
د. رعد محمود التل : اختبار الجاهزية للاقتصاد الأردني
أحسن منتدى مسارات للتنمية والتطوير صنعاً بعقد ندوة مهمة حملت عنوان "ارتدادات الصراع: التداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على الأردن"، أتبعها بورقة موقف تضمنت أبرز ما جاء في تلك الندوة الهامة والتي ركزت على التصعيد العسكري الذي حدث مؤخراً بين إسرائيل وإيران وسلطت به الضوء على هشاشة البيئة الاقتصادية في الإقليم، بما في ذلك الأردن الذي وجد نفسه وسط شبكة من الارتدادات المركبة طالت مفاصل اقتصاده الحيوية، وعلى رأسها السياحة، والأمن الغذائي، والطاقة، والمجال الجوي. الورقة قدّمت تشخيصًا معمقًا لهذه التحديات بمحاور مختلفة، ودعت إلى بناء جاهزية اقتصادية تتجاوز الاستجابة الظرفية، نحو مقاربة متماسكة تعزز مرونة الاقتصاد الأردني أمام الازمات والصدمات الخارجية.
في القطاع السياحي، كانت الخسائر فورية وصامتة، تمثلت في موجة من الإلغاءات في ذروة الموسم، وسط غياب استراتيجية تسويقية تحوطية لقطاع السياحة تُميز الأردن عن محيطه المشتعل. فرغم استقرار المملكة النسبي، لم تُترجم هذه السمة إلى استراتيجية ترويجية فاعلة في الأسواق المستهدفة، التي لا تزال تتركز في الغرب المتحسس من التوترات. كما أن غياب التنويع باتجاه أسواق بديلة مثل الصين وآسيا الوسطى يفاقم الاعتماد على زوار شديدي التأثر بالمخاطر. وتشير الورقة إلى أن الأزمة كشفت أيضًا خللًا في أدوات القياس، حيث تُحتسب زيارات العبور ضمن مساهمة السياحة في الناتج، ما يخلق فجوة بين الواقع والإحصاءات، ويعيق التخطيط السليم.
أما في ملف الأمن الغذائي، فتسلط الورقة الضوء على الدور الحاسم الذي لعبه القطاع الخاص في تأمين السلع الأساسية، وهو الدور الذي تعزز منذ نهاية التسعينات عقب إعادة هيكلة دور الحكومة في إدارة المخزون الغذائي. وبينما ظهرت قدرة تشغيلية عالية على فتح مسارات توريد بديلة وتفكيك الأزمات المحتملة، برزت في المقابل ثغرات في حوكمة المعلومة، تمثلت في تعددية غير منسقة في التصريحات والمصادر، ما ساهم في خلق حالة من القلق الشعبي رغم غياب أي اختلال فعلي في توازن العرض والطلب. والتأكيد مجدداً على أهمية تأسيس مرجعية وطنية للمعلومة، تنشر البيانات الدقيقة بشكل لحظي، بما يعزز الثقة خلال الأزمات.
وفي ظل محدودية المنافذ البرية والبحرية للأردن، تكشف الورقة عن الدور الحرج الذي يؤديه المجال الجوي بوصفه "الرئة الاستراتيجية" لربط المملكة بالعالم. وقد أظهرت الحرب الأخيرة هشاشة منظومة الملاحة في الإقليم، لكنها أيضًا أكدت مرونة قطاع الطيران الأردني، الذي تمكن من تسجيل نمو في أعداد المسافرين رغم الظروف. غير أن الأزمة أظهرت أهمية وجود ناقل وطني قوي يمكن الاعتماد عليه وقت تعطل الشركات الأجنبية، وهي مسألة تثير تساؤلات وتدفع باتجاه إعادة تصميم دور الحكومة في هذا القطاع دون العودة إلى نماذج احتكارية أو عبء مالي دائم.
