
هل سمعت من قبل عن "أيام الكلب"؟ إنها أكثر حرارة مما تتخيل!
في كل صيف، ومع ارتفاع درجات الحرارة إلى ذروتها، يظهر في الإعلام الغربي تعبير يعود إلى قرون مضت: "Dog Days of Summer"، أو ما يُعرف تقليدياً بـ"أيام الكلب".
وراء هذه العبارة تاريخ طويل يجمع بين الرصد الفلكي والموروث الشعبي وتغيرات الطقس، وهي ظاهرة ما تزال تثير الفضول حتى اليوم، خاصة مع تزايد الحديث عن الاحتباس الحراري وطول فترات الحر.
مصطلح "أيام الكلب" لا يُشير إلى الحيوانات الأليفة، بل إلى نجم "الشعرى اليمانية"، ألمع نجم في السماء، والذي يظهر في كوكبة تُدعى "الكلب الأكبر" (Canis Major).
منذ آلاف السنين، لاحظ الإغريق والرومان أن هذا النجم يظهر فجراً في توقيت يتزامن مع أشد أيام الصيف حرارة، وبما أن ظهوره كان يقترن بموجات الحر، فقد ارتبط في أذهانهم بالأمراض، والتوتر، وفترات اللااستقرار، ومن هنا وُلد المصطلح الذي ما زال يُستخدم في اللغة الإنجليزية حتى اليوم، رغم أن الارتباط بين النجم والحرارة لم يثبت علمياً.
في الثقافات القديمة، أخذت هذه الظاهرة معاني متباينة، ففي مصر القديمة، كان طلوع الشعرى إشارة إلى فيضان النيل، وهو حدث موسمي كان مؤشر على موسم خصب.
أما في الموروث الإغريقي والروماني، فقد كانت هذه الأيام تُعد نذير شؤم، وكان الناس يتجنبون اتخاذ قرارات كبيرة أو بدء الحروب خلالها.
Getty Images
العرب بدورهم لم يستخدموا مصطلح "أيام الكلب"، لكنهم قسّموا الصيف إلى مراحل مثل "القيظ" و"جمرة القيظ" التي تشير إلى أكثر فترات فصل الصيف ارتفاعاً في درجات الحرارة، وكان طلوع نجم الشعرى محسوباً في تقاويمهم الفلكية والزراعية.
فلكياً، يُعد ظهور نجم الشعرى اليمانية حدثاً دقيقاً، لكن تحديد فترة "القيظ" منها لم يسهل تحديده بدقة علمياً، ففي التقويم الغربي، تمتد تقليدياً بين 3 يوليو/تموز و11 أغسطس/آب، إلا أن هذه الفترة تختلف من مكان لآخر بحسب خطوط العرض والظروف المناخية.
وفي الشرق الأوسط، مثلاً، تبدأ موجات الحر الشديد في يونيو/حزيران، وغالباً ما تستمر حتى سبتمبر/أيلول، دون أن يُطلق عليها اسم خاص مشابه.
ومع تصاعد حدة التغير المناخي العالمي، باتت هذه الفترة أكثر من مجرد ذكرى موسمية.
وفقاً للبيانات المناخية، فإن "أيام الكلب" باتت تمتد أطول، وتتسم بدرجات حرارة أعلى، مع زيادة في الرطوبة وركود الرياح، هذه الظروف تخلق بيئة مناسبة لارتفاع استهلاك الكهرباء، وتراجع جودة الهواء، وزيادة احتمالات الحرائق، ما يضع الحكومات أمام تحديات إضافية كل عام.
ولا يقتصر تأثير هذه الظاهرة على الطقس فقط، فبحسب دراسات حديثة، تزداد خلال هذه الفترة معدلات الضغط النفسي، والتوتر، ونوبات الغضب.
كما لوحظ ارتفاع في معدلات الجريمة في بعض المناطق، خاصة تلك التي تفتقر إلى وسائل التبريد أو تعاني من تردّي الخدمات الأساسية.
Getty Images
في المدن الكبرى، يُسجل ارتفاع ملحوظ في حالات الطوارئ الصحية، نتيجة ضربات الشمس أو الإجهاد الحراري، لا سيما بين كبار السن والعُمّال والمشردين.
