
"ديفايس".. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي بناء وجهك من الحمض النووي؟
في عالم تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات دقيقة لتحديد الهوية، برز الوجه البشري كأحد أهم السمات البيومترية التي تحمل بصمة جينية فريدة.
لطالما شكلت ملامح الوجه مفتاحا بصريا للتعرف على الأفراد، ليس فقط في الحياة اليومية، بل في ميادين دقيقة كعلم الأدلة الجنائية، حيث تلعب الخصائص الشكلية دورا حاسما في تحديد الهوية، خاصة عند غياب وسائل التعرف التقليدية.
ومع تطور تقنيات التسلسل الجيني عالي الإنتاجية، اتسعت آفاق التعرف الجنائي لتشمل نهجا أكثر طموحا: استخراج ملامح الوجه من الحمض النووي وحده.
ورغم التحديات التي تفرضها الطبيعة المعقدة للوراثة الوجهية، والتأثيرات المتشابكة للعوامل البيئية والجينية، تتوالى المحاولات لتجسيد الملامح البشرية انطلاقا من المادة الوراثية.
بيد أن تحويل الشيفرة الوراثية مباشرة إلى ملامح وجهية واقعية ظل هدفا معقدا، بفعل محدودية الفهم الجيني وصعوبة التنبؤ الدقيق بشكل الوجه البشري. ولكن بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي ، وخاصة نماذج التوليد متعددة الوسائط، أفسح المجال لابتكارات جذرية في هذا المجال.
وضمن هذا السياق، تبرز تقنية "ديفايس" (Difface) بوصفها مقاربة جديدة توظف نماذج الانتشار وخرائط التقابل بين البيانات الجينية والصور، لإعادة بناء وجه الإنسان بصورة ثلاثية الأبعاد اعتمادا على تسلسل الحمض النووي.
كيف يحول "ديفايس" الشيفرة الجينية إلى وجه ثلاثي الأبعاد؟
في دراسة حديثة نُشرت في مجلة "أدفانسد ساينس" (Advanced Science)، طور فريق من الباحثين في الأكاديمية الصينية للعلوم نموذجا مبتكرا يدعى "ديفايس"، يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء صور ثلاثية الأبعاد لوجوه البشر مباشرة من بيانات الحمض النووي.
ويربط هذا النموذج بين متغيرات جينية محددة تُعرف بتعدد أشكال النوكليوتيد المفرد (Single Nucleotide Polymorphisms-SNPs) والملامح الوجهية الظاهرة، مما يمكّنه من توقع ملامح الوجه بدقة.
وفي تعليق له، قال لونين تشين، أحد مؤلفي الدراسة: "تمكنت 'ديفايس' بشكل مذهل من إنشاء صور وجه ثلاثية الأبعاد للأفراد اعتمادا فقط على بيانات الحمض النووي، متوقعة مظهرهم في أعمار مستقبلية مختلفة".
ويستخدم "ديفايس" مزيجا من تقنيات متقدمة، تشمل التعلم متعدد الوسائط بالتباين، والهياكل الهجينة من المحولات (Transformers)، والتلافيف الحلزونية (Spiral Convolutions)، إضافة إلى آلية توليد تعتمد على نماذج الانتشار (Diffusion Models)، لترجمة الشيفرة الوراثية إلى تمثيل وجه واقعي عالي الدقة.
دقة جينية مدهشة في محاكاة الملامح
بحسب ما جاء في ورقة البحث، تمّ تدريب نموذج "ديفايس" باستخدام 9674 مجموعة بيانات تشمل ملفات المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" (SNPs) وعمليات مسح ثلاثي الأبعاد لوجوه أفراد من عرق الهان الصيني.
حيث يعتمد النموذج على تمثيل البيانات الجينية والسطوح الوجهية في مساحة مميزة منخفضة الأبعاد عبر تقنيات التعلم بالتباين، ثم يستخدم مكونات توليدية قائمة على نموذج الانتشار لإعادة بناء الوجه ثلاثي الأبعاد من هذا التمثيل.
