logo
من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ

من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ

البوابةمنذ يوم واحد

تمثّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر التاريخ نموذجًا حيًا على التفاعل الحضاري، حيث امتزجت مسارات الشعبين على ساحات واسعة، من قبل ظهور الإسلام وحتى المرحلة المعاصرة. كانت هذه العلاقات محكومة بسياقات جغرافية، سياسية، ودينية متداخلة، تشكّل مزيجًا من الصراع والتحالف، من التنافس على مناطق النفوذ، والتعاون على تطوير التراث الفكري، مما جعلها محط اهتمام المؤرخين والساسة على حدّ سواء.
على امتداد هذه المحطات، شهدت المرحلة قبل الإسلام مزيجًا من السيطرة الساسانية على ممالك العرب على أطراف العراق، وتفاعلًا حضاريًا انعكس على اللغة والدين، بينما مثّل العصر الإسلامى نقطة تحوّل كبرى، حيث سقطت الدولة الساسانية، وحلّت دولة الإسلام مكانها، محدثةً تفاعلًا حضاريًا غير مسبوق. ثم تتابعت المحطات، من العصر الوسيط وقيام الدويلات، إلى العصر الحديث، حيث عادت المنافسة على مناطق النفوذ، وصولًا إلى المرحلة المعاصرة، التى تتأرجح فيها العلاقات على وقع محاولات الحوار، وضغط المحاور الاقتصادية والجيوسياسية.
المرحلة الأولى: قبل الإسلام
قبل ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والدولة الساسانية محكومة بظروف جغرافية وسياسية متشابكة، إذ مثّل العراق (بلاد الرافدين) الحد الفاصل والساحة الرئيسية لهذا التفاعل. كانت هذه الأرض ملتقى للحضارتين، حيث امتدت السيطرة الساسانية على ممالك العرب على الأطراف، أبرزها مملكة الحيرة التى أقامها بنو لخم، وحظيت برعاية الساسان، مما جعلها خط الدفاع الأول للإمبراطورية من جهة الجنوب، وفى الوقت ذاته بوابة للتفاعل التجارى والثقافي.
تمثّل مملكة الحيرة مثالًا حيًا على الطبيعة المزدوجة للعلاقات قبل الإسلام، إذ كانت تتبع الساسان سياسيًا وتربطها بهم علاقة مصلحة وحماية، بينما تظل على علاقة قبلية بعمق الجزيرة العربية. وقد شهدت هذه المرحلة محطات توتر وصدام عسكري، حيث سعى الساسان إلى السيطرة على قبائل العرب على الأطراف، بينما حاولت بعض هذه القبائل تعزيز استقلالها، كما حدث فى معركة ذى قار الشهيرة (نحو عام ٦٠٩ م)، التى شهدت انتصار العرب على القوات الساسانية، وشكّلت علامة فارقة على قدرة القبائل على تحدى الإمبراطورية.
على الرغم من طبيعة العلاقة السياسية التى شابها التنافس، شهدت المرحلة قبل الإسلام تبادلًا حضاريًا ملحوظًا، حيث انتشرت اللغة الفارسية، وفنون العمارة، والنقوش، بل والمعتقدات الدينية على حدود الجزيرة العربية. عرفت ممالك العرب المحاذية للإمبراطورية الساسانية مزيجًا من الديانات، إذ دخلت الزرادشتية إلى بعض قبائل شرق الجزيرة، بينما تفاعل العرب كذلك مع الديانات المسيحية والمانوية التى سادت على حدود العراق وفارس.
شكّل العراق قبل الإسلام مسرحًا لصراعات طويلة على الموارد الاقتصادية، حيث تركزت محطات القوافل على امتداد نهر الفرات، وحظيت ممالك العرب على الأطراف، مثل مملكة لخم، بموقع محورى على طرق التجارة. سعى الساسان للسيطرة على هذه المحطات وضمان ولاء زعامات العرب، بينما كانت قبائل عربية عدة تتأرجح مواقفها بين الساسان وبين خصومهم البيزنطيين، محقّقين من هذه المنافسة مصلحة آنية، على حساب تحالفاتهم طويلة الأمد.
مع اقتراب ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والساسان تمر بمرحلة من الإجهاد السياسي، إذ شهدت ممالك العرب على التخوم، لاسيما مملكة الحيرة، صراعات على السلطة، وتدخّلًا مباشرًا من البلاط الساسانى لإحلال ملوك موالين، مما أدى إلى تراجع تدريجى لثقة العرب بالساسان. كذلك، مهدت هذه المرحلة الطريق لاحقًا لاستقبال العرب رسالة الإسلام، إذ كانت الجزيرة مهيأة سياسيًا، وجاهزة فكريًا، لظهور قوة توحّد قبائلها وتستثمر موقعها الجغرافى وحضورها العسكري، لتمتد لاحقًا شرقًا وغربًا، محوّلة موازين القوى، ومؤرّخة لحقبة جديدة من العلاقات مع فارس.
المرحلة الثانية: العصر الإسلامي
مع ظهور الإسلام وتوسّع الدولة الإسلامية، شهد القرن السابع تحوّلًا محوريًا على خارطة الشرق الأوسط. ففى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، اندفعت الجيوش الإسلامية شرقًا، حيث خاضت عدة معارك فاصلة ضد الدولة الساسانية، أبرزها موقعة القادسية عام ٦٣٦ م، التى شكّلت نقطة تحول تاريخية. تبعها فتح المدائن، عاصمة الساسان، مما أدى إلى انهيار السلطة الساسانية تدريجيًا، وانتهاء عصرها السياسى عام ٦٥١ م بمقتل آخر ملوكها، يزدجرد الثالث، على أطراف خراسان.
لم يكن الفتح الإسلامى مجرد تغيير سياسي، بل مثّل انتقالًا حضاريًا عميقًا. قاومت بعض المدن والجماعات الفارسية الجيش الإسلامي، كما شهدت عدة مناطق، مثل خراسان ومرو، محاولات لاستعادة الحكم الساساني، قبل أن يُحكم السيطرة عليها. كانت هذه المرحلة محملة بوقائع عنيفة وحملات تأديبية، كما شهدت انتفاضات محلية على السلطة الجديدة، مما أدى إلى تأسيس مراكز عسكرية وإدارية، مهدت الطريق لاستقرار الدولة الإسلامية على أنقاض الساسان.