على المستوى الثقافي، كانت لهذه الأيام مكانة خاصة في الأدب والفولكلور، ففي المسرحيات الإنجليزية الكلاسيكية، كُرّست "أيام الكلب" كرمز لفوضى الصيف واختلال المزاج العام. وتُستخدم عبارة "The dog days are over" في الإنجليزية الحديثة للدلالة على نهاية فترة صعبة.
أما في الثقافة العربية، فلا يوجد مقابل لغوي مباشر، لكن تُستخدم تعبيرات مثل "حرّ لافح" أو "جمرة القيظ"، وتظهر في الأمثال والتحذيرات الشعبية خلال مواسم الصيف القاسية.
التعامل الشعبي مع هذه الفترات يختلف من منطقة لأخرى، حيث يلجأ الناس في الشرق الأوسط إلى تجنّب الحركة في ذروة النهار، وارتداء ملابس خفيفة، والإكثار من السوائل، أما في المدن، فتزداد الحركة في الليل، بينما تعتمد الحكومات على نشرات التوعية الصحية، وتُصدر تحذيرات دورية، وتنصح بتجنب التعرّض الطويل للشمس.
لكن رغم هذه الإجراءات، تظل "أيام الكلب" تمثّل تحدياً متجدداً، خاصة مع تصاعد التغير المناخي، الذي جعل الصيف أكثر شدّة، وغير متوقع في بعض المناطق.
لقد تحوّلت هذه الظاهرة من مؤشر فلكي موسمي إلى مرآة تعكس واقعاً بيئياً متقلّباً، يتطلب مراجعة سياسات التكيّف مع الطقس، لا سيما في الدول التي تعاني من بنية تحتية ضعيفة.
ورغم أن المصطلح قد يبدو غريباً في السياق العربي، إلا أن الظاهرة ذاتها مألوفة لكل من عاش في منطقة حارة، فما تُسمّيه بعض الثقافات "أيام الكلب"، يعرفه سكان الخليج، وبلاد الشام، وشمال أفريقيا، كفصل طويل من التكيّف والتحمّل، وهو ما يجعل هذه الظاهرة فرصة لفهم أعمق للعلاقة المعقّدة بين الطقس والتاريخ والثقافة والإنسان.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 3 أيام
- الوسط
هل سمعت من قبل عن "أيام الكلب"؟ إنها أكثر حرارة مما تتخيل!
Getty Images في كل صيف، ومع ارتفاع درجات الحرارة إلى ذروتها، يظهر في الإعلام الغربي تعبير يعود إلى قرون مضت: "Dog Days of Summer"، أو ما يُعرف تقليدياً بـ"أيام الكلب". وراء هذه العبارة تاريخ طويل يجمع بين الرصد الفلكي والموروث الشعبي وتغيرات الطقس، وهي ظاهرة ما تزال تثير الفضول حتى اليوم، خاصة مع تزايد الحديث عن الاحتباس الحراري وطول فترات الحر. مصطلح "أيام الكلب" لا يُشير إلى الحيوانات الأليفة، بل إلى نجم "الشعرى اليمانية"، ألمع نجم في السماء، والذي يظهر في كوكبة تُدعى "الكلب الأكبر" (Canis Major). منذ آلاف السنين، لاحظ الإغريق والرومان أن هذا النجم يظهر فجراً في توقيت يتزامن مع أشد أيام الصيف حرارة، وبما أن ظهوره كان يقترن بموجات الحر، فقد ارتبط في أذهانهم بالأمراض، والتوتر، وفترات اللااستقرار، ومن هنا وُلد المصطلح الذي ما زال يُستخدم في اللغة الإنجليزية حتى اليوم، رغم أن الارتباط بين النجم والحرارة لم يثبت علمياً. في الثقافات القديمة، أخذت هذه الظاهرة معاني متباينة، ففي مصر القديمة، كان طلوع الشعرى إشارة إلى فيضان النيل، وهو حدث موسمي كان مؤشر على موسم خصب. أما في الموروث الإغريقي والروماني، فقد كانت هذه الأيام تُعد نذير شؤم، وكان الناس يتجنبون اتخاذ قرارات كبيرة أو بدء الحروب خلالها. Getty Images العرب بدورهم لم يستخدموا مصطلح "أيام الكلب"، لكنهم