وقد ساهم دمج متغيرات إضافية مثل العمر، والجنس، ومؤشر كتلة الجسم (BMI) في تعزيز دقة إعادة البناء بشكل ملحوظ، حيث حقق نموذج "ديفايس" معدل تعريف من الدرجة الأولى (Rank-1) بنسبة 3.33%، ومنطقة تحت المنحنى (AUC) بنسبة 80.7% في مهام التحقق.
من جهة أخرى، بلغ متوسط خطأ إعادة بناء الوجه (المسافة الإقليدية) 3.52 مليمترات عند استخدام متغيرات "إس إن بي إس" فقط، وانخفض إلى 2.93 مليمتر عند تضمين المتغيرات الظاهرية. كما أظهر النموذج قدرة دقيقة على التقاط التغيرات الوجهية عبر الفئات العمرية المختلفة، وحقق دقة تصنيف عالية في التمييز بين السمات الوجهية.
هل يمكن الوثوق بنتائج "ديفايس" رغم محدودية البيانات؟
رغم تفوق نموذج "ديفايس" في الحفاظ على دقة عالية حتى عند استخدام بيانات جينية جزئية، فقد لوحظ تراجع في الأداء عندما انخفضت تغطية المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" إلى أقل من 70%.
ومع ذلك، أظهر النموذج تنوعا وجهيّا شبه مطابق للتنوع الواقعي، حيث بلغت درجة التنوع "دي بي بي" (DPP) قيمة 9.66 مقارنة بـ0.9999 في الصور الحقيقية.
ومن أبرز مزاياه أيضا قابليته للتفسير، فبفضل استخدام قيم "إس إتش إيه بي" (SHAP) وتقنيات تحليل "جي دبليو إيه إس" (GWAS)، استطاع الباحثون تحديد المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" ذات ارتباط وثيق بسمات محددة مثل شكل الأنف وبنية عظام الخد. وقد تم التحقق من هذه النتائج بيولوجيا، حيث أظهرت توافقا مع مسارات تطورية معروفة في إطار "علم دلالة الجينات" (Gene Ontology).
آفاق تطبيقية واسعة ومستقبل واعد
يُظهر "ديفايس" إمكانات تطبيقية متعددة في مجالات متنوعة، من أبرزها:
الطب الشرعي: إذ يمكن استخدامه للتعرف على الأفراد اعتمادا على عينات "دي إن إيه" (DNA) تالفة أو غير مكتملة. وفي الطب الشخصي: يساهم في تقديم رؤى حول دور الجينات في تشكيل ملامح الوجه. وفي البحوث الجينية: يعزز فهم العلاقة بين الجينوم (Genome) والصفات الشكلية.
وفي تجربة ميدانية، تمكن المشاركون من مطابقة الوجوه الحقيقية مع الوجوه التركيبية بدقة بلغت 75.6% ضمن اختبارات متعددة الخيارات من 5 صور.
إعلان
ورغم أن النموذج تم تطويره باستخدام بيانات جينية من مجموعة سكانية متجانسة عرقيا (العرق الصيني)، فإن بنيته قابلة للتعميم. وقد شدد الباحثون على ضرورة تدريبه مستقبلا على بيانات متعددة الأعراق لتوسيع نطاق استخدامه، وضمان العدالة والإنصاف في مختلف التطبيقات.
تساؤلات أخلاقية ملحّة
على الرغم من التقدم التقني اللافت الذي يقدمه "ديفايس"، فإن استخدامه يثير تساؤلات جوهرية تتعلق بالخصوصية الجينومية، وإمكانية إعادة التعرف على الأفراد، وتوظيف التقنية في أنظمة المراقبة البيومترية.
إذ إن القدرة على توليد ملامح وجه من بيانات وراثية مجهولة الهوية تفتح الباب أمام احتمالات إساءة الاستخدام في مجالات مثل القانون، والرعاية الصحية، وشركات التأمين.
