logo
ما أهداف ترامب من قمته مع 5 رؤساء أفارقة؟

ما أهداف ترامب من قمته مع 5 رؤساء أفارقة؟

الجزيرةمنذ يوم واحد
بين 9 و11 يوليو/تموز الجاري استضاف الرئيس الأميركي دونالد ترامب 5 من الزعماء الأفارقة في قمة مصغرة ضمت رؤساء كل من الغابون و موريتانيا و ليبيريا و غينيا بيساو و السنغال ، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات بشأن مغزاها والمتوقع منها.
ورغم توافق أكثر الباحثين على تذيل أفريقيا قائمة اهتمامات ترامب فإن من الملاحظ أن هذه القمة تأتي في سياق زمني شهد عددا من التحركات الدبلوماسية اللافتة لواشنطن في القارة السمراء، والتي تمتزج فيها الملفات السياسية بنظيرتها الاقتصادية.
وقد سُبقت القمة بإعلان نجاح وساطة واشنطن بين كل الكونغو الديمقراطية ورواندا في 27 يونيو/حزيران الماضي، حيث استضاف ترامب وزيري خارجية البلدين لتوقيع اتفاق سلام أشار بيان الخارجية الأميركية إلى أنه سيتعدى منع تجدد الأعمال العدائية بينهما إلى إطلاق "إطار التكامل الاقتصادي الإقليمي" لتوسيع التجارة والاستثمار الأجنبيين المستمدين من سلاسل توريد المعادن الحيوية الإقليمية.
وقبل يومين من هذا الإعلان عُقدت في العاصمة الأنغولية لواندا قمة الأعمال الأميركية الأفريقية التي قالت الخارجية الأميركية إن مخرجاتها حققت رقما قياسيا في الصفقات والالتزامات بما قيمته 2.5 مليار دولار.
لماذا تم اختيار هذه الدول؟
كعادة الغموض وعدم اليقين اللذين يرافقان تحركات الرئيس الأميركي يبدو اختيار هذه المجموعة من القادة محط جدال بين العديد من الخبراء.
ويرى مدير برنامج أفريقيا في مؤسسة تشاتام هاوس البحثية البريطانية أليكس فانز أن من الخطأ المبالغة في تفسير قائمة الضيوف، وأنه رغم وجود بعض الدوافع الواضحة فإن هذه الاختيارات تكشف عن نهج قد يكون عشوائيا، فالزعماء المدعوون ينتمون إلى اقتصادات صغيرة نسبيا، ومعظمها ليس من أولويات واشنطن، في حين اتسمت دعوة الرئيس الليبيري بـ"الانتهازية" لأنه موجود بالفعل في الولايات المتحدة.
هذا المسلك في التفسير يخالفه لاندري سينييه الزميل الأول في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في مؤسسة "بروكينغز"، والذي يصف في مقال له قائمة المدعوين بأنها "خيار إستراتيجي".
وباستعراضه مزايا الدول الخمس يوضح المقال التحليلي المنشور على بروكينغز ثراءها بالموارد المعدنية:
فالغابون (ثاني أكبر منتج للمنغنيز في العالم) أعلن رئيسها حظرا على تصدير المنغنيز الخام اعتبارا من عام 2029 بهدف تعزيز وتنمية سلسلة قيمة محلية تتضمن استثمارا عاما وخاصا، كما أنها تحتوي على كميات كبيرة من خام الحديد والنحاس والذهب والماس.
في حين تتميز ليبيريا بـ"اكتشافات رائدة لرواسب معدنية هائلة" تشمل الذهب والماس وخام الحديد، وربما الليثيوم والكوبالت والمنغنيز والنيوديميوم، ومن المتوقع أن تجذب 3 مليارات دولار من الاستثمارات.
كما تشير المصادر المتخصصة إلى امتلاك غينيا بيساو وموريتانيا والسنغال موارد طبيعية قيّمة، بما في ذلك النفط والغاز والذهب ومعادن الأرض النادرة واليورانيوم.
وتتجلى أهمية هذا الجانب في وصف ترامب الدول المشاركة في القمة بأنها "أماكن نابضة بالحياة للغاية ذات أراض قيّمة للغاية، ومعادن عظيمة، ورواسب نفطية عظيمة، وشعب رائع".
جانب آخر يشير إليه مقال كتبه موسى ديوب على "لي 360 أفريك" يتمثل في الجوانب الأمنية، كمكافحة الإرهاب والقرصنة في خليج غينيا والهجرة غير النظامية، حيث يندرج مواطنو الدول المدعوة ضمن قوائم ترحيل المهاجرين من الأراضي الأميركية.
بالمقابل، يرى العديد من المراقبين أن غياب الدول الأفريقية الكبرى كنيجيريا يشير إلى عملية "انتقائية" تهدف واشنطن من خلالها إلى خلق نموذج لشراكات مع دول أصغر وأكثر "مرونة" سياسيا واقتصاديا.
الاستثمار أولا
تأتي الملفات المتعلقة بتنشيط التجارة والاستثمار على رأس أجندة القمة المصغرة، ويصف موقع سيمافور الأميركي هذه القمة بأنها أحدث خطوة في إطار توجه واسع النطاق لتركيز العلاقات الأميركية الأفريقية على الفرص التجارية والاستثمارات.
نهج "التجارة بدلا من المعونة" عبر عنه بشكل جلي وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن بلاده ستدعم "الدول التي تظهر القدرة والرغبة في مساعدة نفسها"، وأن هذه الإستراتيجية الجديدة ستتحقق "من خلال إعطاء الأولوية للتجارة على المساعدات، والفرص على التبعية، والاستثمار على المساعدات".