في مجال الطاقة، تشير الورقة إلى أن تجربة الأردن مع توقف الغاز المصري عام 2011 كانت لحظة مفصلية دفعت نحو استثمارات بنيوية، أبرزها إنشاء ميناء الغاز المسال والتوسع في الطاقة المتجددة والصخر الزيتي، فضلًا عن بناء تحالفات كهربائية إقليمية. غير أن التهديدات الأخيرة بإغلاق مضائق استراتيجية مثل هرمز وباب المندب أعادت التأكيد على أن أمن الطاقة في الأردن لا يزال رهينًا لعوامل خارجية. وقد بات من الضروري المضي في مشروعات التخزين، كخزان العقبة المتوقع تشغيله في 2026، وتعزيز التصنيع المحلي لمدخلات الطاقة، وتوسيع الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، لتصبح الطاقة أداة سيادية لا مجرد نشاط اقتصادي.
لا تكتفي الورقة بوصف التحديات، بل تطرح مجموعة من "المهام الوطنية المؤجلة" التي ترى أن تنفيذها بات ضرورة استراتيجية، من أبرزها بناء قاعدة بيانات اقتصادية موحدة تُستقى منها جميع التصريحات الرسمية، وتوجيه الحوافز لإعادة توطين سلاسل الإنتاج داخل الجغرافيا الوطنية، دون افتعال قطيعة مع النظام التجاري العالمي. ما نقوله دائماً، لا يمكن للأردن الاستمرار في إدارة التحديات بعقلية رد الفعل، والمطلوب اليوم وغداً هو "هندسة اقتصادية استباقية"، تعيد تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية، وتربط الاستقرار الداخلي بمرونة القطاعات وقدرتها على التكيّف مع موجات الصدمة الخارجية والأزمات التي لا تنتهي في المنطقة!.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Amman Xchange
منذ يوم واحد
- Amman Xchange
اختبار الجاهزية للاقتصاد الأردني*د. رعد محمود التل
الراي أحسن منتدى مسارات للتنمية والتطوير صنعاً بعقد ندوة مهمة حملت عنوان "ارتدادات الصراع: التداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على الأردن"، أتبعها بورقة موقف تضمنت أبرز ما جاء في تلك الندوة الهامة والتي ركزت على التصعيد العسكري الذي حدث مؤخراً بين إسرائيل وإيران وسلطت به الضوء على هشاشة البيئة الاقتصادية في الإقليم، بما في ذلك الأردن الذي وجد نفسه وسط شبكة من الارتدادات المركبة طالت مفاصل اقتصاده الحيوية، وعلى رأسها السياحة، والأمن الغذائي، والطاقة، والمجال الجوي. الورقة قدّمت تشخيصًا معمقًا لهذه التحديات بمحاور مختلفة، ودعت إلى بناء جاهزية اقتصادية تتجاوز الاستجابة الظرفية، نحو مقاربة متماسكة تعزز مرونة الاقتصاد الأردني أمام الازمات والصدمات الخارجية. في القطاع السياحي، كانت الخسائر فورية وصامتة، تمثلت في موجة من الإلغاءات في ذروة الموسم، وسط غياب استراتيجية تسويقية تحوطية لقطاع السياحة تُميز الأردن عن محيطه المشتعل. فرغم استقرار المملكة النسبي، لم تُترجم هذه السمة إلى استراتيجية ترويجية فاعلة في الأسواق المستهدفة، التي لا تزال تتركز في الغرب المتحسس من التوترات. كما أن غياب التنويع باتجاه أسواق بديلة مثل الصين وآسيا الوسطى يفاقم الاعتماد على زوار شديدي التأثر بالمخاطر. وتشير