
تطورات مخيفة في الأربع وعشرين ساعة الأخيرة بمالي
وورد في البيانات والتصريحات المتلفزة التي أدلى بها قيادي من الجيش، أن "العديد من المناطق شهدت اشتباكات وهجومات وسقوط ضحايا وسط صفوف الجيش والعدو ومن المدنيين، على غرار منطقة تمبكتو وتساليت، شمالي كيدال القريبة من الحدود الجزائرية"، بالإضافة إلى عمليات إحباط هجومات واستعادة وسائل اتصال لاسكلية في منطقة لاك تيلي وسيركل دو غوندام.
كما عاشت مناطق ميوني ومولودو وساندار وديبولي ونيورو ساحل وغوغي وكايس، أهوال المواجهات المسلحة وتبادل إطلاق النار، وفق البيان، وأظهرت المشاهد المعروضة في الحساب الرسمي للجيش المالي، جثثا متناثرة مضرجة بالدماء ودراجات نارية وسيارات محطمة وسكانا في حيرة من أمرهم.
ووصف الجيش المالي الهجومات التي تم صدها، أمس، بأنها متزامنة ومنسقة، ملمحا بأنها حظيت بدعم خارجي، من دون تحديده، في حين لم تتبن أي جهة هذه الهجمات أو الاشتباكات، سواء تعلق الأمر بالجماعات الإرهابية المسلحة، أو عناصر جبهة تحرير أزواد الناشطين بكثرة في الشمال، وسبق أن أعلنوا عن قيامهم بعمليات ضد الجيش المالي وعناصر الفيلق الإفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية.
وبالرغم من أجواء الحرب التي تشكلت في يوميات مالي، إلا أن الجيش يبعث برسائل طمأنة وشكر للمواطنين والسكان على مستوى تلك المناطق التي كانت مسرحا لوقائع الحرب، وهي لأول مرة تتعدد وتتزامن بهذا الشكل، منذ انزلاق البلد إلى العنف تحت قيادة السلطات العسكرية الانتقالية، بعد أزيد من عشر سنوات من السلم، الذي ضمنه اتفاق السلم والمصالحة، المنبثق عن مسار الجزائر.
وتظل السلطات الانتقالية في مالي مصرة على مقاربة المعالجة الأمنية، مستعينة بالقوى الأجنبية، ومجمدة لكل الأنشطة السياسية ومتجاهلة كل الدعوات الإقليمية والقارية بضرورة العودة إلى الحوار والمفاوضات، وتفعيل الحلول السياسية، تمهيدا لنقل السلطة بسلاسة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 28 دقائق
- إيطاليا تلغراف
ما لم يُقَلْ عن نهاية المعركة بين إيران وإسرائيل
إيطاليا تلغراف د. خالد الطراولي كاتب سياسي تونسي وأستاذ جامعي بكلية العلوم الإسلامية في باريس، ورئيس أسرة حجر الواد التونسية انتهت المعركة، ولكن هل انتهت الحرب؟ اثنا عشر يومًا لعلها كانت كافية لتحديد مصير معركة في جانبها التكتيكي البحت، وأصبح مقدار الهدم والتحطيم ومدى الآلام والفزع والترويع في النفوس والأجساد مقياسًا غالبًا ومحددًا في ربح المعركة أو خسرانها. ولذلك سعى الطرفان إلى تبني الانتصار الميداني والمادي والتكتيكي: مبانٍ مهدومة، أراضٍ محروقة، وأرواح منزوعة. وغاب البعد الإستراتيجي الذي يمثل حقيقة الفارق بين معركة وحرب؛ فمن كسب البعد الإستراتيجي فقد كسب الحرب. عندما يعلن الرئيس الأميركي نهاية المعركة من وراء مكتبه وعلى بعد أميال من موقعها، فقد خلص هو وخبراؤه ومستشاروه إلى أن المعركة يجب أن تنتهي، وأن الجانب التكتيكي لن يحل المعضلة الكبرى، وهي عالم المستقبل وما سينسجه من تحديات وواقع جديد وسريع التحرك لا تتحكم الولايات المتحدة في كل أوصاله؛ فعالم الانفراد قد انتهى نحو عالم متعدد الأقطاب ومعقد المصالح والمواقع. كان التردد الظاهري والمتناقض أحيانًا للرئيس الأميركي يدفعك إلى لعبة العرائس الروسية، ويملي للمتابع، سواء كان مركز نفوذ أو وكالة صحفية أو متابعًا عاديًا، حيرة وترددًا في الحسم والاستقراء السليم. مؤشرات عدة سبقت هذا القرار، ووجهت البوصلة نحو تركيز لمصلحة الولايات المتحدة في خيار التوقف وحسم المعركة. فعندما يعلن وزير الخارجية الأميركي أن بلاده لا تريد تغيير النظام في إيران بعد الضربة الجوية، وعندما تبلغ أميركا إيران بأن الضربة واحدة ولا تليها ضربات، وعندما تؤكد إيران أنها حوّلت اليورانيوم المخصّب من موقع فوردو قبل