بالمقابل، أوضح مسؤول مكتب الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية تروي فيتريل أن "الدبلوماسية التجارية" ستكون محور التفاعل الأساسي مع أفريقيا، وأن تقييم جميع سفراء الولايات المتحدة في القارة السمراء يتم الآن بناء على مدى فعاليتهم في مناصرة الأعمال الأميركية وعدد الصفقات التي يُسهّلونها.
تأمين سلاسل الإمداد
يمثل التوجه الأميركي نحو تجاوز نقاط الضعف في سلاسل الإمداد الخاصة بالمعادن الحيوية للصناعات المستقبلية أحد المحاور الرئيسية للإستراتيجية الأميركية في أفريقيا، حيث تهدف واشنطن إلى تأمين وصول هذه المعادن إليها دون الاضطرار إلى الاعتماد على منافسيها كالصين الناشطة في هذا المجال أفريقيا.
ويشير موسى ديوب إلى بعض نقاط الضعف الأميركية في هذا المجال حيث يُكرَّر أكثر من 70% من المعادن النادرة في العالم حاليا في الصين، مما يجعل قطاعات كاملة من الصناعة العالمية عموما، والصناعة الأميركية خصوصا عرضة للخطر.
وقد أظهر حظر بكين الأخير على تصدير 3 معادن نادرة (الجاليوم والجرمانيوم والأنتيمون) بالغة الأهمية لتصنيع أشباه الموصلات وتكنولوجيا الأشعة تحت الحمراء والأسلحة سيطرة الصين الإستراتيجية على سلاسل التوريد العالمية.
وإلى جانب ما سبق، لا تمتلك الصين الموارد المعدنية فحسب، بل تسيطر أيضا على العديد من مناجم الكوبالت والنيكل والكولتان والنحاس والليثيوم والمنغنيز، وغيرها في أفريقيا، خاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وزيمبابوي، وغيرها.
من جانب آخر، يمثل قرار الغابون حظر تصدير خام هذا المعدن اعتبارا من 2029 جرس إنذار إلى نوع مختلف من الأخطار التي قد تهدد قدرة واشنطن على الحصول على هذه المعادن الحساسة، وداعيا لانخراطها في تطوير سلاسل القيمة بدلا من مجرد استخراج المواد الخام.
وفي هذا السياق، يمكن عد هذه القمة خطوة ضمن مجموعة من الإجراءات الأميركية الاستباقية الهادفة إلى تنويع وتأمين سلاسل إمداد المعادن الحيوية الأميركية، حيث يؤدي عدم احتكار بكين قطاع التعدين في الدول الخمس فرصة مهمة للاستثمارات الأميركية الراغبة للعمل في هذا المجال.
المنافسة الجيوسياسية
يمثل العمل على كبح نفوذ المنافسين الدوليين لأميركا جزءا من المزيج الجامع بين الاقتصاد والصراعات الجيوسياسية على القارة الأفريقية، حيث تعمل إدارة ترامب من خلال الاستثمارات الموجهة والشراكات الإستراتيجية لا على تحقيق الأرباح فحسب، بل على مواجهة بكين من خلال بناء شبكات من التحالفات وتطوير القدرة على الوصول الحصري إلى الموارد.
وتتجاوز هذه الرؤية الملفات الاقتصادية إلى الجوانب الأمنية والعسكرية، حيث يشير تحليل صادر عن مركز "التهديدات الحرجة" إلى أن الشراكة الأميركية مع الغابون وغينيا بيساو تسهم في خلق توازن مع النفوذ الصيني والروسي المتزايد على الساحل الأطلسي لأفريقيا، مستفيدة من سياسة الرئيس الغابوني برايس أوليغي أنغيما الذي حافظ على علاقات متوازنة وغير ملزمة مع الولايات المتحدة والصين.
وقد شهدت السنوات الأخيرة نموا لافتا في التعاون الأمني بين غينيا بيساو وروسيا التي دربت أكثر من 5 آلاف ضابط غيني، في حين اتفق البلدان مؤخرا على رفع عدد الضباط الغينيين الدارسين سنويا في الكليات العسكرية الروسية.
ويوضح التحليل المذكور أن للولايات المتحدة علاقات دفاعية سابقة مع كلا البلدين تساعد في موازنة النفوذ الصيني والروسي وتوفر أسسا لمزيد من النمو، حيث شاركت الغابون في مناورات "أوبانغيم إكسبرس" البحرية بقيادة أميركية في عامي 2017 و2024.
ووقّعت غينيا بيساو اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة في عام 2023، ودعمت واشنطن بناء منشأتين جديدتين للمراقبة بالرادار في الغابون، وقدّمت المساعدة الفنية لمرافق المراقبة، وتبرعت بسفن دورية بحرية في عام 2024.
مكافحة الإرهاب والهجرة
لا تبدو الملفات الأمنية بعيدة عن أجندة هذه القمة، حيث تشير نوزموت غباداموزي كاتبة موجز أفريقيا في مجلة فورين بوليسي إلى أهمية منطقة الساحل المتزايدة للمصالح الأميركية المرتبطة بمكافحة الإرهاب، وقد حذر قائد القيادة الأميركية في أفريقيا الجنرال مايكل لانغلي من تحول الساحل إلى "نقطة اشتعال للصراع المطول" و"مركز الإرهاب في العالم".
