
من مالي إلى السودان.. خارطة الإرهاب تتمدد!
عادت مالي لتتصدر مشهد العنف الديني المتصاعد في منطقة الساحل الإفريقي، وذلك بعد الهجوم الدموي الأخير الذي نفّذه مسلّحو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين - المرتبطة بتنظيم القاعدة - على معسكر 'ديورا' في منطقة موبتي وسط البلاد.
الهجوم، الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 40 جنديًا من الجيش المالي، أعاد تسليط الضوء على خطورة الجماعات الجهادية المتطرفة التي تواصل التمدد في فضاء هش أمنيًا وجيوسياسيًا.
الجماعة الإرهابية بثّت مقطع فيديو تؤكد فيه مسؤوليتها عن العملية، في مشهد بات مألوفًا يعكس رسوخها في المعادلة القتالية الإقليمية، فضلًا عن امتلاكها لأدوات إعلامية وقدرات ميدانية تُثير قلقًا متزايدًا لدى حكومة مالي وحكومات المنطقة على حدّ سواء.
لكن ما يحدث في مالي ليس استثناءً، بل جزءٌ من مشهد أوسع يتشكّل في منطقة الساحل الإفريقي الممتدة من بحيرة تشاد إلى عمق الصحراء الكبرى. فقد تحوّلت هذه المنطقة إلى ملاذ واسع للتنظيمات الجهادية التي نشأت من رحم الفوضى والفقر والجهل، وتغذت على ضعف الدولة، واستثمرت في النزاعات العرقية والفراغات السياسية لإعادة رسم خرائط السيطرة.
تنظيمات إرهابية مثل بوكو حرام، وتنظيم الدولة في الصحراء الكبرى، وأنصار الدين، تفرض اليوم نماذج حكم موازية في مساحات شاسعة، متحدّية السيادة الوطنية، ومؤسِّسة لواقع ميداني يُعمّق من أزمات الحكم والشرعية.
ولم تعد هذه الظواهر مقتصرة على منطقة الساحل فقط، فثمة مخاوف متزايدة من انتقال موجة التطرف المنظم إلى شرق القارة، وتحديدًا السودان، حيث تمخّضت الحرب المستمرة منذ أبريل 2023 عن بروز جماعات جهادية منظّمة ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين (الكيزان)، وتتحالف مع قوى عسكرية، وتتحرّك داخل المشهد بصفتها جزءًا من المعادلة السياسية والعسكرية.
وتُعد كتيبة البراء بن مالك أخطر هذه الجماعات وأكثرها تنظيمًا، وهي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع. وتشير بيانات رسمية إلى أن عدد مقاتليها تجاوز 21 ألفًا، فيما تُقدّر جهات أمنية أن العدد الحقيقي يقترب من 35 ألف عنصر، من بينهم مقاتلون خاضوا معارك في ليبيا والصومال بجانب التنظيمات الجهادية هناك.
الخطير أن هذه الكتيبة لا تُخفي انتماءها الفكري لتنظيم القاعدة، وتستخدم خطابًا دينيًا متشددًا، وتُجنّد الشباب عبر سرديات 'الجهاد' و'نصرة الإسلام'. وهي تعمل داخل فراغ أمني وفكري، وتتحرك تحت مظلة رسمية غير معلنة، ما يمنحها غطاءً سياسيًا وعسكريًا يمكن أن يُكرّس حضورها على المدى البعيد.
القلق لا يرتبط فقط بعدد المقاتلين أو حجم السلاح، بل أيضًا بإمكانية تحوّل هذه الجماعات إلى مراكز سلطة موازية، أو بدائل للدولة في حال انهيار مؤسساتها، وهو احتمال واقعي في ظل الانقسام والتدهور الأمني المتسارع.
وما يزيد المشهد خطورة هو صمت الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين يراقبون تنامي هذه الجماعات دون تدخل حاسم. وإذا استمر هذا الصمت، فقد يتحوّل السودان إلى نقطة انطلاق لموجة جهادية جديدة، تمتد من حواضن الساحل إلى القرن الإفريقي، وتتجاوزهما نحو البحر الأحمر وشمال إفريقيا، بما يهدد المنطقة الإفريقية والعربية برمّتها.
إن تغوّل هذه التنظيمات، والتي تحظى برعاية من داخل الجيش، وتحولها إلى فاعل رئيس في معادلة السلطة، يمثل تهديدًا عابرًا للحدود، وينذر بإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في القارة الإفريقية على أسس أيديولوجية متطرفة. وإن لم تُواجَه بحزم سياسي وعسكري وفكري، فإن وصولها إلى السلطة لن يكون مجرد فرضية، بل مسألة وقت.
حفظ الله السودان.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البوابة
منذ 18 ساعات
- البوابة
من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ
تمثّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر التاريخ نموذجًا حيًا على التفاعل الحضاري، حيث امتزجت مسارات الشعبين على ساحات واسعة، من قبل ظهور الإسلام وحتى المرحلة المعاصرة. كانت هذه العلاقات محكومة بسياقات جغرافية، سياسية، ودينية متداخلة، تشكّل مزيجًا من الصراع والتحالف، من التنافس على مناطق النفوذ، والتعاون على تطوير التراث الفكري، مما جعلها محط اهتمام المؤرخين والساسة على حدّ سواء. على امتداد هذه المحطات، شهدت المرحلة قبل الإسلام مزيجًا من السيطرة الساسانية على ممالك العرب على أطراف العراق، وتفاعلًا حضاريًا انعكس على اللغة والدين، بينما مثّل العصر الإسلامى نقطة تحوّل كبرى، حيث سقطت الدولة الساسانية، وحلّت دولة الإسلام مكانها، محدثةً تفاعلًا حضاريًا غير مسبوق. ثم تتابعت المحطات، من العصر الوسيط وقيام الدويلات، إلى العصر الحديث، حيث عادت المنافسة على مناطق النفوذ، وصولًا إلى المرحلة المعاصرة، التى تتأرجح فيها العلاقات على وقع محاولات الحوار، وضغط المحاور الاقتصادية والجيوسياسية. المرحلة الأولى: قبل الإسلام قبل ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والدولة الساسانية محكومة بظروف جغرافية وسياسية متشابكة، إذ مثّل العراق (بلاد الرافدين) الحد الفاصل والساحة الرئيسية لهذا التفاعل. كانت هذه الأرض ملتقى للحضارتين، حيث امتدت السيطرة الساسانية على ممالك العرب على الأطراف، أبرزها مملكة الحيرة التى أقامها بنو لخم، وحظيت برعاية الساسان، مما جعلها خط الدفاع الأول للإمبراطورية من جهة الجنوب، وفى الوقت ذاته بوابة للتفاعل التجارى والثقافي. تمثّل مملكة الحيرة مثالًا حيًا على الطبيعة المزدوجة للعلاقات قبل الإسلام، إذ كانت تتبع الساسان سياسيًا وتربطها بهم علاقة مصلحة وحماية، بينما تظل على علاقة قبلية بعمق الجزيرة العربية. وقد شهدت هذه المرحلة محطات توتر وصدام عسكري، حيث سعى الساسان إلى السيطرة