وقد حذر الخبراء من أن إساءة استخدام القدرة على استنتاج النمط الظاهري من الحمض النووي قد يؤدي إلى الوصول غير المصرح به إلى بيانات شخصية حساسة، أو حتى تمييز قائم على السمات الجينية المتوقعة.
فعلى سبيل المثال، رغم أن التصوير الظاهري الجنائي "إف دي بي" أصبح أداة متقدمة تستخدم في القضايا المعقدة، فإنه لا يزال يفتقر إلى الدقة الكافية فيما يتعلق بتوقع ملامح الوجه، مما قد يؤدي إلى الاشتباه الخاطئ في أبرياء أو مجموعات سكانية بعينها.
وتجلى هذا القلق في حادثة وقعت عام 2022 في كندا، حينما طلبت شرطة مدينة إدمنتون من العامة المساعدة في التعرف على مشتبه به باستخدام صورة مولدة حاسوبيا بناء على بيانات وراثية من الحمض النووي، في قضية اعتداء جنسي.
وقد واجهت هذه الخطوة انتقادات شديدة بسبب ضعف الشفافية في منهجية توليد الصورة، مما دفع الشرطة لاحقا إلى سحب طلبها. وكانت الصورة قد أُنتجت من قبل شركة "بارابون نانو لابس" (Parabon NanoLabs)، التي خضعت لانتقادات متكررة من قبل نشطاء الخصوصية والأخلاقيات.
من جهته، أكد الباحث المشارك تشين لموقع "كور هاوس نيوز سيرفس" (CourtHouse News Service) عبر البريد الإلكتروني أن الجانب الأخلاقي لم يكن هامشيا، بل "جزءا لا يتجزأ من عملية البحث"، مشيرا إلى أن الفريق اتخذ منذ البداية عددا من الإجراءات الإيجابية لضمان الامتثال الأخلاقي والقانوني، بما في ذلك العمل وفق معايير المراجعة المؤسسية الأخلاقية، وتقييد استخدام البيانات الجينية ضمن حدود البحث العلمي.
إلا أن الأمر يظل مرهونا بوضع إطار تشريعي وأخلاقي شامل، وفتح حوار متعدد التخصصات يجمع بين العلماء، والمشرعين، والخبراء في حقوق الإنسان، لضمان توجيه هذه الابتكارات ضمن مسارات آمنة ومنصفة.
بالنهاية، ورغم الدقة المتقدمة التي بلغها، لا يزال نموذج "ديفايس" في مرحلة التجربة والاستكشاف، مما يستدعي توسيع قاعدة البيانات العرقية، وتحسين تمثيل التنوع البشري، إلى جانب تعزيز الأطر الأخلاقية والقانونية المصاحبة له.
ولعل السؤال الأبرز في المستقبل لن يكون فقط: "هل يمكن التنبؤ بوجه الإنسان من حمضه النووي؟"، بل: "كيف يمكننا استخدام هذه القدرة بمسؤولية؟". سؤال يضع الذكاء الاصطناعي والعلوم الجينية أمام اختبار مزدوج: اختبار التقنية والقيم في آن واحد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
دوران الأرض "يتسارع" والأسباب غير واضحة إلى الآن
في ماضي الأرض السحيق، لم يكن اليوم كما نعرفه الآن، فعندما كانت الديناصورات تجوب الكوكب منذ أكثر من 200 مليون سنة، كان طول اليوم الواحد لا يتجاوز 23 ساعة تقريبا. ويعود هذا إلى أن دوران الأرض كان أسرع في تلك العصور الجيولوجية القديمة، نتيجة تأثيرات الجاذبية بين الأرض والقمر التي لم تكن قد أبطأت سرعة الكوكب بالشكل الذي نراه اليوم. يوم الـ25 ساعة وحتى في التاريخ الإنساني القريب نسبيا، خلال العصر البرونزي قبل نحو 4000 عام، تشير الدراسات إلى أن متوسط طول اليوم كان أقصر بنحو 0.47 ثانية مقارنة بطول اليوم الحالي البالغ حوالي 24 ساعة (أي 