وفي هذا السياق، يسهم تعاون الولايات المتحدة مع موريتانيا والسنغال في تحقيق أهداف واشنطن باحتواء التهديدات الإرهابية المتنامية في منطقة الساحل، وعقب التغييرات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة وإخراج القوات الأميركية تعمل واشنطن على تعزيز تعاونها مع الدول المحيطة بالساحل لمراقبة وكبح الجماعات الإرهابية التي قد تمتلك -وفقا للانغلي- "القدرة على مهاجمة الوطن".
وبالنظر إلى أهمية الملفات المتعلقة بالهجرة غير النظامية في إستراتيجية الرئيس الأميركي فقد ينظر ترامب إلى بعض هذه الدول كشركاء جدد محتملين في جهوده لترحيل المهاجرين من الولايات المتحدة، حيث زادت الهجرة الأفريقية عبر الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك -خاصة من موريتانيا والسنغال- في السنوات الأخيرة مع تشديد أوروبا قبضتها على الهجرة.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن وزارة الخارجية الأميركية أرسلت سرا مقترحات إلى الدول الخمس لقبول مهاجرين من دول ثالثة مرحّلين من الولايات المتحدة، وأصدرت تعليمات للدبلوماسيين الأميركيين لتوضيح أن استضافة مواطني دول ثالثة هي القضية "الأهم" بالنسبة لترامب.
بالمقابل، تشير الأرقام إلى أن دولة كموريتانيا تحتل المرتبة الثانية أفريقيا من بين الدول التي تضم أكبر عدد من المواطنين الذين يعيشون في الولايات المتحدة بدون وثائق رسمية، وبالتالي فإنهم معرضون لخطر الترحيل ، بواقع 3822 موريتانيا.
رغم التركيز الذي انصب على الطريقة التي وصفها العديد من المراقبين بـ"غير اللائقة" في تعامل ترامب مع "نظرائه" الأفارقة وما نالته من تغطية واهتمام إعلاميين فإن هذه القمة وما سيترتب عليها تمثل أول خطوة وأول اختبار جدي أيضا للدبلوماسية الأميركية الجديدة تجاه أفريقيا القائمة على الانتقال من المعونات إلى التعاون التجاري.
هذه النقلة تتوافق مع توجه متنام في القارة الأفريقية يلبي الرغبة في إعادة صياغة العلاقة مع واشنطن على أساس المنفعة المتبادلة والشراكة والاعتماد على الذات، وقد صرح الرئيس الأنغولي جواو لورينسو في القمة الأخيرة للأعمال بين الولايات المتحدة وأفريقيا بأن "الوقت قد حان للاستعاضة عن منطق المساعدات بمنطق الطموح والاستثمار الخاص".
من جانبه، يرى الزميل الأول في مركز الدارسات الإستراتيجية والدولية كاميرون هدسون أن هذا النهج تواجهه العديد من العقبات، يأتي في مقدمتها إحجام المستثمرين الأميركيين عن الانخراط في مشاريع بأفريقيا نتيجة الصور غير المنقوصة عنها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن صعوبة التوفيق بين أولويات ترامب الداخلية والخارجية تمثل عائقا آخر لا يقل خطورة، فاستهداف العديد من الدول الأفريقية بمنع تأشيرات السفر كانت وراء تحذير وزير خارجية نيجيريا يوسف توغار من أن واشنطن قد تخسر فرصة استغلال معادن بلاده الأرضية النادرة، قائلا "نود إبرام صفقات مع الولايات المتحدة، لكن قيود التأشيرات تشكل عوائق غير جمركية أمام الصفقات".
وفي السياق نفسه، يشير العديد من المراقبين إلى أن سياسات التعرفة الجمركية التي ميزت إستراتيجية ترامب التجارية الخارجية ستؤدي إلى تضرر الاقتصادات الأفريقية التي تعتمد على التصدير إلى الولايات المتحدة وبالتي قد يدفعها إلى البحث عن بدائل كالصين أو غيرها، مما سيؤثر سلبا على جهود واشنطن لكبح نفوذ بكين في القارة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم
أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

الجزيرة

timeمنذ 40 دقائق

  • الجزيرة

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

قال مسؤول كبير في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مذكرة نشرتها صحيفة واشنطن بوست إن مسؤولي الهجرة قد يرحّلون المهاجرين غير النظاميين إلى دول أخرى غير بلدانهم الأصلية بعد إخطارهم بمدة لا تتجاوز 6 ساعات. ونقلت وكالة رويترز أنه ورد في المذكرة اسم تود ليونز القائم بأعمال مدير إدارة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأميركية، والذي قال إن الإدارة ستنتظر 24 ساعة على الأقل قبل نقل شخص بعد إبلاغه بترحيله إلى "دولة ثالثة". ومع ذلك، جاء في المذكرة أن الإدارة بوسعها ترحيلهم بإشعار لا يتجاوز 6 ساعات "في ظروف مُلحّة"، إذا ما تم منح الشخص فرصة التحدث مع محام. وتنص المذكرة على أنه يمكن إرسال المهاجرين غير النظاميين إلى الدول التي "تتعهد بعدم اضطهادهم أو تعذيبهم". وتشير سياسة وكالة الهجرة والجمارك الجديدة إلى أن إدارة ترامب قد تتحرك بسرعة لإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى دول مختلفة حول العالم. وكانت المحكمة العليا ألغت في يونيو/حزيران أمرا صادرا عن محكمة أدنى يحد من عمليات الترحيل هذه من دون فحص قضية الخوف من الاضطهاد في تلك الدول الثالثة. وبعد صدور قرار المحكمة العليا، أرسلت إدارة ترامب 8 مهاجرين ينحدرون من بلدان مختلفة إلى جنوب السودان. ولم يتم تحديد "الدولة الثالثة" التي سيتم ترحيل المهاجرين لها في المذكّرة، لكن رويترز ذكرت أن إدارة ترامب ضغطت الأسبوع الماضي على المسؤولين في 5 دول أفريقية، وهي ليبيريا والسنغال وغينيا بيساو وموريتانيا والغابون، لقبول المُرّحلين ممن يحملون جنسيات أخرى. وتعد قضية ترحيل المهاجرين غير النظاميين من أبرز الملفات التي روجها ترامب في حملته الانتخابية لولايته الرئاسية الثانية، وهو ما لاقى معارضة واسعة في الداخل الأميركي، آخرها الاحتجاجات التي اندلعت في لوس أنجلوس رفضا للسياسة التي تنفذها وكالة الهجرة والجمارك.