مع مرور الوقت، تحوّل الفرس من محاربين ومنافسين إلى عنصر محورى ضمن الدولة الإسلامية الناشئة. اعتنق الكثيرون الإسلام، وشاركوا بفعالية فى مؤسسات الدولة، كما أدى امتزاج التراث الفارسى بالعقل العربي–الإسلامى إلى ولادة حضارة مميزة. ظهر علماء ومفكرون من أصول فارسية تركوا أثرًا عميقًا على الحضارة الإسلامية، من بينهم سيبويه، مؤسس علم النحو، والرازي، الطبيب الموسوعي، وغيرهما من الفلاسفة، مما عكس التفاعل الحضارى الكبير بين العنصرين.
مع قيام الدولة العباسية عام ٧٥٠ م، شهد الدور الفارسى تناميًا غير مسبوق، إذ اتخذت بغداد عاصمةً، وتقع على مقربة من مراكز الحضارة الساسانية القديمة. شكّل الفرس طبقة واسعة من العلماء، الوزراء، والكُتّاب، بل كان لهم دور محورى على المستويات الاقتصادية، الثقافية، والإدارية. كما ساهمت الترجمات من الفارسية إلى العربية، وتفاعل المدارس العلمية، فى بلورة العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، حيث امتزج التراث الفارسى بالعربي، مفرزًا عطاءً حضاريًا مشتركًا.
بالرغم من الاندماج، شهد العصر الإسلامى محطات توتر وصراع على السلطة، إذ سعى البعض لاستعادة مراكز نفوذهم تحت رايات محلية، كما حدث مع ظهور الدويلات الفارسية شبه المستقلة، مثل السامانيين، البويهيين، والسلاجقة، التى تحدت سلطة الخلافة المركزية، ولكنها حافظت على إطار حضارى مشترك. كذلك، برزت حساسيات تتعلق بالعلاقة الثقافية والدينية، حيث سعت بعض التيارات لإحياء التراث الفارسى قبل الإسلام، بينما دافعت السلطة العباسية عن إطار العقيدة الجامعة، مما شكّل تفاعلًا وصراعًا حضاريًا متميزًا على امتداد هذه المرحلة.
المرحلة الثالثة: العصر الوسيط
مع تراجع سلطة الخلافة العباسية عن السيطرة المباشرة على الأطراف، شهد القرن التاسع والعاشر قيام عدة دويلات مستقلة ذات طابع محلى وفارسي–تركي، شكّل ظهورها نقطة تحوّل مهمة على خريطة الشرق الإسلامي. برزت الدولة السامانية (٨١٩–٩٩٩ م) على تخوم خراسان وبلاد ما وراء النهر، مُمَهّدة الطريق لانتعاش التراث الفارسى تحت إطار الحضارة الإسلامية. كما برزت دولة البويهيين (٩٣٢–١٠٦٢ م) التى سيطرت على بغداد، وحوّلت الخلفاء العباسيين إلى رموز روحية تحت وصايتها، مما أدى إلى بروز توتر وصراع على السلطة والنفوذ السياسي.
شكّل السامانيون نموذجًا للدويلات التى عملت على المزج الحضاري، حيث شهدت عاصمتهم بخارى نهضة أدبية وفكرية مميزة. ازدهر استخدام اللغة الفارسية، وتألّق الشعراء، وعلى رأسهم رودكي، كما جُمِع التراث الفارسى قبل الإسلام وحُرر بلغة العصر. ساهم السامانيون كذلك فى تعزيز الترابط الثقافى والديني، حيث احتضن بلاطهم علماء ومفكرين من شتى أصقاع العالم الإسلامي، مما أدى إلى إثراء التراث الحضارى المشترك.
مع سيطرة البويهيين على بغداد، دخلت الخلافة العباسية مرحلة الضعف السياسي، حيث تحوّل الخليفة إلى سلطة رمزية تحت سطوة الأمراء البويهيين. شهدت هذه المرحلة صراعات طائفية ومذهبية، إذ شجّع البويهيون على انتشار الفكر الشيعى على حساب السلطة السنية، مما أدى إلى توترات على مستوى السلطة والدين، وفتح بابًا لصراعات طويلة على الشرعية، عرفت بالسجال السني–الشيعي، وتركت أثرًا عميقًا على موازين القوى السياسية والدينية.
مع ظهور السلاجقة (١٠٣٧–١١٩٤ م)، تغير ميزان القوى مجددًا، إذ سيطر هؤلاء على بغداد عام ١٠٥٥ م، وأعادوا للخليفة السنى اعتباره الرمزي، بل وترجموا انتصارهم السياسى إلى دعم مؤسسات التعليم، حيث أقام الوزير نظام الملك المدارس النظامية، التى أصبحت مراكز لنشر العلوم الشرعية وتكريس المذهب السني، مما أدى إلى تفاعل حضارى متميز، ولكن على أرضية مذهبية، وشكّل المرحلة الحقيقية لانتقال السلطة من المحيط الفارسي–البويهى إلى المحيط التركي–السني.
اتسم العصر الوسيط بجدلية مزدوجة: مزيج حضارى غني، وصراعات على السلطة والنفوذ السياسى والديني. ففى الوقت الذى شهدت فيه المدن كخراسان، نيسابور، بغداد، وأصفهان ازدهارًا علميًا وفلسفيًا، عرفت المرحلة كذلك توترات وحروبًا على السلطة، ومنافسات على الشرعية الدينية، وصراعات على السيطرة على الطرق الاقتصادية. رغم هذه التناقضات، ترك العصر الوسيط أثرًا عميقًا على التراث الإسلامي، حيث شكّل مزيج الثقافات الفارسية–العربية–التركية أساسًا للحضارة التى ستتبلور لاحقًا، وترسم ملامح المرحلة التالية من التاريخ الإسلامي.
المرحلة الرابعة: العصر الحديث
مع انهيار الدولة الصفوية عام ١٧٢٢ م على إثر الغزو الأفغاني، دخلت إيران مرحلة من الاضطراب السياسي، قبل أن يتمكّن القاجاريون من تثبيت سلطتهم عام ١٧٩٤ م. شكّل هذا الانتقال نقطة فاصلة على الصعيد السياسي، إذ تراجعت سلطة إيران على سواحل الخليج، وبرزت القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا، كفاعل محورى على ممرات التجارة البحرية، مما أدى إلى احتدام الصراع على مناطق النفوذ، وعلى رأسها مملكة عمان، إمارات الساحل، ومراكز التجارة الحيوية على الخليج.