على قبائل العرب على الأطراف، بينما حاولت بعض هذه القبائل تعزيز استقلالها، كما حدث فى معركة ذى قار الشهيرة (نحو عام ٦٠٩ م)، التى شهدت انتصار العرب على القوات الساسانية، وشكّلت علامة فارقة على قدرة القبائل على تحدى الإمبراطورية. على الرغم من طبيعة العلاقة السياسية التى شابها التنافس، شهدت المرحلة قبل الإسلام تبادلًا حضاريًا ملحوظًا، حيث انتشرت اللغة الفارسية، وفنون العمارة، والنقوش، بل والمعتقدات الدينية على حدود الجزيرة العربية. عرفت ممالك العرب المحاذية للإمبراطورية الساسانية مزيجًا من الديانات، إذ دخلت الزرادشتية إلى بعض قبائل شرق الجزيرة، بينما تفاعل العرب كذلك مع الديانات المسيحية والمانوية التى سادت على حدود العراق وفارس. شكّل العراق قبل الإسلام مسرحًا لصراعات طويلة على الموارد الاقتصادية، حيث تركزت محطات القوافل على امتداد نهر الفرات، وحظيت ممالك العرب على الأطراف، مثل مملكة لخم، بموقع محورى على طرق التجارة. سعى الساسان للسيطرة على هذه المحطات وضمان ولاء زعامات العرب، بينما كانت قبائل عربية عدة تتأرجح مواقفها بين الساسان وبين خصومهم البيزنطيين، محقّقين من هذه المنافسة مصلحة آنية، على حساب تحالفاتهم طويلة الأمد. مع اقتراب ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والساسان تمر بمرحلة من الإجهاد السياسي، إذ شهدت ممالك العرب على التخوم، لاسيما مملكة الحيرة، صراعات على السلطة، وتدخّلًا مباشرًا من البلاط الساسانى لإحلال ملوك موالين، مما أدى إلى تراجع تدريجى لثقة العرب بالساسان. كذلك، مهدت هذه المرحلة الطريق لاحقًا لاستقبال العرب رسالة الإسلام، إذ كانت الجزيرة مهيأة سياسيًا، وجاهزة فكريًا، لظهور قوة توحّد قبائلها وتستثمر موقعها الجغرافى وحضورها العسكري، لتمتد لاحقًا شرقًا وغربًا، محوّلة موازين القوى، ومؤرّخة لحقبة جديدة من العلاقات مع فارس. المرحلة الثانية: العصر الإسلامي مع ظهور الإسلام وتوسّع الدولة الإسلامية، شهد القرن السابع تحوّلًا محوريًا على خارطة الشرق الأوسط. ففى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، اندفعت الجيوش الإسلامية شرقًا، حيث خاضت عدة معارك فاصلة ضد الدولة الساسانية، أبرزها موقعة القادسية عام ٦٣٦ م، التى شكّلت نقطة تحول تاريخية. تبعها فتح المدائن، عاصمة الساسان، مما أدى إلى انهيار السلطة الساسانية تدريجيًا، وانتهاء عصرها السياسى عام ٦٥١ م بمقتل آخر ملوكها، يزدجرد الثالث، على أطراف خراسان. لم يكن الفتح الإسلامى مجرد تغيير سياسي، بل مثّل انتقالًا حضاريًا عميقًا. قاومت بعض المدن والجماعات الفارسية الجيش الإسلامي، كما شهدت عدة مناطق، مثل خراسان ومرو، محاولات لاستعادة الحكم الساساني، قبل أن يُحكم السيطرة عليها. كانت هذه المرحلة محملة بوقائع عنيفة وحملات تأديبية، كما شهدت انتفاضات محلية على السلطة الجديدة، مما أدى إلى تأسيس مراكز عسكرية وإدارية، مهدت الطريق لاستقرار الدولة الإسلامية على أنقاض الساسان. مع مرور الوقت، تحوّل الفرس من محاربين ومنافسين إلى عنصر محورى ضمن الدولة الإسلامية الناشئة. اعتنق الكثيرون الإسلام، وشاركوا بفعالية فى مؤسسات الدولة، كما أدى امتزاج التراث الفارسى بالعقل العربي–الإسلامى إلى ولادة حضارة مميزة. ظهر علماء ومفكرون من أصول فارسية تركوا أثرًا عميقًا على الحضارة الإسلامية، من بينهم سيبويه، مؤسس علم النحو، والرازي، الطبيب الموسوعي، وغيرهما من الفلاسفة، مما عكس التفاعل الحضارى الكبير بين العنصرين. مع قيام الدولة العباسية عام ٧٥٠ م، شهد الدور الفارسى تناميًا غير مسبوق، إذ اتخذت بغداد عاصمةً، وتقع على مقربة من مراكز الحضارة الساسانية القديمة. شكّل الفرس طبقة واسعة من العلماء، الوزراء، والكُتّاب، بل كان لهم دور محورى على المستويات الاقتصادية، الثقافية، والإدارية. كما ساهمت الترجمات من الفارسية إلى العربية، وتفاعل المدارس العلمية، فى بلورة العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، حيث امتزج التراث الفارسى بالعربي، مفرزًا عطاءً حضاريًا مشتركًا. بالرغم من الاندماج، شهد العصر الإسلامى محطات توتر وصراع على السلطة، إذ سعى البعض لاستعادة مراكز نفوذهم تحت رايات محلية، كما حدث مع ظهور الدويلات الفارسية شبه المستقلة، مثل السامانيين، البويهيين، والسلاجقة، التى تحدت سلطة الخلافة المركزية، ولكنها حافظت على إطار حضارى مشترك. كذلك، برزت حساسيات تتعلق بالعلاقة الثقافية والدينية، حيث سعت بعض التيارات لإحياء التراث الفارسى قبل الإسلام، بينما دافعت السلطة العباسية عن إطار العقيدة الجامعة، مما شكّل تفاعلًا وصراعًا حضاريًا متميزًا على امتداد هذه المرحلة. المرحلة الثالثة: العصر الوسيط مع تراجع سلطة الخلافة العباسية عن السيطرة المباشرة على الأطراف، شهد القرن التاسع والعاشر قيام عدة دويلات مستقلة ذات طابع محلى وفارسي–تركي، شكّل ظهورها نقطة تحوّل مهمة على خريطة الشرق الإسلامي. برزت الدولة السامانية (٨١٩–٩٩٩ م) على تخوم خراسان وبلاد ما وراء النهر، مُمَهّدة الطريق لانتعاش التراث الفارسى تحت إطار الحضارة الإسلامية. كما برزت دولة البويهيين (٩٣٢–١٠٦٢ م) التى سيطرت على بغداد، وحوّلت الخلفاء العباسيين إلى رموز روحية تحت وصايتها، مما أدى إلى بروز توتر وصراع على السلطة والنفوذ السياسي. شكّل السامانيون نموذجًا للدويلات التى عملت على المزج الحضاري، حيث شهدت عاصمتهم بخارى نهضة أدبية وفكرية مميزة. ازدهر استخدام اللغة الفارسية، وتألّق الشعراء، وعلى رأسهم رودكي، كما جُمِع التراث الفارسى قبل الإسلام وحُرر بلغة العصر. ساهم السامانيون كذلك فى تعزيز الترابط الثقافى والديني، حيث احتضن بلاطهم علماء ومفكرين من شتى أصقاع العالم الإسلامي، مما أدى إلى إثراء التراث الحضارى المشترك. مع سيطرة البويهيين على بغداد، دخلت الخلافة العباسية مرحلة الضعف السياسي، حيث