أهداف ترامب في أفريقيا
أهداف ترامب في أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

أهداف ترامب في أفريقيا

للوهلة الأولى قد يبدو للمهتّمين بدراسة النزاعات أن اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه في العاصمة واشنطن بين رواندا والكونغو الديمقراطية- أواخر يونيو/حزيران 2025 سعيًا لإنهاء واحدة من أطول الحروب في القارة الأفريقية- وكأنه امتداد للنهج الذي أعلن الرئيس ترامب تبنيه في تصفية النزاعات حول العالم وإحلال السلام. ودون التقليل من أهمية هذا الاتفاق على المستوى الأمني والإنساني، ومع تثبيت الجهود القطرية الكبيرة التي بُذلت للتوصل إليه، ولكن التعمق في واقع السياسة الأميركية تجاه القارة، وفي تتبع قصة الوصول لنقطة التوقيع بين البلدين سيُبيّن أن الأمر معقد أكثر مما يبدو عليه في الظاهر، وأن الدوافع والأسباب التي تقف وراء استضافة الولايات المتحدة الأميركية حفل التوقيع تلخص جوهر الاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية في عهد الرئيس ترامب في دورته الجديدة. فجمهورية الكونغو وجارتها زامبيا تمثلان نقطة التقاء التنافس الأميركي الصيني على الموارد والمعادن النادرة، إذ إن الكونغو وحدها تنتج 75% من معدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة السيارات الكهربائية، بجانب موارد أخرى لا تقل أهمية كالنحاس واليورانيوم، وقد كان لافتًا ما ورد على لسان الرئيس ترامب بعد التوقيع على الاتفاقية حين قال: (ستحصل الولايات المتحدة على الكثير من حقوق المعادن في الكونغو). والأسئلة التي تُطرح هنا هل سينجح الاتفاق الحالي في نشر السلام وطي صفحة حرب الثلاثين عامًا، خاصة أن أكثر من 10 اتفاقيات سابقة انتهت إلى الفشل، ولماذا يسود التفاؤل بنجاح هذه المحاولة؟ والإجابة المباشرة عن هذا السؤال تتعلق بتدخل الولايات المتحدة بثقلها الكبير في هذا الملف مدفوعة بنظرة الرئيس ترامب لأفريقيا حيث تحكم سياسته فيها ثلاثة عوامل هي: تحويل العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية من بند المساعدات إلى بند التجارة. التركيز على المصالح المباشرة التي تعود على الولايات المتحدة بالنفع السريع، ولا سيما المواد الخام والمعادن ثم محاصرة النفوذ الروسي والصيني، والذي تمدد في القارة في السنوات الأخيرة. أخيرًا الانشغالات الأميركية الخاصة بمحاربة الجماعات الإرهابية وخاصة في الصومال ودول الساحل الأفريقي بجانب تأمين مسارات الهجرة غير الشرعية وغلق منافذها في القارة الأفريقية. ترامب وأفريقيا: هل من جديد؟ لفهم أكثر عمقًا وواقعية للعلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأفريقية خلال إدارة ترامب الحالية يجب النظر إلى عاملين رئيسين هما تجربة ترامب مع أفريقيا إبان ولايته الأولى، ومشروعه الانتخابي الذي يمكن اختصاره في ثلاث نقاط رئيسية هي: التركيز على جعل الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، والانحياز إلى تيار العزلة النسبية مع التنازل عن نزوع التوسع والهيمنة الذي تتبناه تيارات أخرى داخل الحزب الجمهوري. كما أن ترامب وأنصاره غير متحمسين تمامًا لمشاريع الجمهوريين التي تسعى (لنشر الديمقراطية) والقيم الأميركية الأخرى حول العالم. فقد ورد في أجندة 2025 التي تكشفت بين يدي الحملة الانتخابية وتبنتها جهات متنفذة حول ترامب ما يلي: "على واشنطن أن تتوقف عن الترويج للسياسات الأميركية الضاغطة على الحكومات الأفريقية لاحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية والديمقراطية التي لا تتقبلها الدول الأفريقية، لأنها تشعر أن ذلك تدخل في شؤونها الداخلية، ويجب على واشنطن التركيز على المشاركة الاقتصادية". اعتماد سياسة خارجية قائمة على الصفقات التي يعود ريعها سريعًا على الخزينة الأميركية المرهقة بالعجز والدين الداخلي، وذلك وفقًا لسياسة (مجهود أقل وعائد أكبر)، مع تجفيف المساعدات الأميركية للدول الأفريقية وغيرها، وتحويلها ما أمكن إلى التجارة واستغلال المعادن. فقد ورد في أجندة 2025 مقترحات تدعو إلى تحويل جميع منح المساعدات الأجنبية للمستفيدين الأفارقة إلى قروض، وإلغاء جميع برامج مساعدات التنمية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص الأميركي في القارة