
"الملجأ المحتل".. فوضى الطوارئ في المدن الإسرائيلية
القدس المحتلة- في مشهد متكرر، يجد كثير من الإسرائيليين أنفسهم بلا إجراءات أمان، بعدما استولى بعض الجيران اليهود على الملاجئ الجماعية في المباني السكنية، وحوَّلوها إلى مخازن، وورشات عمل، أو حتى شقق مؤجرة تدر عليهم دخلا.
وهذه الظاهرة -التي أطلق عليها الإسرائيليون "الملاجئ المحتلة"- برزت منذ الأيام الأولى للحرب بين إسرائيل و إيران ، لتكشف عن خلل كبير في منظومة الطوارئ المدنية.
وتشير بيانات البلديات الرسمية التي نشرت خلال الحرب إلى أن هذه الظاهرة آخذة في الاتساع، حيث سجلت 175 حالة في حيفا ، و178 في تل أبيب ، وأكثر من 600 في القدس المحتلة، منها 237 لم تعالج بعد، وذلك بسبب النقص الحاد أصلا في الملاجئ، خاصة في الأبنية القديمة والمشتركة، إلى جانب غياب الرقابة والردع القانوني.
احتلال الملاجئ
ويلزم القانون الإسرائيلي السكان بإبقاء الملاجئ خالية من الأغراض غير الطارئة، ويمنح السلطات صلاحية الإخلاء بإشعار مدته 15 يوما، أو فوريا في حالة طوارئ خاصة، لكن التطبيق على أرض الواقع يواجه عراقيل قانونية وبيروقراطية، خاصة حين يتعلق الأمر بعقارات مشتركة لا تمتلك فيها البلدية صلاحية مباشرة.
وقد سلط تقرير للموقع الإلكتروني "شوميريم" الضوء على حجم هذه المشكلة المتفاقمة، حيث وثقت مئات الحالات لاحتلال الملاجئ بالمدن الكبرى، وتعكس الظاهرة -حسب التقرير- أزمة أوسع تتعلق بالنقص الحاد في عدد الملاجئ المتوفرة في المدن الإسرائيلية، خاصة الأبراج والمجمعات السكنية القديمة.
وفي ظل هذا الواقع، يشير الصحفي الإسرائيلي شوكي سديه (معد التقرير للموقع الإلكتروني "شوميريم") إلى تعثر تدخل الجهات الرسمية "فالشرطة والبلديات وقيادة الجبهة الداخلية تواجه صعوبات قانونية ولوجستية لإخلاء هذه الملاجئ، مما يترك مئات آلاف الإسرائيليين دون حماية فعلية عند الطوارئ".
وأوضح سديه أنه مع تصاعد التهديدات الأمنية وسقوط الصواريخ الإيرانية، يجد السكان أنفسهم أمام "خيار مرير": المجازفة بحياتهم، أو مواجهة جيران يرفضون فتح الملاجئ بدعوى أنها "أصبحت ملكا خاصا".
ويبدو أن غياب الرقابة المسبقة، وضعف إنفاذ القانون، كما يقول سديه "ساهما في تفشي هذه الظاهرة، لتصبح جزءا من الواقع اليومي في المدن الكبرى، كالقدس وحيفا و يافا وتل أبيب، وباتت تشكل تهديدا مباشرا لسلامة الجبهة الداخلية الإسرائيلية".
استملاك العام
ونشرت آنا أوليتسيكي (إسرائيلية تسكن في يافا) -مؤخرا- مقطع فيديو عبر فيسبوك، يظهر فيه جارها يغلق باب الملجأ المشترك، وكتبت "أرجوكم ساعدوني، لا الشرطة ساعدتني ولا البلدية" في حين أوضح أحد الجيران أن هذا الشخص يستخدم الملجأ مخزنا منذ 3 سنوات، كما استولى شقيقه على الحديقة المجاورة وبنى فيها كوخا.
ورغم مطالبتهم المتكررة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، رفض الجار إخلاء المكان مدعيا وجود أغراض "ثمينة". وعندما اضطر أخيرا لفتحه خلال الغارات، اكتشف السكان أنه قسمه بجدار من الجبس، مما حوّل مساحة الملجأ إلى غرفة ضيقة بالكاد تتسع لشخصين.
"ولا يزال الملجأ ممتلئا بالأغراض الثقيلة، ولا نستطيع إخراجها خوفا من أن يتهمنا بالسرقة" كما تقول أوليتسيكي لموقع "شوميريم".