الضربة، وعندما يتجه الرد نحو الكيان الغاصب وليس إلى المواقع الأميركية، وعندما يكثر التهديد من هنا والمبالغة الكلامية في نجاح المهمة من هناك، فاعلم أن هناك تغييرًا جوهريًا في المشهد العام إقليميًا ودوليًا دون المساس بالأوضاع الداخلية لبلدان الشرق الأوسط جميعًا. وأن المخفي عن الجمهور وغير المباشر يحدد المآلات وعالم الأولويات والتحدي والتموقع والوجود، في مشهد إقليمي وعالمي جديد تبنيه الإستراتيجية وليس الموقف التكتيكي. وذلك عبر الأطراف الثلاثة المساهمة في التحولات الجديدة: أولًا: الولايات المتحدة بعيون صفقات التجار: عين على إيران وعين على المصالح يمكن استجلاء الموقف الأميركي وتبعاته عبر أربعة مضارب: 1- حفظ ماء الوجه الأميركي، والإستراتيجيات قبل التكتيك، وذلك بالتأكيد المتجدد على أن أميركا ومصالحها أولًا، ولن تدخل حربًا إلا من أجل مصالحها هي فقط، وما لم يمسّ النووي الإيراني مصالحها فلن تمسه بسوء كبير، وتأخيره دون إبطاله نهائيًا لا يزعجها كثيرًا، خاصة أن هناك تأكيدات على أن المشروع النووي الإيراني لا يشكل خطرًا، كما أشارت إليه مستشارة الرئيس الأميركي والتي تراجعت عنه لاحقًا بعد تأنيب ترامب لها على المباشر. 2- لا تسعى أميركا أن تخطئ في أولوياتها وفي تصنيف أعدائها، ولا تريد أن تُدفع دفعًا نحو فهم ضيق للخسارة والربح؛ فالصين أولًا والصين آخِرًا، فالمعركة بالنسبة لها معركة وجود بما تمسّها من زعامة وهيمنة وربح كثير، وبما توفّره لها عملتها المهيمنة على الصرف العالمي. فالمعركة متعددة الأبعاد، وخاصة الصناعي منها والمعلوماتي وثورة الذكاء الاصطناعي، والذي يخسرها منهما فقد خسر مستقبله الريادي ودخول عالم جديد تُعرَف بداياته ولا تُعرَف مآلاته. فعين أميركا مفتوحة كاملة ودون حراك نحو المارد الصيني الذي يمثل بالنسبة لها الخصم والمنافس الذي يمكن له الإطاحة بعرشها نهائيًا. ووقوعها في المستنقع الإيراني سهل دخوله، ولكن يصعب الخروج منه، وفيتنام لم ولن تغادر المخيال الأميركي ومواقفه. 3- مصالح الكيان ليست بالضرورة مصالح أميركا، وهذا تجلى في المصالحة مع الحوثيين في اليمن أولًا حتى يوقفوا قنص السفن المارة بباب المندب، بينما تواصلَ إرسال الصواريخ اليمنية نحو الكيان، وفي الإرادة السياسية للولايات المتحدة لوقف الحرب وإرغام إسرائيل على ذلك أو كما يبدو. وأميركا أنقذت إسرائيل كما ذكره الرئيس الأميركي! 4- الاستثمار ملك التنمية، والصورة الأولى له تتجلى في سوق الأسهم ارتفاعًا أو نزولًا، وثقة المستثمرين في الاقتصاد بوصلة مشهد تنموي مزدهر. وقد راهن الرئيس الأميركي على هذه الثقة التي مكنت سوق الأسهم من الارتفاع، وليس مستعدًا أن يفقدها أو يرجّها، وهي تلتقي في امتدادها ونجاحها على تثبيت مقاربة إستراتيجية ثابتة على رباعية الاستثمار والإنتاج والاستهلاك والتصدير. ثانيًا: إيران والإستراتيجي 'المنشود أو المغشوش' ولو على الركام والأثمان الباهظة؟ خسرت إيران كثيرًا في السنة الماضية ما بنته في سنوات من خلال الهلال الشيعي، خسرت ولا شك، وهذا المهم، عمقها الإسلامي 'السني الشعبي' بعدما كسبته على إثر ثورتها الإسلامية سنة 1979 وتمادى معها حتى في حربها ضد العراق. كان لأخطائها القاتلة في معركتها الأم في سوريا نذير لخسارة كبرى نتيجة سوء التقدير وخلطها الواضح والمتسرع بين التكتيكي والإستراتيجي؛ هلال شيعي ممتد نعم، ولكن بدون إستراتيجية تبني الواقع الجديد بطرفيه التاريخي والجغرافي وعلى نار هادئة. إن دخولها اليوم في مواجهة مفروضة مع الكيان يجعلها في موقف جديد، لعله يمسح نسبيًا ما مضى ويبني لجديد آخر غير واضح المعالم كلية. فدخولها في مواجهة مباشرة مع الكيان ودكّ أوصاله، حتى ظهرت بعض الصور مشابهة لخراب غزة، أعاد لها ولو بخطى بطيئة كثيرًا من هذا المد السني الشعبي، ودخول أميركا على الخط في مواجهة مباشرة معها نمّق الصورة ولا شك، ولكن هل هو التكتيك وإلزاماته ونهاية معركته، والإستراتيجيات وحربها الصامتة والمفتوحة؟ المشروع الإيراني النووي لم يُدفن ولم ينتهِ، وحتى إن تأخر لشهور أو سنوات، فإن الإرادة السياسية والقوة المعرفية والعلمية لم تتقلص بوجود آلاف المهندسين والعلماء. وهذا البعد يبني الإستراتيجي ولا شك، ولكن هل هو إستراتيجي عسكري وحسب؟ الإستراتيجيات بناء متكامل وذو أبعاد متعددة يمس كل الظاهرة الإنسانية في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى النفسية. النظام السياسي قائم لم يقع، بل إن وزير الخارجية الأميركي كما كتبنا سابقًا طمأن حكام طهران بأن ضرباتهم الجوية لا تتوجه نحو تغيير النظام، ولكن نحو برنامجه النووي. فهل يعي النظام الإيراني جدول أولوياته، وهي خلطة تجمع بين المطلب الشعبي في العيش بكرامة ورفاه، والدافع الأمني والذي تؤكده ولا شك قوتها المعرفية والعلمية في صناعتها العسكرية، وخاصة في مجالي الصواريخ والمسيرات، ودخولها مبكرًا عالم الذكاء الاصطناعي، وهو المهم والمحدد في عالم المستقبل ريادة وقوة، وهو بعد إستراتيجي ولا شك، ولكن يجب ألا يُبنى خارج إطار المطلب الشعبي. ثالثًا: إسرائيل: التكتيك المفروض والإستراتيجيات المفقودة أو المنحرفة حين يكون مصير فرد يتجاوز مصير شعب، وعندما تصبح الحرب ملاذًا لبقاء الفرد في موقعه السياسي، وعندما تتوحش أحزاب حاكمة وحكومة، ويتوحش السياسي وجيشه ويصبح عنوانًا لإبادة شعب وتجويع شعب، وقتل أطفاله ونسائه وتخريب بيوته وهدم مدنه، فاعلم أنك أمام خسارة إستراتيجية رهيبة تُدفَع الأموال الضخمة لكسبها: خسرت إسرائيل موقع الضحية الذي بنت عليه كل علاقاتها الدولية ونفوذها وحتى وجودها! خسرت قلوب الكثير من أفراد الشعوب الغربية وعقولهم ومواقفهم الداعمة والمؤيدة لها. خسرت ثقة شعبها في وجوده على 'أرض الميعاد'، وأصبح الخوف من النهاية يطال السياسيين أنفسهم؛ انظر تصريح رئيس الوزراء السابق باراك في هذا المجال وعقدة الثمانين سنة من عمر الدولة. خسرت العلاقة المرتبطة والمتلازمة بين مصالحها ومصالح الولايات المتحدة، وظهر للعلن هذا التميز الجديد ولو بخطى بطيئة أو غير مباشرة، ويدخل في هذا الباب كما أشرنا له سابقًا معركتها مع الحوثيين المتواصلة في حين توقفت مع الولايات المتحدة، وكذلك تلكؤ القرار الأميركي بعض الشيء في دخول المعركة، ثم تأكيده على أنه لا يعنيه سقوط النظام في طهران، وأن ضربته الجوية ستكون وحيدة، وأنه سمح بنقل اليورانيوم المخصّب خارج موقع فوردو قبل الضربة، وأخيرًا الأمر الصارم من البيت الأبيض بنهاية الحرب، مما يعني عدم تبني الولايات المتحدة معركة كبرى مع طهران تمناها الكيان وسعى إليها، وخاصة نهاية النظام الإيراني ومنظومته الحاكمة. خسر الكيان لدى الرأي العام العالمي صورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الاستبداد والدكتاتورية المحيطة بها، وسقطت ورقة التوت عن حقيقة مخفيّة طوال عقود؛ فلا ديمقراطية ولا حقوق الإنسان، ولكنْ استبداد داخلي، وصولات للسياسي في مواجهة القضاء، وتجاوزه خطوطًا حمراء في علاقة المواطن بالمؤسسة القضائية واستقلاليتها، والفصل بين السلطات. وهي ولا شك دعائم الدولة الديمقراطية. كما برز للجميع مدى تهور وتجاوزات القيادة السياسية أمام قرارات محكمة لاهاي واعتبارها ورئيسها منبوذين ولا اعتبار لهم! لم تحسم دولة الكيان معركتها الهمجية في غزة، ورغم وحشيتها المتواصلة في القتل والهدم والترويع والتجويع، فإنها لم تكسب المعركة، وأصبحت حبيسة عمليات نوعية يومية تقتل وتجرح وتروّع جنودها، حرب استنزاف باهظة الثمن فتحت أبواب جهنم عليها. فلا التكتيك غلب، ولا الإستراتيجية نجحت إن وُجدت. فهذه الحرب المفتوحة ورفع سقفها على أنها حرب وجود بررت وسائل الدمار والإبادة من أجل غاية مبهمة تريدها إستراتيجية البقاء، وهي في الحقيقة إستراتيجية الفناء. كما أن هذه الحرب المتوحشة، الفاقدة لكل نفس إنساني وأخلاقي وقيمي، والتي لم يرَ العالم شبيهًا لها منذ الحرب العالمية الثانية، جعلت منها لدى الرأي العام العالمي دولة عدوان، وأخافت الكثير من استعراض القوة المخيف للجميع، وتعيد قراءة المشهد العالمي حسب رؤية جديدة تحددها مواقع النفوذ ومراكز القوة وميزانها. [الناتو (NATO) يرفع الإنفاق الدفاعي العسكري إلى 5 بالمائة من الناتج المحلي]. ختامًا نحو بديل حضاري منشود؟ لقد أحدثت 7 أكتوبر/ تشرين الأول زلزلة في المستوى الإستراتيجي للفعل السياسي والمواقف والمقاربات، وفي مستوى العلاقات الدولية والتمركز الإقليمي، وفتحت الباب نحو عالم جديد لا يزال نسيجه لم يبرز، ولكن بوصلته بدأت في التوجيه. لقد كانت الهزيمة الكبرى لمشروع القيم والمبادئ وحقوق الإنسان، الذي طالما كان يمثل عنصر الفخر والتمركز لمنوال التقدم والازدهار، زلزالًا حطّم ما سبق، ولوث ما يجري، وعقّم المستقبل. وجاءت معركة الاثني عشر يومًا الإيرانية الإسرائيلية بنتائجها لتؤكد فشل التكتيكي، ولو كثرت دماؤه وخرابه، وغيبة الإستراتيجي أو تهميشه أو انحرافه، ليشكّل كل ذلك في الحقيقة دافعًا لبناء البديل الحضاري الجديد والمنشود بترانيم جديدة، ولغة جديدة، وخطاب جديد، ومنهج ومنوال جديدين، والذي لن يكون صالحًا وسليمًا إلا عبر جوهرية واضحة وجلية للبعد الأخلاقي والقيمي، وجوهرية الإنسان أنى شرّقت أو غرّبت سفينته، ويقطع مع نموذج غيّب الأخلاق والقيم، وجلب للإنسانية كثيرًا من الدمار في عالم من التوحش والقتل والهيمنة والترويع. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ 34 دقائق
- إيطاليا تلغراف
كل سموم الحياة في تلك الرقعة الواحدة
إيطاليا تلغراف حسن داوود في الصفحات الأولى، وبمجرد أن نبدأ بالقراءة، تقع الحادثتان اللتان ستُبنى الرواية على قسوتهما الفادحة. أولهما سقوط طفل، أو إسقاطه، أو رميه من نافذة منزل، إلى الطريق؛ والحادثة الثانية إفراغ الفتاة دلو َالجاز على رأسها وجسمها وإشعال النار فيهما، ثم سقوطها إثر ذلك كتلة متفحمة على الطريق. حادثتان مروّعتان ستتحمل فظاعتهما امرأتان إحداهما كاتبة روائية (رضوى) والثانية اختصاصية في نزع شعر النساء بالليزر (يمنى). الصدمة التي تلقتها الامرأتان، أو تلقّتها كل منهما، لن تكون عابرة، فهي لن تتوقف عن التحكم بكل ما تفعلانه من بعد ما شاهدتاه، كما ستودي بهما إلى التيقّن من أن العالم البشع الذي عاشتاه سيزداد بشاعة. هما بطلتا الرواية، وقد ضمّتا إليهما الفتاة المحترقة (مرمر) وهي في الثالثة عشرة من عمرها، لتكون البطلة الثالثة، مع أنها ماتت منذ بداية تولّي المرأتين سرد حكايتيهما. هما حياتان تعلّقتا بحرق مرمر نفسها، كما بحادثة وليدها الذي أُسقطته. لم يعد شيء يجري لهما يمكن تخليصه مما اعتبرتاه فجيعتهما، سواء تعلّق ذلك بماضي حياتيهما أو بحاضرهما فيها. ثم هناك المكان المقيمتان فيه، وكذلك البشر في المكان. البطل السلبي الكريه في الرواية هو عزوز، عمّ مرمر، المقيم مع أهلها في بيتهم، رغم اقترابه من عمر الستين، والمندسّ في فراشها ليلا متسبّبا بفاجعتها بعد ذلك. عزوز يظل حاضرا في الرواية حتى نهايتها، وقد اختُتمت الرواية به شاهدا على هدم الجرافات للحيّ كله، بما في ذلك أكشاك البيع فيه ومقبرته ومستشفى المجذومين كذلك. أولئك الذين في الجوار والذين، كلما اقتربت الرواية منهم، تولّدت منهم أكثر مشاهدها قوّة وقسوة، سواء تعلّق ذلك بأشكالهم، أو باعتدائهم المستمر على بعضهم بعضا، أو باحتكاكهم بمن هو خارج معتزلهم، أو بالتحرش الذي يقومون به، هم الفاقدون لأجزاء من أياديهم وأرجلهم ومناطق أخرى من أجسادهم، فرغم فقدهم الكثير من أطرافهم، ما زالوا يشعرون بإلحاح تلك الرغبة. حتى الموت لن يكون قادرا على إخراجهم من حيث هم، لذلك أقيمت