قسّموا الصيف إلى مراحل مثل "القيظ" و"جمرة القيظ" التي تشير إلى أكثر فترات فصل الصيف ارتفاعاً في درجات الحرارة، وكان طلوع نجم الشعرى محسوباً في تقاويمهم الفلكية والزراعية. فلكياً، يُعد ظهور نجم الشعرى اليمانية حدثاً دقيقاً، لكن تحديد فترة "القيظ" منها لم يسهل تحديده بدقة علمياً، ففي التقويم الغربي، تمتد تقليدياً بين 3 يوليو/تموز و11 أغسطس/آب، إلا أن هذه الفترة تختلف من مكان لآخر بحسب خطوط العرض والظروف المناخية. وفي الشرق الأوسط، مثلاً، تبدأ موجات الحر الشديد في يونيو/حزيران، وغالباً ما تستمر حتى سبتمبر/أيلول، دون أن يُطلق عليها اسم خاص مشابه. ومع تصاعد حدة التغير المناخي العالمي، باتت هذه الفترة أكثر من مجرد ذكرى موسمية. وفقاً للبيانات المناخية، فإن "أيام الكلب" باتت تمتد أطول، وتتسم بدرجات حرارة أعلى، مع زيادة في الرطوبة وركود الرياح، هذه الظروف تخلق بيئة مناسبة لارتفاع استهلاك الكهرباء، وتراجع جودة الهواء، وزيادة احتمالات الحرائق، ما يضع الحكومات أمام تحديات إضافية كل عام. ولا يقتصر تأثير هذه الظاهرة على الطقس فقط، فبحسب دراسات حديثة، تزداد خلال هذه الفترة معدلات الضغط النفسي، والتوتر، ونوبات الغضب. كما لوحظ ارتفاع في معدلات الجريمة في بعض المناطق، خاصة تلك التي تفتقر إلى وسائل التبريد أو تعاني من تردّي الخدمات الأساسية. Getty Images في المدن الكبرى، يُسجل ارتفاع ملحوظ في حالات الطوارئ الصحية، نتيجة ضربات الشمس أو الإجهاد الحراري، لا سيما بين كبار السن والعُمّال والمشردين. على المستوى الثقافي، كانت لهذه الأيام مكانة خاصة في الأدب والفولكلور، ففي المسرحيات الإنجليزية الكلاسيكية، كُرّست "أيام الكلب" كرمز لفوضى الصيف واختلال المزاج العام. وتُستخدم عبارة "The dog days are over" في الإنجليزية الحديثة للدلالة على نهاية فترة صعبة. أما في الثقافة العربية، فلا يوجد مقابل لغوي مباشر، لكن تُستخدم تعبيرات مثل "حرّ لافح" أو "جمرة القيظ"، وتظهر في الأمثال والتحذيرات الشعبية خلال مواسم الصيف القاسية. التعامل الشعبي مع هذه الفترات يختلف من منطقة لأخرى، حيث يلجأ الناس في الشرق الأوسط إلى تجنّب الحركة في ذروة النهار، وارتداء ملابس خفيفة، والإكثار من السوائل، أما في المدن، فتزداد الحركة في الليل، بينما تعتمد الحكومات على نشرات التوعية الصحية، وتُصدر تحذيرات دورية، وتنصح بتجنب التعرّض الطويل للشمس. لكن رغم هذه الإجراءات، تظل "أيام الكلب" تمثّل تحدياً متجدداً، خاصة مع تصاعد التغير المناخي، الذي جعل الصيف أكثر شدّة، وغير متوقع في بعض المناطق. لقد تحوّلت هذه الظاهرة من مؤشر فلكي موسمي إلى مرآة تعكس واقعاً بيئياً متقلّباً، يتطلب مراجعة سياسات التكيّف مع الطقس، لا سيما في الدول التي تعاني من بنية تحتية ضعيفة. ورغم أن المصطلح قد يبدو غريباً في السياق العربي، إلا أن الظاهرة ذاتها مألوفة لكل من عاش في منطقة حارة، فما تُسمّيه بعض الثقافات "أيام الكلب"، يعرفه سكان الخليج، وبلاد الشام، وشمال أفريقيا، كفصل طويل من التكيّف والتحمّل، وهو ما يجعل هذه الظاهرة فرصة لفهم أعمق للعلاقة المعقّدة بين الطقس والتاريخ والثقافة والإنسان.