الأفريقية. حرصه على تسويق صورة شخصية تجمع بين الحزم والقوة، وفي نفس الوقت صورة رجل السلام الذي يعمل على إطفاء الحرائق الدولية وتسوية النزاعات بين الدول. وهو ما لخّصه ترامب بعبارة: (السلام عبر القوة)، وفي ذلك يروج أنصاره أنه يستحق جائزة نوبل للسلام لجهوده الكبيرة في منع وقوع حرب نووية بين الهند وباكستان، ودوره الأخير في الحرب الإسرائيلية الإيرانية. وبالنظر لهذه المرتكزات الأساسية وتقييم اهتمامات ترامب خلال الأشهر القليلة التي مضت من عمر ولايته الحالية، والقرارات التي اتخذها بحظر دخول رعايا سبع دول أفريقية، قبل أن يتبعها بتعميم شمل 25 دولة من أصل 36 تطلب منها الولايات المتحدة التدقيق بشأن إجراءات الهجرة وإلا واجهت مصيرًا مشابهًا لتلك السبع. هذا يؤكد أن إدارة ترامب لا تأبه كثيرًا بأي ردة فعل من دول القارة الأفريقية، ويأتي كل ذلك مقروءًا مع النهج الذي اتبعه في ولايته الأولى مع أفريقيا، والذي اتسم بالإهمال والازدراء. ولذلك لا يبدو أن القارة الأفريقية تمثل أولوية لإدارته إلا بقدر ما تمثله من أهمية لسياساتها المتعلقة بالبحث عن الفرص التجارية، ومحاصرة النفوذ الروسي والصيني، أو بمكافحة الإرهاب والمخاطر الأمنية التي ترى فيها الأجهزة الأمنية الأميركية خطرًا ماثلًا. يفسر هذا، دعوة الرئيس دونالد ترامب لقمة مصغرة تشارك فيها دول: موريتانيا، والغابون، وغينيا بيساو، وليبيريا، والسنغال، والتي أثارت تساؤلات كثيرة حول المعايير التي تم بها اختيار هذه الدول الصغيرة وغير المؤثرة في اقتصاد القارة وسياستها. ولكن التمعن في المشتركات التي تجمع هذه الدول يبدد تلك التساؤلات؛ فكلها تطل على المحيط بكل ما يمثل ذلك من فرص وتهديدات، كما تتمتع جميعًا بموارد كبيرة غير مستغلة وخاصة موارد الطاقة والمعادن النادرة، ويمكن أن تكون نموذجًا جيدًا لسياسته الجديدة في أفريقيا (التجارة بدلًا من المساعدات)، فضلًا عن وقوعها في المجال الجغرافي لتمدد النفوذ الروسي الآخذ في التوسع مؤخرًا. ابحث عن الصين قبل شهرين من توقيع اتفاقية السلام بين البلدين نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مسؤولين من جمهورية الكونغو الديمقراطية إمكانية التوصل إلى اتفاق مع واشنطن لتأمين استثمارات أميركية في المعادن الحيوية، مقابل دعم الولايات المتحدة جهود إنهاء الصراع في شرق البلاد. وقالت الصحيفة إن الاتفاق يمنح واشنطن حق الوصول إلى رواسب الليثيوم والكوبالت والكولتان، وصرح مستشار ترامب مسعد بولس قائلًا: "واشنطن تضغط من أجل توقيع اتفاق سلام بين الجانبين هذا الصيف، مصحوبًا باتفاقيات ثنائية للمعادن مع كل من البلدين". في العام 2007 وقعت الصين اتفاقًا اقتصاديًا مع دولة الكونغو عرف باتفاق (المناجم مقابل البنية التحتية)، وبموجب ذلك الاتفاق صارت الصين الحاضر الأبرز في قطاع المعادن الكونغولي، حيث تدير حاليًا حوالي 80% من مناجم النحاس، وتسيطر على 70% من قطاع التعدين، وعلى 60% من سوق بطاريات السيارات الكهربائية عالميًا. ومع الأهمية العالية لمعدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة الهواتف والسيارات الكهربائية تعالج الصين وحدها 80% من هذا المعدن النادر، وفي العام 2024 أعلنت مجموعة سموك الصينية أكبر منتج للكوبالت في العالم عن أرباح قياسية، حيث قفز صافي الدخل بنسبة 64% ليصل إلى 1.9 مليار دولار. هذه الأرقام مزعجة جدًا للولايات المتحدة التي ترى في الكونغو نموذجًا مثاليًا لتطبيق سياستها الخاصة بالحصول على المعادن النادرة بأسعار رخيصة، وفي نفس الوقت التضييق على الصين في واحدة من أهم ملفات التسابق التجاري والصناعي بينهما. ولذلك فقد واصلت مساعيها لإخراج الصين من الكونغو الديمقراطية عبر الضغوط السياسية وتأليب الحكومة الكونغولية عليها للمناداة بإعادة تقييم الأسس التي قامت عليها اتفاقيات التعدين بين البلدين، وعبر دعم البنية التحتية وإعادة تأهيلها، ومسارات السكك الحديدية لتقليل تأثير الصين في سلاسل التوريد بالنسبة للمواد الخام. وفي العام 2022 نشرت (أويل برايس) الأميركية تقريرًا أشارت فيه (إلى أن الولايات المتحدة تعزز جهودها لعزل الصين في أفريقيا وعرقلة حصولها على أشباه الموصلات المتقدمة، كما تعمل واشنطن أيضًا على السيطرة على مصادر المعادن المستخدمة