الورقة إلى أن الأزمة كشفت أيضًا خللًا في أدوات القياس، حيث تُحتسب زيارات العبور ضمن مساهمة السياحة في الناتج، ما يخلق فجوة بين الواقع والإحصاءات، ويعيق التخطيط السليم. أما في ملف الأمن الغذائي، فتسلط الورقة الضوء على الدور الحاسم الذي لعبه القطاع الخاص في تأمين السلع الأساسية، وهو الدور الذي تعزز منذ نهاية التسعينات عقب إعادة هيكلة دور الحكومة في إدارة المخزون الغذائي. وبينما ظهرت قدرة تشغيلية عالية على فتح مسارات توريد بديلة وتفكيك الأزمات المحتملة، برزت في المقابل ثغرات في حوكمة المعلومة، تمثلت في تعددية غير منسقة في التصريحات والمصادر، ما ساهم في خلق حالة من القلق الشعبي رغم غياب أي اختلال فعلي في توازن العرض والطلب. والتأكيد مجدداً على أهمية تأسيس مرجعية وطنية للمعلومة، تنشر البيانات الدقيقة بشكل لحظي، بما يعزز الثقة خلال الأزمات. وفي ظل محدودية المنافذ البرية والبحرية للأردن، تكشف الورقة عن الدور الحرج الذي يؤديه المجال الجوي بوصفه "الرئة الاستراتيجية" لربط المملكة بالعالم. وقد أظهرت الحرب الأخيرة هشاشة منظومة الملاحة في الإقليم، لكنها أيضًا أكدت مرونة قطاع الطيران الأردني، الذي تمكن من تسجيل نمو في أعداد المسافرين رغم الظروف. غير أن الأزمة أظهرت أهمية وجود ناقل وطني قوي يمكن الاعتماد عليه وقت تعطل الشركات الأجنبية، وهي مسألة تثير تساؤلات وتدفع باتجاه إعادة تصميم دور الحكومة في هذا القطاع دون العودة إلى نماذج احتكارية أو عبء مالي دائم. في مجال الطاقة، تشير الورقة إلى أن تجربة الأردن مع توقف الغاز المصري عام 2011 كانت لحظة مفصلية دفعت نحو استثمارات بنيوية، أبرزها إنشاء ميناء الغاز المسال والتوسع في الطاقة المتجددة والصخر الزيتي، فضلًا عن بناء تحالفات كهربائية إقليمية. غير أن التهديدات الأخيرة بإغلاق مضائق استراتيجية مثل هرمز وباب المندب أعادت التأكيد على أن أمن الطاقة في الأردن لا يزال رهينًا لعوامل خارجية. وقد بات من الضروري المضي في مشروعات التخزين، كخزان العقبة المتوقع تشغيله في 2026، وتعزيز التصنيع المحلي لمدخلات الطاقة، وتوسيع الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، لتصبح الطاقة أداة سيادية لا مجرد نشاط اقتصادي. لا تكتفي الورقة بوصف التحديات، بل تطرح مجموعة من "المهام الوطنية المؤجلة" التي ترى أن تنفيذها بات ضرورة استراتيجية، من أبرزها بناء قاعدة بيانات اقتصادية موحدة تُستقى منها جميع التصريحات الرسمية، وتوجيه الحوافز لإعادة توطين سلاسل الإنتاج داخل الجغرافيا الوطنية، دون افتعال قطيعة مع النظام التجاري العالمي. ما نقوله دائماً، لا يمكن للأردن الاستمرار في إدارة التحديات بعقلية رد الفعل، والمطلوب اليوم وغداً هو "هندسة اقتصادية استباقية"، تعيد تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية، وتربط الاستقرار الداخلي بمرونة القطاعات وقدرتها على التكيّف مع موجات الصدمة الخارجية والأزمات التي لا تنتهي في المنطقة!.