خلال القرن التاسع عشر، شهدت العلاقات الإيرانية–العربية محطات توتر عدة على سواحل الخليج، حيث سعى القاجاريون لاستعادة السيطرة على مراكز تاريخية كالبحرين، بينما تزايد النفوذ البريطاني، مما أدى إلى توقيع عدة اتفاقيات تحد من طموح الدولة القاجارية. على الطرف المقابل، شهدت الإمارات والسعودية الناشئة محاولات لترسيخ مواقفها على الساحة، مما مهد الطريق لصراعات لاحقة على الحدود، وفتح بابًا لحقبة طويلة من التنافس على الموارد وممرات التجارة.
مع قيام الدولة البهلوية عام ١٩٢٥ م، سعت إيران إلى تحديث مؤسساتها وتعزيز نفوذها الإقليمي، مما أدى إلى توترات مع العراق على ترسيم حدود شط العرب، وكذلك على الجزر الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى). كما شهدت المرحلة اقترابًا مؤقتًا من القوى الغربية على حساب المحيط العربي، قبل أن تؤثر الحرب الباردة على طبيعة العلاقات، حيث أصبحت إيران طرفًا محوريًا ضمن محورى واشنطن وموسكو، مما أدى إلى تفاعل وصراع غير مباشر على الساحة العربية.
شكّل عام ١٩٧٩ م نقطة تحوّل جذرية، حيث أطاحت الثورة الإيرانية بنظام الشاه، وحملت على عاتقها مشروعًا إسلاميًا له طابع شيعي، مما أدى إلى تغير موازين القوى. تسبّبت الثورة وحرب الخليج الأولى (١٩٨٠–١٩٨٨ م) فى تعزيز الفجوة بين إيران والدول العربية، وعلى رأسها العراق ودول الخليج، حيث شهدت المرحلة حربًا مدمرة على الحدود، تركت أثرًا عميقًا على العلاقات، ومهّدت الطريق لسياسات المحاور على امتداد العقود اللاحقة.
مع مطلع القرن الحادى والعشرين، تبلور دور إيران كقوة محورية ذات تأثير مباشر على الأمن العربي، حيث شهدت المرحلة تنامى نفوذها عبر محطات عدة، منها سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ م، وتعزيز دورها السياسى والعسكرى فى العراق، وكذلك دعمها لأذرع محلية فى لبنان عبر حزب الله، وفى سوريا عبر دعم نظام الأسد، وفى اليمن عبر جماعة الحوثيين. أدى هذا التمدد إلى تشكّل محاور إقليمية متنافسة على امتداد الشرق الأوسط، مما شكّل ملامح المرحلة الرابعة من تاريخ العلاقات، التى تتأرجح بين محاولات الحوار السياسى ومخاطر التصعيد العسكري.
مبدأ "تصدير الثورة" كركيزة للسياسة الإيرانية
مع قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ م، تبنّت طهران مبدأ "تصدير الثورة" كجزء أصيل من مشروعها السياسى والديني، إذ سعت من خلاله إلى توسيع نفوذها خارج حدودها الوطنية، وتعزيز تأثيرها على المحيط الإقليمي. لم يعد الأمر محصورًا بالشأن الإيرانى الداخلي، بل تحوّل إلى منهج فكرى وحركي، يعتمد على مزيج من التعبئة العقائدية والدعم السياسي، لبناء محاور تؤمن لإيران دورًا محوريًا على الساحة الإقليمية، مبررةً هذه التوجهات بالسعى إلى نصرة المستضعفين ومواجهة "الاستكبار العالمي".
ارتبط مبدأ "تصدير الثورة" بشكل مباشر بإنشاء وتنظيم مجموعات مسلحة وتنظيمات عقائدية موالية لإيران على امتداد بلدان عربية عدة، من العراق إلى لبنان واليمن. شكّل حزب الله نموذجًا محوريًا على هذا التوجه، حيث نشأ كحركة مقاتلة ومكون سياسى تُمثّل امتدادًا مباشرًا للحرس الثورى الإيراني. كما شهد العراق تأسيس عدد من الفصائل المسلحة التى عملت على تعزيز نفوذ طهران، وتحويل بعض مؤسسات الدولة إلى أذرع تؤمن مصالحها، مما أدى إلى زعزعة موازين السلطة وتعزيز الاصطفاف الطائفي.
تمثّل سياسة تصدير الثورة تحدّيًا مباشرًا لسيادة عدة دول عربية، حيث تؤثر على قرارها السياسي، وتنتهك حدودها، وتستغل توتراتها الداخلية لتعزيز النفوذ الإيراني. ففى اليمن، على سبيل المثال، أدى الدعم الإيرانى للحوثيين إلى تفاقم الحرب، وتقويض سلطة الدولة، وتحويلها إلى ساحة صراع محورى على النفوذ. كما تسببت هذه السياسة بتعزيز حالة عدم الاستقرار السياسي، وتعزيز الصراعات الطائفية، مما أدى إلى تآكل بنية الدولة، وتعزيز بيئة خصبة لنمو الجماعات المسلحة.
لم تقتصر تأثيرات هذه السياسة على الأمن السياسي، بل امتدت إلى الساحة الاقتصادية والاجتماعية، حيث عرقلت جهود التنمية، وضاعفت من أزمات اللاجئين، وضربت البنية الاقتصادية لعدد من بلدان المنطقة. ففى العراق، أدى نفوذ الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران إلى انتشار الفساد، وتعزيز اقتصاد مواز، مما أثر على مؤسسات الدولة الرسمية. وفى سوريا، أدى التدخّل الإيرانى المباشر إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية، وتوسيع رقعة الدمار، وتحويل الصراع إلى ساحة مواجهة إقليمية ذات طابع مذهبي.
تمثّل سياسة "تصدير الثورة" تحدّيًا طويل الأمد للعالم العربي، مما يحتم على الدول العربية بلورة إستراتيجيات موحّدة وحازمة للحفاظ على سيادتها وضمان توازن القوى على الساحة الإقليمية. تتطلب هذه الإستراتيجية تعزيز مؤسسات الدولة، وحماية الأمن القومي، وتنشيط الدبلوماسية المشتركة، والعمل على تفكيك الشبكات التى تغذّيها الأطراف الخارجية. ففى المحصلة، يشكّل التصدى لهذا التحدّى ضرورة تاريخية للحفاظ على وحدة وتماسك النظام العربي، وضمان الأمن والاستقرار لشعوبه.