وفي جنوب القدس، استولى مقاول على ملجأ يخدم 16 عائلة، واستبدل بابه السميك بآخر حديدي، وخزَّن فيه معداته وأغلقه.
ويقول أحد السكان ويُدعى ألون كوهين -للقناة 12 الإسرائيلية- إنه في الليلة الأولى من هجمات المُسيَّرات الإيرانية "تحصنت وزوجتي وأطفالي الأربعة داخل الشقة وسط دعاء بالنجاة وشعور بالعجز التام".
ويضيف "صباح اليوم التالي، قررت العائلة الانتقال إلى منزل الجدة، ولجأت عائلات أخرى إلى بيت الدرج أو ظلت في الشقق رغم أنها غير محصنة".
ووفقا للمستشار القضائي السابق لبلدية القدس المحامي يوسي هافيليو، فإن الملاجئ في العقارات المشتركة تمثل معضلة قانونية، إذ لا تملك البلدية صلاحية مباشرة لإخلائها، وتبقى المسألة بيد المحكمة.
وقد علَّقت بلدية الاحتلال في القدس على هذه الظاهرة ردا على توجه موقع "شوميريم" قائلة "هذا النوع من التعدي يقع ضمن نطاق الأملاك المشتركة، مما يصعّب التدخل دون أوامر قضائية".
وحتى قيادة الجبهة الداخلية -بحسب السكان- أبلغت بعضهم بأن لا شيء يمكن فعله طالما أن التعدي "مدني" أو "تخريبي" وليس أمنيا مباشرا. ويعلق أحد الجيران بمرارة "لقد كانوا يستعدون لحرب مع إيران لـ20 عاما، ألم يكن بإمكانهم على الأقل تجهيز الملاجئ؟".
ملاجئ متنقلة
في حي كريات مناحيم بالقدس المحتلة، تستخدم غرف خرسانية فوق الأرض ملاجئ مؤقتة لكنها لا توفر الحماية الكافية، وفي أحدها يسكن شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة ويدفع حوالي 570 دولار أميركيا، مقابل استئجاره للمكان من جهة رفض الكشف عن هويتها. ويؤكد أنه يفتح الباب للجيران وقت الطوارئ لكن أغلبهم يفضل الذهاب إلى أماكن أخرى بسبب الازدحام وسوء التهوية.
وفي أحد أحياء غربي القدس المحتلة ويسمى "كريات يوفال" أخلت بلدية الاحتلال ملجأ من عائلة سيطرت عليه، بينما يسكن مستأجر منذ 7 سنوات في ملجأ آخر ويصر على أنه منزله، ويقول أحد الجيران إنها "ليست الحالة الوحيدة، وهناك كثيرون في مثل هذا الوضع".
وحتى الملاجئ العامة ليست في مأمن من الاستيلاء، ففي رامات غان (قرب تل أبيب) تقول نعومة مشولام إنه يوجد ملجأ عام قبالة منزلها استولى عليه شخص يعاني اضطرابات نفسية "وحوَّله لمكان ترفيهي تسمع فيه الموسيقى بصوت مرتفع ليلا، ولم تخله البلدية إلا بعد أشهر من الإجراءات القضائية".
وفي ظل التصعيد الأمني، وفي محاولة للحد من ظاهرة الاستيلاء على الغرف المحصنة وسد النقص بالملاجئ العامة، أعلنت السلطات المختصة خطة عاجلة لنشر ملاجئ متنقلة في المناطق التي تعاني نقصا بالحماية، كمنطقة تل أبيب الكبرى، والجنوب، وحيفا، متجاهلة التجمعات السكانية (الفلسطينية) العربية.
وقالت المحامية ليتل فيلر من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في بيان لوسائل الإعلام "بينما تسارع الدولة لتأمين الأحياء اليهودية، يُترك مئات آلاف العرب (الفلسطينيين) دون حماية أو خطة إنقاذ، في استمرار واضح لسياسات الإهمال الممنهج".
وأوضحت أن الواقع الميداني يعكس خطورة الإهمال، مشيرة إلى أن من بين 25 قتيلا في الهجمات الصاروخية، كانت 4 نساء من طمرة، المدينة الفلسطينية التي تفتقر تماما إلى الملاجئ العامة وغرف الحماية.
وفي شرقي القدس -تواصل المحامية- لا توجد تغطية ملائمة رغم خطورة المنطقة، أما في القرى غير المعترف بها في النقب ، فيحتمي السكان تحت الجسور وفي قنوات المياه، وسط غياب تام للحلول.