86 ألفا و400 ثانية). هذا الفارق الزمني البسيط لا يُلاحظ في الحياة اليومية، لكنه مهم جدا في الحسابات الفلكية وعلوم الأرض الدقيقة، ويُقاس من خلال تحليلات دقيقة لحركة الأرض باستخدام السجلات الجيولوجية والأثرية. وبالنظر إلى المستقبل، يتوقع العلماء أنه إذا استمرت عملية التباطؤ التدريجي لدوران الأرض نتيجة قوى المد والجزر وتأثيرات أخرى داخلية وخارجية، فإن طول اليوم سيواصل الزيادة. وتشير النماذج الفلكية إلى أنه بعد نحو 200 مليون سنة من الآن، سيصبح اليوم الواحد على الأرض يستغرق 25 ساعة كاملة بدلا من 24. هذا التغير البطيء في طول اليوم هو جزء من ديناميكية كوكبنا، ويتأثر بعوامل متعددة تشمل تفاعل الجاذبية بين الأرض والقمر وتغير توزيع الكتلة على سطح الأرض (مثل ذوبان الجليد) وتحولات في بنية الأرض الداخلية (مثل حركة اللب الخارجي السائل) وحتى النشاط الزلزالي والبراكين. تقلبات يومية بعبارة أخرى، الزمن نفسه كما نقيسه يوميا ليس ثابتا على مدى العصور، بل هو انعكاس لحركة كوكب حي، دائم التغير، ويستجيب لقوى كونية هائلة عبر ملايين السنين. ولكن إلى جانب التغيرات العميقة زمنيا، يشهد دوران الأرض أيضا تقلبات يومية، فالعوامل الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والمد والجزر والبنية الداخلية للأرض، يمكن أن تؤثر على سرعة دوران الكوكب، مما يؤدي إلى زيادتها أو نقصانها بشكل طفيف، وهذه التغيرات الدقيقة قد تتراكم مع مرور الزمن. ورغم أن الاتجاه العام لدوران الأرض يميل إلى التباطؤ، فقد لاحظ العلماء منذ عام 2020 أن الأرض بدأت تدور بشكل أسرع. وقد تم تسجيل هذه الملاحظة من خلال بيانات صادرة عن "الهيئة الدولية لدوران الأرض والنظم المرجعية" (آي إيه آر إس) التابعة للمرصد البحري الأميركي في واشنطن. أدى ذلك إلى أن بعض الأيام أصبحت أقصر من المعتاد بحوالي 1.5 إلى 1.6 مللي ثانية، وفي عام 2024، سُجل الخامس من يوليو/تموز كأقصر يوم حتى الآن، أقصر بـ1.66 مللي ثانية من المعتاد، وفي 2025، ستحدث أيام قصيرة مشابهة في التاسع من يوليو/تموز و22 يوليو/تموز والخامس من أغسطس/آب، حسبما نقلته منصة "تايم آند ديت". الثواني الكبيسة ويُعتقد أن هذا التسارع في الدوران قد يجعلنا بحاجة، ولأول مرة في التاريخ، إلى طرح ثانية كبيسة من التوقيت العالمي، وذلك بحلول عام 2029، هذا يعني أن الساعة ستقفز ثانية من 23:59:59 إلى 00:00:01 في التوقيت الدولي كاملا. في الواقع، فإن النظام الحالي الذي تديره "الهيئة الدولية لدوران الأرض والنظم المرجعية" يعتمد على إضافة أو حذف ثوانٍ كل بضع سنوات لتصحيح فرق التوقيت بين دوران الأرض والساعات الذرية، وكان الاتجاه دائما هو إضافة ثوان جديدة لضبط الوقت بدقة. وكان الموعد المحتمل التالي لإضافة ثانية جديدة هو 31 ديسمبر/كانون الأول 2025. مع ذلك، نظرا لسرعة دوران الأرض مؤخرا، فمن غير المرجح إضافة أي ثانية كبيسة في المستقبل القريب. تُضاف الثواني الكبيسة عادة إما في 30 يونيو/حزيران أو 31 ديسمبر/كانون الأول، وتحدث في نهاية اليوم، قبل منتصف الليل