تحوّل الخليفة إلى سلطة رمزية تحت سطوة الأمراء البويهيين. شهدت هذه المرحلة صراعات طائفية ومذهبية، إذ شجّع البويهيون على انتشار الفكر الشيعى على حساب السلطة السنية، مما أدى إلى توترات على مستوى السلطة والدين، وفتح بابًا لصراعات طويلة على الشرعية، عرفت بالسجال السني–الشيعي، وتركت أثرًا عميقًا على موازين القوى السياسية والدينية. مع ظهور السلاجقة (١٠٣٧–١١٩٤ م)، تغير ميزان القوى مجددًا، إذ سيطر هؤلاء على بغداد عام ١٠٥٥ م، وأعادوا للخليفة السنى اعتباره الرمزي، بل وترجموا انتصارهم السياسى إلى دعم مؤسسات التعليم، حيث أقام الوزير نظام الملك المدارس النظامية، التى أصبحت مراكز لنشر العلوم الشرعية وتكريس المذهب السني، مما أدى إلى تفاعل حضارى متميز، ولكن على أرضية مذهبية، وشكّل المرحلة الحقيقية لانتقال السلطة من المحيط الفارسي–البويهى إلى المحيط التركي–السني. اتسم العصر الوسيط بجدلية مزدوجة: مزيج حضارى غني، وصراعات على السلطة والنفوذ السياسى والديني. ففى الوقت الذى شهدت فيه المدن كخراسان، نيسابور، بغداد، وأصفهان ازدهارًا علميًا وفلسفيًا، عرفت المرحلة كذلك توترات وحروبًا على السلطة، ومنافسات على الشرعية الدينية، وصراعات على السيطرة على الطرق الاقتصادية. رغم هذه التناقضات، ترك العصر الوسيط أثرًا عميقًا على التراث الإسلامي، حيث شكّل مزيج الثقافات الفارسية–العربية–التركية أساسًا للحضارة التى ستتبلور لاحقًا، وترسم ملامح المرحلة التالية من التاريخ الإسلامي. المرحلة الرابعة: العصر الحديث مع انهيار الدولة الصفوية عام ١٧٢٢ م على إثر الغزو الأفغاني، دخلت إيران مرحلة من الاضطراب السياسي، قبل أن يتمكّن القاجاريون من تثبيت سلطتهم عام ١٧٩٤ م. شكّل هذا الانتقال نقطة فاصلة على الصعيد السياسي، إذ تراجعت سلطة إيران على سواحل الخليج، وبرزت القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا، كفاعل محورى على ممرات التجارة البحرية، مما أدى إلى احتدام الصراع على مناطق النفوذ، وعلى رأسها مملكة عمان، إمارات الساحل، ومراكز التجارة الحيوية على الخليج. خلال القرن التاسع عشر، شهدت العلاقات الإيرانية–العربية محطات توتر عدة على سواحل الخليج، حيث سعى القاجاريون لاستعادة السيطرة على مراكز تاريخية كالبحرين، بينما تزايد النفوذ البريطاني، مما أدى إلى توقيع عدة اتفاقيات تحد من طموح الدولة القاجارية. على الطرف المقابل، شهدت الإمارات والسعودية الناشئة محاولات لترسيخ مواقفها على الساحة، مما مهد الطريق لصراعات لاحقة على الحدود، وفتح بابًا لحقبة طويلة من التنافس على الموارد وممرات التجارة. مع قيام الدولة البهلوية عام ١٩٢٥ م، سعت إيران إلى تحديث مؤسساتها وتعزيز نفوذها الإقليمي، مما أدى إلى توترات مع العراق على ترسيم حدود شط العرب، وكذلك على الجزر الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى). كما شهدت المرحلة اقترابًا مؤقتًا من القوى الغربية على حساب المحيط العربي، قبل أن تؤثر الحرب الباردة على طبيعة العلاقات، حيث أصبحت إيران طرفًا محوريًا ضمن محورى واشنطن وموسكو، مما أدى إلى تفاعل وصراع غير مباشر على الساحة العربية. شكّل عام ١٩٧٩ م نقطة تحوّل جذرية، حيث أطاحت الثورة الإيرانية بنظام الشاه، وحملت على عاتقها مشروعًا إسلاميًا له طابع شيعي، مما أدى إلى تغير موازين القوى. تسبّبت الثورة وحرب الخليج الأولى (١٩٨٠–١٩٨٨ م) فى تعزيز الفجوة بين إيران والدول العربية، وعلى رأسها العراق ودول الخليج، حيث شهدت المرحلة حربًا مدمرة على الحدود، تركت أثرًا عميقًا على العلاقات، ومهّدت الطريق لسياسات المحاور على امتداد العقود اللاحقة. مع مطلع القرن الحادى والعشرين، تبلور دور إيران كقوة محورية ذات تأثير مباشر على الأمن العربي، حيث شهدت المرحلة تنامى نفوذها عبر محطات عدة، منها سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ م، وتعزيز دورها السياسى والعسكرى فى العراق، وكذلك دعمها لأذرع محلية فى لبنان عبر حزب الله، وفى سوريا عبر دعم نظام الأسد، وفى اليمن عبر جماعة الحوثيين. أدى هذا التمدد إلى تشكّل محاور إقليمية متنافسة على امتداد الشرق الأوسط، مما شكّل ملامح المرحلة الرابعة من تاريخ العلاقات، التى تتأرجح بين محاولات الحوار السياسى ومخاطر التصعيد العسكري. مبدأ "تصدير الثورة" كركيزة للسياسة الإيرانية مع قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ م، تبنّت طهران مبدأ "تصدير الثورة" كجزء أصيل من مشروعها السياسى والديني، إذ سعت من خلاله إلى توسيع نفوذها خارج حدودها الوطنية، وتعزيز تأثيرها على المحيط الإقليمي. لم يعد الأمر محصورًا بالشأن الإيرانى الداخلي، بل تحوّل إلى منهج فكرى وحركي، يعتمد على مزيج من التعبئة العقائدية والدعم السياسي، لبناء محاور تؤمن لإيران دورًا محوريًا على الساحة الإقليمية، مبررةً هذه التوجهات بالسعى إلى نصرة المستضعفين ومواجهة "الاستكبار العالمي". ارتبط مبدأ "تصدير الثورة" بشكل مباشر بإنشاء وتنظيم مجموعات مسلحة وتنظيمات عقائدية موالية لإيران على امتداد بلدان عربية عدة، من العراق إلى لبنان واليمن. شكّل حزب الله نموذجًا محوريًا على هذا التوجه، حيث نشأ كحركة مقاتلة ومكون سياسى تُمثّل امتدادًا مباشرًا للحرس الثورى الإيراني. كما شهد العراق تأسيس عدد من الفصائل المسلحة التى عملت على تعزيز نفوذ طهران، وتحويل بعض مؤسسات الدولة إلى أذرع تؤمن مصالحها، مما أدى إلى زعزعة موازين السلطة وتعزيز الاصطفاف الطائفي. تمثّل سياسة تصدير الثورة تحدّيًا مباشرًا لسيادة عدة دول عربية، حيث تؤثر على قرارها السياسي، وتنتهك حدودها، وتستغل توتراتها الداخلية لتعزيز النفوذ الإيراني. ففى اليمن، على سبيل المثال، أدى الدعم الإيرانى للحوثيين إلى تفاقم الحرب، وتقويض سلطة الدولة، وتحويلها إلى ساحة صراع محورى على النفوذ. كما تسببت هذه السياسة