وليست فجوة الحماية بجديدة، تضيف فيلر "فقد حذَّر مراقب الدولة عام 2018 من أن نحو نصف المواطنين (الفلسطينيين) العرب يفتقرون للحماية الفعالة، مقابل ربع السكان اليهود" مشيرة إلى أن الملاجئ المتوفرة حتى في البلدات اليهودية غالبا ما تكون غير صالحة أو مهملة أو غير متاحة.
وينبع قرار نشر الملاجئ في تل أبيب من قناعة أن "الحماية تنقذ الأرواح" ويجب أن تشمل جميع السكان دون تمييز، فإذا نجحت الدولة (الإسرائيلية) في توفير ملاجئ متنقلة بسرعة لتل أبيب، فمن الواجب أن تفعل ذلك أيضا في البلدات (الفلسطينية) العربية و القدس الشرقية والمناطق المهمشة الأخرى.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
محللون إسرائيليون يكشفون ما وراء دعوة ترامب إلغاء محاكمة نتنياهو
القدس المحتلة- أثار منشور للرئيس الأميركي دونالد ترامب على منصته "تروث سوشيال" دعا فيه إلى "إلغاء محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، أو منحه عفوا فوريا" عاصفة سياسية وقضائية في إسرائيل، وفتح بابا واسعا أمام قراءات وتحليلات ترى في هذا التدخل الأميركي غير المسبوق مؤشرا على تشابك الملفات القضائية والسياسية والأمنية في المنطقة. المنشور الذي وصف بأنه "استثنائي" هاجم فيه ترامب القضاء الإسرائيلي، واعتبر محاكمة نتنياهو ذات دوافع سياسية، واصفا إياها بـ"صيد ساحرات" ضد "رجل الحرب القوي"، الذي "أنقذ إسرائيل من الخطر النووي الإيراني" بحسب تعبيره. وذهب ترامب إلى أبعد من ذلك، مقترحا "إلغاء المحاكمة" أو "منح عفو فوري" لنتنياهو المطلوب ل لمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة ، مشيرا إلى ما أسماه "انتصارا تاريخيا" على إيران، وداعيا إلى تدخل أميركي "لإنقاذ بيبي". بدوره جاء رد نتنياهو سريعا، إذ شكر ترامب على دعمه وشارك منشوره، مؤكدا استمرار التعاون بينهما لهزيمة "الأعداء المشتركين" وتحرير المحتجزين، وتوسيع دائرة السلام، ليثير هذا التفاعل الحميم تساؤلات عميقة داخل الساحة السياسية الإسرائيلية حول توقيت دعوة ترامب وأهدافها الحقيقية. انقسام إسرائيلي انقسمت القراءات الإسرائيلية حول دلالات هذه الدعوة، فقد اعتبرها بعض حلفاء نتنياهو اليمينيين، مثل رئيس لجنة الدستور سيمحا روتمان، تعبيرا عن "حقيقة عميقة" تكشف عيوب القضاء الإسرائيلي، مع إقرار بأن التدخل الأجنبي في مسار قضائي إسرائيلي أمر غير مقبول. وبدلا من ذلك، دعا روتمان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ، إلى منح نتنياهو "عفوا داخليا"، مما يعكس رغبة في تسويق مخرج سياسي قانوني داخلي لتخفيف أزمة نتنياهو القضائية. في المقابل، هاجمت المعارضة الإسرائيلية تصريحات ترامب بشدة، وأقر رئيس حزب "هناك مستقبل" يائير لبيد بوجود "عرفان إسرائيلي بالجميل" لترامب، لكنه شدد على رفض أي تدخل أجنبي في القضاء الإسرائيلي، ملمحا إلى أن ترامب ربما يحاول تقديم "هدية سياسية" لنتنياهو مقابل الضغط عليه لإنهاء الحرب في غزة. ورأت تحليلات إسرائيلية عديدة في دعوة ترامب محاولة لإعادة صياغة أولويات نتنياهو الداخلية والخارجية، على وقع أزمة قضائية ثقيلة تهدد مستقبله السياسي، في ظل استمرار المحكمة برفض طلباته المتكررة لتأجيل الجلسات بحجة الانشغال بالحرب على إيران وتطورات أمنية أخرى. ويرى بعض المحللين أن ترامب لا يتحرك فقط بدافع الصداقة الشخصية، بل في إطار