بقليل. وفي الساعة الرقمية، تُقرأ الثانية الكبيسة الساعة 23:59:60 مساء. يأتي ذلك في سياق ضبط التوقيت العالمي المنسق (يو تي سي)، وهو معيار التوقيت العالمي، وتُعرّف كل منطقة زمنية بعدد معين من الساعات أو الدقائق، متقدما أو متأخرا عن التوقيت العالمي المنسق. يتبع التوقيت العالمي المنسق في جوهره التوقيت الذري الدولي، الذي يجمع بيانات نحو 200 ساعة ذرية عالية الدقة، محفوظة في مختبرات متفرقة حول العالم. لمَ يتسارع دوران الأرض؟ لا يوجد تفسير واضح حتى الآن لهذا التسارع المرصود مؤخرا، لكن الأمر ليس غامضا بالمعنى "السحري" للكلمة، إذ يعتقد العلماء أن واحدا من العوامل التالية، أو كلها بتأثير مجتمع، كانت السبب في هذا التأثير: العوامل الداخلية: ربما شيء ما يحدث داخل الأرض نفسها (في القلب أو الطبقات السفلى) هو السبب، وليس في الغلاف الجوي أو المحيطات. قوى المد والجزر: سحب القمر لمياه الأرض يمكن أن يبطئ أو يُسرّع الدوران. الزلازل والبراكين: هذه الأحداث تغير توزيع الكتلة داخل الأرض وتؤثر على سرعتها. ذوبان الجليد القطبي: إعادة توزيع الكتلة بسبب ذوبان الجليد قد تؤثر على ميل الأرض وسرعتها. إعلان في كل الأحوال، فإن ذلك ليس له تأثير سلبي على حياتنا، فهذه التغيرات ضئيلة جدا، لكنها مهمة جدا لأنظمة التوقيت الدقيقة مثل الأقمار الصناعية وحركة الإنترنت والملاحة الجوية.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
"ديفايس".. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي بناء وجهك من الحمض النووي؟
في عالم تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات دقيقة لتحديد الهوية، برز الوجه البشري كأحد أهم السمات البيومترية التي تحمل بصمة جينية فريدة. لطالما شكلت ملامح الوجه مفتاحا بصريا للتعرف على الأفراد، ليس فقط في الحياة اليومية، بل في ميادين دقيقة كعلم الأدلة الجنائية، حيث تلعب الخصائص الشكلية دورا حاسما في تحديد الهوية، خاصة عند غياب وسائل التعرف التقليدية. ومع تطور تقنيات التسلسل الجيني عالي الإنتاجية، اتسعت آفاق التعرف الجنائي لتشمل نهجا أكثر طموحا: استخراج ملامح الوجه من الحمض النووي وحده. ورغم التحديات التي تفرضها الطبيعة المعقدة للوراثة الوجهية، والتأثيرات المتشابكة للعوامل البيئية والجينية، تتوالى المحاولات لتجسيد الملامح البشرية انطلاقا من المادة الوراثية. بيد أن تحويل الشيفرة الوراثية مباشرة إلى ملامح وجهية واقعية ظل هدفا معقدا، بفعل محدودية الفهم الجيني وصعوبة التنبؤ الدقيق بشكل الوجه البشري. ولكن بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي ، وخاصة نماذج التوليد متعددة الوسائط، أفسح المجال لابتكارات جذرية في هذا المجال. وضمن هذا السياق، تبرز تقنية "ديفايس" (Difface) بوصفها مقاربة جديدة توظف نماذج الانتشار وخرائط التقابل بين البيانات الجينية والصور، لإعادة بناء وجه الإنسان بصورة ثلاثية الأبعاد اعتمادا على تسلسل الحمض النووي. كيف يحول "ديفايس" الشيفرة الجينية إلى وجه ثلاثي الأبعاد؟ في دراسة حديثة نُشرت في مجلة "أدفانسد ساينس" (Advanced Science)، طور فريق من الباحثين في الأكاديمية الصينية للعلوم نموذجا مبتكرا يدعى "ديفايس"، يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء صور ثلاثية الأبعاد لوجوه البشر مباشرة من بيانات الحمض النووي. ويربط هذا النموذج بين متغيرات جينية محددة تُعرف بتعدد أشكال النوكليوتيد المفرد (Single Nucleotide Polymorphisms-SNPs) والملامح الوجهية الظاهرة، مما يمكّنه من توقع ملامح الوجه بدقة. وفي تعليق له، قال لونين تشين، أحد مؤلفي الدراسة: "تمكنت 'ديفايس' بشكل مذهل من إنشاء صور وجه ثلاثية الأبعاد للأفراد اعتمادا فقط على بيانات الحمض النووي، متوقعة مظهرهم في أعمار مستقبلية مختلفة". ويستخدم "ديفايس" مزيجا من تقنيات متقدمة، تشمل التعلم متعدد الوسائط بالتباين، والهياكل الهجينة من المحولات (Transformers)، والتلافيف الحلزونية (Spiral Convolutions)، إضافة إلى آلية توليد تعتمد على نماذج الانتشار (Diffusion Models)، لترجمة الشيفرة الوراثية إلى تمثيل وجه واقعي عالي الدقة. دقة جينية مدهشة في محاكاة الملامح بحسب ما جاء في ورقة البحث، تمّ تدريب نموذج "ديفايس" باستخدام 9674 مجموعة بيانات تشمل ملفات المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" (SNPs) وعمليات مسح ثلاثي الأبعاد لوجوه أفراد من عرق الهان الصيني. حيث يعتمد النموذج على تمثيل البيانات الجينية والسطوح الوجهية في مساحة مميزة منخفضة الأبعاد عبر تقنيات التعلم بالتباين، ثم يستخدم مكونات توليدية قائمة على نموذج الانتشار لإعادة بناء الوجه ثلاثي الأبعاد من هذا التمثيل. وقد ساهم دمج متغيرات إضافية مثل العمر، والجنس، ومؤشر كتلة الجسم (BMI) في تعزيز دقة إعادة البناء بشكل ملحوظ، حيث حقق نموذج "ديفايس" معدل تعريف من الدرجة الأولى (Rank-1) بنسبة 3.33%، ومنطقة تحت المنحنى (AUC) بنسبة 80.7% في مهام التحقق. من جهة أخرى، بلغ متوسط خطأ إعادة بناء الوجه (المسافة الإقليدية) 3.52 مليمترات عند استخدام متغيرات "إس إن بي إس" فقط، وانخفض إلى 2.93 مليمتر عند تضمين المتغيرات الظاهرية. كما أظهر النموذج قدرة دقيقة على التقاط التغيرات الوجهية عبر الفئات العمرية المختلفة، وحقق دقة تصنيف عالية في التمييز بين السمات الوجهية. هل يمكن الوثوق بنتائج "ديفايس" رغم محدودية البيانات؟ رغم تفوق نموذج "ديفايس" في الحفاظ على دقة عالية حتى عند استخدام بيانات جينية جزئية، فقد لوحظ تراجع في الأداء عندما انخفضت تغطية المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" إلى أقل من 70%. ومع ذلك، أظهر النموذج تنوعا وجهيّا شبه مطابق للتنوع الواقعي، حيث بلغت درجة التنوع "دي بي بي" (DPP) قيمة 9.66 مقارنة بـ0.9999 في الصور الحقيقية. ومن أبرز مزاياه أيضا قابليته للتفسير، فبفضل استخدام قيم "إس إتش إيه بي" (SHAP) وتقنيات تحليل "جي دبليو إيه إس" (GWAS)، استطاع الباحثون تحديد المتغيرات الجينية "إس إن بي إس" ذات ارتباط وثيق بسمات محددة مثل شكل الأنف وبنية عظام الخد. وقد