الوسط
٢٩-٠٦-٢٠٢٥
- الوسط
أسرار "لغة اليد" التي تجعلك أكثر جاذبية وإقناعاً
Getty Images ساعدت خبيرة علم النفس في جامعة هارفارد إيمي كَدي على نشر الفكرة المتعلقة بأن هناك وضعية وقوف توحي بأن صاحبها في موقعٍ مُهيمن أو مُسيطر في المرة المقبلة التي تشاهد فيها خطاباً سياسياً أو محاضرةً من تلك التي تتضمنها سلسلة مؤتمرات "تيد" (TED) العالمية التي يتحدث فيها المؤثرون، يجدر بك أن تولي اهتمامك ولو لدقيقة، لإلقاء نظرة عن كثب على يديْ المحاضر، لترصد هل حركاتهما بطيئةٌ أم مفعمةٌ بالحيوية؟ وما إن كان صاحبهما يحركهما بشكلٍ محدودٍ أم يفرد ذراعيه على اتساعهما؟ وما إذا كانت هاتان اليدان تتحركان في أغلب الوقت رأسياً أم أفقياً. فمن المعروف أن الطريقة التي تُستقبل بها رسالةٌ ما قد تتأثر بالإشارات والإيماءات غير اللفظية لمُرْسِلِها، بشكلٍ أكبر من تأثرها بالكلمات المنطوقة ذاتها. وعلى سبيل المثال، اكتشفت "بي بي سي كابيتال" أن الصوت الأعمق يعزز التصوّرات بأن صاحبه يحظى بقدرٍ أكبر من السلطة والنفوذ، بل إن ذلك يؤثر - على ما يبدو - في الدخل المادّي للرؤساء التنفيذيين، ومدة بقائهم في الشركات التي يعملون لحسابها. كما خَلُصَت سلسلة أبحاث أجراها الباحث ماركوس كوبنشتاينر من جامعة فيينا لدراسة الطريقة التي "يتكلم بها الناس بأيديهم" إلى نتائج لافتةٍ للنظر. فقد تبين أن إشارات اليد وتلويحاتها تكشف عن عناصر مهمة في شخصيتك، كأن تكون شخصية انبساطية أو مُهيمنة، حتى مع وضع مختلف العوامل الأخرى المتعلقة بذلك الأمر في الحسبان. بل إن هذه الإيماءات قادرةٌ على أن تغير تصور الآخرين عن طول قامتك، لتجعلك تبدو أطول أو أقصر مما أنت عليه، بعدة سنتيمترات أعلى أو أقل. ونتائج دراسات كوبنشتاينر تذكر بالبحث الشهير الذي أُجري حول ما يُعرف بـ"الوَقْفات المُهيمنة أو المُسيطرة"، وهي عبارة عن استراتيجيةٍ لاتخاذ وضعيةٍ جسديةٍ تقف فيها منتصباً واضعاً يديْك على وركيْك ومُباعداً بين ساقيك، على غرار الطريقة التي تقف بها شخصية "المرأة الخارقة" السينمائية على سبيل المثال. Getty Images ويُعتقد أن هذه الإيماءات واللفتات الصغيرة تُحدثْ ردود فعلٍ يتلقاها الدماغ على شكل "صدى" أو "تغذيةٍ عكسيةٍ"، ما يدفع المرء للشعور بأنه صاحب شخصية أكثر ثقة وحزماً، قبل أن يتحدث أمام الجماهير. وفي هذا الصدد تقول الأستاذة في جامعة هارفارد إيمي كَدي - التي أجرت الكثير من الدراسات المتعلقة بـ"الوقفة المُهيمنة" - إن الإنسان يتظاهر بأنه يحظى بتلك الثقة إلى أن يتمكن من أن يتمتع بها بالفعل. ورغم أن أبحاث كَدي لاقت انتقادات في ظل وجود بعض الشكوك الجدية بشأن مدى دقة نتائجها ومصداقيتها، فإن الدراسة الأخيرة التي تحدثنا عنها في بداية هذه السطور، أظهرت أن للوقوف في وضعياتٍ توحي بالهيمنة والسيطرة، تأثيراً قوياً على ما يبلوره الناس من تصوراتٍ بشأن أنفسهم. غير أن هناك بعض الاختلافات المهمة بين الدراسة الأخيرة والأبحاث التي جرت في السابق