بتعزيز حالة عدم الاستقرار السياسي، وتعزيز الصراعات الطائفية، مما أدى إلى تآكل بنية الدولة، وتعزيز بيئة خصبة لنمو الجماعات المسلحة. لم تقتصر تأثيرات هذه السياسة على الأمن السياسي، بل امتدت إلى الساحة الاقتصادية والاجتماعية، حيث عرقلت جهود التنمية، وضاعفت من أزمات اللاجئين، وضربت البنية الاقتصادية لعدد من بلدان المنطقة. ففى العراق، أدى نفوذ الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران إلى انتشار الفساد، وتعزيز اقتصاد مواز، مما أثر على مؤسسات الدولة الرسمية. وفى سوريا، أدى التدخّل الإيرانى المباشر إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية، وتوسيع رقعة الدمار، وتحويل الصراع إلى ساحة مواجهة إقليمية ذات طابع مذهبي. تمثّل سياسة "تصدير الثورة" تحدّيًا طويل الأمد للعالم العربي، مما يحتم على الدول العربية بلورة إستراتيجيات موحّدة وحازمة للحفاظ على سيادتها وضمان توازن القوى على الساحة الإقليمية. تتطلب هذه الإستراتيجية تعزيز مؤسسات الدولة، وحماية الأمن القومي، وتنشيط الدبلوماسية المشتركة، والعمل على تفكيك الشبكات التى تغذّيها الأطراف الخارجية. ففى المحصلة، يشكّل التصدى لهذا التحدّى ضرورة تاريخية للحفاظ على وحدة وتماسك النظام العربي، وضمان الأمن والاستقرار لشعوبه. المرحلة الخامسة: المرحلة المعاصرة مع سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، دخلت العلاقات العربية–الإيرانية مرحلة غير مسبوقة، حيث أدى الفراغ السياسى فى العراق إلى تعزيز النفوذ الإيرانى على الساحة العراقية، ما أقلق المحيط العربي. وعلى الرغم من محاولات الحوار الدبلوماسى على مستوى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، شهدت المرحلة توترًا متزايدًا، حيث اعتبرت بعض العواصم العربية التمدد الإيرانى خطرًا مباشرًا على توازن القوى التقليدي، بينما سعت طهران لترسيخ نفوذها كقوة محورية على امتداد المحور الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان. اتخذت إيران استراتيجية تعتمد على تطوير تحالفات عسكرية وتنظيمية على الأرض، إذ شكّل حزب الله اللبنانى نموذجًا مبكرًا على هذه المرحلة، قبل أن تتوسع الظاهرة إلى العراق عبر قوات الحشد الشعبي، وإلى سوريا عبر الدعم المباشر للنظام، ثم إلى اليمن من خلال دعم الحوثيين. جعلت هذه الشبكة من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران لاعبًا محوريًا على الساحة، ومصدراً لقلق كبير لدى القوى العربية الساعية للحفاظ على سيادة أراضيها، مما أدى إلى نشوء محاور متقابلة وصراعات غير مباشرة على امتداد المنطقة. شهدت المرحلة المعاصرة احتدام المنافسة على الساحة الاقتصادية، حيث تتقاطع المصالح حول ممرات الطاقة وحركة الملاحة، لاسيما فى مضيق هرمز. ففى عام ٢٠١٩ م، على سبيل المثال، شهدت المنطقة سلسلة من التوترات على خلفية احتجاز ناقلات النفط والهجمات على المنشآت النفطية، مما أدى إلى تحشيد القوى الدولية وتشكيل تحالفات ملاحية تهدف إلى حماية خطوط النقل، وترسيخ التباين السياسي–الأمنى بين المحور الإيرانى ودول الخليج. على الرغم من التوترات، شهدت المرحلة محطات عدة للحوار، أبرزها الاتفاق النووى عام ٢٠١٥ م (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذى فتح بابًا للحوار الإيراني–الغربي، مما انعكس على محاولات عربية–إيرانية لتهدئة التصعيد على عدة جبهات. تكلّلت هذه المحاولات عام ٢٠٢٣، بوساطة صينية، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، مما أظهر إمكانية الحوار على الرغم من العقبات، إلا أن التوتر على الساحة السورية، اليمنية، وكذلك التنافس على مناطق النفوذ فى العراق، ظلّ يشكّل تحديًا مستمرًا للاستقرار. تمثّل المرحلة المعاصرة ذروة التفاعل المتناقض للعلاقات العربية–الإيرانية، حيث تتأرجح مواقف الأطراف وفق متغيّرات ميدانية وسياسية على الساحة الإقليمية والدولية. ففى الوقت الذى شهدت فيه بعض المحطات محاولات لتهدئة التوتر عبر الحوار والتعاون على ملفات مشتركة، ظلّت نقاط الخلاف، من دعم إيران للحلفاء من جهة، ومخاوف الدول العربية من تمدد النفوذ الإيرانى من جهة أخرى، تشكّل المحور الأساسى للعلاقة. هذا الوضع يجعل المرحلة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما بين السعى نحو تفاهمات استراتيجية تضمن الأمن المشترك، أو عودة التصعيد الذى يحمل تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة. تشكّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر العصور نموذجًا متميزًا لما يمكن أن تقدمه دراسة التاريخ من دروس للحاضر، حيث تتقاطع محطات طويلة من التفاعل الحضارى والتنافس السياسى على الأرض ذاتها. ففى كل مرحلة، من قبل الإسلام إلى العصر الحديث، شكّل المزج الثقافي، والديني، والسياسى ملامح علاقة معقّدة، تحددها موازين القوى، وتشعلها نقاط التوتر، وتحتويها محطات الحوار والتفاعل المشترك. واليوم، تواجه هذه العلاقات تحديات تتجاوز البعد الجغرافي، إذ تتشابك مع قضايا الأمن القومي، وممرات الطاقة، وصراعات المحاور، مما يجعلها محط اهتمام القوى الدولية. على الرغم من محاولات الحوار، يظل التنافس على مناطق النفوذ، والتباين المذهبي، محركًا محوريًا يشكّل ملامح المرحلة القادمة، حيث تبقى النتائج رهنًا بمدى استعداد الأطراف لاستثمار نقاط التقارب وتحييد نقاط التصادم. إن قراءة هذه المحطات التاريخية، وفهم أسباب التصعيد والتفاعل على امتداد قرون طويلة، تفتح بابًا لاستشراف مستقبل العلاقات العربية–الإيرانية، وتعزيز إمكانية الحوار على قاعدة الاحترام المتبادل، وتحقيق الأمن المشترك. ففى نهاية المطاف، تظل هذه العلاقة المحورية عنصرًا محددًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، ومفتاحًا محتملاً لصياغة نظام إقليمى أقل توترًا، وأكثر تفاعلًا على أرضية المصالح المشتركة.