أخبارنا
منذ يوم واحد
- أخبارنا
د. رعد محمود التل : اختبار الجاهزية للاقتصاد الأردني
أخبارنا : أحسن منتدى مسارات للتنمية والتطوير صنعاً بعقد ندوة مهمة حملت عنوان "ارتدادات الصراع: التداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على الأردن"، أتبعها بورقة موقف تضمنت أبرز ما جاء في تلك الندوة الهامة والتي ركزت على التصعيد العسكري الذي حدث مؤخراً بين إسرائيل وإيران وسلطت به الضوء على هشاشة البيئة الاقتصادية في الإقليم، بما في ذلك الأردن الذي وجد نفسه وسط شبكة من الارتدادات المركبة طالت مفاصل اقتصاده الحيوية، وعلى رأسها السياحة، والأمن الغذائي، والطاقة، والمجال الجوي. الورقة قدّمت تشخيصًا معمقًا لهذه التحديات بمحاور مختلفة، ودعت إلى بناء جاهزية اقتصادية تتجاوز الاستجابة الظرفية، نحو مقاربة متماسكة تعزز مرونة الاقتصاد الأردني أمام الازمات والصدمات الخارجية. في القطاع السياحي، كانت الخسائر فورية وصامتة، تمثلت في موجة من الإلغاءات في ذروة الموسم، وسط غياب استراتيجية تسويقية تحوطية لقطاع السياحة تُميز الأردن عن محيطه المشتعل. فرغم استقرار المملكة النسبي، لم تُترجم هذه السمة إلى استراتيجية ترويجية فاعلة في الأسواق المستهدفة، التي لا تزال تتركز في الغرب المتحسس من التوترات. كما أن غياب التنويع باتجاه أسواق بديلة مثل الصين وآسيا الوسطى يفاقم الاعتماد على زوار شديدي التأثر بالمخاطر. وتشير الورقة إلى أن الأزمة كشفت أيضًا خللًا في أدوات القياس، حيث تُحتسب زيارات العبور ضمن مساهمة السياحة في الناتج، ما يخلق فجوة بين الواقع والإحصاءات، ويعيق التخطيط السليم. أما في ملف الأمن الغذائي، فتسلط الورقة الضوء على الدور الحاسم الذي لعبه القطاع الخاص في تأمين السلع الأساسية، وهو الدور الذي تعزز منذ نهاية التسعينات عقب إعادة هيكلة دور الحكومة في إدارة المخزون الغذائي. وبينما ظهرت قدرة تشغيلية عالية على فتح مسارات توريد بديلة وتفكيك الأزمات المحتملة، برزت في المقابل ثغرات في حوكمة المعلومة، تمثلت في تعددية غير منسقة في التصريحات والمصادر، ما ساهم في خلق حالة من القلق الشعبي رغم غياب أي اختلال فعلي في توازن العرض والطلب. والتأكيد مجدداً على أهمية تأسيس مرجعية وطنية للمعلومة، تنشر البيانات الدقيقة بشكل لحظي، بما يعزز الثقة خلال الأزمات. وفي ظل محدودية المنافذ البرية والبحرية للأردن، تكشف الورقة عن الدور الحرج الذي يؤديه المجال الجوي بوصفه "الرئة الاستراتيجية" لربط المملكة بالعالم. وقد أظهرت الحرب الأخيرة هشاشة منظومة الملاحة في الإقليم، لكنها أيضًا أكدت مرونة قطاع الطيران الأردني، الذي تمكن من تسجيل نمو في أعداد المسافرين رغم الظروف. غير أن الأزمة أظهرت أهمية وجود ناقل وطني قوي يمكن الاعتماد عليه وقت تعطل الشركات الأجنبية، وهي مسألة تثير تساؤلات وتدفع باتجاه إعادة تصميم دور الحكومة في هذا القطاع دون العودة إلى نماذج احتكارية أو عبء مالي دائم. في مجال الطاقة، تشير الورقة إلى أن تجربة الأردن مع توقف الغاز