تصور أوسع لصفقة إقليمية محتملة، تتضمن وقف إطلاق النار في غزة، وعودة المحتجزين الإسرائيليين، وتوسيع مسار التطبيع في الشرق الأوسط، حيث قد يصبح كل ذلك سهلا إذا كان نتنياهو متحررا من "هاجس السجن". وبدا واضحا -بحسب قراءات بعض المحللين- أن منشور ترامب لم يكن مجرد لفتة شخصية، بل صار مادة اشتباك سياسي داخلي في إسرائيل، كشف هشاشة العلاقة بين القضاء والسياسة، وأعاد التذكير بأن الأزمات الشخصية لنتنياهو الذي يصفه البعض بـ"ملك إسرائيل"، قد تتحول إلى عنصر تفاوض إقليمي في صراعات المنطقة. تساؤلات خطيرة وتحت عنوان "آلة نتنياهو الدعائية والسياسية خلف دعوة ترامب لإلغاء محاكمته"، كتب المحلل السياسي بن كسبيت مقالا في صحيفة "معاريف"، أكد فيه أنه "يصعب على أي مراقب في إسرائيل أن يصدق أن دعوة ترامب لإلغاء محاكمة نتنياهو كانت مبادرة عفوية". ولفت المحلل السياسي إلى أن أغلب التقديرات تشير إلى تنسيق مسبق بين الرجلين، بدأ منذ زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن، حيث ناقشا علنا "الدولة العميقة" التي تطاردهما. وأوضح أن فريق نتنياهو كان ينتظر هذا التصريح بفارغ الصبر، وأن حملة إسقاط المحاكمة كانت قد انطلقت فعلا حتى قبل نشره، "كل شيء جرى تنسيقه بدقة حتى آخر فاصلة" تقول هذه المصادر. أما بالنسبة لمنتقدي نتنياهو، فيقول المحلل السياسي "هذه خطوة مدروسة ضمن خطة أوسع، تتضمن استغلال التوترات الأمنية والحرب في غزة لفتح قنوات تفاوض إقليمية، وتحويل نتنياهو نفسه إلى زعيم لا يمكن للقضاء المساس به". وأشار إلى أن هذه التحركات تثير تساؤلات خطيرة حول استقلال القضاء الإسرائيلي، وإمكانية توظيف الدعم الأميركي للتأثير في محاكمة جارية. ويرى بن كسبيت أن نتنياهو يستغل اللحظة، مدفوعا بقناعة أنه "يلعب في الوقت بدل الضائع"، ومستعد لاستخدام كل الوسائل لتأجيل أو إلغاء محاكمته، حتى لو كان الثمن تدخلا خارجيا في شؤون إسرائيل الداخلية. يرى محلل الشؤون الحزبية في صحيفة "هآرتس" يوسي فيرتر، أن نتنياهو عمل طويلا على تأهيل ترامب كداعم مطلق، في خطة مدروسة لتسييس القضاء وكسب دعم خارجي لتبييض ملفه القضائي. ويقول فيرتر "في الخلفية تتكشف مفارقة قاسية، أن الحرب مع إيران -التي انتهت خلال 12 يوما بضربة مركزة ومنسقة- أبرزت عبثية الحرب المفتوحة والطويلة في غزة"، وأضاف أن "النجاح العملياتي في إيران يكشف عجز الجيش في غزة، حيث يواصل القتال وسط خسائر مدنية وعسكرية". ويرى فيرتر أن "حرب غزة تدار لأسباب سياسية وشخصية بحتة، وقرار إنهائها أو حماية الجنود وإنقاذ المحتجزين ليس قرارا عسكريا بل أخلاقيا، وهي كلمة غريبة على نتنياهو، تماما مثل فكرة ترك السلطة في رئاسة الوزراء طوعا". إعلان وأوضح محلل الشؤون الحزبية أن نتنياهو، الذي يرتعد من تهديدات الوزيرين بتسلئيل سموتريتش و إيتمار بن غفير ، كان بحاجة لدعم ترامب، "كونه لا يجرؤ على اتخاذ قرارات إستراتيجية لإنهاء الحرب أو التوصل لاتفاق لإعادة المحتجزين" حسب وصفه. وأشار إلى أن نتنياهو يروج لاحتمال انتخابات مبكرة، في محاولة لتجميد المشهد السياسي وإعادة ترتيب أوراقه، ويراهن على إنجاز في الحرب على إيران لتحسين صورته، بينما تهدد أزماته الداخلية والفشل في غزة والمحكمة بتهم فساد بإنهاء مسيرته، قائلا إن "نتنياهو يلجأ إلى إستراتيجيته المعهودة، تأجيل القرارات وانتظار فرصة تنقذه".