المرحلة الخامسة: المرحلة المعاصرة
مع سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، دخلت العلاقات العربية–الإيرانية مرحلة غير مسبوقة، حيث أدى الفراغ السياسى فى العراق إلى تعزيز النفوذ الإيرانى على الساحة العراقية، ما أقلق المحيط العربي. وعلى الرغم من محاولات الحوار الدبلوماسى على مستوى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، شهدت المرحلة توترًا متزايدًا، حيث اعتبرت بعض العواصم العربية التمدد الإيرانى خطرًا مباشرًا على توازن القوى التقليدي، بينما سعت طهران لترسيخ نفوذها كقوة محورية على امتداد المحور الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان.
اتخذت إيران استراتيجية تعتمد على تطوير تحالفات عسكرية وتنظيمية على الأرض، إذ شكّل حزب الله اللبنانى نموذجًا مبكرًا على هذه المرحلة، قبل أن تتوسع الظاهرة إلى العراق عبر قوات الحشد الشعبي، وإلى سوريا عبر الدعم المباشر للنظام، ثم إلى اليمن من خلال دعم الحوثيين. جعلت هذه الشبكة من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران لاعبًا محوريًا على الساحة، ومصدراً لقلق كبير لدى القوى العربية الساعية للحفاظ على سيادة أراضيها، مما أدى إلى نشوء محاور متقابلة وصراعات غير مباشرة على امتداد المنطقة.
شهدت المرحلة المعاصرة احتدام المنافسة على الساحة الاقتصادية، حيث تتقاطع المصالح حول ممرات الطاقة وحركة الملاحة، لاسيما فى مضيق هرمز. ففى عام ٢٠١٩ م، على سبيل المثال، شهدت المنطقة سلسلة من التوترات على خلفية احتجاز ناقلات النفط والهجمات على المنشآت النفطية، مما أدى إلى تحشيد القوى الدولية وتشكيل تحالفات ملاحية تهدف إلى حماية خطوط النقل، وترسيخ التباين السياسي–الأمنى بين المحور الإيرانى ودول الخليج.
على الرغم من التوترات، شهدت المرحلة محطات عدة للحوار، أبرزها الاتفاق النووى عام ٢٠١٥ م (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذى فتح بابًا للحوار الإيراني–الغربي، مما انعكس على محاولات عربية–إيرانية لتهدئة التصعيد على عدة جبهات. تكلّلت هذه المحاولات عام ٢٠٢٣، بوساطة صينية، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، مما أظهر إمكانية الحوار على الرغم من العقبات، إلا أن التوتر على الساحة السورية، اليمنية، وكذلك التنافس على مناطق النفوذ فى العراق، ظلّ يشكّل تحديًا مستمرًا للاستقرار.
تمثّل المرحلة المعاصرة ذروة التفاعل المتناقض للعلاقات العربية–الإيرانية، حيث تتأرجح مواقف الأطراف وفق متغيّرات ميدانية وسياسية على الساحة الإقليمية والدولية. ففى الوقت الذى شهدت فيه بعض المحطات محاولات لتهدئة التوتر عبر الحوار والتعاون على ملفات مشتركة، ظلّت نقاط الخلاف، من دعم إيران للحلفاء من جهة، ومخاوف الدول العربية من تمدد النفوذ الإيرانى من جهة أخرى، تشكّل المحور الأساسى للعلاقة. هذا الوضع يجعل المرحلة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما بين السعى نحو تفاهمات استراتيجية تضمن الأمن المشترك، أو عودة التصعيد الذى يحمل تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة.
تشكّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر العصور نموذجًا متميزًا لما يمكن أن تقدمه دراسة التاريخ من دروس للحاضر، حيث تتقاطع محطات طويلة من التفاعل الحضارى والتنافس السياسى على الأرض ذاتها. ففى كل مرحلة، من قبل الإسلام إلى العصر الحديث، شكّل المزج الثقافي، والديني، والسياسى ملامح علاقة معقّدة، تحددها موازين القوى، وتشعلها نقاط التوتر، وتحتويها محطات الحوار والتفاعل المشترك.
واليوم، تواجه هذه العلاقات تحديات تتجاوز البعد الجغرافي، إذ تتشابك مع قضايا الأمن القومي، وممرات الطاقة، وصراعات المحاور، مما يجعلها محط اهتمام القوى الدولية. على الرغم من محاولات الحوار، يظل التنافس على مناطق النفوذ، والتباين المذهبي، محركًا محوريًا يشكّل ملامح المرحلة القادمة، حيث تبقى النتائج رهنًا بمدى استعداد الأطراف لاستثمار نقاط التقارب وتحييد نقاط التصادم.
إن قراءة هذه المحطات التاريخية، وفهم أسباب التصعيد والتفاعل على امتداد قرون طويلة، تفتح بابًا لاستشراف مستقبل العلاقات العربية–الإيرانية، وتعزيز إمكانية الحوار على قاعدة الاحترام المتبادل، وتحقيق الأمن المشترك. ففى نهاية المطاف، تظل هذه العلاقة المحورية عنصرًا محددًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، ومفتاحًا محتملاً لصياغة نظام إقليمى أقل توترًا، وأكثر تفاعلًا على أرضية المصالح المشتركة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عمر الدرعي يستعرض في بولندا تجربة الإمارات بترسيخ قيم الاعتدال
عمر الدرعي يستعرض في بولندا تجربة الإمارات بترسيخ قيم الاعتدال