في التقنية في أفريقيا خاصة الكونغو الديمقراطية). ومما يلفت الأنظار هنا هو إعلان شركة (كوبولد ميتالز) الأميركية أنها ستوسع عملياتها في الكونغو الديمقراطية بعدما قامت فعلًا بشراء حصة للتعدين من شركة أسترالية هناك، وتساهم في شركة كوبولد ميتالز مجموعة من الشركات ورجال الأعمال الذين دعموا حملة ترامب الانتخابية. حرب السودان في الواجهة في ظل النشوة التي سيطرت على فريق ترامب بعد توقيع اتفاق السلام صرح مستشاره مسعد بولس بأن وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو سيستضيف اجتماعًا يضم وزراء اللجنة الرباعية التي تضم السعودية، والإمارات، ومصر، والولايات المتحدة؛ لبحث الحرب في السودان، وهو الأمر الذي أكد عليه ترامب نفسه في اجتماعه مع القادة الأفارقة في واشنطن. ويأتي هذا الاهتمام بالملف السوداني بعد فترة من الإهمال وتركيز إدارة الرئيس ترامب على ملفات أخرى في الشرق الأوسط والحرب الروسية الأوكرانية، ومن واقع التحركات التي تمت في الفترة الأخيرة والتي من بينها زيارة رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان جمهورية مصر العربية، وتنشيط تحالف "صمود" الذي يقوده الدكتور عبدالله حمدوك، يبدو أن هناك مساعيَ إقليمية تُبذل لبلورة مبادرة لإحياء التفاوض الذي توقف لفترة طويلة تحت مظلة المبادرة الأميركية السعودية في جدة. ولا يزال الوقت مبكرًا للإجابة عن نجاح اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا، إذ إنه ورغم وقوف الدولة الكبرى خلفه فإن التحديات التي تحيط بالاتفاق وأطرافه صعبة للغاية، خاصة إذا علمنا أن هناك مناطق حيوية خارج سيطرة الدولتين والجماعات المتحالفة معهما. كما أن عدم الثقة الكبير بين الدولتين نتيجة الصراع الطويل قد لا يوفر البيئة المناسبة للتطبيق السلس لبنود الاتفاق، وخاصة تلك المتعلقة بجمع السلاح وتسريح الجماعات المسلحة المتناسلة. ومع كل تلك التحديات فإن الترحيب الذي قوبل به الاتفاق على المستوى الدولي سيوفر إرادة قوية لمحاولة صيانة المنطقة حتى لا تعود للحرب مرة أخرى. ونستطيع القول إن إدارة الرئيس ترامب تحاول في نسختها الجديدة تحويل القارة الأفريقية من مكان ميؤوس منه كما كان في دورتها الأولى إلى فرصة تستفيد منها الولايات المتحدة. وتلخص الطريقة التي تم بها دعوة خمسة من رؤساء الدول الأفريقية إلى البيت الأبيض النهج الأميركي في التعامل مع القارة، وهو تعظيم الفوائد الأميركية في القارة دون أن تلتزم بأي مساعدات، أو تقوم بفرض أي شروط سياسية تتعلق بالدمقرطة، وحقوق الإنسان كما كان في السابق. وستتحدد التدخلات الأميركية في كل النزاعات بهذا النهج الجديد والذي يمكن اختصاره تحت شعار: (التجارة بدلًا من المساعدات)، وبجانب التجارة فإن للولايات المتحدة مآربها التي لا يمكن أن تتنازل عنها كقوة دولية تسعى للمحافظة على نفوذها وريادتها.

الرابح والخاسر في اتفاق الكونغو ورواندا برعاية واشنطن
الرابح والخاسر في اتفاق الكونغو ورواندا برعاية واشنطن

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

الرابح والخاسر في اتفاق الكونغو ورواندا برعاية واشنطن

وقّع وزيرا خارجية الكونغو الديمقراطية ورواندا، يوم الجمعة السابع والعشرين يونيو/ حزيران الماضي، اتفاق سلام ومصالحة تاريخي في العاصمة الأميركية واشنطن، برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية. جرت مراسم توقيع الاتفاق في مقر وزارة الخارجية الأميركية، وقال مبعوث الرئيس الأميركي، مسعد بولس، في حفل التوقيع، إن اتفاقَ سلامٍ نهائيًا سيُوقَّع رسميًا نهاية شهر يوليو/ تموز الجاري، بين الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي والرواندي بول كاغامي، بمشاركة الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض. لم تعلن واشنطن بعد عن تفاصيل الاتفاق المُوقَّع بين الغريمين التاريخيين، لكن المعلومات القليلة التي رشحت تفيد بأن الاتفاق ينص على وقف دعم الحركات المسلحة الناشطة في منطقة شرق الكونغو، ويضمن مصالح كلٍّ من رواندا والكونغو، الاقتصادية والأمنية، ويوقف سيل الدماء النازف في هذه المنطقة الغنية بالمعادن النادرة، منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وبغض النظر عن محتوى الاتفاق، فإن هذا الحدث