البوابة
منذ 3 أيام
- البوابة
من القاهرة إلى باريس.. استراتيجية تصدير المعركة ضد الإخوان
منذ عام 2013، تبنّت الدولة المصرية استراتيجية شاملة لمواجهة تنظيم الإخوان، لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت آثارها لتعيد تشكيل نظرة المجتمع الدولي، وعلى رأسه أوروبا، لهذا التنظيم الذى لطالما استفاد من صورة «الإسلام المعتدل» فى الغرب. هذه الاستراتيجية التى جمعت بين الحسم الأمنى والتحرك الدبلوماسى والخطاب الإعلامى والتفكيك الفكري، ساهمت فى كشف الواجهة الناعمة للجماعة، وتسليط الضوء على ارتباطاتها بشبكات العنف والتطرف داخل وخارج الحدود. فى قلب هذا التحول الأوروبي، برزت فرنسا كنموذج بارز للاستجابة للمعطيات المصرية، متبنية مقاربة أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي، ومستخدمة خطابًا قانونيًا ومجتمعيًا يناهض ما تسميه بـ«الانفصالية الإسلاموية». ومثّل التعاون الأمنى والمعلوماتى مع مصر ركيزة أساسية فى هذا التحول، ما أفضى إلى تشديد الرقابة على الجمعيات والمراكز الإسلامية المرتبطة بالجماعة، وإعادة تقييم الوجود الإخوانى فى الفضاء الأوروبى العام. المواجهة الأمنية والقانونية منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسى فى يوليو ٢٠١٣، شنت الأجهزة الأمنية المصرية حملة موسعة ضد تنظيم الإخوان المسلمين استهدفت هياكله التنظيمية فى مختلف المحافظات. تركزت الحملة على القيادات العليا والوسطى، باعتبارهم العصب الرئيسى فى إدارة العمليات والتواصل بين القواعد التنظيمية والقيادة المركزية، وقد أُلقى القبض على مرشد الجماعة محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر، وعدد كبير من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة، ما أدى إلى شلل كبير فى الجهاز التنفيذى والسياسى للتنظيم. كما تم تنفيذ عمليات أمنية دقيقة ضد ما عُرف بـ«اللجان النوعية» التابعة للإخوان، والتى كانت مسئولة عن أعمال العنف والتخريب بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة. أدت هذه العمليات إلى تفكيك عدد من الخلايا النشطة، وضبط كميات من الأسلحة والمواد المتفجرة، الأمر الذى ساعد فى تقليص قدرة الجماعة على تنفيذ عمليات إرهابية منظمة داخل المدن الكبرى. وفى ٢٥ ديسمبر ٢٠١٣، أعلنت الحكومة المصرية جماعة الإخوان المسلمين تنظيمًا إرهابيًا رسميًا، فى خطوة شكلت تحولًا كبيرًا فى طريقة تعامل الدولة مع الجماعة. جاء هذا التصنيف بعد سلسلة من العمليات الإرهابية التى تلت فض اعتصامى رابعة والنهضة، والتى اتُّهمت فيها الجماعة بالتحريض والمشاركة، ومنها تفجير مديرية أمن الدقهلية. هذا التصنيف أتاح للسلطات استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لملاحقة المنتمين إلى الجماعة والمروجين لأفكارها وممولى أنشطتها. تبعات هذا التصنيف لم تكن فقط قانونية، بل شملت إجراءات تنفيذية حاسمة مثل تجميد الأصول المالية للجماعة، وحظر أنشطتها فى المجال العام، ومنع عقد الاجتماعات أو إقامة فعاليات تحت أى مسمى ذى صلة بها. كما استخدم التصنيف فى مذكرات التوقيف الدولية بحق بعض قيادات الإخوان المقيمين فى الخارج، رغم اختلاف استجابة الدول المضيفة لتلك المطالب. المواجهة السياسية والدستورية فى أعقاب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، اتخذت الدولة خطوات قانونية لتفكيك الأذرع السياسية لجماعة الإخوان، وعلى رأسها «حزب الحرية والعدالة»، الذى كان الواجهة الرسمية للجماعة فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد ثورة يناير. وفى عام ٢٠١٤، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمًا نهائيًا بحل الحزب ومصادرة مقاره وأصوله المالية، بعد إثبات تورطه فى دعم أنشطة الجماعة المحظورة والترويج لأهدافها السياسية والدينية على حساب الدولة الوطنية. أهمية هذا القرار لم تقتصر على إنهاء وجود الحزب قانونيًا، بل جاءت كرسالة سياسية واضحة بأن النظام الجديد لن يسمح بإعادة إنتاج الجماعة تحت غطاء حزبى أو قانوني. كما سعت الدولة من خلال هذا الإجراء إلى سد الطريق أمام أى محاولات للعودة إلى المشهد السياسى عبر تشكيل كيانات بديلة، أو استخدام واجهات حزبية أخرى تخفى الأيديولوجيا الإسلاموية ذاتها. وفى إطار إعادة هيكلة النظام السياسى والدستورى بعد عام ٢٠١٣، تم تضمين نصوص صريحة فى دستور ٢٠١٤ تمنع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس دينى أو طائفي. وقد رافق هذا الحظر تعديلات قانونية أغلقت المجال أمام عودة أى كيان يحمل مشروعًا سياسيًا يرتكز على الدين، وهو ما استهدف بالأساس تقليص نفوذ جماعة الإخوان ومنع تكرار نموذج "الحرية والعدالة" أو غيره من الأحزاب المشابهة التى قد تتستر خلف شعارات دينية لتحقيق مكاسب سياسية. هذا التعديل الدستورى لم يكن فقط موجّهًا للإخوان، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة ضبط المجال العام على أسس مدنية وعقلانية، بعد فترة من الفوضى السياسية والتوظيف الدينى للخطاب العام. وقد ساعد ذلك فى تقليص قدرة الجماعة على التسلل إلى مؤسسات الدولة أو التأثير فى الحياة البرلمانية من خلال حلفاء أيديولوجيين. كما أدركت الدولة المصرية أن قوة جماعة الإخوان لا تكمُن فقط فى نشاطها السياسي، بل فى شبكتها الاجتماعية والخدمية الواسعة التى كانت تستخدمها لكسب تأييد شعبى وتجنيد الأعضاء، مثل الجمعيات الخيرية والمراكز الصحية والمدارس الخاصة. و بدأت الأجهزة الرقابية فى مراجعة وتقييم أداء هذه الكيانات، وتم حل أو تجميد أنشطة عدد كبير من الجمعيات المرتبطة بالجماعة، وتحويل الإشراف عليها إلى وزارات الدولة مثل التضامن الاجتماعي. هذا العزل لم يكن أمنيًا فقط، بل كان جزءًا من خطة لتجفيف المنابع الاجتماعية للجماعة وقطع الطريق أمام قدرتها على إعادة بناء نفوذها من خلال تقديم الخدمات للمواطنين. كما تم تدشين منظمات بديلة مدعومة من الدولة لسد الفراغ الذى تركته تلك الجمعيات، مما ساعد على إعادة هيكلة العلاقة بين المواطن والدولة، وتقليص اعتماد الجمهور على الإخوان كمصدر للخدمات أو الدعم الاجتماعي. المواجهة الإعلامية منذ ٢٠١٣، أولت الدولة المصرية أهمية قصوى للإعلام كأداة استراتيجية فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، حيث