البيان

timeمنذ 24 دقائق

  • البيان

عمر الدرعي يستعرض في بولندا تجربة الإمارات بترسيخ قيم الاعتدال

وقدم ومضاتٍ مضيئةً وثوابت قامت عليها تجربة الإمارات في إعلاء قيم التعايش والتسامح في مجتمعها، لتكون نبراساً في هذا الشأن، مؤكداً أن الإسلام يحث على مصلحة الوطن والالتزام بقوانينه وأنظمته وخدمته بهمةٍ وإخلاصٍ وانتماءٍ وتفان، مع الحرص على ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة، ضمن إطارٍ من الاحترام المتبادل والانفتاح الحضاري، في سلامٍ وتآلفٍ وتعايش.

عمر الدرعي يشارك في احتفال الاتحاد الديني الإسلامي ببولندا
عمر الدرعي يشارك في احتفال الاتحاد الديني الإسلامي ببولندا

الاتحاد

timeمنذ 7 ساعات

  • الاتحاد

عمر الدرعي يشارك في احتفال الاتحاد الديني الإسلامي ببولندا

شارك معالي الدكتور عمر حبتور الدرعي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة، في الاحتفال الرسمي الذي نظمه الاتحاد الديني الإسلامي في جمهورية بولندا، بقرية بوهونيكي، أمس الجمعة، بمناسبة مرور 100 عام على تأسيسه، وذلك تلبية لدعوة من رئيس الاتحاد. حضر الاحتفال محمد أحمد الحربي، سفير دولة الإمارات في جمهورية بولندا، ومحمد حاجي الخوري، المدير العام لمؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية. وأشاد معالي الدرعي، في كلمة له خلال الاحتفال، بالتنوع الديني والتعدد الثقافي، والاحترام المتبادل بين جميع الأديان والمذاهب والثقافات في بولندا، منوهاً بنجاحات وإنجازات الاتحاد الديني في جمهورية بولندا وحرصه على رسم ملامح مستقبلٍ مشرقٍ للأجيال القادمة، ليظل هذا البلد نموذجاً في التعايش والتفاهم. وانطلاقاً من علاقات التعاون والصداقة الإماراتية - البولندية، استعرض معاليه تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في ترسيخ قيم الاعتدال والقيم الإنسانية، وتأهيل الأئمة، ومأسسة الخطاب الديني، وإنتاج محتواه السليم، وحماية هذه الخصوصية الثقافية الدينية الرائعة، حرصاً على الاستفادة منها، والعمل على استدامتها في المستقبل خاصةً مع التحديات الجديدة والعوالم الرقمية التي تزخر بكثيرٍ من المحتويات والمعلومات المتضاربة. وقدم الدكتور الدرعي ومضاتٍ مضيئةً وثوابت قامت عليها تجربة الإمارات في إعلاء قيم التعايش والتسامح في مجتمعها، لتكون نبراساً في هذا الشأن، مؤكداً أن الإسلام يحث على مصلحة الوطن والالتزام بقوانينه وأنظمته وخدمته بهمةٍ وإخلاصٍ وانتماءٍ وتفان، مع الحرص على ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة، ضمن إطارٍ من الاحترام المتبادل والانفتاح الحضاري، في سلام وتآلف وتعايش.

من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ
من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ

البوابة

timeمنذ يوم واحد

  • البوابة

من مملكة الحيرة إلى الثورة.. العلاقات العربية الإيرانية تاريخ من صراع نفوذ

تمثّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر التاريخ نموذجًا حيًا على التفاعل الحضاري، حيث امتزجت مسارات الشعبين على ساحات واسعة، من قبل ظهور الإسلام وحتى المرحلة المعاصرة. كانت هذه العلاقات محكومة بسياقات جغرافية، سياسية، ودينية متداخلة، تشكّل مزيجًا من الصراع والتحالف، من التنافس على مناطق النفوذ، والتعاون على تطوير التراث الفكري، مما جعلها محط اهتمام المؤرخين والساسة على حدّ سواء. على امتداد هذه المحطات، شهدت المرحلة قبل الإسلام مزيجًا من السيطرة الساسانية على ممالك العرب على أطراف العراق، وتفاعلًا حضاريًا انعكس على اللغة والدين، بينما مثّل العصر الإسلامى نقطة تحوّل كبرى، حيث سقطت الدولة الساسانية، وحلّت دولة الإسلام مكانها، محدثةً تفاعلًا حضاريًا غير مسبوق. ثم تتابعت المحطات، من العصر الوسيط وقيام الدويلات، إلى العصر الحديث، حيث عادت المنافسة على مناطق النفوذ، وصولًا إلى المرحلة المعاصرة، التى تتأرجح فيها العلاقات على وقع محاولات الحوار، وضغط المحاور الاقتصادية والجيوسياسية. المرحلة الأولى: قبل الإسلام قبل ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والدولة الساسانية محكومة بظروف جغرافية وسياسية متشابكة، إذ مثّل العراق (بلاد الرافدين) الحد الفاصل والساحة الرئيسية لهذا التفاعل. كانت هذه الأرض ملتقى للحضارتين، حيث امتدت السيطرة الساسانية على ممالك العرب على الأطراف، أبرزها مملكة الحيرة التى أقامها بنو لخم، وحظيت برعاية الساسان، مما جعلها خط الدفاع الأول للإمبراطورية من جهة الجنوب، وفى الوقت ذاته بوابة للتفاعل التجارى والثقافي. تمثّل مملكة الحيرة مثالًا حيًا على الطبيعة المزدوجة للعلاقات قبل الإسلام، إذ كانت تتبع الساسان سياسيًا وتربطها بهم علاقة مصلحة وحماية، بينما تظل على علاقة قبلية بعمق الجزيرة العربية. وقد شهدت هذه المرحلة محطات توتر وصدام عسكري، حيث سعى الساسان إلى السيطرة على قبائل العرب على الأطراف، بينما حاولت بعض هذه القبائل تعزيز استقلالها، كما حدث فى معركة ذى قار الشهيرة (نحو عام ٦٠٩ م)، التى شهدت انتصار العرب على القوات الساسانية، وشكّلت علامة فارقة على قدرة القبائل على تحدى الإمبراطورية. على الرغم من طبيعة العلاقة السياسية التى شابها التنافس، شهدت المرحلة قبل الإسلام تبادلًا حضاريًا ملحوظًا، حيث انتشرت اللغة الفارسية، وفنون العمارة، والنقوش، بل والمعتقدات الدينية على حدود الجزيرة العربية. عرفت ممالك العرب المحاذية للإمبراطورية الساسانية مزيجًا من الديانات، إذ دخلت الزرادشتية إلى بعض قبائل شرق الجزيرة، بينما تفاعل العرب كذلك مع الديانات المسيحية والمانوية التى سادت على حدود العراق وفارس. شكّل العراق قبل الإسلام مسرحًا لصراعات طويلة على الموارد الاقتصادية، حيث تركزت محطات القوافل على امتداد نهر الفرات، وحظيت ممالك العرب على الأطراف، مثل مملكة لخم، بموقع محورى على طرق التجارة. سعى الساسان للسيطرة على هذه المحطات وضمان ولاء زعامات العرب، بينما كانت قبائل عربية عدة تتأرجح مواقفها بين الساسان وبين خصومهم البيزنطيين، محقّقين من هذه المنافسة مصلحة آنية، على حساب تحالفاتهم طويلة الأمد. مع اقتراب ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والساسان تمر بمرحلة من الإجهاد السياسي، إذ شهدت ممالك العرب على التخوم، لاسيما مملكة الحيرة، صراعات على السلطة، وتدخّلًا مباشرًا من البلاط الساسانى لإحلال ملوك موالين، مما أدى إلى تراجع تدريجى لثقة العرب بالساسان. كذلك، مهدت هذه المرحلة الطريق لاحقًا لاستقبال العرب رسالة الإسلام، إذ كانت الجزيرة مهيأة سياسيًا، وجاهزة فكريًا، لظهور قوة توحّد قبائلها وتستثمر موقعها الجغرافى وحضورها العسكري، لتمتد لاحقًا شرقًا وغربًا، محوّلة موازين القوى، ومؤرّخة لحقبة جديدة من العلاقات مع فارس. المرحلة الثانية: العصر الإسلامي مع ظهور الإسلام وتوسّع الدولة الإسلامية، شهد القرن السابع تحوّلًا محوريًا على خارطة الشرق الأوسط. ففى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، اندفعت الجيوش الإسلامية شرقًا، حيث خاضت عدة معارك فاصلة ضد الدولة الساسانية، أبرزها موقعة القادسية عام ٦٣٦ م، التى شكّلت نقطة تحول تاريخية. تبعها فتح المدائن، عاصمة الساسان، مما أدى إلى انهيار السلطة الساسانية تدريجيًا، وانتهاء عصرها السياسى عام ٦٥١ م بمقتل آخر ملوكها، يزدجرد الثالث، على أطراف خراسان. لم يكن الفتح الإسلامى مجرد تغيير سياسي، بل مثّل انتقالًا حضاريًا عميقًا. قاومت بعض المدن والجماعات الفارسية الجيش الإسلامي، كما شهدت عدة مناطق، مثل خراسان ومرو، محاولات لاستعادة الحكم الساساني، قبل أن يُحكم السيطرة عليها. كانت هذه المرحلة محملة بوقائع عنيفة وحملات تأديبية، كما شهدت انتفاضات محلية على السلطة الجديدة، مما أدى إلى تأسيس مراكز عسكرية وإدارية، مهدت الطريق لاستقرار الدولة الإسلامية على أنقاض الساسان. مع مرور الوقت، تحوّل الفرس من محاربين ومنافسين إلى عنصر محورى ضمن الدولة الإسلامية الناشئة. اعتنق الكثيرون الإسلام، وشاركوا بفعالية فى مؤسسات الدولة، كما أدى امتزاج التراث الفارسى بالعقل العربي–الإسلامى إلى ولادة حضارة مميزة. ظهر علماء ومفكرون من أصول فارسية تركوا أثرًا عميقًا على الحضارة الإسلامية، من بينهم سيبويه، مؤسس علم النحو، والرازي، الطبيب الموسوعي، وغيرهما من الفلاسفة، مما عكس التفاعل الحضارى الكبير بين العنصرين. مع قيام الدولة العباسية عام ٧٥٠ م، شهد الدور الفارسى تناميًا غير مسبوق، إذ اتخذت بغداد عاصمةً، وتقع على مقربة من مراكز الحضارة الساسانية القديمة. شكّل الفرس طبقة واسعة من العلماء، الوزراء، والكُتّاب، بل كان لهم دور محورى على المستويات الاقتصادية، الثقافية، والإدارية. كما ساهمت الترجمات من الفارسية إلى العربية، وتفاعل المدارس العلمية، فى بلورة العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، حيث امتزج التراث الفارسى بالعربي، مفرزًا عطاءً حضاريًا مشتركًا. بالرغم من الاندماج، شهد العصر الإسلامى محطات توتر وصراع على السلطة، إذ سعى البعض لاستعادة مراكز نفوذهم تحت رايات محلية، كما حدث مع ظهور الدويلات الفارسية شبه المستقلة، مثل السامانيين، البويهيين، والسلاجقة، التى تحدت سلطة الخلافة المركزية، ولكنها حافظت على إطار حضارى مشترك. كذلك، برزت حساسيات تتعلق بالعلاقة الثقافية والدينية، حيث سعت بعض التيارات