المصري عام 2011 كانت لحظة مفصلية دفعت نحو استثمارات بنيوية، أبرزها إنشاء ميناء الغاز المسال والتوسع في الطاقة المتجددة والصخر الزيتي، فضلًا عن بناء تحالفات كهربائية إقليمية. غير أن التهديدات الأخيرة بإغلاق مضائق استراتيجية مثل هرمز وباب المندب أعادت التأكيد على أن أمن الطاقة في الأردن لا يزال رهينًا لعوامل خارجية. وقد بات من الضروري المضي في مشروعات التخزين، كخزان العقبة المتوقع تشغيله في 2026، وتعزيز التصنيع المحلي لمدخلات الطاقة، وتوسيع الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، لتصبح الطاقة أداة سيادية لا مجرد نشاط اقتصادي. لا تكتفي الورقة بوصف التحديات، بل تطرح مجموعة من "المهام الوطنية المؤجلة" التي ترى أن تنفيذها بات ضرورة استراتيجية، من أبرزها بناء قاعدة بيانات اقتصادية موحدة تُستقى منها جميع التصريحات الرسمية، وتوجيه الحوافز لإعادة توطين سلاسل الإنتاج داخل الجغرافيا الوطنية، دون افتعال قطيعة مع النظام التجاري العالمي. ما نقوله دائماً، لا يمكن للأردن الاستمرار في إدارة التحديات بعقلية رد الفعل، والمطلوب اليوم وغداً هو "هندسة اقتصادية استباقية"، تعيد تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية، وتربط الاستقرار الداخلي بمرونة القطاعات وقدرتها على التكيّف مع موجات الصدمة الخارجية والأزمات التي لا تنتهي في المنطقة!.

عمون
منذ 4 أيام
- عمون
الترقب بدل الهلع: حين تجاهلت الأسواق الصواريخ
رغم ما تحمله الحرب الإسرائيلية الإيرانية من تاريخ طويل من العداء والتصعيد والتهديدات، ورغم التوقعات التقليدية التي تفترض قفزات حادة في أسعار الذهب والنفط، وانهيارات في أسواق المال، جاءت المفاجأة على غير المعتاد: الأسواق لم ترتعد، بل سجلت ارتفاعات في مشهد لا يخلو من الغرابة. من اللافت مقارنة أداء ثلاث مرجعيات خلال الفترة الممتدة بين قصف إسرائيل لإيران وإعلان الرئيس ترامب وقف إطلاق النار؛ فقد تحرك الدولار وعوائد السندات الأميركية لأجل عشر سنوات ضمن نطاق ضيق، بينما شهدت أسعار النفط تقلبات حادة، إذ قفزت إلى نحو 79 دولارًا للبرميل قبل أن تتراجع بسرعة لقرابة 69 دولارًا وقبل انجلاء المخاوف. أما الأسواق الأميركية، وتحديدًا مؤشر MSCI، فقد بدأت بالصعود من مستويات متدنية بمخاوف معتدلة، واستمرت في تحقيق المكاسب حتى بعد استهداف قاعدة «العديد» وما زالت كذلك؛ ما يعكس تجاهلًا لافتًا للمخاطر الجيوسياسية المحيطة! وكأن الأسواق تمتلك «مجسات داخلية» أو معلومات داخلية لا يدركها عموم المتابعين؛ تعلم مسبقًا أن التصعيد سيظل محكومًا بسقوف سياسية وعسكرية واضحة، وأن الردود ستكون مدروسة بعناية، وأن آليات الاحتواء ستعمل مبكرًا، وهو ما تحقق فعلاً. ولهذا، لم تشهد الأسواق هلعًا، بل رأت في الأفق فرصًا استثمارية يجدر اغتنامها. المثير في الأزمة الأخيرة إظهار الطرفين نوعًا من الرغبة في تجنب الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة بدليل عدم استهداف مضيق هرمز أو منشآت حيوية نفطية، ما كان من