مقبرة لهم حيث هم، ليُدفنوا حيث عاشوا. ثم هناك البيوت المطلة على منطقة المجذومين، حيث الفقر الذي لا يجارى في تشكيله لعلاقات المجاورة وأخلاق الساكنين وإجراء الحياة على البشر بذلك القدر من الوحشية. ذلك يتعلّق بعيش النساء الذي تغلب عليه في الرواية الحمل والإنجاب، كرها أو اعتيادا، وإسقاط الحمل، أو قتل المواليد إن لم تتمكن تلك التي اسمها نجاة من التخلّص منهم بعقاقيرها والجراحات البدائية السريعة التي تجريها. تجارب الولادة وما قبلها، وكذلك في أثنائها وبعدها، تملأ حياة الجارات اللواتي تُظهر الرواية قربهن من مراحل نموّ الأجنة بدءا من شهر تكونهم الأوّل. دمٌ وكتل من دم تسقط في المراحيض أو تُدفن إن صارت مرئية في جسم. وما هو بالغ القسوة هو تلك الألفة التي تقوم بين من كانت هذه حياتهم. الألفة التي تجعل نساء المبنى، أو نساء الحي، يشتركن في تسهيل الفضيحة على الواقعات فيها، مثل مساعدتهن لمرمر على التخلّص من حملها، وإذ يتعذر ذلك على نجاة، يساعدنها على التخلص منه برميه. ومن مظاهر الإلفة أيضا أن يعيش عزوز بينهم بعد اغتصابه لابنة أخيه، بلا عار يلحقونه به. لا يُبعَد من الحي، وهو لا يتوقف عن الجلوس في المقهى ومنادمة رواده. كما أن أخاه، والد مرمر، لم يصدر عنه لوم أو عتاب أو سباب، ولا أي رد فعل تجاه ما فعله أخوه. عوض عبد الدايم (والد مرمر) حاضر فقط في فصل صغير خُصّص له. كان عليه أن يستمر في عمله بائعا للجاز لإعالة المقيمين معه، مع ان شغله ذاك صار أقرب إلى الانقراض، حيث صار الناس يستعملون مواد أخرى، غير الجاز، لطبخ طعامهم، كما أن الحصان الذي يجرّ الكنكة اكتهل ولم يعد قادرا على القيام بما كان يقوم به. المشاهد الجانبية والبشر الجانبيون لا يقلّون حضورا عن بطلتي الرواية. ربما لأن الامرأتين تولّتا سرد كل ما يجري حولهما، تاركتين لنفسيهما القليل المتأتي من شعورهما بالذنب عن أفعال لم ترتكباها. لم يحدث ليمنى أكثر من اقتراف خيانة واحدة، ورضوى الروائية منشغلة بما تعرف أنه لن يوصلها إلى ما تصبو إليه. ما قالته عن الكتابة ربما هو بين الأكثر صدقا وعمقا من معظم ما كتب عن أزمة الكتابة والكتّاب. ذلك الطموح الذي لن يُبلغ طالما أن حدّه ليس في مجال المنظور أو المتخيّل. ثم إنه، في لحظة تحقّق الإنجاز تعرف، هي الكاتبة، أن المكافأة أقل بكثير مما وُعدت به. كتابة نورا ناجي في روايتها الأخيرة، متفجّرة وقلقة، متحفّزة ومبدعة، جُمل تتتابع كما لو أنها تتلاطم، إذ لا تتيح لقارئها أن يتوقف قليلا ليحتفل بقوّة ما قرأ، رافعة إياه، مع الجملة التي تلي، إلى ذروة مبدعة أخرى، فأخرى.. «بيت الجاز» رواية نورا ناجي صدرت عن دار الشروق في 202 صفحة – سنة 2025


إيطاليا تلغراف
منذ 34 دقائق
- إيطاليا تلغراف
التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟
إيطاليا تلغراف محمد سامي الكيال كاتب سوري ينتشر حالياً في الثقافة السياسية الناطقة بالعربية نمط جديد من «الواقعية»، المتعلّقة هذه المرة بما يمكن تسميته «تفكيك الديمقراطية». والفكرة الأساسية فيه أن الديمقراطية ليست نظاماً كاملاً ونهائياً، أو نتيجة طبيعية وحتمية للتطوّر التاريخي، بل هو مجرد شكل بين أشكال متعددة من أنظمة الحكم، ظهر، ضمن ظروف اجتماعية وتاريخية خاصة، في الدول الغربية، وهو اليوم يمر بأزمة عميقة حتى في تلك الدول، كما أن محاولات تصديره إلى دول منطقتنا باءت بفشل ذريع، وأدت لكثير من الكوارث والفوضى. فضلاً عن هذا فإن جوهر الدولة الحديثة هو السيادة، وليس الحقوق والحريات، أو العقد الاجتماعي، أو تداول السلطة. يصعب إيجاد خطأ فادح في هذا الطرح، وإن كان يتسم بعدم دقّة واضحة، واللافت فيه جانبان أساسيان: الأول أنه يجيء بعد أكثر من عقد من الزمن على ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي شهد قناعة عامة بأن العرب ليسوا استثناءً تاريخياً، أو