عملت وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على تفكيك الخطاب الدعائى للجماعة وفضح تناقضاته. ركّزت التغطيات والبرامج الحوارية على كشف التباين بين خطاب الجماعة فى العلن، الذى يروّج للتسامح والديمقراطية، وبين ممارساتها على الأرض التى اتسمت بالعنف والإقصاء والانتهازية السياسية. كما جرى إبراز العلاقة بين الجماعة والتنظيمات الإرهابية فى سيناء، وتسليط الضوء على التحالفات المشبوهة مع كيانات متطرفة فى الداخل والخارج. وساهمت هذه الحملات الإعلامية فى كسر الهالة القدسية التى أحاطت بالجماعة لعقود، خاصة فى أوساط بعض الفئات التى كانت ترى فى الإخوان نموذجًا للإسلام السياسى "المنضبط". كما استُخدم الإعلام لإعادة تشكيل الوعى الجمعى حول حقيقة التنظيم، وتقديم رواية الدولة عن أحداث ما بعد ٣٠ يونيو، بما فى ذلك فض اعتصامى رابعة والنهضة، على أنها مواجهة مع مشروع سياسى دينى لا معارضة سلمية. كما أطلقت الدولة، بالتعاون مع الإعلاميين والمثقفين، سلسلة من الحملات التوعوية التى هدفت إلى كشف أخطار الفكر الإسلاموى على الأمن القومي، ووحدة المجتمع، ومدنية الدولة. تنوعت هذه الحملات ما بين البرامج الوثائقية، والإعلانات التوعوية، والمقالات التحليلية، التى تناولت المفاهيم المغلوطة التى يروّج لها التنظيم، مثل "الحاكمية"، و"التمكين"، و"الجهاد السياسي". وكان التركيز منصبًا على أن جماعة الإخوان لا تمثل الإسلام، بل تستخدمه كوسيلة للوصول إلى السلطة. كما شجعت الدولة على إنتاج أعمال درامية وسينمائية تناولت تاريخ الجماعة، مثل مسلسل «الاختيار» وأفلام وثائقية عن الجماعات الإرهابية، بهدف الوصول إلى فئات أوسع من الجمهور، وخاصة الشباب. هذه الأعمال ساهمت فى بناء وعى مجتمعى جديد يرى فى التنظيم تهديدًا لا مجرد فاعل سياسي، ويُعيد الاعتبار إلى مؤسسات الدولة بوصفها حامية للاستقرار فى مواجهة مشاريع التفتيت الديني. ملاحقة إعلام الإخوان بالخارج فى ظل استمرار جماعة الإخوان فى بث خطابها التحريضى من الخارج، خصوصًا من خلال قنوات فضائية تبث من تركيا وقطر مثل «الشرق» و«مكملين»، كثفت الدولة المصرية جهودها الدبلوماسية والإعلامية لمواجهة هذه المنصات. شملت هذه الجهود التواصل مع حكومات تلك الدول، ورفع دعاوى دولية ضد بعض القنوات، إلى جانب فضح محتواها التحريضى أمام الرأى العام الدولى باعتبارها منابر تغذى الكراهية وتحرض على العنف ضد الدولة المصرية. وفى الوقت نفسه، أنشأت مصر قنوات ومنصات إعلامية موجهة لتفكيك خطاب هذه القنوات من الداخل، عبر فضح الأكاذيب وتقديم روايات مضادة مدعومة بالأدلة. كما تم رصد وتحليل أداء الإعلام الإخواني، واستخدامه كأداة فى الحروب النفسية والدعاية السوداء، بهدف تحصين الداخل المصرى من تأثيره، وتحقيق اختراق فى الوعى الجماهيرى لدى الجاليات المصرية والعربية فى الخارج. المواجهة الدينية والفكرية منذ عام ٢٠١٣، أُعيد تفعيل دور المؤسسات الدينية الرسمية فى مصر وعلى رأسها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف لمواجهة الخطاب الدينوى المتشدد الذى تروج له جماعة الإخوان. وقد تم تكليف هذه المؤسسات بإعادة تصحيح المفاهيم التى حرفها الإخوان عن سياقاتها الشرعية، مثل مفاهيم «الحاكمية لله»، و«الولاء والبراء»، و«الجهاد»، حيث قامت ندوات ومحاضرات ودورات تدريبية لشرح المعانى الصحيحة لهذه المصطلحات ضمن الفهم الوسطى للإسلام، وتفنيد استغلالها فى تسويغ العنف السياسي. ومن خلال المركز العالمى للفتوى الإلكترونية، وهيئاته البحثية، أصدر عشرات الدراسات والبيانات التى تُبرز خطورة توظيف الدين فى الصراع السياسي، مؤكدًا أن الإسلام لا يعرف التنظيمات السياسية الدينية. كما أطلقت وزارة الأوقاف سلسلة من المؤلفات مثل «ضلالات الإرهابيين» و«مفاهيم يجب أن تصحح»، واستثمرت فى تدريب الأئمة والخطباء على التعامل مع قضايا التطرف، لضمان خطاب دينى عقلانى يعالج الشبهات الفكرية ولا ينجرف نحو الأدلجة أو التحريض. وأحد أبرز الإجراءات التى اتخذتها الدولة للحد من نفوذ جماعة الإخوان كان فرض الرقابة الكاملة على المنابر الدينية. وقد تم سن تشريعات تنظم العمل الدعوي، أبرزها فرض ترخيص موحد للخطابة لا يُمنح إلا لخريجى الأزهر ومَن يتم اعتمادهم من وزارة الأوقاف. هذا الإجراء أغلق الباب أمام مئات الدعاة غير المؤهلين أو المحسوبين على الجماعة من التحدث باسم الدين فى المساجد، ما حدّ من إمكانية نشر أفكار الجماعة فى أوساط المصلين. كما عملت الوزارة على توحيد خطبة الجمعة، وتحديد موضوعها سلفًا لضمان عدم استغلالها سياسياً أو عقائدياً، مع تطبيق نظام رقابى صارم على المساجد الكبرى والصغرى. تم إغلاق العديد من الزوايا غير المرخصة التى كانت تمثل بؤرًا لنشاط الجماعة فى الأحياء الشعبية، وجرى تنظيم عملية جمع التبرعات داخل المساجد تحت إشراف حكومى مباشر، لقطع قنوات التمويل التى كانت تعتمد عليها الجماعة لتثبيت نفوذها المجتمعي. كما أولت الدولة أهمية كبرى لنشر خطاب دينى بديل ومتوازن يعزز قيم الوطنية والانتماء، ويرسخ مبدأ المواطنة فى مواجهة دعاوى التمايز الدينى والاصطفاف العقائدي. وقد تم دعم مبادرات ومؤتمرات تهدف إلى إحياء الفهم الصحيح للإسلام بعيدًا عن النزعة الأيديولوجية، كما شجعت الدولة الأئمة والمثقفين على تقديم خطابات تدمج بين قيم الدين وروح الدولة الحديثة، بعيدًا عن الخطاب الإقصائى الذى استخدمه الإخوان لاستقطاب الشباب. كما استثمرت وسائل الإعلام فى برامج دينية معاصرة تستضيف شيوخًا ومفكرين يروجون لفهم إنسانى وروحى للدين، يرفض فكرة «الفرقة الناجية» والتكفير السياسي. هذا الخطاب المعتدل أصبح جزءًا من السياسة العامة للدولة تجاه الدين، حيث لم تكتف السلطات بمحاربة الخطاب المتطرف بل عملت على بناء بديل مقنع له، يعيد للدين مكانته كقيمة روحية وسلوكية وليس كوسيلة لتحقيق غايات سياسية. الشق الدولي فى أعقاب تصنيف جماعة الإخوان كتنظيم إرهابى داخل مصر، بدأت السلطات المصرية فى ملاحقة عدد من قيادات الجماعة الهاربين إلى الخارج عبر القنوات القانونية والدبلوماسية، وفى مقدمتها التعاون مع الإنتربول لإصدار نشرات حمراء بحق مطلوبين بتهم تتعلق بالإرهاب، والتحريض على العنف، وتمويل جماعات متطرفة. ضمت هذه القوائم شخصيات بارزة من الصف الأول