حول "الوقفات المُهيمنة". فتلك الوقفات كانت مُصممةً في الأساس ليقوم بها المرء بعيداً عن الأنظار كي تزداد ثقته بنفسه قبل مشاركته في اجتماعٍ ما، كما أنها تُمثل - بوجهٍ عامٍ - وضعياتٍ جسديةً ساكنةً وثابتةً، أكثر من كونها أوضاعاً متحركةً. أما بحث كوبنشتاينر فيختار محوراً مختلفاً له تماماً، إذ يتناول بالفحص والدراسة حركات أيادي الخطباء والمتحدثين خلال إلقائهم كلماتهم، والطرق التي يؤثر بها ذلك على ما يُشكل عنهم من تصورات. وفي الدراسات التي يجريها هذا الخبير، يُستعان عادةً بمقاطع مصورة لخطاباتٍ حقيقية ألقاها سياسيون. ثم تُحول صور هؤلاء الخطباء إلى رسومٍ متحركة في غاية البساطة، تكتفي بإظهار قوام المرء على هيئة خطوط مجردة لا تكشف عن ملامحه بأي شكلٍ من الأشكال، وهو ما يلغي تأثير ما يُوصف بالعوامل المُربكة لأفراد العينة مثل تعبيرات الوجه، بحكم أن هذه التعبيرات لن تكون ظاهرةً أمام الخاضعين للبحث عندما تُعرض عليهم تلك الرسوم. وقد طُلِبَ من المشاركين في الدراسة بعد ذلك إعطاء تقييمهم للشخصيات المرسومة التي يرونها أمامهم في هذه المقاطع المصورة الصامتة، وذلك ليستنبطوا من حركاتها الجسدية ما إن كان أصحاب تلك الأشكال يتسمون بخصالٍ شخصيةٍ معينةٍ. وعلى الرغم من أنه بدا أن هناك صفاتٍ يصعب استنباط وجودها من عدمه من خلال مراقبة إيماءات اليد وإشاراتها كالتحلي بضميرٍ حيٍ، إلا أن بعض الصفات الأخرى كانت مرئيةَ وجلية بوضوح. فعلى سبيل المثال، بدا أن كون المرء صاحب شخصيةٍ انبساطيةٍ مرتبطاً أكثر بتحريكi يديه - عموماً - لمراتٍ أكثر، على أن يتخلل ذلك فتراتٌ قصيرةٌ تتوقف فيها اليدين عن الحركة. Getty Images تجتذب بعض الخطابات في مؤتمرات "تيد" العالمية الكثير من الجمهور أما بلورة مفهومٍ عن إنسان ما بأنه يحظى بسلطة ونفوذ، فقد بدا - بحسب الدراسة - مرتبطاً بمدى اتساع الحيز الذي يُحرك فيه يديْه بشكلٍ رأسيٍ؛ وبحركة يديه من وراء المنصة التي يقف خلفها، هل هي مُرتفعةً حتى مستوى كتفه أم لا. وأشارت النتائج إلى أنه يُنظر إلى من يحرك - على نحوٍ منتظمٍ - يديه على هذه الشاكلة التي تأخذ حيزاً واسعاً، على أنه أقل سلاسةً في التعامل وأكثر هيمنةً وسيطرةً في الوقت نفسه. ويقول كوبنشتاينر إن هذه النتيجة تكررت بشكلٍ متناغم ومتسقٍ عبر الكثير من الأوراق البحثية التي أعدها. وفي مقالٍ لافتٍ للنظر نُشِرَ عام 2015، قال الباحث إنه اكتشف أن تقييم الخاضعين للدراسة، للخصال الشخصية التي يتمتع بها سياسيٌ ما ألقى خطبة أمام جماهير، عبر اعتمادهم فقط على مشاهدة أفلامٍ متحركةٍ صامتة تُظهر رسماً مُبسّطاً لحركات جسد هذا السياسي دون ملامحه؛ قد يُنبّئ بقدر التصفيق والإطراء الذي لاقاه من جمهوره في الواقع خلال إلقاء كلمته. كما لم تخل نتائج الدراسة من استخلاصاتٍ شديدة القيمة والأهمية، في ضوء أن التصورات والتقييمات التي كوَّنها الأفراد محل الدراسة عن السمات الشخصية للمحاضرين والخطباء، أنبأت كذلك بما إذا كان هؤلاء قد قوطعوا