في حد ذاته يُعتبر تطورًا نوعيًا مهمًّا في الصراع الدامي المتطاول في شرق الكونغو الديمقراطية، ويُعد نجاحًا كبيرًا جدًّا للدبلوماسية الأميركية، عجزت عن تحقيقه قوى إقليمية ودولية كثيرة. ولا شك أن استقرار شرق الكونغو سيؤدي إلى استقرار إقليم البحيرات الكبرى المضطرب منذ سنوات، وسيعزز مسيرة التنمية، ويدفع حركة اقتصاد المعادن، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الولايات المتحدة لرعاية اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا. وفي سبيل التوصل إلى هذا الاتفاق، فإن الولايات المتحدة لم تبدأ من الصفر، لكنها اعتمدت على مخزون وافر من التجارب والاتفاقات التي تبنتها جهات أفريقية ودولية عملت منذ سنوات على هذا الملف، أهمها جهود أنغولا الطويلة باسم الاتحاد الأفريقي، وجنوب أفريقيا، ومحاولات المجموعة الاقتصادية لدول شرق أفريقيا، وانتهاءً بالمبادرة القطرية التي نجحت في جمع الرئيسين الكونغولي والرواندي في الدوحة، برعاية أمير دولة قطر. لكن الولايات المتحدة استفادت من كل ذلك التراث التفاوضي ونسبته لنفسها في اتفاق واشنطن. وكما يقول المثل الأفريقي: يجمعها النمل ويطؤها الفيل. انتهازية تشيسيكيدي السياسية كيف ولماذا التقطت أميركا القفاز ورمت بثقلها في هذه المبادرة المحفوفة بالمخاطر؟ ومن الذي وضع الطُعم المغري الذي جذب أميركا إلى أتون هذا الموضوع المعقّد؟ مرةً أخرى، هو اقتصاد التعدين والمعادن الثمينة والنادرة التي تزخر بها أرض الكونغو الديمقراطية. للإلمام برأس الخيط، علينا أن نستذكر التطور الدرامي للأحداث في شمال كيفو منذ مطلع هذا العام، والتي دارت بعكس ما تشتهيه حكومة الكونغو الديمقراطية. فقد استطاعت حركة M23 المتمردة، والمدعومة من الحكومة الرواندية، إلحاق هزيمة نكراء بالجيش الكونغولي في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وسيطرت على مدينة غوما الإستراتيجية، عاصمة إقليم شمال كيفو، ثم واصلت مسيرتها الظافرة وسيطرت على مدينة بوكافو، وبذلك أصبحت تسيطر على الوضع العسكري تمامًا في إقليم مهم سياسيًا، وغني بالموارد الطبيعية النادرة. وجد الرئيس تشيسيكيدي نفسه في موقف لا يُحسد عليه، وكان أمامه خياران أحلاهما مرّ: إما التفاوض مع حركة M23 وتقديم تنازلات سياسية مؤلمة، وهو ما ظل يرفضه منذ وصوله إلى السلطة، أو فقدان السلطة كلها، لأن الحركة المتمردة كانت قادرة على الزحف نحو العاصمة، مقتفية ذات الطريق الذي سلكه الرئيس السابق جوزف ديزيريه كابيلا في العام 1995، عندما استولى على إقليم كيفو، ثم واصل زحفه نحو العاصمة كينشاسا. في تلك الفترة، كان كثير من المراقبين يعتقدون أن أيام تشيسيكيدي في السلطة باتت محدودة. ولما كانت الحاجة أم الاختراع، توجه الرئيس الكونغولي نحو أميركا مباشرة، وقدم لها عرضًا مغريًا جدًا: المعادن الثمينة مقابل السلام والأمن في شرق الكونغو. ولما كانت حكومة الرئيس ترامب تفكر بعقل التجار، فقد كانت البيع رابحًا بالنسبة لها، وقبلت الرهان، وما خفي أعظم. عودة الى ممر لوبيتو تُعتبر منطقة البحيرات الكبرى منطقةً مهمةً جدًا لأميركا، لما تختزنه من ثروات طبيعية هائلة، وما تحويه أرضها من معادن نادرة وثمينة، ولقربها النسبي من أميركا عبر المحيط الأطلسي. لذلك، اهتمّت الإدارات الأميركية المختلفة بهذه المنطقة. ونذكر زيارة الرئيس الأميركي السابق بايدن إلى أنغولا، وزيارات وزير خارجيته المتعددة إلى دول جنوب وشرق أفريقيا. كان الهدف الرئيس هو السيطرة على موارد هذه المنطقة ومحاصرة النفوذ الصيني المتجذّر فيها. وهكذا، بلورت الولايات المتحدة مشروعًا اقتصاديًا طموحًا أُطلق عليه "ممر لوبيتو"، وهو طريق سكة حديد يمتد من أنغولا إلى زامبيا فالكونغو الديمقراطية، ومنها إلى المحيط الأطلسي. الغرض الرئيس من هذا المشروع هو نقل المعادن النفيسة في هذه المنطقة إلى الولايات المتحدة. ويُعتبر ممر لوبيتو هو الطريق "الضرار" لقطار "الحرية" الذي أنشأته الصين، والذي يربط زامبيا والكونغو وتنزانيا، ومنها إلى الصين عبر المحيط الهندي. وتُعتبر الصين المستثمر الأكبر في شرق الكونغو في مجال المعادن، باستثمارات إجمالية تتجاوز ستة مليارات دولار. فرص أمام الاتفاق وهكذا نرى أن هناك مصالح كبيرة لطرفي الاتفاق الأساسيين، وهما الولايات