لإحياء التراث الفارسى قبل الإسلام، بينما دافعت السلطة العباسية عن إطار العقيدة الجامعة، مما شكّل تفاعلًا وصراعًا حضاريًا متميزًا على امتداد هذه المرحلة. المرحلة الثالثة: العصر الوسيط مع تراجع سلطة الخلافة العباسية عن السيطرة المباشرة على الأطراف، شهد القرن التاسع والعاشر قيام عدة دويلات مستقلة ذات طابع محلى وفارسي–تركي، شكّل ظهورها نقطة تحوّل مهمة على خريطة الشرق الإسلامي. برزت الدولة السامانية (٨١٩–٩٩٩ م) على تخوم خراسان وبلاد ما وراء النهر، مُمَهّدة الطريق لانتعاش التراث الفارسى تحت إطار الحضارة الإسلامية. كما برزت دولة البويهيين (٩٣٢–١٠٦٢ م) التى سيطرت على بغداد، وحوّلت الخلفاء العباسيين إلى رموز روحية تحت وصايتها، مما أدى إلى بروز توتر وصراع على السلطة والنفوذ السياسي. شكّل السامانيون نموذجًا للدويلات التى عملت على المزج الحضاري، حيث شهدت عاصمتهم بخارى نهضة أدبية وفكرية مميزة. ازدهر استخدام اللغة الفارسية، وتألّق الشعراء، وعلى رأسهم رودكي، كما جُمِع التراث الفارسى قبل الإسلام وحُرر بلغة العصر. ساهم السامانيون كذلك فى تعزيز الترابط الثقافى والديني، حيث احتضن بلاطهم علماء ومفكرين من شتى أصقاع العالم الإسلامي، مما أدى إلى إثراء التراث الحضارى المشترك. مع سيطرة البويهيين على بغداد، دخلت الخلافة العباسية مرحلة الضعف السياسي، حيث تحوّل الخليفة إلى سلطة رمزية تحت سطوة الأمراء البويهيين. شهدت هذه المرحلة صراعات طائفية ومذهبية، إذ شجّع البويهيون على انتشار الفكر الشيعى على حساب السلطة السنية، مما أدى إلى توترات على مستوى السلطة والدين، وفتح بابًا لصراعات طويلة على الشرعية، عرفت بالسجال السني–الشيعي، وتركت أثرًا عميقًا على موازين القوى السياسية والدينية. مع ظهور السلاجقة (١٠٣٧–١١٩٤ م)، تغير ميزان القوى مجددًا، إذ سيطر هؤلاء على بغداد عام ١٠٥٥ م، وأعادوا للخليفة السنى اعتباره الرمزي، بل وترجموا انتصارهم السياسى إلى دعم مؤسسات التعليم، حيث أقام الوزير نظام الملك المدارس النظامية، التى أصبحت مراكز لنشر العلوم الشرعية وتكريس المذهب السني، مما أدى إلى تفاعل حضارى متميز، ولكن على أرضية مذهبية، وشكّل المرحلة الحقيقية لانتقال السلطة من المحيط الفارسي–البويهى إلى المحيط التركي–السني. اتسم العصر الوسيط بجدلية مزدوجة: مزيج حضارى غني، وصراعات على السلطة والنفوذ السياسى والديني. ففى الوقت الذى شهدت فيه المدن كخراسان، نيسابور، بغداد، وأصفهان ازدهارًا علميًا وفلسفيًا، عرفت المرحلة كذلك توترات وحروبًا على السلطة، ومنافسات على الشرعية الدينية، وصراعات على السيطرة على الطرق الاقتصادية. رغم هذه التناقضات، ترك العصر الوسيط أثرًا عميقًا على التراث الإسلامي، حيث شكّل مزيج الثقافات الفارسية–العربية–التركية أساسًا للحضارة التى ستتبلور لاحقًا، وترسم ملامح المرحلة التالية من التاريخ الإسلامي. المرحلة الرابعة: العصر الحديث مع انهيار الدولة الصفوية عام ١٧٢٢ م على إثر الغزو الأفغاني، دخلت إيران مرحلة من الاضطراب السياسي، قبل أن يتمكّن القاجاريون من تثبيت سلطتهم عام ١٧٩٤ م. شكّل هذا الانتقال نقطة فاصلة على الصعيد السياسي، إذ تراجعت سلطة إيران على سواحل الخليج، وبرزت القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا، كفاعل محورى على ممرات التجارة البحرية، مما أدى إلى احتدام الصراع على مناطق النفوذ، وعلى رأسها مملكة عمان، إمارات الساحل، ومراكز التجارة الحيوية على الخليج. خلال القرن التاسع عشر، شهدت العلاقات الإيرانية–العربية محطات توتر عدة على سواحل الخليج، حيث سعى القاجاريون لاستعادة السيطرة على مراكز تاريخية كالبحرين، بينما تزايد النفوذ البريطاني، مما أدى إلى توقيع عدة اتفاقيات تحد من طموح الدولة القاجارية. على الطرف المقابل، شهدت الإمارات والسعودية الناشئة محاولات لترسيخ مواقفها على الساحة، مما مهد الطريق لصراعات لاحقة على الحدود، وفتح بابًا لحقبة طويلة من التنافس على الموارد وممرات التجارة. مع قيام الدولة البهلوية عام ١٩٢٥ م، سعت إيران إلى تحديث مؤسساتها وتعزيز نفوذها الإقليمي، مما أدى إلى توترات مع العراق على ترسيم حدود شط العرب، وكذلك على الجزر الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى). كما شهدت المرحلة اقترابًا مؤقتًا من القوى الغربية على حساب المحيط العربي، قبل أن تؤثر الحرب الباردة على طبيعة العلاقات، حيث أصبحت إيران طرفًا محوريًا ضمن محورى واشنطن وموسكو، مما أدى إلى تفاعل وصراع غير مباشر على الساحة العربية. شكّل عام ١٩٧٩ م نقطة تحوّل جذرية، حيث أطاحت الثورة الإيرانية بنظام الشاه، وحملت على عاتقها مشروعًا إسلاميًا له طابع شيعي، مما أدى إلى تغير موازين القوى. تسبّبت الثورة وحرب الخليج الأولى (١٩٨٠–١٩٨٨ م) فى تعزيز الفجوة بين إيران والدول العربية، وعلى رأسها العراق ودول الخليج، حيث شهدت المرحلة حربًا مدمرة على الحدود، تركت أثرًا عميقًا على العلاقات، ومهّدت الطريق لسياسات المحاور على امتداد العقود اللاحقة. مع مطلع القرن الحادى والعشرين، تبلور دور إيران كقوة محورية ذات تأثير مباشر على الأمن العربي، حيث شهدت المرحلة تنامى نفوذها عبر محطات عدة، منها سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ م، وتعزيز دورها السياسى والعسكرى فى العراق، وكذلك دعمها لأذرع محلية فى لبنان عبر حزب الله، وفى سوريا عبر دعم نظام الأسد، وفى اليمن عبر جماعة الحوثيين. أدى هذا التمدد إلى تشكّل محاور إقليمية متنافسة على امتداد الشرق الأوسط، مما شكّل ملامح المرحلة الرابعة من تاريخ العلاقات، التى تتأرجح بين محاولات الحوار السياسى ومخاطر التصعيد العسكري. مبدأ "تصدير الثورة" كركيزة للسياسة الإيرانية مع قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ م، تبنّت طهران مبدأ "تصدير الثورة" كجزء أصيل من مشروعها السياسى والديني، إذ سعت من خلاله إلى توسيع نفوذها خارج حدودها الوطنية، وتعزيز تأثيرها على المحيط الإقليمي. لم يعد الأمر محصورًا بالشأن الإيرانى الداخلي، بل تحوّل إلى منهج فكرى وحركي، يعتمد على مزيج من التعبئة العقائدية والدعم السياسي، لبناء محاور تؤمن لإيران دورًا محوريًا على الساحة الإقليمية، مبررةً هذه التوجهات بالسعى إلى نصرة المستضعفين ومواجهة "الاستكبار العالمي". ارتبط مبدأ "تصدير الثورة" بشكل مباشر بإنشاء وتنظيم مجموعات مسلحة وتنظيمات عقائدية موالية لإيران على امتداد بلدان عربية عدة، من العراق إلى لبنان واليمن. شكّل حزب الله نموذجًا محوريًا على هذا التوجه، حيث نشأ كحركة مقاتلة ومكون