من جانب الجمهور أم لا، وهو ما يشير إلى أن الإيماءات والإشارات التي توحي بأن إنساناً ما يحظى بالهيمنة والسلطة والنفوذ، يمكن أن تشكل عاملاً إيجابياً أو سلبياً بحسب السياق الذي تصدر فيه. وربما يُنظر إلى تلك الإشارات - في ظروفٍ غير مواتيةٍ - على أنها علامةٌ على الغطرسة أو العدوانية. الطول المتوهم للقامة ولا يقتصر تأثير تحريك المُحاضر ليده بشكلٍ عموديٍ - وعلى حيزٍ مكانيٍ واسعٍ - على تحدي هيمنة التصورات المسبقة على عقلنا، بل يمتد إلى تعديل تخمينات من يرون هذا الرجل، بخصوص طول قامته كذلك. ويقول كوبنشتاينر إن أفراد العينة كانوا متأثرين عموماً بالطول الحقيقي للرسوم المُبسّطة التي صوَّرَت المتحدثين والخطباء في الأفلام التي عُرِضَتْ عليهم، "ولكن إذا حرّك هؤلاء أياديهم ارتفاعاً وانخفاضاً بقوةٍ ونشاطٍ، وصاحب ذلك الكثير من حركات فرد الذراعين على اتساعهما، سيهيأ لنا أن أولئك المتحدثين أكثر طولاً". ولا يزال الغموض يكتنف الآلية النفسية المحددة التي تقود لحدوث ذلك. ففي ضوء ما أظهرته دراسةٌ سابقةٌ من أنه يُنظر إلى من هم أطول قامة - بشكل طبيعي- على أنهم ذوو سماتٍ قياديةٍ أفضل، من الممكن أن تخلق تحركات الأيدي هذه ضرباً من الوهم البصري يزيد من الطول الذي يقدره الآخرون لهؤلاء، وهو ما يُسهم بالتبعية في بلورة تصوراتٍ متعلقةٍ بأن لديهم قدرةً أكبر على الهيمنة والنفوذ. لكن الأمر قد يمضي أيضاً في الاتجاه المعاكس، أي أن يقود الإحساس بتمتع شخصٍ ما بمزيدٍ من السطوة والنفوذ إلى تغيير تصورات من يرونه حول طول قامته. Getty Images طريقة التحدث وإشارات اليدين قد توحي بطول قامة المتحدث وفي هذا السياق، يقول ماركوس كوبنشتاينر: "نعلم أنه يُنظر إلى من يشغلون مواقع مرموقةً على أنهم أطول قامة"، مُشيراً إلى أن الناس غالباً ما يبالغون - مثلاً - في طول الممثل توم كروز. ورغم أن ذلك ربما يكون ناجماً عن براعة المصورين في أداء عملهم، فإنه قد يُعزى كذلك إلى الطريقة التي يبرز بها كروز ثقته في نفسه ويعبر عنها. ومن شأن النتائج التي خَلُصَ إليها كوبنشتاينر، أن تعزز على ما يبدو استخلاصات دراساتٍ أخرى اتسمت بطابعٍ أقل منهجية. فعلى سبيل المثال، حلّلت فانيسا فان إدواردز - وهي كاتبةٌ ومدربةٌ على استخدام لغة الجسد - مئاتٍ من المحاضرات التي تُنظم في إطار سلسلة مؤتمرات "تيد" العالمية، وذلك لفهم الأسباب التي تجعل بعض هذه النقاشات تنتشر كالنار في الهشيم، بينما يتلاشى البعض الآخر دون أن يحظى سوى باهتمامٍ محدودٍ للغاية، حتى وإن اتفقت تلك المحاضرات في الموضوعات التي تتناولها إلى حد بعيد. وقد كشفت فان إدواردز أن المقاطع المصورة الأكثر نجاحاً هي تلك التي احتوت على عددٍ من الإيماءات والإشارات باليدين، بما يزيد بمقدار الضعف تقريباً على مقاطع أخرى لم تحظ بمتابعةٍ مماثلة. وفيما يتماشى أيضاً مع نتائج الدراسة التي أجراها كوبنشتاينر، كشف عدد المرات التي فتح فيها شخصٌ ما ذراعيه على اتساعهما وهو يخاطب الجمهور، عن