الحقيقي، وتحقيق شراكات مُجتمعية تعزز قبول المجتمع المحلي وتفاعله بما يُلبي طموحات الأجيال، ويُحقق الاستثمار الأمثل في القدرات البشرية الوطنية لتواكب المملكة العالم وتُسابقه.
جامعة الملك سعود