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
الحرب على غزة مباشر.. 100 شهيد حصيلة المجازر وترامب يتحدث عن اتفاق قريب لوقف إطلاق النار
مع دخول اليوم الـ103 من استئناف حرب الإبادة على غزة واصلت طائرات الاحتلال استهداف المدنيين بعد أن ارتكبت أمس الجمعة مجازر أسفرت عن نحو 100 شهيد.


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
هل تنجح خطة نتنياهو لـ"شرق أوسط جديد" أم يفرض العرب واقعا مختلفا؟
بعد الغارات التي نفذتها إسرائيل بمشاركة أميركية على منشآت نووية إيرانية بدا أن تل أبيب تتحرك بأقصى ما تملك من قوة لإعادة رسم خريطة المنطقة متسلحة بما تصفه بـ"نصر إستراتيجي" على العدو الأخطر، ومروجة لفكرة شرق أوسط جديد تنحسر فيه مكانة إيران وتتلاشى القضية الفلسطينية. ولم تكن الخريطة التي عرضها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أشهر في الأمم المتحدة وغابت عنها الضفة الغربية و قطاع غزة مجرد صورة رمزية، فوفق المتابعين تمثل جزءا من تصور إسرائيلي لواقع إقليمي جديد تُحسم فيه القضايا العالقة بالقوة، وتتقدم فيه إسرائيل إلى صدارة المشهد كقوة مهيمنة لا كفاعل بين آخرين. وفي هذا السياق، يرى الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي في حديثه لبرنامج "مسار الأحداث" أن الضربة ضد إيران لم تكن سوى تتويج لسلسلة ممتدة من العمليات التي استهدفت ما تسميه إسرائيل "وكلاء طهران"، من غزة إلى لبنان. ووفق مكي، فإن المشروع الإسرائيلي لا يقتصر على تفكيك المحور الإيراني، بل يمتد ليشمل فرض نموذج شرق أوسطي جديد يقوم على التعاون الاقتصادي والانضباط الأمني، ويقصي كل من يعارضه. وتستند الرؤية الإسرائيلية -كما يصفها- إلى تصفية القوى الخارجة عن سيطرة الدولة، وتحويل دول المنطقة إلى كيانات "مطبعة" منشغلة بالتنمية، في حين تُقصى الجماعات المناهضة لإسرائيل وتُحاصر الأنظمة غير المنسجمة مع منطق السوق والتحالفات الغربية. تحولات سياسية كبرى ولا تبدو المعركة الأخيرة مجرد ضربة عسكرية، فبحسب تل أبيب باتت إيران أبعد عن امتلاك القدرة النووية، مما يمهد الطريق أمام تحولات سياسية كبرى، ومع ذلك يشير مكي إلى أن هذا الطموح يغفل حجم التعقيدات في المنطقة، ويحمل شيئا من الغرور الذي قد يصطدم مجددا بوقائع لا تنكسر بسهولة. أما الخبير في الشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى فيتحدث عن 3 مقاربات إسرائيلية لرؤية الشرق الأوسط الجديد: الأولى ظهرت في تسعينيات القرن الماضي حين ربط شيمون بيريز بين السلام مع الفلسطينيين واندماج إسرائيل في المنطقة، وتمثلت الثانية في تجاوز القضية الفلسطينية لصالح تطبيع سريع ومباشر مع العرب. أما المقاربة الحالية التي يقودها نتنياهو فترتكز على التفوق العسكري وحده، وهي لا حاجة فيها لاتفاقيات أو مقترحات سلام، بل قوة ضاربة تُسكت الخصوم وتفرض إيقاعا جديدا على الإقليم، وهكذا لا تعود تل أبيب تطالب بحل سياسي، بل تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بالقوة بالتوازي مع تفكيك النفوذ الإيراني. وبناء على هذه الركائز ترى إسرائيل أن إضعاف محور المقاومة وحسم الصراع الفلسطيني لصالحها يقودان حتما إلى تطبيع واسع مع العرب، وتعود في ذلك -بحسب مصطفى- إلى نظرية جابوتنسكي القديمة "العرب لا يقبلون بإسرائيل إلا إذا كانت قوة لا تُقهر". لكن المعطيات على الأرض لا تسير في هذا