مستوى تقييم الجمهور له من حيث الكفاءة والجاذبية الشخصية. ويجدر التأكيد هنا على أن كوبنشتاينر لم يختبر بعد ما إذا كان بوسع الناس محاكاة الإيماءات الأخيرة هذه، في سبيل تغيير الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليهم. ومع ذلك، فإنه يشك في أن الكثيرين يلجؤون إلى الأداء المصطنع بعض الشيء في إشاراتهم وإيماءاتهم، برغم أن هذا ربما يكون يسيراً على بعض أنماط الشخصيات أكثر من بعضها الآخر. ويُعقّب كوبنشتاينر على ذلك قائلاً: "يمكنك أن تُحْدِثَ سلوكياتٍ بعينها، وكذلك نتائج وانطباعاتٍ معينةً لدى الناس، ولكن ربما يكون هناك حدودٌ لذلك". وبالنظر إلى أن إلقاء كلمةٍ أمام جمهورٍ عام يُصنَّف باستمرارٍ على أنه المصدر الأكبر لشعورنا بالخوف المرضي، فإن أي نصيحةٍ ولو بسيطة تستهدف تحسين هذه التجربة قد تعزز الثقة ولو على نحوٍ طفيف، وهو ما سيلقى ترحيباً من جانب الكثيرين. لذا فلتدع يديك تتحدث، وربما ستكتشف حينذاك أن الكلمات ستعتني بنفسها جيداً.


الوسط
٢٥-٠٦-٢٠٢٥
- الوسط
السنة الهجرية: حقائق عن التقويم القمري الذي سبق الإسلام بمئتي عام
Getty Images رؤية هلال الشهر الجديد، سواء بالعين المجردة أو الأدوات الفلكية، هي التي تحدد بداية كل شهر هجري، ومن ثم أوقات الشعائر والمناسبات أعلنت بعض الدول العربية بداية العام الهجري الجديد 1447 الذي يؤرخ لهجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة. لكن ثمة حقائق أخرى عن التقويم الهجري، نستعرضها في هذا التقرير. تقويم قمري يعتمد التقويم الهجري على قياس دورة القمر حول الأرض، بحيث يكتمل الشهر الهجري باكتمال دورة القمر. وذلك على عكس التقويم الميلادي/الشمسي الذي يعتمد على دوران الأرض حول الشمس. وتُقاس نهاية وبداية الشهر الهجري بناء على رؤية هلال الشهر الجديد، ما يجعل أيام الأشهر الهجرية غير محددة، على عكس التقويم الشمسي. وبناء عليه، يتباين عدد أيام الشهر الهجري ما بين 29 وثلاثين يوماً. وبسبب النقطة السابقة، تتقدم السنة الهجرية 11 يوماً كل عام، مقارنة بالتقويم الشمسي، ما يجعل الشعائر والمناسبات الإسلامية تقع في فصول وأوقات مختلفة كل عام. كذلك تتباين رؤية اكتمال دورة القمر بناء على الموقع الجغرافي، ما يعني أن بداية الشهر الهجري قد تقع في مكان ولا تقع في آخر. التقويم الهجري العالمي وهي طريقة تقدم بها مجموعة من علماء الفلك عام 2001، للحد من التباين في رؤية الهلال في الدول المختلفة. واعتُمدت الفكرة في المؤتمر الفلكي الإسلامي الثاني، الذي أُقيم في العاصمة الأردنية عمّان، في أكتوبر/تشرين الثاني 2001. وتقدمت لجنة "الأهلة والتقاويم والمواقيت"، التابعة للاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، بفكرة قياس التقويم. وتعتمد على تقسيم الكرة الأرضية إلى نصفين: النصف الشرقي: وهي المنطقة الواقعة بين خط طول 180 درجة شرقاً، إلى خط طول 20 درجة غرباً. النصف الغربي: وهي المنطقة الواقعة بين خط طول 20 درجة