
التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟
محمد سامي الكيال
كاتب سوري
ينتشر حالياً في الثقافة السياسية الناطقة بالعربية نمط جديد من «الواقعية»، المتعلّقة هذه المرة بما يمكن تسميته «تفكيك الديمقراطية». والفكرة الأساسية فيه أن الديمقراطية ليست نظاماً كاملاً ونهائياً، أو نتيجة طبيعية وحتمية للتطوّر التاريخي، بل هو مجرد شكل بين أشكال متعددة من أنظمة الحكم، ظهر، ضمن ظروف اجتماعية وتاريخية خاصة، في الدول الغربية، وهو اليوم يمر بأزمة عميقة حتى في تلك الدول، كما أن محاولات تصديره إلى دول منطقتنا باءت بفشل ذريع، وأدت لكثير من الكوارث والفوضى. فضلاً عن هذا فإن جوهر الدولة الحديثة هو السيادة، وليس الحقوق والحريات، أو العقد الاجتماعي، أو تداول السلطة. يصعب إيجاد خطأ فادح في هذا الطرح، وإن كان يتسم بعدم دقّة واضحة، واللافت فيه جانبان أساسيان: الأول أنه يجيء بعد أكثر من عقد من الزمن على ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي شهد قناعة عامة بأن العرب ليسوا استثناءً تاريخياً، أو ثقافياً، وسيتوجّهون بدورهم إلى دمقرطة دولهم ومجتمعاتهم؛ والثاني أنه لا يقتصر على مثقفين ناطقين بالعربية، وإنما بات اتجاهاً عالمياً، له ممثلوه الوازنون في اليسار واليمين الغربي. لقد صارت الديمقراطية، والتبشير بها، صيحة قديمة على ما يبدو.
كان التبشير بالديمقراطية، بل الديمقراطية المحاربة، جانباً أساسياً من الحرب الباردة، ووصل بعدها إلى ذروته أيام إدارة المحافظين الجدد، برئاسة جورج بوش الابن، واستمرّ أيام إدارة أوباما، ولكن ليس بواسطة الجيوش الغازية فحسب، بل عبر دعم عشرات المنظمات، خاصة «غير الحكومية»، وكذلك المنح الأكاديمية والفنيّة، التي نشرت أفكاراً ومصطلحاتٍ جديدة في المنطقة، من «الثورة اللاعنفيّة» وحتى «النسوية التقاطعية». وبعد كل ما شهدته المنطقة، من التخبّط الأمريكي في العراق وأفغانستان، إلى مآسي الحروب الأهلية العربية، في اليمن وسوريا وليبيا، بدأ صوت النقد اليساري لـ»المركزية الغربية»، الداعي لـ»نزع الاستعمار»، يرتفع بشدة، في أوساط المنظمات والأكاديميات المُمَوّلة غربياً نفسها؛ ثم تبنّاه اليمين الغربي بقوة. وربما كانت تصريحات توم باراك، مبعوث إدارة ترامب إلى تركيا، حول عدم النية بـ»تصدير الديمقراطية»، ونقد اتفاقية سايكس بيكو، أقوى مثال على هذه الانعطافة في خطاب اليمين، وتبنيه لعناصر كثيرة من مقولات اليسار، مع ملاحظة أن مثل هذه التصريحات تبدو في الأصل أنسب لعالم اليمين المحافظ والرجعي. كل هذا يجعل من «تفكيك الديمقراطية» أقرب لنوع من التبشير المضاد، فبعد أن بُشِّرنا لعقود بالديمقراطية، غيّر المُبشِّرون رأيهم، وصاروا يبشرون في أوساطنا بخصوصياتنا الثقافية، واختلافنا الجوهري، أو البنيوي، أو التاريخي، عن التجربة الغربية. وفي الحالتين، التحق كثير من المثقفين الناطقين بالعربية بالموجة، وصار الدارج بينهم «تفكيك الديمقراطية». يمكن القول إن المقولتين، التبشير بانتقال «القيم الغربية»، والتبشير ضدها، هما نزعتان كلاسيكيتان في الاستشراق، دارجتان منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الموضوع نفسه أكبر كثيراً من الاستشراق، ونقده.
يعيد كثير من المتداخلين في الشأن العام اليوم اكتشاف مقولات «السيادة»؛ ويضيفون إليها مقولة «احتكار الدولة للعنف» العائدة لماكس فيبر، أو «الاحتكار الشرعي للعنف المادي والرمزي» حسب تعبير بيير بورديو؛ ويستشهدون بمفكرين، مثل كارل شميت، وجورجيو أغامبين، وميشيل فوكو، لبيان أبعاد «الوهم»، الذي انخدع به كثير من «الليبراليين العرب» لسنوات طويلة، ما يجعل التبشير المضاد يتخذ طابعاً «مترجماً» عن أصل غربي، إن صح التعبير، كحال كثير من التيارات الأيديولوجية العربية؛ وإذا رغبوا في «التأصيل»، فقد يذكرون نظريات ابن خلدون عن العصبيّة والدولة (وتأصيل المقولات الغربية في كتابات ابن خلدون عادة أيديولوجية عربية قديمة كذلك). والنتيجة أن قوى الأمر الواقع، سواءً كانت دولاً أو أشباه دول أو ميليشيات، هي أفضل ما قد نصل إليه، ويجب التعامل معها بـ»واقعية» و»براغماتية».
علينا أن نفحص كثيراً ادعاءات الواقعية والبراغماتية، بل حتى «الماديّة» و»التاريخية» هذه، فهي توحي بكثير من التلفيق والاحتيال الأيديولوجي، أو على الأقل سوء فهم عميق للمصادر التي يتم الاقتباس منها. هل الدولة والسلطة فعلاً مجرّد سيادة لأجل السيادة؟ وهل الانتقال الديمقراطي في منطقتنا مجرّد وهم أيديولوجي غربي، آن أوان تجاوزه؟
الوظيفة والهيمنة
بالفعل، قد يكون تعريف نموذج الدولة الحديثة بأنه «احتكار كل الاحتكارات»، مناسباً ودقيقاً للغاية، فالدولة لا تحتكر فقط الأجهزة العنفيّة الماديّة، مثل الجيش والشرطة، بل أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج الشرعية، في كل مجالاتها، فكل ما لا يدوَّن في أجهزة الدولة من مجالات الحياة العامة، وكذلك الأحوال الشخصية، هو، باختصار، غير شرعي؛ وكل ما هو مقياس عام، من العملات والموازين والتوقيت، وحتى «الآداب العامة»، شأن «دولتي» في نهاية المطاف. والدولة هي المسؤولة عن تأسيس وتنظيم مجالات مثل الهوية الوطنية، التعليم العمومي، الشؤون الحيوية الأساسية للمواطنين، مثل الصحة ومستوى الحياة، وبالتالي فهي «المصرف الأساسي للرأسمال الرمزي»، حسب تعبير بورديو، وهي لذلك الجهة الأقدر على ممارسة العنف الرمزي، واحتكاره، ولكن هل هذا الاحتكار سببه شهوة سلطوية لا محدودة فقط؟
يصعب أن نجد مُنظّراً مهماً للسيادة، لم يركز معها على مسألتين متلازمتين: تأدية السلطة لوظائف اجتماعية أساسية؛ وتحقيق الهيمنة الأيديولوجية.