ثقافياً، وسيتوجّهون بدورهم إلى دمقرطة دولهم ومجتمعاتهم؛ والثاني أنه لا يقتصر على مثقفين ناطقين بالعربية، وإنما بات اتجاهاً عالمياً، له ممثلوه الوازنون في اليسار واليمين الغربي. لقد صارت الديمقراطية، والتبشير بها، صيحة قديمة على ما يبدو. كان التبشير بالديمقراطية، بل الديمقراطية المحاربة، جانباً أساسياً من الحرب الباردة، ووصل بعدها إلى ذروته أيام إدارة المحافظين الجدد، برئاسة جورج بوش الابن، واستمرّ أيام إدارة أوباما، ولكن ليس بواسطة الجيوش الغازية فحسب، بل عبر دعم عشرات المنظمات، خاصة «غير الحكومية»، وكذلك المنح الأكاديمية والفنيّة، التي نشرت أفكاراً ومصطلحاتٍ جديدة في المنطقة، من «الثورة اللاعنفيّة» وحتى «النسوية التقاطعية». وبعد كل ما شهدته المنطقة، من التخبّط الأمريكي في العراق وأفغانستان، إلى مآسي الحروب الأهلية العربية، في اليمن وسوريا وليبيا، بدأ صوت النقد اليساري لـ»المركزية الغربية»، الداعي لـ»نزع الاستعمار»، يرتفع بشدة، في أوساط المنظمات والأكاديميات المُمَوّلة غربياً نفسها؛ ثم تبنّاه اليمين الغربي بقوة. وربما كانت تصريحات توم باراك، مبعوث إدارة ترامب إلى تركيا، حول عدم النية بـ»تصدير الديمقراطية»، ونقد اتفاقية سايكس بيكو، أقوى مثال على هذه الانعطافة في خطاب اليمين، وتبنيه لعناصر كثيرة من مقولات اليسار، مع ملاحظة أن مثل هذه التصريحات تبدو في الأصل أنسب لعالم اليمين المحافظ والرجعي. كل هذا يجعل من «تفكيك الديمقراطية» أقرب لنوع من التبشير المضاد، فبعد أن بُشِّرنا لعقود بالديمقراطية، غيّر المُبشِّرون رأيهم، وصاروا يبشرون في أوساطنا بخصوصياتنا الثقافية، واختلافنا الجوهري، أو البنيوي، أو التاريخي، عن التجربة الغربية. وفي الحالتين، التحق كثير من المثقفين الناطقين بالعربية بالموجة، وصار الدارج بينهم «تفكيك الديمقراطية». يمكن القول إن المقولتين، التبشير بانتقال «القيم الغربية»، والتبشير ضدها، هما نزعتان كلاسيكيتان في الاستشراق، دارجتان منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الموضوع نفسه أكبر كثيراً من الاستشراق، ونقده. يعيد كثير من المتداخلين في الشأن العام اليوم اكتشاف مقولات «السيادة»؛ ويضيفون إليها مقولة «احتكار الدولة للعنف» العائدة لماكس فيبر، أو «الاحتكار الشرعي للعنف المادي والرمزي» حسب تعبير بيير بورديو؛ ويستشهدون بمفكرين، مثل كارل شميت، وجورجيو أغامبين، وميشيل فوكو، لبيان أبعاد «الوهم»، الذي انخدع به كثير من «الليبراليين العرب» لسنوات طويلة، ما يجعل التبشير المضاد يتخذ طابعاً «مترجماً» عن أصل غربي، إن صح التعبير، كحال كثير من التيارات الأيديولوجية العربية؛ وإذا رغبوا في «التأصيل»، فقد يذكرون نظريات ابن خلدون عن العصبيّة والدولة (وتأصيل المقولات الغربية في كتابات ابن خلدون عادة أيديولوجية عربية قديمة كذلك). والنتيجة أن قوى الأمر الواقع، سواءً كانت دولاً أو أشباه دول أو ميليشيات، هي أفضل ما قد نصل إليه، ويجب التعامل معها بـ»واقعية» و»براغماتية». علينا أن نفحص كثيراً ادعاءات الواقعية والبراغماتية، بل حتى «الماديّة» و»التاريخية» هذه، فهي توحي بكثير من التلفيق والاحتيال الأيديولوجي، أو على الأقل سوء فهم عميق للمصادر التي يتم الاقتباس منها. هل الدولة والسلطة فعلاً مجرّد سيادة لأجل السيادة؟ وهل الانتقال الديمقراطي في منطقتنا مجرّد وهم أيديولوجي غربي، آن أوان تجاوزه؟ الوظيفة والهيمنة بالفعل، قد يكون تعريف نموذج الدولة الحديثة بأنه «احتكار كل الاحتكارات»، مناسباً ودقيقاً للغاية، فالدولة لا تحتكر فقط الأجهزة العنفيّة الماديّة، مثل الجيش والشرطة، بل أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج الشرعية، في كل مجالاتها، فكل ما لا يدوَّن في أجهزة الدولة من مجالات الحياة العامة، وكذلك الأحوال الشخصية، هو، باختصار، غير شرعي؛ وكل ما هو مقياس عام، من العملات والموازين والتوقيت، وحتى «الآداب العامة»، شأن «دولتي» في نهاية المطاف. والدولة هي المسؤولة عن تأسيس وتنظيم مجالات مثل الهوية الوطنية، التعليم العمومي، الشؤون الحيوية الأساسية للمواطنين، مثل الصحة ومستوى الحياة، وبالتالي فهي «المصرف الأساسي للرأسمال الرمزي»، حسب تعبير بورديو، وهي لذلك الجهة الأقدر على ممارسة العنف الرمزي، واحتكاره، ولكن هل هذا الاحتكار سببه شهوة سلطوية لا محدودة فقط؟ يصعب أن نجد مُنظّراً مهماً للسيادة، لم يركز معها على مسألتين متلازمتين: تأدية السلطة لوظائف اجتماعية أساسية؛ وتحقيق الهيمنة الأيديولوجية. والوظائف الاجتماعية لا تعني فقط الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية والصحيّة، والخدمات التعليمية، وإنما الأسس البنيوية العميقة لاستمرار المجتمعات نفسها. وقد عمل مفكرون كثر على تحديد تلك الوظائف وتلخيصها، ولعل من أهم الإسهامات في هذا المجال النموذج الشهير لعالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز، الذي حدد فيه أربع وظائف: التكيّف (التأقلم مع البيئة المحيطة بمعناها الواسع، بما يشمل الإنتاج، العمل، توزيع الموارد)؛ تحقيق الأهداف (أي تحديد الأهداف الاجتماعية الأساسية، وترتيب أولوياتها، بما يشمل القيادة والتخطيط واتخاذ القرار)؛ الاندماج (تحقيق التماسك بين المجموعات والفئات المتعددة، ومكونات ومؤسسات النظام العام، بما يشمل القوانين والقيم والتقاليد)؛ تأصيل ونقل الأنماط (ويعني نقل القيم والأعراف الثقافية العامة إلى الأفراد والأجيال الجديدة، بما يشمل التعليم والإعلام والأسرة والدين)، وهكذا تشمل هذه الوظائف أنظمة الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق. هذا يعني أن استمرار أي دولة ونظام سياسي، وقبول المجتمعات باحتكاراته، متوقف بالضرورة على أداء تلك الوظائف، التي تشكّل نوعاً من عقد اجتماعي عميق، ستتحلّل العلاقة بين الحاكم والمحكوم دون تحقيق بنوده. الدولة ليست بالتأكيد مجرّد صاحب سيادة بقدرات سحرية، يسيطر على البشر دون قيد أو شرط، ولا يعنيه سوى تأمين احتكاراته، عبر مزيج من القوة والدهاء. أمّا الهيمنة فهي جانب تأسيسي للسلطة، ولإنتاج المعنى والدلالة في المجتمعات، بما يحفظ تماسكها واستمرارها. فهي تؤمّن لها أنماطاً متعددة من السرد المؤسِّس؛ وتُنتج «حسّاً سليماً»، ينظّم جانباً كبيراً من منطقها وممارساتها وأساليب تعبيرها. وهي مرتبطة بالعنف المادي والرمزي بالتأكيد، ولكن الاقتصار على العنف، والعنف الضاري، لا يدلّ سوى على فشل الهيمنة. وهذا يعني أن الدولة «صانع حكايات»، ومعلّم أيديولوجي، ومنتج للقيم والرموز، وليس فقط عصبة متسلّطة، تتغلّب على غيرها، وتفرض نفسها فوقياً على المجتمعات. إنها منتجة بالضرورة للأجساد والذوات، ولا تكتفي بالقمع والبتر والسحق. كيف يمكن للدول أن تؤدي كل هذه الوظائف، وتحقق الهيمنة، في مجتمعات معقدة، فقدت غالبية بناها التقليدية، مع موجات التحديث المتلاحقة، أو أٌعيد إنتاجها عبر الربط بأجهزة الدولة ومؤسساتها؟ بالتأكيد ليس عبر التصورات المبتذلة عن السلطة والسيادة، الدارجة اليوم بين أنصار «التبشير المعاكس». المشاركة والتمرّد يمكن ملاحظة نوع من الفهم السطحي لمفهوم «ثقافة المجتمع» لدى أنصار التبشير المعاكس، من توم باراك وحتى المثقفين العرب المفككين لـ»وهم الديمقراطية»، وهو أن مجتمعات المنطقة ستنتج، بشكل بديهي، من ثقافتها أو دينها أو بناها الأهلية (والتعبير الأخير لا معنى واضحاً له)، أنظمة حكم مناسبة لها، لا تتبع بالضرورة النماذج الغربية، ولكنها، للعجب، تشاركها في نقطة واحدة، حديثة للغاية: الاحتكار والتدخليّة الكاملة في حياة مجمل السكان ضمن حدودها، أي ثقل نموذج الدولة الحديثة، دون أي من مزاياه، أو وظائفه، أو حقوقه. الأمر ليس