غرباً، إلى غرب الأمريكيتين. وتعتمد فكرة التقويم على رصد الهلال في يوم 29 من الشهر الهجري، في أحد بقاع اليابسة في كل منطقة. وحال ثبوت رؤية الهلال (سواء بالعين المجردة أو الأدوات الفلكية)، تُعلن بداية الشهر الجديد في اليوم التالي في المنطقة كلها. ولا تعني فكرة هذا التقويم أن تبدأ الشهور الهجرية في كل بقاع الأرض في نفس اليوم، لكنها تحد من التباين في بداية الشهور في الدول بحيث لا تزيد على يوم واحد عالمياً. قبل الإسلام بقرنين اجتمع سادة العرب في مكة عام 412 ميلادية للتوافق على التقويم القمري، إذ أن التباين بين قبائل العرب في تحديد الأشهر القمرية تسبب في فوضى بشأن موسم الحج وحركة التجارة. وحضر هذا الاجتماع الجد الخامس للنبي محمد، الذي أعلن عن نبوّته عام 610 ميلادية، واتفق فيه العرب على عدد الأشهر وأسمائها. كما اتفقوا على الأنشطة المرتبطة بكل شهر، فخُصص بعضها للحرب، وبعضها للتجارة، وبعضها للحج. كذلك اتُفق على الأشهر الحُرُم، التي يُحرّم فيها القتال، واستمرت حتى بعد ظهور الإسلام. وهذه الأشهر هي ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب. بعد 17 عاماً رغم أن التقويم الهجري يبدأ تأريخه بهجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة، لكن العمل به بدأ بعد ذلك بـ 17 عاماً. وكان الخليفة عمر بن الخطاب هو من اعتمد العمل بالتقويم الهجري في الدولة الإسلامية، والذي كان يُعرف من قبل بالتقويم العربي، واكتسب لفظة "الهجري" بعد ربطه بالهجرة النبوية. واختيرت أسماء الأشهر التي نعرفها حالياً، بعد أن كانت القبائل تطلق أسماء مختلفة على الأشهر. وهي في الغالب الأسماء التي اتفق عليها العرب في اجتماع مكة عام 412 ميلادي. أيام النسيء وهي خمسة أيام كان العرب يضيفونها أو يحذفونها من العام القمري. واختُلف على سبب هذه الأيام، إذ يرى البعض أنها كانت رهن الزيادة أو النقصان في حساب دورة القمر حول الأرض. في حين يقول آخرون إنها كانت طريقة للتحايل على عدد أيام الأشهر الحُرُم إذا أراد العرب. وحرم الإسلام أيام النسيء لاحقاً بسبب التباين الشديد الذي قد تتسبب به في حساب مواقيت الشعائر والمناسبات الإسلامية. أسماء الأشهر ارتبطت أسماء الأشهر إما بالفصول التي تتزامن معها، أو أنشطة العرب في كل منها، أو حرمة القتال فيها. فمثلاً أشهر ربيع الأول وربيع الآخر وافقت فصل الربيع عند تسميتها. وجُمادى الأولى وجمادى الآخرة وافقت فصل الشتاء عند تسميتها (والكلمة مستمدة من جمود الماء). وشهر رمضان مستمد من الرموض، وهو اشتداد الحر في الوقت الذي سُميّ فيه. أما الأشهر الحُرُم، فذي القعدة يرمز إلى قعود العرب عن الحرب. وذو الحجة كان هو شهر الحج. أما المُحرم فهو مستمد من تحريم القتال. ورجب مستمد من "رجب النصال عن السهام"، أي نزعها، في وقت تحريم القتال. أما صفر، فيرتبط بخروج العرب للحرب حتى تصفر البيوت، أي تخلو من أهلها. وشعبان يرمز إلى بدء تشعب العرب ما بين حرب وتجارة بعد قعودهم في رجب.