والثانى فى الجماعة، إلى جانب إعلاميين وداعمين ماليين لعبوا أدوارًا فى تأجيج الفوضى داخل مصر وخارجها. ورغم الجهود المبذولة، واجهت مصر صعوبات فى تنفيذ هذه المذكرات بسبب الحماية السياسية التى توفرها بعض الدول لهؤلاء المطلوبين، مثل تركيا وقطر، والتى تستضيف عددًا كبيرًا من كوادر الجماعة وتمنحهم منصات إعلامية وسياسية. هذا الواقع جعل مسألة التسليم القضائى معقدة، لكنها لم تمنع القاهرة من استخدام أدوات القانون الدولى لتوثيق جرائم هذه القيادات، وتثبيت الاتهامات بحقهم فى المحافل القضائية والإعلامية الدولية. وإدراكًا منها لأهمية معركة الرأى العام الدولي، كثّفت الدولة المصرية تحركاتها السياسية والدبلوماسية لفضح ارتباط جماعة الإخوان بالعنف والإرهاب، لا سيما بعد تصاعد الهجمات فى شمال سيناء واستهداف قوات الجيش والشرطة. سعت القاهرة لتوضيح أن الجماعة ليست مجرد معارضة سياسية، بل تنظيم أيديولوجى عابر للحدود يوفّر بيئة حاضنة للعنف، وله صلات مباشرة أو غير مباشرة بتنظيمات متطرفة كداعش والقاعدة. وقد استخدمت مصر فى ذلك أدوات متعددة، منها المؤتمرات الدولية، والتقارير الرسمية، وحملات إعلامية موجهة، بالإضافة إلى التنسيق مع دول أوروبية وأفريقية لتبادل المعلومات الأمنية المتعلقة بامتدادات الجماعة ونشاطاتها المالية والإعلامية. كما عملت على مواجهة محاولات الإخوان تقديم أنفسهم كممثلين للمعارضة المصرية فى الخارج، وسعت لتجريدهم من أى غطاء سياسى دولي، وإظهار تناقضهم مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التى يدّعون التمسك بها. الشق الاقتصادى والاجتماعى أحد أبرز أركان المواجهة مع تنظيم الإخوان تمثل فى استهداف شبكتهم الاقتصادية التى كانت تمثل مصدرًا رئيسيًا للتمويل والدعم اللوجستي. ولهذا الغرض، أنشأت الدولة «لجنة حصر وإدارة أموال جماعة الإخوان» التى باشرت منذ ٢٠١٣ إجراءات موسعة لتجميد ومصادرة أموال وأصول تعود لأفراد وشركات مرتبطة بالجماعة. شملت هذه الإجراءات مئات الكيانات الاقتصادية، من شركات استثمارية وتعليمية وطبية، وحتى مدارس خاصة ومؤسسات مصرفية تعمل كواجهات للتمويل. وقد واجهت اللجنة تحديات قانونية وإدارية، لكنها نجحت فى فرض رقابة مباشرة على هذه الأصول ونقل إدارتها إلى الدولة، مع التأكيد على عدم المساس بحقوق المستفيدين من الخدمات، كطلاب المدارس أو مرضى المستشفيات. الهدف لم يكن فقط تجفيف منابع التمويل، بل أيضًا تفكيك النفوذ الاقتصادى الذى مكّن الجماعة لعقود من توسيع حضورها فى الطبقة الوسطى والقطاعات الخدمية. ولطالما اعتمد الإخوان على العمل الخيرى والاجتماعى لكسب القبول الشعبي، حيث أنشؤوا جمعيات تقدم خدمات طبية وتعليمية ومعونات مادية للفقراء، مما منحهم شعبية واسعة خصوصًا فى المناطق المهمشة. ومع تفكيك بنيتهم التنظيمية، سعت الدولة إلى سد هذا الفراغ من خلال إحلال منظمات مجتمع مدنى بديلة، وزيادة الدعم الحكومى المباشر للمواطنين، خاصة فى مجالات الصحة، والتعليم، والرعاية الاجتماعية. وبرزت مبادرات مثل «تكافل وكرامة»، و«حياة كريمة» كمشروعات اجتماعية كبرى تهدف إلى تحسين مستوى معيشة الفئات الأكثر فقرًا، وتقديم الدعم بشكل مؤسسى ومنظم بعيدًا عن أى توظيف سياسى أو ديني. كما جرى تشجيع الجمعيات الأهلية المستقلة على التوسع فى نشاطاتها، ضمن إطار قانونى جديد يضمن الرقابة والشفافية، ويمنع أى اختراق من جماعات ذات خلفيات أيديولوجية. بهذا الشكل، لم تكتف الدولة بإزاحة الإخوان من المشهد الخيري، بل أعادت بناء منظومة بديلة أكثر شمولًا وحيادية. تأثير الاستراتيجية المصرية لمواجهة جماعة الإخوان على أوروبا لسنوات، اعتُبرت جماعة الإخوان فى أوروبا- وخاصة فى فرنسا وبريطانيا- نموذجًا «معتدلًا» للإسلام السياسي، يمكن استخدامه كحائط صد ضد الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش. لكن بعد التحركات المصرية المكثفة منذ ٢٠١٣، بدأت دول مثل فرنسا فى مراجعة هذا التصور، خصوصًا مع تصاعد الأدلة حول علاقات الجماعة بشبكات تمويل وتحريض وتجنيد داخل أوروبا. ليس هذا فقط ولكن استخدمت القاهرة أدواتها الدبلوماسية لتقديم ملف موثق عن تاريخ الجماعة، وعلاقاتها بالإرهاب، وممارساتها داخل الجاليات المسلمة فى أوروبا. وقد ساهمت هذه الجهود، خصوصًا من خلال التعاون الأمني، فى دفع الحكومات الأوروبية لإعادة النظر فى سياسات احتواء الجماعة. فرنسا كنموذج متقدم للتصدي تبنّت فرنسا خطابًا مشابهًا إلى حد كبير للخطاب المصرى فى نقد الإسلام السياسي، مع تركيز خاص على الانفصالية الإسلاموية، وهو المفهوم الذى استخدمه الرئيس إيمانويل ماكرون فى توصيف الجماعات التى تستغل الدين لبناء مجتمعات موازية داخل الدولة. وقد تأثر هذا التحول جزئيًا بتقارير وشهادات مصرية حول طريقة تغلغل الإخوان فى المؤسسات الاجتماعية والتعليمية. وفى ٢٠٢١، مررت فرنسا قانونًا يستهدف الجماعات التى تستخدم الدين لأهداف سياسية، ويعزز الرقابة على الجمعيات الدينية والتعليمية. ورغم أن القانون لم يذكر جماعة الإخوان بالاسم، إلا أن تطبيقاته شملت جمعيات ومساجد مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بفكر الجماعة. وكان للخبرات الأمنية المصرية دور فى إثراء فهم الأجهزة الفرنسية لطبيعة «الإخوان الجدد» وشبكاتهم فى أوروبا. التحالف الأمنى والاستخباراتى شهدت السنوات الأخيرة تعاونًا متزايدًا بين مصر وفرنسا فى ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب، خاصة فى ظل التقارب بين البلدين فى ملفات مثل ليبيا، والساحل الأفريقي. وضمن هذا الإطار، تبادلت الأجهزة الأمنية معلومات حول تحركات الإخوان وتمويلاتهم وعلاقاتهم مع منظمات أخرى فى أوروبا. دفعت هذه المعلومات فرنسا إلى تشديد الرقابة على عشرات الجمعيات التى يشتبه بعلاقتها بالإخوان، خاصة تلك التى تعمل تحت مظلة «المساعدة الإنسانية» أو «التثقيف الديني». وتم بالفعل حل أو التحقيق مع العديد منها، مع فرض رقابة على مصادر تمويلها، خصوصًا تلك القادمة من الخارج. تأثير محدود لكنه متنامٍ فى باقى أوروبا رغم أن فرنسا كانت الدولة الأوروبية الأكثر تجاوبًا مع الطرح المصرى بخصوص خطورة جماعة الإخوان، فإن بقية الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا، اتخذت مواقف أكثر حذرًا وتردّدًا. هذا