بهذه البديهية والعفوية بالتأكيد، فتأسيس نظام سياسي، أياً كان نوعه، عملية أكثر «اصطناعاً» بكثير، ولا يكفي لتحقيقها تأييد ودعم دولة فاشلة، أو جماعة ميليشياوية حاكمة في هذا البلد أو ذاك. إذا فشلت السلطات القمعية في تأدية الوظائف وتحقيق الهيمنة، فهذا لا يعني إلا مزيداً من الفوضى، والعجز عن تحقيق الاحتكارات السلطوية المطلوبة. ما سيؤدي إلى نشوء منافسين للسلطات، سيكون لهم عنفهم واحتكاراتهم الخاصة. وهذا هو نموذج إمارات الحرب، والإقطاعيات الميليشياوية، الذي يسود في كثير من دول المشرق، ولا يبدو معبّراً عن ثقافتها، أو أي ثقافة أخرى، بقدر ما هو مظهر همجي. الفشل متوقع وحاضر، ويعيد إنتاج نفسه، بسبب الإصرار على الغلبة، والأحادية، وممارسة العنف الضاري، وعدم الالتفات لأي وظيفة اجتماعية جديّة. نجحت كثير من الأنظمة، التي توصف بـ»الديكتاتورية»، في تأدية الوظائف المذكورة أعلاه، وتحقيق هيمنة أيديولوجية متينة، إلا أن الفكرة النمطية عنها، التي تتلخص بحاكم فرد، أو دائرة ضيقة من المتنفذين، تفرض سلطتها على شعب مظلوم بأكمله، وتقصيه بشكل كامل عن المشاركة، وتقمعه بالحديد والنار، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، فمعظم الأنظمة السياسية المستقرة تؤمّن نوعاً من المشاركة والتمثيل لمحكوميها، سواء عبر مؤسسات مدسترة (كما في نموذج «الديمقراطية الشعبية» في دول المعسكر الشرقي السابق)؛ أو بنوع من المحاصصة الصامتة؛ أو عبر توازن مستقر نسبياً لمراكز القوى، التي تتمتع بصفة تمثيلية غير معلنة (لطائفة، عرق، طبقة اجتماعية، فئة نوعية، منطقة، الخ)، وهذا قد ينطبق على دول مثل الصين وفيتنام وغيرها. وفي كل الأحوال يؤمّن هذا النوع من الأنظمة، في سبيل تحقيق وظائفه الأساسية، دخول مجاميع واسعة من السكان إلى الشأن العام بشكل فاعل، وتحت غطاء متماسك من الهيمنة الأيديولوجية. التجربة التاريخية علّمتنا أن نجاح الأنظمة، حتى لو كانت ديكتاتورية، في تأدية وظائفها، سينشئ فئات جديدة، أقلّ فقراً، وأفضل تعليماً، وأكثر وعياً، ستطالب غالباً في ما بعد بنصيب أكبر من المشاركة والتمثيل، وبمزيد من الحقوق والحريات. سبق للناقد الثقافي الأمريكي فريدرك جيمسون والمفكر الإيطالي أنطونيو نيغري تفسير سقوط الاتحاد السوفييتي جزئياً بهذا: نجاحه بالتحديث، ما أدى لخلق فئات شابة جديدة، تمرّدت على أحادية النظام الاشتراكي وانغلاقه، وأرادت الانفتاح على العالم. أمر مشابه إلى حد ما قد ينطبق على مصر في أواخر عهد مبارك، فالمتمردون الأوائل لم يكونوا من الجياع، بل فئات تطوّرت في ظل «الانفتاح»، وارتفاع دخل طبقات معيّنة، والحريات النسبية التي عرفها ذلك العهد. المطالبة بالمشاركة والتمثيل، والاعتراف بالتعددية، قد تكون النتيجة المتوقعة لأي نظام ناجح، ولذلك فإن الديمقراطية، أي مزيداً من سيادة العامة (من ليسوا أصحاب امتياز متأصّل) الذين برزوا على الساحة، بفئاتهم المتعددة، مطلب ناتج عن بنية الدولة الحديثة نفسها، بسلطتها وهيمنتها ووظائفها وتناقضاتها، والتبشير ضد هذا قد لا يكون إلا خطاباً لفئات وأفراد، يراهنون على سلطات قمعية، لدوافع متعددة. أما القول إن «الظروف لم تنضج بعد» للمطالبة بأي شكل من المشاركة والتمثيل والاعتراف بالتعددية، وعلينا في البداية احتمال سنوات من الحكم الأحادي، الذي ينزع إلى الاستفراد والإقصاء الكامل، وغير المهتم ببناء أي نوع من الائتلافات الاجتماعية، فهو غالباً نوع من الاحتيال الأيديولوجي، خاصة إذا تذكرنا أن معظم القائلين به من أنصار الميليشيات والدول الفاشلة، العاجزة، بشبكاتها الرثّة، عن تأدية أي وظيفة فعليّة، أو تحقيق أي شكل للهيمنة. قد تكون المطالبة بالديمقراطية، بأشكالها العديدة، ضرورة لاستمرار الحياة، وحماية المجتمعات من الاعتداء الهمجي لقوى الأمر الواقع، وليس ترفاً ناتجاً عن تبشير غربي أو غير غربي.