والوظائف الاجتماعية لا تعني فقط الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية والصحيّة، والخدمات التعليمية، وإنما الأسس البنيوية العميقة لاستمرار المجتمعات نفسها. وقد عمل مفكرون كثر على تحديد تلك الوظائف وتلخيصها، ولعل من أهم الإسهامات في هذا المجال النموذج الشهير لعالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز، الذي حدد فيه أربع وظائف: التكيّف (التأقلم مع البيئة المحيطة بمعناها الواسع، بما يشمل الإنتاج، العمل، توزيع الموارد)؛ تحقيق الأهداف (أي تحديد الأهداف الاجتماعية الأساسية، وترتيب أولوياتها، بما يشمل القيادة والتخطيط واتخاذ القرار)؛ الاندماج (تحقيق التماسك بين المجموعات والفئات المتعددة، ومكونات ومؤسسات النظام العام، بما يشمل القوانين والقيم والتقاليد)؛ تأصيل ونقل الأنماط (ويعني نقل القيم والأعراف الثقافية العامة إلى الأفراد والأجيال الجديدة، بما يشمل التعليم والإعلام والأسرة والدين)، وهكذا تشمل هذه الوظائف أنظمة الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق. هذا يعني أن استمرار أي دولة ونظام سياسي، وقبول المجتمعات باحتكاراته، متوقف بالضرورة على أداء تلك الوظائف، التي تشكّل نوعاً من عقد اجتماعي عميق، ستتحلّل العلاقة بين الحاكم والمحكوم دون تحقيق بنوده. الدولة ليست بالتأكيد مجرّد صاحب سيادة بقدرات سحرية، يسيطر على البشر دون قيد أو شرط، ولا يعنيه سوى تأمين احتكاراته، عبر مزيج من القوة والدهاء.
أمّا الهيمنة فهي جانب تأسيسي للسلطة، ولإنتاج المعنى والدلالة في المجتمعات، بما يحفظ تماسكها واستمرارها. فهي تؤمّن لها أنماطاً متعددة من السرد المؤسِّس؛ وتُنتج «حسّاً سليماً»، ينظّم جانباً كبيراً من منطقها وممارساتها وأساليب تعبيرها. وهي مرتبطة بالعنف المادي والرمزي بالتأكيد، ولكن الاقتصار على العنف، والعنف الضاري، لا يدلّ سوى على فشل الهيمنة. وهذا يعني أن الدولة «صانع حكايات»، ومعلّم أيديولوجي، ومنتج للقيم والرموز، وليس فقط عصبة متسلّطة، تتغلّب على غيرها، وتفرض نفسها فوقياً على المجتمعات. إنها منتجة بالضرورة للأجساد والذوات، ولا تكتفي بالقمع والبتر والسحق. كيف يمكن للدول أن تؤدي كل هذه الوظائف، وتحقق الهيمنة، في مجتمعات معقدة، فقدت غالبية بناها التقليدية، مع موجات التحديث المتلاحقة، أو أٌعيد إنتاجها عبر الربط بأجهزة الدولة ومؤسساتها؟ بالتأكيد ليس عبر التصورات المبتذلة عن السلطة والسيادة، الدارجة اليوم بين أنصار «التبشير المعاكس».
المشاركة والتمرّد
يمكن ملاحظة نوع من الفهم السطحي لمفهوم «ثقافة المجتمع» لدى أنصار التبشير المعاكس، من توم باراك وحتى المثقفين العرب المفككين لـ»وهم الديمقراطية»، وهو أن مجتمعات المنطقة ستنتج، بشكل بديهي، من ثقافتها أو دينها أو بناها الأهلية (والتعبير الأخير لا معنى واضحاً له)، أنظمة حكم مناسبة لها، لا تتبع بالضرورة النماذج الغربية، ولكنها، للعجب، تشاركها في نقطة واحدة، حديثة للغاية: الاحتكار والتدخليّة الكاملة في حياة مجمل السكان ضمن حدودها، أي ثقل نموذج الدولة الحديثة، دون أي من مزاياه، أو وظائفه، أو حقوقه. الأمر ليس بهذه البديهية والعفوية بالتأكيد، فتأسيس نظام سياسي، أياً كان نوعه، عملية أكثر «اصطناعاً» بكثير، ولا يكفي لتحقيقها تأييد ودعم دولة فاشلة، أو جماعة ميليشياوية حاكمة في هذا البلد أو ذاك.
إذا فشلت السلطات القمعية في تأدية الوظائف وتحقيق الهيمنة، فهذا لا يعني إلا مزيداً من الفوضى، والعجز عن تحقيق الاحتكارات السلطوية المطلوبة. ما سيؤدي إلى نشوء منافسين للسلطات، سيكون لهم عنفهم واحتكاراتهم الخاصة. وهذا هو نموذج إمارات الحرب، والإقطاعيات الميليشياوية، الذي يسود في كثير من دول المشرق، ولا يبدو معبّراً عن ثقافتها، أو أي ثقافة أخرى، بقدر ما هو مظهر همجي. الفشل متوقع وحاضر، ويعيد إنتاج نفسه، بسبب الإصرار على الغلبة، والأحادية، وممارسة العنف الضاري، وعدم الالتفات لأي وظيفة اجتماعية جديّة.
نجحت كثير من الأنظمة، التي توصف بـ»الديكتاتورية»، في تأدية الوظائف المذكورة أعلاه، وتحقيق هيمنة أيديولوجية متينة، إلا أن الفكرة النمطية عنها، التي تتلخص بحاكم فرد، أو دائرة ضيقة من المتنفذين، تفرض سلطتها على شعب مظلوم بأكمله، وتقصيه بشكل كامل عن المشاركة، وتقمعه بالحديد والنار، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، فمعظم الأنظمة السياسية المستقرة تؤمّن نوعاً من المشاركة والتمثيل لمحكوميها، سواء عبر مؤسسات مدسترة (كما في نموذج «الديمقراطية الشعبية» في دول المعسكر الشرقي السابق)؛ أو بنوع من المحاصصة الصامتة؛ أو عبر توازن مستقر نسبياً لمراكز القوى، التي تتمتع بصفة تمثيلية غير معلنة (لطائفة، عرق، طبقة اجتماعية، فئة نوعية، منطقة، الخ)، وهذا قد ينطبق على دول مثل الصين وفيتنام وغيرها. وفي كل الأحوال يؤمّن هذا النوع من الأنظمة، في سبيل تحقيق وظائفه الأساسية، دخول مجاميع واسعة من السكان إلى الشأن العام بشكل فاعل، وتحت غطاء متماسك من الهيمنة الأيديولوجية.
التجربة التاريخية علّمتنا أن نجاح الأنظمة، حتى لو كانت ديكتاتورية، في تأدية وظائفها، سينشئ فئات جديدة، أقلّ فقراً، وأفضل تعليماً، وأكثر وعياً، ستطالب غالباً في ما بعد بنصيب أكبر من المشاركة والتمثيل، وبمزيد من الحقوق والحريات. سبق للناقد الثقافي الأمريكي فريدرك جيمسون والمفكر الإيطالي أنطونيو نيغري تفسير سقوط الاتحاد السوفييتي جزئياً بهذا: نجاحه بالتحديث، ما أدى لخلق فئات شابة جديدة، تمرّدت على أحادية النظام الاشتراكي وانغلاقه، وأرادت الانفتاح على العالم. أمر مشابه إلى حد ما قد ينطبق على مصر في أواخر عهد مبارك، فالمتمردون الأوائل لم يكونوا من الجياع، بل فئات تطوّرت في ظل «الانفتاح»، وارتفاع دخل طبقات معيّنة، والحريات النسبية التي عرفها ذلك العهد.
المطالبة بالمشاركة والتمثيل، والاعتراف بالتعددية، قد تكون النتيجة المتوقعة لأي نظام ناجح، ولذلك فإن الديمقراطية، أي مزيداً من سيادة العامة (من ليسوا أصحاب امتياز متأصّل) الذين برزوا على الساحة، بفئاتهم المتعددة، مطلب ناتج عن بنية الدولة الحديثة نفسها، بسلطتها وهيمنتها ووظائفها وتناقضاتها، والتبشير ضد هذا قد لا يكون إلا خطاباً لفئات وأفراد، يراهنون على سلطات قمعية، لدوافع متعددة.
أما القول إن «الظروف لم تنضج بعد» للمطالبة بأي شكل من المشاركة والتمثيل والاعتراف بالتعددية، وعلينا في البداية احتمال سنوات من الحكم الأحادي، الذي ينزع إلى الاستفراد والإقصاء الكامل، وغير المهتم ببناء أي نوع من الائتلافات الاجتماعية، فهو غالباً نوع من الاحتيال الأيديولوجي، خاصة إذا تذكرنا أن معظم القائلين به من أنصار الميليشيات والدول الفاشلة، العاجزة، بشبكاتها الرثّة، عن تأدية أي وظيفة فعليّة، أو تحقيق أي شكل للهيمنة. قد تكون المطالبة بالديمقراطية، بأشكالها العديدة، ضرورة لاستمرار الحياة، وحماية المجتمعات من الاعتداء الهمجي لقوى الأمر الواقع، وليس ترفاً ناتجاً عن تبشير غربي أو غير غربي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟
إيطاليا تلغراف محمد سامي الكيال كاتب سوري ينتشر حالياً في الثقافة السياسية الناطقة بالعربية نمط جديد من «الواقعية»، المتعلّقة هذه المرة بما يمكن تسميته «تفكيك الديمقراطية». والفكرة الأساسية فيه أن الديمقراطية ليست نظاماً كاملاً ونهائياً، أو نتيجة طبيعية وحتمية للتطوّر التاريخي، بل هو مجرد شكل بين أشكال متعددة من أنظمة الحكم، ظهر، ضمن ظروف اجتماعية وتاريخية خاصة، في الدول الغربية، وهو اليوم يمر بأزمة عميقة حتى في تلك الدول، كما أن محاولات تصديره إلى دول منطقتنا باءت بفشل ذريع، وأدت لكثير من الكوارث والفوضى. فضلاً عن هذا فإن جوهر الدولة الحديثة هو السيادة، وليس الحقوق والحريات، أو العقد الاجتماعي، أو تداول السلطة. يصعب إيجاد خطأ فادح في هذا الطرح، وإن كان يتسم بعدم دقّة واضحة، واللافت فيه جانبان أساسيان: الأول أنه يجيء بعد أكثر من عقد من الزمن على ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي شهد قناعة عامة بأن العرب ليسوا استثناءً تاريخياً، أو ثقافياً، وسيتوجّهون بدورهم إلى دمقرطة دولهم ومجتمعاتهم؛ والثاني أنه لا يقتصر على مثقفين ناطقين بالعربية، وإنما بات اتجاهاً عالمياً، له ممثلوه الوازنون في اليسار واليمين الغربي. لقد صارت الديمقراطية، والتبشير بها، صيحة قديمة على ما يبدو. كان التبشير بالديمقراطية، بل الديمقراطية المحاربة، جانباً أساسياً من الحرب الباردة، ووصل بعدها إلى ذروته أيام إدارة المحافظين الجدد، برئاسة جورج بوش الابن، واستمرّ أيام إدارة أوباما، ولكن ليس بواسطة الجيوش الغازية فحسب، بل عبر دعم عشرات المنظمات، خاصة «غير الحكومية»، وكذلك المنح الأكاديمية والفنيّة، التي نشرت أفكاراً ومصطلحاتٍ جديدة في المنطقة، من «الثورة اللاعنفيّة» وحتى «النسوية التقاطعية». وبعد كل ما شهدته المنطقة، من التخبّط الأمريكي في العراق وأفغانستان، إلى مآسي الحروب الأهلية العربية، في اليمن وسوريا وليبيا، بدأ صوت النقد اليساري لـ»المركزية الغربية»، الداعي لـ»نزع الاستعمار»، يرتفع بشدة، في أوساط المنظمات والأكاديميات المُمَوّلة غربياً نفسها؛ ثم تبنّاه اليمين الغربي بقوة. وربما كانت تصريحات توم باراك، مبعوث إدارة ترامب إلى تركيا، حول عدم النية بـ»تصدير الديمقراطية»، ونقد اتفاقية سايكس بيكو، أقوى مثال على هذه الانعطافة في خطاب اليمين، وتبنيه لعناصر كثيرة من مقولات اليسار، مع ملاحظة أن مثل هذه التصريحات تبدو في الأصل أنسب لعالم اليمين المحافظ والرجعي. كل هذا يجعل من «تفكيك الديمقراطية» أقرب لنوع من التبشير المضاد، فبعد أن بُشِّرنا لعقود بالديمقراطية، غيّر المُبشِّرون رأيهم، وصاروا يبشرون في أوساطنا بخصوصياتنا الثقافية، واختلافنا الجوهري، أو البنيوي، أو التاريخي، عن التجربة الغربية. وفي الحالتين، التحق كثير من المثقفين الناطقين بالعربية بالموجة، وصار الدارج بينهم «تفكيك الديمقراطية». يمكن القول إن المقولتين، التبشير بانتقال «القيم الغربية»، والتبشير ضدها، هما نزعتان كلاسيكيتان في الاستشراق، دارجتان منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الموضوع نفسه أكبر كثيراً من الاستشراق، ونقده. يعيد كثير من المتداخلين في الشأن العام اليوم اكتشاف مقولات «السيادة»؛ ويضيفون إليها مقولة «احتكار الدولة للعنف» العائدة لماكس فيبر، أو «الاحتكار الشرعي للعنف المادي والرمزي» حسب تعبير بيير بورديو؛ ويستشهدون بمفكرين، مثل كارل شميت، وجورجيو أغامبين، وميشيل فوكو، لبيان أبعاد «الوهم»، الذي انخدع به كثير من «الليبراليين العرب» لسنوات طويلة، ما يجعل التبشير المضاد يتخذ طابعاً «مترجماً» عن أصل غربي، إن صح التعبير، كحال كثير من التيارات الأيديولوجية العربية؛ وإذا رغبوا في «التأصيل»، فقد يذكرون نظريات ابن خلدون عن العصبيّة والدولة (وتأصيل المقولات الغربية في كتابات ابن خلدون عادة أيديولوجية عربية قديمة كذلك). والنتيجة أن قوى الأمر الواقع، سواءً كانت دولاً أو أشباه دول أو ميليشيات، هي أفضل ما قد نصل إليه، ويجب التعامل معها بـ»واقعية» و»براغماتية». علينا أن نفحص كثيراً ادعاءات الواقعية والبراغماتية، بل حتى «الماديّة» و»التاريخية» هذه، فهي توحي بكثير من التلفيق والاحتيال الأيديولوجي، أو على الأقل سوء فهم عميق للمصادر التي يتم الاقتباس منها. هل الدولة والسلطة فعلاً مجرّد سيادة لأجل السيادة؟ وهل الانتقال الديمقراطي في منطقتنا مجرّد وهم أيديولوجي غربي، آن أوان تجاوزه؟ الوظيفة والهيمنة بالفعل، قد يكون تعريف نموذج الدولة الحديثة بأنه «احتكار كل الاحتكارات»، مناسباً ودقيقاً للغاية، فالدولة لا تحتكر فقط الأجهزة العنفيّة الماديّة، مثل الجيش والشرطة، بل أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج الشرعية، في كل مجالاتها، فكل ما لا يدوَّن في أجهزة الدولة من مجالات الحياة العامة، وكذلك الأحوال الشخصية، هو، باختصار، غير شرعي؛ وكل ما هو مقياس عام، من العملات والموازين والتوقيت، وحتى «الآداب العامة»، شأن «دولتي» في نهاية المطاف. والدولة هي المسؤولة عن تأسيس وتنظيم مجالات مثل الهوية الوطنية، التعليم العمومي، الشؤون الحيوية الأساسية للمواطنين، مثل الصحة ومستوى الحياة، وبالتالي فهي «المصرف الأساسي للرأسمال الرمزي»، حسب تعبير بورديو، وهي لذلك الجهة الأقدر على ممارسة العنف الرمزي، واحتكاره، ولكن هل هذا الاحتكار سببه شهوة سلطوية لا محدودة فقط؟ يصعب أن نجد مُنظّراً مهماً للسيادة، لم يركز معها على مسألتين متلازمتين: تأدية السلطة لوظائف اجتماعية أساسية؛ وتحقيق الهيمنة الأيديولوجية. والوظائف الاجتماعية لا تعني فقط الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية والصحيّة، والخدمات التعليمية، وإنما الأسس البنيوية العميقة لاستمرار المجتمعات نفسها. وقد عمل مفكرون كثر على تحديد تلك الوظائف وتلخيصها، ولعل من أهم الإسهامات في هذا المجال النموذج الشهير لعالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز، الذي حدد فيه أربع وظائف: التكيّف (التأقلم مع البيئة المحيطة بمعناها الواسع، بما يشمل الإنتاج، العمل، توزيع الموارد)؛ تحقيق الأهداف (أي تحديد الأهداف الاجتماعية الأساسية، وترتيب أولوياتها، بما يشمل القيادة والتخطيط واتخاذ القرار)؛ الاندماج (تحقيق التماسك بين المجموعات والفئات المتعددة، ومكونات ومؤسسات النظام العام، بما يشمل القوانين والقيم والتقاليد)؛ تأصيل ونقل الأنماط (ويعني نقل القيم والأعراف الثقافية العامة إلى الأفراد والأجيال الجديدة، بما يشمل التعليم والإعلام والأسرة والدين)، وهكذا تشمل هذه الوظائف أنظمة الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق. هذا يعني أن استمرار أي دولة ونظام سياسي، وقبول المجتمعات باحتكاراته، متوقف بالضرورة على أداء تلك الوظائف، التي تشكّل نوعاً من عقد اجتماعي عميق، ستتحلّل العلاقة بين الحاكم والمحكوم دون تحقيق بنوده. الدولة ليست بالتأكيد مجرّد صاحب سيادة بقدرات سحرية، يسيطر على البشر دون قيد أو شرط، ولا يعنيه سوى تأمين احتكاراته، عبر مزيج من القوة والدهاء. أمّا الهيمنة فهي جانب تأسيسي للسلطة، ولإنتاج المعنى والدلالة في المجتمعات، بما يحفظ تماسكها واستمرارها. فهي تؤمّن لها أنماطاً متعددة من السرد المؤسِّس؛ وتُنتج «حسّاً سليماً»، ينظّم جانباً كبيراً من منطقها وممارساتها وأساليب تعبيرها. وهي مرتبطة بالعنف المادي والرمزي بالتأكيد، ولكن الاقتصار على العنف، والعنف الضاري، لا يدلّ سوى على فشل الهيمنة. وهذا يعني أن الدولة «صانع حكايات»، ومعلّم أيديولوجي، ومنتج للقيم والرموز، وليس فقط عصبة متسلّطة، تتغلّب على غيرها، وتفرض نفسها فوقياً على المجتمعات. إنها منتجة بالضرورة للأجساد والذوات، ولا تكتفي بالقمع والبتر والسحق. كيف يمكن للدول أن تؤدي كل هذه الوظائف، وتحقق الهيمنة، في مجتمعات معقدة، فقدت غالبية بناها التقليدية، مع موجات التحديث المتلاحقة، أو أٌعيد إنتاجها عبر الربط بأجهزة الدولة ومؤسساتها؟ بالتأكيد ليس عبر التصورات المبتذلة عن السلطة والسيادة، الدارجة اليوم بين أنصار «التبشير المعاكس». المشاركة والتمرّد يمكن ملاحظة نوع من الفهم السطحي لمفهوم «ثقافة المجتمع» لدى أنصار التبشير المعاكس، من توم باراك وحتى المثقفين العرب المفككين لـ»وهم الديمقراطية»، وهو أن مجتمعات المنطقة ستنتج، بشكل بديهي، من ثقافتها أو دينها أو بناها الأهلية (والتعبير الأخير لا معنى واضحاً له)، أنظمة حكم مناسبة لها، لا تتبع بالضرورة النماذج الغربية، ولكنها، للعجب، تشاركها في نقطة واحدة، حديثة للغاية: الاحتكار والتدخليّة الكاملة في حياة مجمل السكان ضمن حدودها، أي ثقل نموذج الدولة الحديثة، دون أي من مزاياه، أو وظائفه، أو حقوقه. الأمر ليس بهذه البديهية والعفوية بالتأكيد، فتأسيس نظام سياسي، أياً كان نوعه، عملية أكثر «اصطناعاً» بكثير، ولا يكفي لتحقيقها تأييد ودعم دولة فاشلة، أو جماعة ميليشياوية حاكمة في هذا البلد أو ذاك. إذا فشلت السلطات القمعية في تأدية الوظائف وتحقيق الهيمنة، فهذا لا يعني إلا مزيداً من الفوضى، والعجز عن تحقيق الاحتكارات السلطوية المطلوبة. ما سيؤدي إلى نشوء منافسين للسلطات، سيكون لهم عنفهم واحتكاراتهم الخاصة. وهذا هو نموذج إمارات الحرب، والإقطاعيات الميليشياوية، الذي يسود في كثير من دول المشرق، ولا يبدو معبّراً عن ثقافتها، أو أي ثقافة أخرى، بقدر ما هو مظهر همجي. الفشل متوقع وحاضر، ويعيد إنتاج نفسه، بسبب الإصرار على الغلبة، والأحادية، وممارسة العنف الضاري، وعدم الالتفات لأي وظيفة اجتماعية جديّة. نجحت كثير من الأنظمة، التي توصف بـ»الديكتاتورية»، في تأدية الوظائف المذكورة أعلاه، وتحقيق هيمنة أيديولوجية متينة، إلا أن الفكرة النمطية عنها، التي تتلخص بحاكم فرد، أو دائرة ضيقة من المتنفذين، تفرض سلطتها على شعب مظلوم بأكمله، وتقصيه بشكل كامل عن المشاركة، وتقمعه بالحديد والنار، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، فمعظم الأنظمة السياسية المستقرة تؤمّن نوعاً من المشاركة والتمثيل لمحكوميها، سواء عبر مؤسسات مدسترة (كما في نموذج «الديمقراطية الشعبية» في دول المعسكر الشرقي السابق)؛ أو بنوع من المحاصصة الصامتة؛ أو عبر توازن مستقر نسبياً لمراكز القوى، التي تتمتع بصفة تمثيلية غير معلنة (لطائفة، عرق، طبقة اجتماعية، فئة نوعية، منطقة، الخ)، وهذا قد ينطبق على دول مثل الصين وفيتنام وغيرها. وفي كل الأحوال يؤمّن هذا النوع من الأنظمة، في سبيل تحقيق وظائفه الأساسية، دخول مجاميع واسعة من السكان إلى الشأن العام بشكل فاعل، وتحت غطاء متماسك من الهيمنة الأيديولوجية. التجربة التاريخية علّمتنا أن نجاح الأنظمة، حتى لو كانت ديكتاتورية، في تأدية وظائفها، سينشئ فئات جديدة، أقلّ فقراً، وأفضل تعليماً، وأكثر وعياً، ستطالب غالباً في ما بعد بنصيب أكبر من المشاركة والتمثيل، وبمزيد من الحقوق والحريات. سبق للناقد الثقافي الأمريكي فريدرك جيمسون والمفكر الإيطالي أنطونيو نيغري تفسير سقوط الاتحاد السوفييتي جزئياً بهذا: نجاحه بالتحديث، ما أدى لخلق فئات شابة جديدة، تمرّدت على أحادية النظام الاشتراكي وانغلاقه، وأرادت الانفتاح على العالم. أمر مشابه إلى حد ما قد ينطبق على مصر في أواخر عهد مبارك، فالمتمردون الأوائل لم يكونوا من الجياع، بل فئات تطوّرت في ظل «الانفتاح»، وارتفاع دخل طبقات معيّنة، والحريات النسبية التي عرفها ذلك العهد. المطالبة بالمشاركة والتمثيل، والاعتراف بالتعددية، قد تكون النتيجة المتوقعة لأي نظام ناجح، ولذلك فإن الديمقراطية، أي مزيداً من سيادة العامة (من ليسوا أصحاب امتياز متأصّل) الذين برزوا على الساحة، بفئاتهم المتعددة، مطلب ناتج عن بنية الدولة الحديثة نفسها، بسلطتها وهيمنتها ووظائفها وتناقضاتها، والتبشير ضد هذا قد لا يكون إلا خطاباً لفئات وأفراد، يراهنون على سلطات قمعية، لدوافع متعددة. أما القول إن «الظروف لم تنضج بعد» للمطالبة بأي شكل من المشاركة والتمثيل والاعتراف بالتعددية، وعلينا في البداية احتمال سنوات من الحكم الأحادي، الذي ينزع إلى الاستفراد والإقصاء الكامل، وغير المهتم ببناء أي نوع من الائتلافات الاجتماعية، فهو غالباً نوع من الاحتيال الأيديولوجي، خاصة إذا تذكرنا أن معظم القائلين به من أنصار الميليشيات والدول الفاشلة، العاجزة، بشبكاتها الرثّة، عن تأدية أي وظيفة فعليّة، أو تحقيق أي شكل للهيمنة. قد تكون المطالبة بالديمقراطية، بأشكالها العديدة، ضرورة لاستمرار الحياة، وحماية المجتمعات من الاعتداء الهمجي لقوى الأمر الواقع، وليس ترفاً ناتجاً عن تبشير غربي أو غير غربي.


إيطاليا تلغراف
منذ 4 أيام
- إيطاليا تلغراف
فزع أميركا من انهيار وشيك
إيطاليا تلغراف كمال أوزتورك كاتب وصحفي تركي كان 'النظام العالمي الجديد' مصطلحًا صاغه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عام 1990، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحدث عنه حينها بثقة وفخر كبيرين. لم يعد العالم ثنائي القطب كما كان إبّان الحرب الباردة، بل أصبح، وفقًا لتصور الولايات المتحدة، أحادي القطب بقيادتها، وكان من المفترض أن يصبح العالم أجمل وأكثر استقرارًا وسلامًا. غير أن الأمور لم تسر على هذا النحو. وكالعادة، دفعت الدول النامية ثمن التناقضات الكبرى والخيال المفرط في خطط أميركا المرتجلة والبعيدة عن الواقع. فقد احتل بوش الأب العراق تحت شعار 'النظام العالمي الجديد'، فكانت النتيجة مقتل مليون إنسان وتشريد الملايين، بينما ادّعت واشنطن أنها جاءت لتجلب الديمقراطية والازدهار إلى المنطقة. لكنها لم تجلب سوى التمزق الوطني، وانتعاش الإرهاب، وانتشار البؤس، والفقر. ولم تقتصر تداعيات هذا التدخل الأميركي على العراق فحسب، بل وصلت إلى جورجيا، والشيشان، وأوكرانيا، أي إلى عمق المجال الحيوي لروسيا، حيث اندلعت حروب واضطرابات جديدة. فبدلًا من أن نخرج من ثنائية الأقطاب، أصبحنا نعيش ألمها من الجانبين معًا. نظام يحوّل الحلفاء إلى أعداء ربما كان الجانب الأكثر غرابة وإثارة للعبرة في 'النظام العالمي الجديد' هو أن الولايات المتحدة تحوّلت لاحقًا إلى عدو للدول التي كانت حليفة لها يومًا ما. فقد دعمت أفغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، ثم عادت فاحتلتها. وساندت العراق في حربه ضد إيران، ثم اجتاحته. ولم تجلب تدخلاتها في كوسوفو، والبوسنة، وأوكرانيا، وليبيا، والصومال، أي استقرار أو سلام لهذه البلدان. استعمل جورج بوش الابن، ومن بعده الرئيسان أوباما وبايدن، المصطلح ذاته وتحدثوا كثيرًا عن السلام والرخاء، لكن حصيلة تدخلاتهم كانت المزيد من الدموع والمعاناة. أما دونالد ترامب، فقد أتى بسياسات صادمة وغير منطقية، مدّعيًا أنه سيجعل العالم مكانًا أفضل. لكنه لم يلبث عامًا في سدة الحكم حتى بدأت نتائج تصريحاته تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فمنذ حملته الانتخابية التي وعد فيها بإنهاء الحروب، شهد العالم اندلاع صراعات جديدة. دخل بنفسه على خط الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وتصاعدت حدة الحرب الروسية الأوكرانية، وتوسعت النزاعات في الشرق الأوسط. وفي غضون عام واحد فقط، قُصفت خمس دول في المنطقة بأسلحة وطائرات وصواريخ أميركية. وبدأت إسرائيل – كما صرّحت المستشارة الألمانية سابقًا – تؤدي المهام الأمنية والعسكرية التي تتجنّب الدول الغربية القيام بها بشكل مباشر، وذلك تحت غطاء الحماية الأميركية. لماذا ينهار النظام العالمي الجديد؟ في واقع الأمر، إن كل هذه العروض الاستعراضية للقوة، وهذه التطورات 'الخيالية' كما يسميها ترامب، ليست سوى انعكاس لفزع مفرط من انهيار وشيك. إن 'النظام العالمي الجديد' الذي حملت الولايات المتحدة شعاره، في طور الانهيار، وربما لا نلاحظ ذلك جيدًا؛ لأننا نعيش في قلبه. والسبب في هذه الفوضى أن النظام العالمي الذي سعت أميركا إلى ترسيخه لم يتمكن من فرض نفسه فعليًا، أو أنه لم يُرضِ سوى الولايات المتحدة نفسها. فمنذ أن دخل بوش الأب الشرق الأوسط دخول الفيل- وهو شعار الحزب الجمهوري- لم يعرف الإقليم أي طمأنينة، بل زادت الأمور سوءًا. تفتّت العراق إلى ثلاثة أجزاء، وظهرت من أراضيه المضطربة تنظيمات مثل القاعدة، وتنظيم الدولة، وحزب العمال الكردستاني (PKK)، مما جعل المنطقة غير قابلة للحياة. فجاء الرؤساء اللاحقون ليحتجّوا بهذه التنظيمات ويدخلوا المنطقة من جديد، وكانت النتيجة أن تحولت سوريا، ولبنان، واليمن إلى ساحات خراب لا تطاق. ولم تقف الكارثة عند هذا الحد، بل ارتكبت الولايات المتحدة خطأً تاريخيًا حين استبعدت فلسطين من 'اتفاقات أبراهام'- التي أُطلقت بذريعة تعزيز السلام وتقوية حلفاء إسرائيل- وها نحن اليوم نعيش نتائج ذلك انحرافًا هائلًا ومجزرة مستمرة. ولو سألت ترامب، لأجابك بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام بسبب 'إنجازاته الخيالية'! لكن الواقع أن العالم أصبح أكثر سوءًا، وأكثر فوضى، وأكثر انعدامًا للأمن. لماذا؟ لأن: الرأسمالية الأميركية جشعة ولا تعرف الشبع. الإدارة الأميركية مفرطة في الثقة بالنفس، إلى حد التسمم بالقوة. النخبة الفكرية الأميركية لم تعد تنتج قيمًا إنسانية أو أخلاقية. حين تُهان أوروبا على يد أميركا وليس الشرق الأوسط وحده من يدفع الثمن، فأوروبا أيضًا تواجه المصير ذاته بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. ولا تكمن المشكلة في 'التهديد الروسي' فحسب، بل في رؤية ترامب وفريقه للعالم، حيث يرون أن 'أوروبا العجوز' لم يعد لها مكان في المعادلة، ويجب أن تتقاعد وتخرج من المشهد. وقد تجلى ذلك في تصريحات مهينة لنائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس خلال مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/ شباط 2025، وهو ما فجّر أزمة خفية لم تهدأ بعد بين واشنطن والاتحاد الأوروبي. بل إن التهديد بالانسحاب من الناتو، وفرض الرسوم الجمركية، لم يكن ذلك سوى امتداد لهذا الاستعلاء الأميركي على أوروبا. وبدلًا من أن تحاول أوروبا النهوض، آثرت أن تُذل نفسها أكثر، من خلال دعمها المطلق حروب إسرائيل الوحشية، وتملّقها ترامب في قمة الناتو الأخيرة، ما جعلها تستحق هذا الاحتقار في نظر الأميركيين أنفسهم. أميركا لم تعد تدري ما تفعل لقد تحولت الولايات المتحدة إلى دولة تفقد السيطرة على كل شيء تلمسه، فتعيث فيه فوضى ودمارًا. إنها في الحقيقة لا تعرف ما تفعل. فكلما أدركت أنها تخسر نفوذها، أصابها الهلع وراحت تضغط على كل الأزرار دفعة واحدة، على أمل أن تنقذ نفسها، لكنها لا تزداد إلا غرقًا. وبينما تتراجع أمام الصين يومًا بعد يوم، تلجأ إلى آخر ما تثق به: 'سلاح راعي البقر'. فترسل قنابلها المدمّرة، وصواريخها، وحاملات طائراتها إلى أصقاع الأرض، معتقدة أنها بهذا الترهيب ستعود إلى 'أيامها السعيدة'. لكنها لا تجني سوى إنهاك اقتصادها، وخسارة حلفائها، وتعميق الكراهية العالمية تجاهها. ثم تعود لتسأل الشعوب: 'لماذا تكرهوننا؟'، وتسيء معاملتهم أكثر. وباختصار، كلما سعت أميركا لفرض نظام عالمي، زاد اختلال التوازن، وانهار الاستقرار. إن النظام العالمي الذي تقوده أميركا ينهار، وهذه القنابل التي نسمع دويها، والفوضى التي نراها، والاضطراب الذي نعيشه، ليست سوى مظاهر لهذا الانهيار. عقدة غورديون لا تُحل إلا بالسيف من الطبيعي ألّا نستوعب تمامًا ما يحدث، لأننا لا نزال في قلب هذا الانهيار. لا نعلم إلى أين تسير الأمور، ولا كيف ستكون النتائج، لكن الأمر شبه المؤكد أن البشرية لن تنجو من الحروب، والفوضى، والمعاناة. فالولايات المتحدة عاجزة عن إقامة نظام عالمي حقيقي، وهي لا تدرك أنها لم تجلب للعالم سوى الحروب، والاستغلال، والدمار. ومع أن هناك مفكرين وأكاديميين أميركيين يلاحظون هذا الانحدار، ويرون أن 'الحلم الأميركي' يشارف على نهايته، فإن إدارة ترامب، التي تنظر بريبة إلى المؤسسات الفكرية والأكاديمية، عمدت إلى قطع التمويل عن الجامعات واحدة تلو الأخرى. ولذا لم تعد المؤسسات البحثية الكبرى والجامعات الأميركية قادرة على إنتاج حلول للأزمة العميقة التي تعصف بأميركا. وحتى لو أنتجت هذه الحلول، فلن تجد من يصغي إليها في أجهزة الدولة. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن أميركا قد نسجت علاقات شديدة التعقيد مع دول العالم، ومع النظام المالي العالمي، لدرجة أن هذه التشابكات تحولت إلى ما يشبه 'عقدة غورديون' (عقدة تاريخية في الأساطير الإغريقية عُرفت باستحالة حلّها)، ولا يبدو أنها ستُحل إلا إذا جاء إسكندر جديد وقطعها بسيفه. وباختصار، لقد بدأ النظام العالمي الجديد بالتشقق بعد مرور 35 عامًا على ولادته. لا أعرف متى سينهار بالكامل، ولا ما الذي سيأتي بعده، لكنني واثق بأن المسألة باتت مسألة وقت ليس إلا. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

جزايرس
١٨-٠٦-٢٠٢٥
- جزايرس
التلاحم بين الشعب الفلسطيني و المقاومة الباسلة لا تكسره المؤامرات
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص. مراصدإعداد: جمال بوزيانما يزال طوفان الأقصى كاشفا..التلاحم بين الشعب الفلسطيني و المقاومة الباسلة لا تكسره المؤامرات تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي مختلف المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ./////بلا مواربةأ.د.هاشم غرايبةعلى مستوى أمتنا وبعد مرور عشرين شهرا على معركة طوفان الأقصى المجيدة باتت الأمور مكشوفة فمن كان قلبه عليها وغاية مراده انتصارها واستعادتها مجدها الغابر ارتفعت روحه المعنوية لشحنة الأمل الهائلة التي زودته بها حركة المقاومة الإسلامية لتثبت أن الإيمان الصادق يصنع المعجزات فيعوض التباين الهائل في القدرات العسكرية والتقنية.أما من كان في قلوبهم مرض فقد تلقوا ضربة قاسية فسكتوا بداية فلم يجرؤوا على إظهار مشاعرهم الحقيقية بل تظاهروا بتأييد المقاومين مع محاولة إنكار البعد الإسلامي الذي صنع هذه البسالة مؤملين أنفسهم أن يتم القضاء عليهم سريعا لكنهم مع مرور الأيام ومع فشل العدوان على شراسته بدت خيبة أملهم فلم يتمكنوا من كتمان ما تكنه صدورهم من حقد على متبعي منهج الله فبدت ألسنتهم تكشف ما في نفوسهم من البغضاء.هذه الفئة التي كانت تمثل معسكر المنافقين التاريخي كانت متخفية وراء شعارات زاهية فظل تمييزها عن المخلصين الحقيقيين للأمة صعبا على الكثيرين كونها تدعي أنها وباتخاذها منهجا بديلا لمنهج الله فإنها بذلك تسعى لمصلحة الأمة وتهدف لتحقيق تقدمها بمنهج حداثي أكثر نفعا وجدوى.لكنها بعد هذه المعركة الفاصلة بات من السهل تحديدها بل أصبح تمييز مكونات هذا المعسكر واضحا بيّنا.الفئة الأولى الأهم هي أنظمة سايكس-بيكو الحاكمة ورهطها وأدواتها الترويجية من مشايخ طاعة ولي الأمر وهؤلاء هم الأسطع وضوحا منذ تأسيسها قبل قرن إذ أنها ملتزمة على الدوام بإملاءات من أوجدها المستدمر الغربي والتي مهما حاولت الادعاء بأن قراراتها استجابة للمصلحة الوطنية والقومية فإنها كانت تفشل في اقناع المواطنين بأنها نابعة من قناعاتها وليست مفروضة عليها من أولى أمرها.لقد كان لعملية طوفان الأقصى وقوعا مزلزلا على هذه الفئة وربما لا تقل هولا عن الصدمة التي تلقاها المعسكر الصهيو- صليبي فقد أسقطت كل مقولاتهم عن عدم قدرة الأمة على مواجهة العدو وأنه لا مناص أمامها غير الإذعان لشروطه وتقبل هيمنته ب التطبيع كما دحضت كل حججهم للبطش بالإسلاميين بادعاء أنهم يتاجرون بالدين.أما الفئة الأخرى من المنافقين فهم خليط متنوع من المسيسين الذين يتبعون منهجا فكريا منافسا للمعارضين الإسلاميين وكانت حجتهم أن الإسلاميين عملاء ل الغرب فكانت عملية طوفان الأقصى ورد الغرب العنيف عليها قاصمة لادعائهم ذاك وكاشفة للسبب الحقيقي لعدائهم لهم وهو أنهم لافتقارهم للشعبية في مجتمع يعادون منهجه الإسلامي فهم يعتقدون أن فرصهم ستتعزز بالقضاء على جماعة الإخوان المسلمين أو بقمعهم على الأقل لذلك فهم يفرحون بكل ما يصب في ذلك الاتجاه ويكرهون أن ينسب فضل الى أي فئة تنتهج الإسلام.يضاف لهؤلاء المسيسين فئة غير مسيسة من الذين يستطيبون القعود ولا يحبون بذل الجهد ولا الجهاد لذلك يكرهون أن يقوم نظام سياسي يتبع منهج الله ويطبق الإسلام.ومعهم فئة أخرى من المواطنين غير المسلمين فهؤلاء لا يريدون أن تقوم للإسلام دولة حسدا من عند أنفسهم أو تخوفا منهم أنها ستغمطهم حقوقهم.لوجاهة ما سبق ذكره يلزم الوعي لأساليبهم الخبيثة التي تصب بلا شك في القضاء على الروح الجهادية التي أحيتها عملية طوفان الأقصى وإشاعة الانهزامية في الأمة وتقبلها التطبيع مع العدو وبث الإحباط في نفوس المقاومين وقاعدتهم الشعبية الحاضنة في القطاع لكسر شوكتهم والقضاء على فكرة المقاومة.في هذه الحالة يحسن بنا الاستنارة بالتجربة الأفغانية. كثيرون منا انساقوا وراء الإعلام الغربي المضلل وأذنابه بيننا فتكونت لديهم فكرة مزورة وهي أن حركة طالبان الأفغانية تتكون من أفراد متشددين جاهلين رافضين للعلم والتحضر ويمنعون تعلم الفتيات.والحقيقة عكس ذلك تماما فالحركة الأفغانية أُسِّستْ أصلا بين طلاب الجامعات وليس بين الأميين كما يزعم معادو الاسلام لذلك فقياداتهم يحملون الشهادات العلمية وليست تخصصاتهم مقتصرة على العلوم الدينية بل على العلوم التقنية والتطبيقية أيضا.بعد احتلال بلادهم حاول الغرب تحويلها الى العلمانية على يد عملائهم من الأنظمة العميلة ففشلوا بسبب صمود المقاومة الإسلامية طالبان وبعد زمن يئس المستدمر وانسحب فزال الزبد وهرب أذنابه المحليون في ساعة واحدة وتسلم المقاومون السلطة بلا قتال وبدؤوا في العمل لنهضة بلادهم.الخلاصة أنه لا يحيي العزائم غير الإيمان ولا يتحقق الصمود إلا بالتلاحم بين القاعدة الشعبية والمقاومة./////فقه التعامل مع قانون الأسباب والمسببات أ.د.غازي عنايةإنّ التعامل مع قانون الأسباب والمسبّبات ينسجمُ مع مِعياريْ الحياتين الدُّنيا والآخرة. وتُحشرُ النفس البشريَّةَ في زاوية حادة مُصطلحها: إنَّ التمايزَ بين الأفرادِ حصريًا يكمنُ في توحيد العبودية لله وليسَ بالمالِ أو الدنيا فقط. فالسعادةُ الدُّنيويةُ لا تكمنُ في ملك المال فقط فقد أعطاهُ الله للمؤمن والكافر مثل: سليمان وذو القرنين من المسلمين. والنمرود وقارون من الكافرين. فصاحبُ المال يستطيعُ أن يشتري جامعةً ولكنَّهُ لا يستطيع أن يشتريَ أستاذًا. وقد يشتري مستشفىً ولكنَّهُ لا يستطيع أن يشتري صحةً. وقد يشتري صاحبُ المال فنًا ولكنه لا يستطيع أن يشتري حُبًا. وقد يستطيع أن يشتري كُتبًا عديدة ولكنه لا يستطيع أن يشتري ثقافةً. وقد يستمتع بضوء القمر ولكنَّهُ لا يستطيع أن يقتنيَهُ. وقد يشتري ماءً ولكنّه لا يستطيع أن يشتري سحابًا. فالمال دينامو الحياة الدُّنيا ويتحكمُ في حركة الحياة ولكنَّهُ ليس هو الحياةُ بحدِّ ذاتها. فالحركةُ ولود باستعمالِ المال والسكينةُ عاقِر بعدم استعمالهِ. وبعبارة أخرى: فالعبرةُ تكمنُ في الأفعال وليس في القول أو الانفعالات كما يدّعي بعض أولاد الذوات. قال تعالى: ((يَٰٓأَيُّهَا 0لَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ 0للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ (3) )). سورة الصف الآيتان 2 – 3. ومن الحكمة القول: إن جزالة وبلاغة اللغة العربية قد تجعلُ الأشياءَ تنطق أحياناً وهي صَوامِتْ وما كلُّ ما صمتَ يَنْطِقْ. وما كلُّ صمت في هذه الحياةِ مذموم. فَصمتُكَ وقت فوزك ثقة. وصمتُك وقت غضبك قوة. وصمتُك وقت عملك إبداع. وصمتُك وقت سُخريتهم تَرَفّع. وصمتُك وقت نصيحة النّاس لك أدب. وصمتُك وقت حزنك صبرٌ واحتساب. وصمتك في صلاتك خشوع.نقولها بكلِّ ثقة: إنَّ الصّمتَ في معرضِ الجمالِ جمال. وإنَّ الصّمتَ في معرضِ العدالةِ عدالة. وإنَّ الصّمتَ في معرضِ الكِبرياءِ كِبرياء. وإنَّ الصّمتَ في معرضِ الهوانِ هَوان. وإنَّ الصّمتَ في معرضِ الحاجةِ إلى بيان بيان. إنَّ التفاعل بين الفقهِ وبين قانون الأسباب والمسبّبات لا يتعارضُ مع مِعياري الدُّنيا والآخرة. وكِلا المِعياران يُسندانِ بعضهما. ولكن يجبُ أنْ نُذكّر أنّ الله في سُننهِ الحياتية الكونية لم يجعل من الدُّنيا مُشبِعةً كافيةً ومهما أوتيْت من مباهِجها. فالإنسانُ خُلِق في كَبَدْ. ويُحاولُ طيلة حياتهِ الظَّفر بسعادتها ولم يُفلح وفَشِلَ وما يزال ألا وهيَ الرّاحةُ النّفسية. فالمجتمعات غير الإيمانية التوحيدية حللّت كل ما هو حرام وحرمت كل ما هو حلال لِتَسْعدَ في حياتها الدُّنيا ومع ذلك لم تَسْعَدُ. وقد حللّوا جميع المأكولات والمشروبات والمُنكرات بما فيها الخِنزير والضفادع والحلزونات والخفافيش والأفاعي والحشرات والكحول والخمور بأنواعها والمخدرات وأحلّوا الانتحار والقتل الرحيم للنفس والجنس المحرّم والمِثلية وغيرها وحللوا أكل الضفادع والحلزونات والخفافيش والتي سببت لهم الكوارث الصحية كوباء كوفيد 19 وغيرها. ومع ذلك فشلوا ولم يَسْعدوا لأنهم أهملوا الجانب الإيماني التوحيدي الأخروي. ولم يفطنوا إلى أنَّهُ بذكر الله تتطمئن القلوب.إنَّ مِنَ الحماقةِ والغَباء أن يتمنّى الإنسانُ شيْئًا دونَ تعاطي السّبب للحصولِ عليه. وهذا سواء للدُّنيا او الآخرة. فمن الغباءِ أنْ يتمطّى ربُّ الأسرةِ أمام وبيْنَ زوجتهِ وأولادهِ ويتعاطى سُموم النيكوتين مُتمنيًا أن يأتيه الرِّزقُ بدون تعاطي الأسباب وهو يعلم أنَّ السّماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فِضّة. وقد وصفَ الأديب المِصري مصطفى صادق الرافعي مثل هذا بالغريق الأحمق قائلاً: ((ويحهُ من غريق أحمق يرى الشاطئَ على بُعد منهُ فيمكثُ في اللّجةِ مُرتقبًا أنْ يسبحَ الشاطئُ إليه... ويَثبتُ الشاطئُ ويَدعَ الأحْمَقَ تذوبُ ملحةُ روحهِ في الماء!)).إنَ الإنسانَ مرهونٌ في حياتهِ الدُّنيويةِ والأخرويةِ بتفعيل قانون الأسباب والمُسبّبات. وقد قال التّابعي الجليل خالد بن معدان: ((ما من عبد إلا ولهُ أربعُ أعين: عيْنان في وجههِ يُبصرُ بِهما أمر الدُّنيا وعيْنان في قلبهِ يُبصرُ بِهما أمرَ الآخرة. وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركهُ على ما هوَ عليه ثم قرأ أم على قلوب أقفالها)). سورة محمد الآية 24.وقد أنكرَ التّابعي الجليل عبد الله بن المُبارك على المُسلمِ – وإنِّ ادّعى الإيمان – إغفالهُ عن تعاطي أسباب الرَّفاهيةِ في الدُّنيا: كالرِّزق والصِّحة والحركة.. وكذلك مُنْكِر أسباب الدّعاء لضمان العفو الرَّباني ودخول الجنّة. وبمثل هؤلاء العلماء الأجلاّء يجب أن نقتدي بهم وبعلومهم وصلاحهم وأخلاقهم..فقد كانوا شديدي الخوف والرَّقابة لله تعالى بحيثُ يمكننا القول: إنَّ مثل هذا الخوفْ كان السّكة الرئيسة التي تكوّنت بها أخلاقهم وسارت عليها بحيثُ لم يشهدِ التّاريخُ مِثلَهُم قط../////تجربتي مع مقاطعة المواد الصهيونيةسلاف العنقاء إن مقاطعة البضائع الصهيونية علمتني العديد من الدروس وغيرت في نفسي الكثير.. المقاطعة جعلتني أشعر بالحيرة وتلك الحيرة لذيذة.. المقاطعة جعلتني أفكر كثيرا.. أكسبتني مشقة البحث عن البدائل وكل هذا يولد في نفسي شعور الجهاد نعم المقاطعة جهاد مصغر يطوع النفس ويروضها..!.المقاطعة جعلتني أتحرر.. وأتنفس جيدا.. حرية لم أشعر بها من قبل.. نحطم بها شيئا من هذا الحصار الاستهلاكي الغربي الذي فرضناه على أنفسنا لسنوات..!. المقاطعة تجعلك تشعر بالغربة وأنت ترى الكثيرين ممن حولك لا يمارسونها بل ربما لا يأخذونها على محمل الجد أصلا.. وهذا يجعلك تؤمن بجهادك أكثر ويؤجج روح العزم في داخلك..!. إضافة لكل هذا جعلتني المقاطعة أكتشف بدائل أخرى أفضل وألطف..!. المقاطعة جعلتني أدرك أن الحياة لا تتوقف على شيء.. ولا عند فرد.. ها قد قاطعت الكثير والكثير من المنتجات لسنتين أو أكثر وما أزال أتنفس وأعيش.. وربما أفضل من ذي قبل. أؤمن بقول الله جل وعلا: إن الله لا يضيع أجر المحسنين و ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب و والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . رغم أني لا أراني مقاطعة بنسبة مئة بالمئة وما يزال مشوار المقاطعة طويلا وشاقا إلا أنه لا يمكنني إلا أن أقول في النهاية: المقاطعة ليست تفضلا منا وإنما هي قطرة ماء في بحر الجهاد.. أتمنى أن يسقينا الله بها زلالا يوم العطش الأكبر..!.