التباين يعود جزئيًا إلى الطبيعة القانونية والسياسية لتلك الدول، التى تتعامل مع الإسلام السياسى ضمن أطر حرية التعبير والتنظيم المدني، إلى جانب وجود تيارات مؤيدة للجماعة داخل بعض الأوساط الأكاديمية والحقوقية الغربية. كما أن الإخوان فى تلك البلدان حرصوا على استخدام خطاب مزدوج يركز على العمل الخيرى والدمج الاجتماعي، مما صعّب من تصنيفهم كتهديد مباشر. مع ذلك، بدأت ملامح التحول تظهر بشكل تدريجي. فى بريطانيا، أطلقت الحكومة مراجعة شاملة لسياسات الجماعة عام ٢٠١٥ انتهت إلى توصيفها كـ«نقطة عبور نحو التطرف»، دون اتخاذ إجراءات حاسمة، بينما بدأت الأجهزة الأمنية فى ألمانيا تشديد الرقابة على الجمعيات والمراكز المرتبطة بها، خصوصًا بعد الكشف عن شبكات تمويل قادمة من الخليج وتركيا. كما ساهمت العمليات الإرهابية التى وقعت داخل أوروبا فى السنوات الأخيرة فى رفع منسوب القلق من وجود بيئات أيديولوجية حاضنة داخل القارة، وهو ما جعل تنظيمات الإسلام السياسى محل إعادة نظر. الاستراتيجية المصرية – بما تملكه من ملفات أمنية وخبرة طويلة فى التعامل مع الجماعة – لعبت دورًا غير مباشر فى هذا التحول الأوروبي، عبر قنوات دبلوماسية وأمنية مستمرة، وأحيانًا من خلال تسريبات إعلامية منظمة. وقد أتاح هذا الزخم للدول الأوروبية مجالًا أوسع للحديث عن ضرورة تفكيك البنية الناعمة للإخوان، لا فقط عبر الخطاب، بل من خلال تشريعات تقيّد تمويل الجمعيات الدينية، وتلزمها بشفافية مالية وأيديولوجية. وبالرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً، فإن التأثير المصرى وضع حجر الأساس لتحوّل قد يتسع فى السنوات المقبلة. خلاصة: الاستراتيجية المصرية ضد الإخوان لعبت دورًا مهمًا فى إزاحة القناع «الناعم» عن الجماعة أمام الرأى العام الأوروبي، وساعدت فرنسا على تطوير مقاربة قانونية وأمنية أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي. ومع استمرار التعاون الأمنى والدبلوماسي، من المتوقع أن تزداد ضغوط أوروبا على الإخوان، ليس فقط باعتبارهم خطرًا أمنيًا، بل أيضًا تهديدًا لقيم الدولة المدنية العلمانية.


المجهر
منذ 4 أيام
- المجهر
كتب/ المهندس باسل قس نصر الله: "كنيسة الدويلعة والخوف المسيحي من الإسلام المشوّه"
"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190). ها هي كنيسةٌ تُستهدف، إنها كنيسة مار إلياس في الدويلعة بدمشق. تفجيرٌ استهدف حَجَراً ومَن صلى فيه، لكنه في العمق يُعيد فتح الجراح القديمة التي لم تُشفَ بعد، ويبعث القلق الكامن في قلب المسيحي، ذاك الذي يسكن الشرق منذ قرونٍ طويلة، لا ضيفاً ولا طارئاً، بل جزءاً أصيلاً من نسيجه. إن المسيحي – في المجتمعات ذات الغالبية الإسلامية – يُدرك أن "الديمقراطية" هي حكمُ الأكثرية، وبالتالي فهو في موقعٍ هشّ، مهدد بخسارة مكتسباتٍ حضارية أو حياتية، تحت وطأة خطاب ديني متشدد، لا يرى فيه إلا "آخرَ" يجب تقليصه أو تحجيمه، وربما "تطهيره". الخوف المسيحي هذا ليس وليد الأمس. هو تراكمٌ تاريخي منذ المجازر العثمانية، منذ صور الجَزْر السكاني والاضطهاد في مناطقَ عدّة، ومنذ أن بدأ صوتُ التطرف الإسلامي يعلو، ويسعى لتكفير كلِّ مختلف. وليكون بديلاً عن الدولة باسم "الحاكمية". والخطر الأكبر أن التطرف لم يعد فردياً، بل أصبح منظومة فكرية خلف من يحمل القنابل والأحزمة الناسفة. ليست المشكلة في من فجر كنيسة مار إلياس، بل في ذاك الذي علّمه أن دم المصلين مباح، ثم قدّم له ذلك مغلفاً بشعار "نصرة الإسلام". قال الله تعالى: "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة: 32)، فكيف يستقيم إذاً أن تُزهق الأرواح باسم دينٍ جاء رحمة للعالمين؟ نعم، المسيحي الشرقي خائف. لكنه لا يخاف من المسلم، بل من الأمية الإسلامية، من الإسلام المغشوش، من الإسلام الذي خطفه الجهلة ليقيموا نظاماً يُقصي كل مختلف. هذا الخوف دفعه إلى الانكماش، أو إلى الهجرة. وفي الغربة، لا ولن يعود. والمؤلم أن الحكومات – بعض الحكومات – لم تُبحر إلى عمق الخوف المسيحي، بل استخدمته كورقة سياسية. فاستخدمت رجال دين – من المسلمين والمسيحيين على حد سواء – لعرض مسرحيات الحوار بين الأديان، فيما الواقع في الشوارع والأسواق والجامعات والمناطق الفقيرة كان ينضح بالعكس. هل من الغريب إذًا أن تُصبح الهجرة اليوم نزيفاً دائماً؟ وأن يُصبح الوجود المسيحي في المشرق مهدداً لا من مسلمي الشارع، بل من الخطاب المتشدد، ومن غياب الطمأنينة؟ الخوف لا يُعالج بكرنفالات، بل بتربية، وتعليم، وخطاب ديني حقيقي، وإعلامٍ واعٍ، وعدالةٍ اجتماعية، بتصحيح العلاقة مع الفقر والتهميش، وبمشاركة المسيحي كمواطن لا كضيفٍ على موائد الوطن. إنّ محاربة الإرهاب لا تكون بقمعه فقط، بل بتجفيف منابعه، بالعمل على تلك الأحزمة الفقيرة التي تُنتج الكراهية. فالمتطرف لا يولد متطرفاً، بل يُصنع في بيئات الجهل والبطالة والتهميش. ولو كان فيهم علمٌ أو فهم، لعلموا أن النبي ﷺ قال للأعرابي الذي دعا بالرحمة له وحده: "لقد حجّرتَ واسعاً يا أخا العرب". ونحن، نحنُ المسيحيين المشرقيين، باقون. لكننا نريد طمأنينة لا شعارات. نريد ضمانة من إيمانٍ عميق، لا فقط من نُطق الشهادتين. نريد أن نعيش معًا في نور الله، لا في ظلام من يدّعون نُصرته. إن الإيمان بالله لا يفرّق بين رسله، ولا بين عباده، وقد قال سبحانه: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ۚ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ" (البقرة: 285) وفي الختام، نقول كما قال موسى لربه: "أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟" (الأعراف: 155) فلا تهلكونا يا إخوتنا، بما يفعل منكم السفهاء. هل يعقل أن تُفجّر كنيسة في الدويلعة، ثم يُنادى على وسائل التواصل "اللهم ارحم موتى المسلمين فقط"؟ ألم يقل القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس يا أيها المسلمون؟ وورد قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (89 مرة)، ولم يقل "يا أيها الذين أسلموا"، لأن الإسلام بلا إيمانٍ ليس كافياً، كما جاء في قوله: "قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" (الحجرات: 14)، ولكن هناك من يجتهد ويقول أنه يكفي ان تكون مسلماً فهذا يعني ان تكون مؤمناً. اللهم اشهد بأنني بلّغت