سياسى تُمثّل امتدادًا مباشرًا للحرس الثورى الإيراني. كما شهد العراق تأسيس عدد من الفصائل المسلحة التى عملت على تعزيز نفوذ طهران، وتحويل بعض مؤسسات الدولة إلى أذرع تؤمن مصالحها، مما أدى إلى زعزعة موازين السلطة وتعزيز الاصطفاف الطائفي. تمثّل سياسة تصدير الثورة تحدّيًا مباشرًا لسيادة عدة دول عربية، حيث تؤثر على قرارها السياسي، وتنتهك حدودها، وتستغل توتراتها الداخلية لتعزيز النفوذ الإيراني. ففى اليمن، على سبيل المثال، أدى الدعم الإيرانى للحوثيين إلى تفاقم الحرب، وتقويض سلطة الدولة، وتحويلها إلى ساحة صراع محورى على النفوذ. كما تسببت هذه السياسة بتعزيز حالة عدم الاستقرار السياسي، وتعزيز الصراعات الطائفية، مما أدى إلى تآكل بنية الدولة، وتعزيز بيئة خصبة لنمو الجماعات المسلحة. لم تقتصر تأثيرات هذه السياسة على الأمن السياسي، بل امتدت إلى الساحة الاقتصادية والاجتماعية، حيث عرقلت جهود التنمية، وضاعفت من أزمات اللاجئين، وضربت البنية الاقتصادية لعدد من بلدان المنطقة. ففى العراق، أدى نفوذ الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران إلى انتشار الفساد، وتعزيز اقتصاد مواز، مما أثر على مؤسسات الدولة الرسمية. وفى سوريا، أدى التدخّل الإيرانى المباشر إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية، وتوسيع رقعة الدمار، وتحويل الصراع إلى ساحة مواجهة إقليمية ذات طابع مذهبي. تمثّل سياسة "تصدير الثورة" تحدّيًا طويل الأمد للعالم العربي، مما يحتم على الدول العربية بلورة إستراتيجيات موحّدة وحازمة للحفاظ على سيادتها وضمان توازن القوى على الساحة الإقليمية. تتطلب هذه الإستراتيجية تعزيز مؤسسات الدولة، وحماية الأمن القومي، وتنشيط الدبلوماسية المشتركة، والعمل على تفكيك الشبكات التى تغذّيها الأطراف الخارجية. ففى المحصلة، يشكّل التصدى لهذا التحدّى ضرورة تاريخية للحفاظ على وحدة وتماسك النظام العربي، وضمان الأمن والاستقرار لشعوبه. المرحلة الخامسة: المرحلة المعاصرة مع سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، دخلت العلاقات العربية–الإيرانية مرحلة غير مسبوقة، حيث أدى الفراغ السياسى فى العراق إلى تعزيز النفوذ الإيرانى على الساحة العراقية، ما أقلق المحيط العربي. وعلى الرغم من محاولات الحوار الدبلوماسى على مستوى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، شهدت المرحلة توترًا متزايدًا، حيث اعتبرت بعض العواصم العربية التمدد الإيرانى خطرًا مباشرًا على توازن القوى التقليدي، بينما سعت طهران لترسيخ نفوذها كقوة محورية على امتداد المحور الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان. اتخذت إيران استراتيجية تعتمد على تطوير تحالفات عسكرية وتنظيمية على الأرض، إذ شكّل حزب الله اللبنانى نموذجًا مبكرًا على هذه المرحلة، قبل أن تتوسع الظاهرة إلى العراق عبر قوات الحشد الشعبي، وإلى سوريا عبر الدعم المباشر للنظام، ثم إلى اليمن من خلال دعم الحوثيين. جعلت هذه الشبكة من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران لاعبًا محوريًا على الساحة، ومصدراً لقلق كبير لدى القوى العربية الساعية للحفاظ على سيادة أراضيها، مما أدى إلى نشوء محاور متقابلة وصراعات غير مباشرة على امتداد المنطقة. شهدت المرحلة المعاصرة احتدام المنافسة على الساحة الاقتصادية، حيث تتقاطع المصالح حول ممرات الطاقة وحركة الملاحة، لاسيما فى مضيق هرمز. ففى عام ٢٠١٩ م، على سبيل المثال، شهدت المنطقة سلسلة من التوترات على خلفية احتجاز ناقلات النفط والهجمات على المنشآت النفطية، مما أدى إلى تحشيد القوى الدولية وتشكيل تحالفات ملاحية تهدف إلى حماية خطوط النقل، وترسيخ التباين السياسي–الأمنى بين المحور الإيرانى ودول الخليج. على الرغم من التوترات، شهدت المرحلة محطات عدة للحوار، أبرزها الاتفاق النووى عام ٢٠١٥ م (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذى فتح بابًا للحوار الإيراني–الغربي، مما انعكس على محاولات عربية–إيرانية لتهدئة التصعيد على عدة جبهات. تكلّلت هذه المحاولات عام ٢٠٢٣، بوساطة صينية، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، مما أظهر إمكانية الحوار على الرغم من العقبات، إلا أن التوتر على الساحة السورية، اليمنية، وكذلك التنافس على مناطق النفوذ فى العراق، ظلّ يشكّل تحديًا مستمرًا للاستقرار. تمثّل المرحلة المعاصرة ذروة التفاعل المتناقض للعلاقات العربية–الإيرانية، حيث تتأرجح مواقف الأطراف وفق متغيّرات ميدانية وسياسية على الساحة الإقليمية والدولية. ففى الوقت الذى شهدت فيه بعض المحطات محاولات لتهدئة التوتر عبر الحوار والتعاون على ملفات مشتركة، ظلّت نقاط الخلاف، من دعم إيران للحلفاء من جهة، ومخاوف الدول العربية من تمدد النفوذ الإيرانى من جهة أخرى، تشكّل المحور الأساسى للعلاقة. هذا الوضع يجعل المرحلة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما بين السعى نحو تفاهمات استراتيجية تضمن الأمن المشترك، أو عودة التصعيد الذى يحمل تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة. تشكّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر العصور نموذجًا متميزًا لما يمكن أن تقدمه دراسة التاريخ من دروس للحاضر، حيث تتقاطع محطات طويلة من التفاعل الحضارى والتنافس السياسى على الأرض ذاتها. ففى كل مرحلة، من قبل الإسلام إلى العصر الحديث، شكّل المزج الثقافي، والديني، والسياسى ملامح علاقة معقّدة، تحددها موازين القوى، وتشعلها نقاط التوتر، وتحتويها محطات الحوار والتفاعل المشترك. واليوم، تواجه هذه العلاقات تحديات تتجاوز البعد الجغرافي، إذ تتشابك مع قضايا الأمن القومي، وممرات الطاقة، وصراعات المحاور، مما يجعلها محط اهتمام القوى الدولية. على الرغم من محاولات الحوار، يظل التنافس على مناطق النفوذ، والتباين المذهبي، محركًا محوريًا يشكّل ملامح المرحلة القادمة، حيث تبقى النتائج رهنًا بمدى استعداد الأطراف لاستثمار نقاط التقارب وتحييد نقاط التصادم. إن قراءة هذه المحطات التاريخية، وفهم أسباب التصعيد والتفاعل على امتداد قرون طويلة، تفتح بابًا لاستشراف مستقبل العلاقات العربية–الإيرانية، وتعزيز إمكانية الحوار على قاعدة الاحترام المتبادل، وتحقيق الأمن المشترك. ففى نهاية المطاف، تظل هذه العلاقة المحورية عنصرًا محددًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، ومفتاحًا محتملاً لصياغة نظام إقليمى أقل توترًا، وأكثر تفاعلًا على أرضية المصالح المشتركة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store