المتحدة الأميركية والكونغو الديمقراطية. ولما كانت مصالح أميركا كبيرة ومغرية، فقد استخدمت كل أدواتها الدبلوماسية، الناعمة والخشنة، لجرّ رواندا إلى قبول الاتفاق والتوقيع عليه. وهي في ذلك استخدمت سياسة "العصا والجزرة" المعروفة، حيث ضمن الاتفاق لرواندا مكاسب ليست بالقليلة. يحمل اتفاق واشنطن فرصًا عديدة لنجاحه، منها: الثقل السياسي للولايات المتحدة، راعية الاتفاق، التي سترمي بكل ثقلها العالمي للضغط على كل الأطراف المعنية للالتزام بما وقّعت عليه. ولدى أميركا أدوات كثيرة يمكن أن تستخدمها في سبيل ذلك. كثافة الضغوط الدولية على رواندا لرفع يدها الطويلة والكفّ عن تأجيج الصراع في شرق الكونغو. فقد جاهرت عدة جهات دولية نافذة، مثل فرنسا والاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا، باتهام رواندا بالتدخل السافر في دعم حركة "M23". وعليه، لم يعد إنكار كيغالي لتدخلها في الصراع مجديًا، ولذلك فإن رواندا نفسها بدأت تبحث عن مخرج مشرّف من هذا الصراع. أقرّ اتفاق واشنطن تكوين آلية مشتركة بين الكونغو ورواندا لمتابعة التنفيذ، والتأكد من وفاء كل طرف بالتزاماته، وربما تتطور هذه الآلية مستقبلًا لتصبح قوات مشتركة لمراقبة الحدود. كما أقرّ الاتفاق تكوين مجموعة مراقبة ثلاثية تضم أميركا وقطر والاتحاد الأفريقي، تسهر على التأكد من التزام كل الأطراف بما وقّعت عليه. ضمن اتفاق واشنطن لرواندا مكاسب اقتصادية مهمة، منها السماح بتصدير المعادن الثمينة عبر رواندا، وهو ما تقوم به الحركات المتمردة الآن بشكل غير رسمي، وكذلك التزام الشركات الأميركية بتطوير المناجم الموجودة داخل رواندا، بما من شأنه أن ينعش الاقتصاد الرواندي. تحديات أمام الاتفاق بالمقابل، فإن اتفاقية واشنطن تواجه صعوبات ليست بالهينة، قد تنعكس سلبًا على مصالح الراعي والرعية، منها: مدى استعداد الشركات الأميركية الكبرى للمجازفة بالعمل في منطقة ذات مخاطر أمنية عالية، يصعب السيطرة عليها. ويؤكد ذلك أن الشركات الصينية التي تعمل في هذه المنطقة كثيرًا ما تعرّضت لهجمات من الحركات المسلحة، وفقدت العديد من العاملين، لكنها تحمّلت تلك المخاطر بصبر كبير. لم يتحدث الاتفاق بوضوح عن الحركات المسلحة المنتشرة في هذه المنطقة منذ سنوات. ويبدو أن أميركا تعتمد في هذا الجانب على الجهود القطرية، وتتابع نتائج مفاوضات الدوحة الجارية بين حكومة الكونغو وحركة M23، وربما يُضمّن هذا الاتفاق كملحق لاتفاقية واشنطن. لكن ماذا عن قوات الجبهة الوطنية لتحرير رواندا، التي تصر الحكومة الرواندية على تصفيتها؟ وهل ستنظم الدوحة لقاءات أخرى بين هذه الجبهة وحكومة رواندا؟ وماذا عن الحركات الصغيرة الأخرى، التي أصبحت تعيش على فوهة البندقية؟ لم يرشح حديث بعد عن طبيعة اتفاق المعادن بين الكونغو وأميركا، وصرّح الرئيس الكونغولي الأسبوع الماضي أن الاتفاق لم يُوقّع بعد، لكنه سيكون اتفاقًا مرضيًا لشعب الكونغو، ويحفظ حقوق الدولة والأجيال القادمة. لكن المعلوم أن منطقة شرق كيفو تعمل فيها شركات صينية كثيرة منذ زمن بعيد، واستثمرت الصين أكثر من ستة مليارات دولار، كما أن دولًا أخرى مثل جنوب أفريقيا لها شركات عاملة في ذات المنطقة. فكيف ستوفق الحكومة الكونغولية بين كل هذه الفسيفساء دون أن تخلق صراعًا مبكرًا بين أميركا والصين على الموارد؟ وهل سيرضي هذا الاتفاق طموح مؤسسات المجتمع المدني الناشطة بقوة في إقليم كيفو؟ وهل سيرضي الاتفاق الأحزاب والتكتلات المعارضة التي تنشط بقوة في هذه المنطقة؟ خسارة دبلوماسية لقد حققت الولايات المتحدة الأميركية مكسبًا دبلوماسيًا مهمًا بنجاحها في إخراج اتفاقية واشنطن بين الكونغو الديمقراطية ورواندا. ويُعدّ الصراع في الكونغو، الذي تجاوز عمره الثلاثين عامًا، واحدًا من أكثر الصراعات تعقيدًا، ولا شك أن تسويته ستحقق استقرارًا كبيرًا في منطقة البحيرات الكبرى وشرق أفريقيا عمومًا. وهذا مكسب كبير يُحسب للدبلوماسية الأميركية. ولكن الخاسر الأكبر في ذلك هو الدبلوماسية الجماعية الأفريقية، التي عجزت على مدى ثلاثين عامًا عن جمع الفرقاء وتسوية هذا الصراع المتطاول، واكتفت فقط بالحضور والتصفيق في حفل التوقيع الكبير في واشنطن، وعادت من الغنيمة بالإياب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store