شأنه أن يشعل فتيل تصعيد واسع النطاق. كما ساهمت التسريبات الإعلامية – بقصد أو بدونه – في احتواء عنصر المفاجأة، ما منح الأسواق نوعًا من الطمأنينة بأن التصعيد محكوم بسقف سياسي لا يتجاوزه. الأسواق وبمرور السنين، دخلت في حالة من «التشبع في التسعير الجيوسياسي»، نتيجة تراكم سنوات من التوترات الممتدة في أوكرانيا، الصين، تايوان، اليمن، ليبيا، سورية ولبنان... ولم يعد المستثمر يتفاعل مع كل صاروخ أو غارة كما في السابق، بل أرهقته أيضًا التصريحات المتكررة للرئيس الأميركي ترامب، بما حملته من غموض وتناقض وتراجع، ما عزز حالة التبلد تجاه الأخبار السياسية. لذلك لم يعد التركيز ينصب إلا على ما يُحدث أثرًا ملموسًا في الاقتصاد العالمي، خصوصًا في مجالات الطاقة، التجارة، وسلاسل الإمداد. ويضاف إلى ذلك التحول المتسارع نحو الطاقة النظيفة، وتراجع اعتماد الاقتصادات الكبرى على نفط الشرق الأوسط، إلى جانب بروز الولايات المتحدة كمصدر رئيسي للنفط والغاز. هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تقليص حساسية الأسواق تجاه الاضطرابات الإقليمية، فلم نشهد قفزات نفطية حادة بحكم وفرة المعروض واستعداد العديد من اللاعبين الدوليين لتعويض النقص إن حصل. كما لا يمكن إغفال أثر العقوبات الغربية المفروضة على إيران، والتي أخرجت فعليًا معظم نفطها من السوق العالمي، باستثناء ما تصدره إلى الصين، مما قلل من أهمية التهديدات المرتبطة بإمداداتها. كما ان قلة قليلة كانت تعتقد أن إيران أو حلفاءها يمتلكون القدرة على إلحاق ضرر كبير بإنتاج النفط، أو حتى إغلاق المضيق. ومع ترجيح التهدئة واستمرار بيئة أسعار الفائدة المرتفعة، تراجعت جاذبية الذهب كملاذ آمن، كونه أصلًا لا يدر عائداً، مقابل بدائل أكثر جاذبية كالسندات الأميركية ذات العوائد المجزية، وتطور أدوات التحوط — من المشتقات المالية إلى العقود الآجلة — في تقليص إقبال المستثمرين على الذهب، وسط قدرة أكبر على إدارة المخاطر والتقلبات المفاجئة. كذلك برز تنامي الاستثمار في العملات الرقمية والسلع البديلة، وهو ما ساهم في تشتيت بوصلة الأسواق بعيدًا عن الأصول التقليدية كالذهب والنفط. فقد أصبح اهتمام المستثمرين موزعًا بين العديد من الأدوات الاستثمارية وبين العوامل الجوهرية الأكثر تأثيرًا، مثل السياسات النقدية، وتوازنات الطاقة، والتعريفات الجمركية، التي طغى أثرها في كثير من الأحيان على وقع الحرب نفسها. في نهاية المطاف، لم يكن الحدث العسكري بحد ذاته هو ما حرك الأسواق، بل غياب الضرر الاقتصادي المباشر. لم تهتز سلاسل الإمداد، ولم يرتفع التضخم، ولم تتعرض أرباح الشركات الكبرى لأي تهديد جوهري. أصبح المستثمرون أكثر انتقائية، فلم يعودوا ينجرفون وراء كل صدمة سياسية، بل صاروا يوزنون الأمور بميزان التأثير الحقيقي على الاقتصاد العالمي. لذلك، اختارت الأسواق «الترقب البارد» بدلًا من «الهلع الحاد»، مدفوعة بحسابات واقعية، ولسان حالها يقول إن الصدمات الجيوسياسية لم تعد كافية لتحريك الأسعار صعودًا كما في السابق. الغد