الاتجاه بالسهولة المتخيلة، فحتى وإن تلقت إيران ضربة موجعة -كما تقول واشنطن وتل أبيب- فإن قدرتها على إعادة بناء برنامجها النووي لم تتلاشَ، كما أن الأطراف العربية -خاصة السعودية ومصر- لم تسلّم بعد بقيادة إسرائيلية للإقليم. الرؤية الأميركية للمنطقة بدوره، يرى الخبير العسكري الدكتور أحمد الشريفي أن الرؤية الأميركية للشرق الأوسط الجديد تتجاوز إسرائيل وحدها، وتهدف إلى إعادة تشكيل جغرافيا المصالح الأميركية على غرار تجربة الاتحاد الأوروبي، لكنها بشكل يخدم التوازنات الإستراتيجية في وجه خصوم واشنطن، من طهران إلى بكين. ولا يستبعد الشريفي أن تكون الولايات المتحدة بصدد هندسة بنية إقليمية جديدة تجمع الحلفاء وتُقصي الخصوم، لكن هذا لا يعني -من وجهة نظره- أن إسرائيل ستكون القاطرة الوحيدة للمشروع، فدول الخليج وبعض العواصم الإقليمية كأنقرة والدوحة والرياض باتت فاعلة في المعادلة، وتملك أوراقا تجعلها شريكة لا تابعة. وفي خلفية هذه الحسابات، تعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة رغم كل محاولات التهميش حسبما يرى الشريفي، فالسعودية مثلا لم تتخل عن شروطها للانضمام إلى ركب التطبيع، وعلى رأسها إقامة دولة فلسطينية على أساس قرارات الشرعية الدولية، بل إنها تعمل على حشد دولي لإطلاق مؤتمر خاص بهذا الهدف. وبحسب مكي، فإن هذا الحراك لا يخرج عن مسار مواجهة الرؤية الإسرائيلية التي تراهن على شطب القضية الفلسطينية من الذاكرة السياسية، كما أن مشاريع التنمية الخليجية الكبرى مثل نيوم تمضي في طريقها دون الحاجة إلى شراكة إسرائيلية، بل ربما تتفوق عليها وتحد من تأثيرها. ولا يُختزل الدور الأميركي في هذا السياق في الدعم العسكري لتل أبيب، فثمة مؤشرات على رغبة في احتواء إيران بدلا من إسقاطها، بل إن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب -قبل أن يعود للتصعيد- حملت رسائل موجهة لطهران تدعوها إلى الانضمام للنظام الدولي مقابل رفع العقوبات. تبلور محور جديد لكن -كما يقول مكي- فإن طبيعة النظام الإيراني لا تسمح بسهولة بقبول مثل هذا العرض إلا إذا فقدت طهران آخر ما تبقى من رصيدها الأيديولوجي، وحتى في حال الانكفاء لا يبدو أن إسرائيل قادرة على فرض واقع إقليمي منفرد، خاصة في ظل تبلور محور جديد يضم تركيا وبعض العواصم العربية. هذا المحور -الذي تشكل بعض ملامحه العلاقة المتنامية بين أنقرة والرياض وعودة سوريا إلى دائرة التواصل العربي- قد يمثل -وفق مكي- موازنا فعليا للرؤية الإسرائيلية، وإن تطور وتبلور فسيحول دون فرض الشرق الأوسط الذي تحلم به تل أبيب، وسيعيد تشكيل المشهد على نحو مختلف. إعلان ويظهر الإخفاق الإسرائيلي في حسم معركة غزة وترددها في فرض تسوية نهائية في الضفة حدود ما يمكن أن تفعله القوة العسكرية. وعلى الرغم من كل الدعم الأميركي فإن القضية الفلسطينية تبقى عصية على التصفية ما دامت تستعيد حضورها كلما ظن البعض أنها اندثرت. وبينما يحاول نتنياهو تقديم نفسه باعتباره صانع التحولات الكبرى يرى مصطفى أن الداخل الإسرائيلي يشهد صراعا بين تيارين: أولهما إستراتيجي يسعى إلى تسويات عقلانية، وثانيهما أيديولوجي مسياني يرفض أي حل لا يتضمن الهيمنة المطلقة. وفي اللحظة الراهنة يبدو أن واشنطن ممثلة بترامب تراهن على إنقاذ الأول عبر تمكين نتنياهو سياسيا حتى لو تطلب الأمر إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم.