
فضيلة «الغوغائية»..!
وفي كتابه «سيكولوجية الجماهير» يرى جوستاف لوبون أن «الفرد حين ينخرط في جمهور منظم، يُصاب بعدوى نفسية تجرده من شخصيته الواعية، ويفقد قدرته على التفكير المستقل، فينقاد بالعاطفة والعدوى لا بالعقل والمنطق»، وهذا الرأي يطرح أمامنا نمطاً مغايراً لتكوّن الحُكم الأخلاقي، حيث تُستبدل المحاكمة العقلية بعدوى شعورية، ويتحول الضمير من صوت داخلي إلى صدى جماعي.
وبذلك لا تطلب الجماهير الحقيقة، بل تسعى وراء الإحساس بالحق، وهنا تنقلب العلاقة بين الفعل الأخلاقي والتأمل العقلي، فما يُعلَن ويُصفّق له يُمنح صفة الفضيلة، حتى وإن افتقر إلى العدالة..!
وفي هذا السياق، لا تكون الفضيلة معياراً ثابتاً، بل قيمة نسبية تُحدَّد زمنياً بحسب المزاج الجمعي، فالجماهير تُعيد تعريف القيم بحسب اللحظة، فالصمت قد يُعَد خيانة إذا صرخ الحشد، والمبالغة قد تُرى بطولة إن وافقها الصوت الجمعي، إنها أخلاق ظرفية، تتخلق من الاصطفاف لا من المبادئ، ومن هنا يصبح فعل الخير مشروطاً بالعلنية، ويُقاس بالصوت لا بالنية.
وتتجلى هذه الحالة اليوم بوضوح في الفضاءات الرقمية، حيث تُبنى الأحكام الأخلاقية عبر «تفاعل جماهيري سريع» يجعل من الإدانة طقساً، ومن التباهي بالانحياز الأخلاقي استعراضاً، وهكذا تفقد الأخلاق معناها التأملي، وتتحول إلى فعل علني، مفرغ من العمق، لكنه مشحون بالعاطفة، وفي هذه البيئة يصبح العدل تابعاً للضوضاء وصوت القطيع لا للمعايير، وتُقاس النزاهة بعدد المشاركات، لا بمدى احترامها للكرامة الإنسانية.
وهذا ما نشهده بكل شفافية خلال التقلبات السياسية والإعلامية تجاه قضايا الهجرة واللجوء في أوروبا، حيث لا تُبنى المواقف على تقييم عقلاني ثابت، بل على استجابة انفعالية آنية، ففي لحظات معينة، تُرفع شعارات الترحيب والتعاطف، وتُستدعى أشكال الإنسانية وحقوق الإنسان، ويُبنى خطاب أخلاقي جامع يَعِد بالاحتواء والعدالة، لكن ما إن يتغيّر المزاج الجمعي بفعل أزمة اقتصادية، أو حادثة أمنية، أو حملة إعلامية مضادة، حتى ينقلب الخطاب إلى نقيضه، فنستطيع تمييز التصاعد في اللهجة، والتبرير للرفض، والذهول أمام «بروباغندا» إعلامية تصور المهاجر كتهديد ثقافي أو اقتصادي..!
وهكذا، لا تُلغى المبادئ بل تُعلّق ضمنياً، كما لو أن حضورها الكامل يُربك إيقاع الجماعة، أو يعرقل انسجامها النفسي، وفي هذا السياق، لا يعود الموقف الأخلاقي نتاج قناعة عقلية ثابتة، بل يصبح انعكاساً لمزاج جمعي متقلب، ويرتجل السياسي من كونه حارساً للقيم التي يتبنّاها، ليصبح مرآة لما يريد الحشد أن يكونه، ففاعليته تُقاس بمرونته في التكيّف لا بثباته على مبدأ، وبمدى انفعاله لا بقدرته على التبصّر، وهكذا تُعاد صياغة الأخلاق كوظيفة خطابية لا كمسؤولية داخلية.
وتُحيلنا هذه الظاهرة إلى مسألة فلسفية أعمق وهي: هل ما يُصنّف جماعياً كخير هو خير بالفعل؟ وهل تتحمل الجماعة مسؤولية أخلاقية كما يتحملها الفرد؟ أم أن الجماعة تعفي الفرد من ذاته وتمنحه تبريراً للهروب من الوعي؟
ومن هنا نفهم بأن الفضيلة الغوغائية تُمثّل لحظة انقطاع عن الفعل الأخلاقي الحرّ، فهي لحظة يُعلَّق فيها الضمير، وتُستبدل المسؤولية الشخصية بما يشبه «النية الجماعية»، ومتى ما تكرّست هذه الحالة، تتحول المجتمعات إلى أنظمة انفعالية لا عقلانية، تستبدل النقد بالتبعية، والفهم بالموقف المعلن.
ولعلّ السؤال الأخطر هنا ليس ما الصواب؟ بل من يملك حق تعريفه؟ وهل ستبقى الأخلاق مرهونة بصوت الجمهور؟ أم يمكن استعادتها من تحت الركام، كفعل فردي واعٍ، لا كصرخة ضمن جوقة من الأصوات المتشابكة..!
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ 6 ساعات
- البيان
نهيان بن مبارك: العلاقات الإماراتية-الأمريكية نموذج راسخ في الشراكة الاستراتيجية
مؤكداً أن العلاقات الإماراتية-الأمريكية تُعد نموذجاً راسخاً في الشراكة الاستراتيجية، تقوم على أسس متينة من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، تحت قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، الذي يحرص على ترسيخ مكانة الإمارات كدولة داعمة للسلام والاستقرار والتعاون الدولي.


سكاي نيوز عربية
منذ 7 ساعات
- سكاي نيوز عربية
خامنئي: قادرون على الوصول للمواقع الحيوية الأميركية بالمنطقة
وفي منشور على حسابه في "إكس"، قال خامنئي: "وجهت إيران صفعة لأميركا، إذ هاجمت إحدى قواعدها المهمة في المنطقة (قاعدة العديد)، ملحقة بها أضرارا". وأضاف خامنئي: "إيران تملك القدرة على الوصول إلى المواقع الحيوية الأميركية في المنطقة عندما ترى ذلك مناسبا". واختتم منشوره قائلا إن "استهداف قاعدة العديد ليست حادثة صغيرة بل كبيرة ويمكن تكرارها". وأظهر مقطع مصور بثته وسائل إعلام رسمية إيرانية، السبت الماضي، خامنئي في أول ظهور علني له منذ بدء الحرب مع إسرائيل في 13 يونيو وقتل فيها عدد من كبار القادة والعلماء النوويين. وظهر خامنئي الذي كان قد اختفى عن الأنظار منذ بدء تبادل الضربات الجوية بين طهران وتل أبيب في تجمع مغلق خلال مناسبة دينية. وكان خامنئي، قد أكد الشهر الماضي بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران أن الولايات المتحدة "لم تحقق أي إنجاز" في الضربات التي شنتها على إيران، مشددا على أن إيران وجهت "صفعة على وجه أميركا". واعتبر خامنئي، أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان "بحاجة إلى القيام "باستعراض"، مشيرا إلى أن واشنطن بالغت في تصوير نتائج هجماتها على المنشآت النووية الإيرانية. وأشار إلى أن "واشنطن تضخّم من أهمية هجماتها على منشآتنا النووية وقد وجهنا صفعة قوية لها". وفي المقابل قال ترامب، إنه أنقذ خامنئي، من موت وصفه بـ"البشع والمهين"، كما منع إسرائيل من تنفيذ الهجوم "الأكبر" في إيران.


صحيفة الخليج
منذ 7 ساعات
- صحيفة الخليج
الأمم المتحدة تدين هجمات الحوثيين على السفن العابرة للبحر الأحمر
نيويورك - «وام» دان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بشدة استئناف الحوثيين هجماتهم على السفن المدنية العابرة للبحر الأحمر، لا سيما الهجمات التي وقعت بين 6 و8 من يوليو الجاري. وأكَّد غوتيريش في بيان أن غرق السفينتين «ماجيك سيز» و«إيترنيتي سي»، إضافة إلى مقتل ما لا يقل عن أربعة من أفراد الطاقم وإصابة آخرين، يشكّل تصعيداً خطيراً في هذا الممر المائي الحيوي. وأعرب الأمين العام عن قلقه إزاء التقارير التي تشير إلى فقدان ما لا يقل عن 15 من أفراد الطاقم، داعياً الحوثيين إلى عدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها عرقلة عمليات البحث والإنقاذ الجارية عن الطاقم المفقود. ووصف غوتيريش هذه الهجمات بأنها غير مقبولة وتمثل تهديداً مباشراً لسلامة وأمن الطواقم البحرية، وانتهاكاً لحرية الملاحة، فضلاً عما قد تسببه من تداعيات بيئية واقتصادية وإنسانية كبيرة. وأكد الأمين العام أهمية التزام جميع الأطراف باحترام القانون الدولي في جميع الأوقات، مشدداً على ضرورة الالتزام الكامل بقرار مجلس الأمن رقم 2768 (2025)، المتعلق بهجمات الحوثيين على السفن التجارية وناقلات الشحن. وشدد على التزام الأمم المتحدة بمواصلة دعمها لجهود التهدئة على نطاق أوسع في المنطقة، إلى جانب استمرار انخراطها مع الجهات الفاعلة اليمنية والإقليمية والدولية بهدف التوصّل إلى حل سلمي ومستدام للنزاع في اليمن.