تم التحقق من هذه النتائج بيولوجيا، حيث أظهرت توافقا مع مسارات تطورية معروفة في إطار "علم دلالة الجينات" (Gene Ontology). آفاق تطبيقية واسعة ومستقبل واعد يُظهر "ديفايس" إمكانات تطبيقية متعددة في مجالات متنوعة، من أبرزها: الطب الشرعي: إذ يمكن استخدامه للتعرف على الأفراد اعتمادا على عينات "دي إن إيه" (DNA) تالفة أو غير مكتملة. وفي الطب الشخصي: يساهم في تقديم رؤى حول دور الجينات في تشكيل ملامح الوجه. وفي البحوث الجينية: يعزز فهم العلاقة بين الجينوم (Genome) والصفات الشكلية. وفي تجربة ميدانية، تمكن المشاركون من مطابقة الوجوه الحقيقية مع الوجوه التركيبية بدقة بلغت 75.6% ضمن اختبارات متعددة الخيارات من 5 صور. إعلان ورغم أن النموذج تم تطويره باستخدام بيانات جينية من مجموعة سكانية متجانسة عرقيا (العرق الصيني)، فإن بنيته قابلة للتعميم. وقد شدد الباحثون على ضرورة تدريبه مستقبلا على بيانات متعددة الأعراق لتوسيع نطاق استخدامه، وضمان العدالة والإنصاف في مختلف التطبيقات. تساؤلات أخلاقية ملحّة على الرغم من التقدم التقني اللافت الذي يقدمه "ديفايس"، فإن استخدامه يثير تساؤلات جوهرية تتعلق بالخصوصية الجينومية، وإمكانية إعادة التعرف على الأفراد، وتوظيف التقنية في أنظمة المراقبة البيومترية. إذ إن القدرة على توليد ملامح وجه من بيانات وراثية مجهولة الهوية تفتح الباب أمام احتمالات إساءة الاستخدام في مجالات مثل القانون، والرعاية الصحية، وشركات التأمين. وقد حذر الخبراء من أن إساءة استخدام القدرة على استنتاج النمط الظاهري من الحمض النووي قد يؤدي إلى الوصول غير المصرح به إلى بيانات شخصية حساسة، أو حتى تمييز قائم على السمات الجينية المتوقعة. فعلى سبيل المثال، رغم أن التصوير الظاهري الجنائي "إف دي بي" أصبح أداة متقدمة تستخدم في القضايا المعقدة، فإنه لا يزال يفتقر إلى الدقة الكافية فيما يتعلق بتوقع ملامح الوجه، مما قد يؤدي إلى الاشتباه الخاطئ في أبرياء أو مجموعات سكانية بعينها. وتجلى هذا القلق في حادثة وقعت عام 2022 في كندا، حينما طلبت شرطة مدينة إدمنتون من العامة المساعدة في التعرف على مشتبه به باستخدام صورة مولدة حاسوبيا بناء على بيانات وراثية من الحمض النووي، في قضية اعتداء جنسي. وقد واجهت هذه الخطوة انتقادات شديدة بسبب ضعف الشفافية في منهجية توليد الصورة، مما دفع الشرطة لاحقا إلى سحب طلبها. وكانت الصورة قد أُنتجت من قبل شركة "بارابون نانو لابس" (Parabon NanoLabs)، التي خضعت لانتقادات متكررة من قبل نشطاء الخصوصية والأخلاقيات. من جهته، أكد الباحث المشارك تشين لموقع "كور هاوس نيوز سيرفس" (CourtHouse News Service) عبر البريد الإلكتروني أن الجانب الأخلاقي لم يكن هامشيا، بل "جزءا لا يتجزأ من عملية البحث"، مشيرا إلى أن الفريق اتخذ منذ البداية عددا من الإجراءات الإيجابية لضمان الامتثال الأخلاقي والقانوني، بما في ذلك العمل وفق معايير المراجعة المؤسسية الأخلاقية، وتقييد استخدام البيانات الجينية ضمن حدود البحث العلمي. إلا أن الأمر يظل مرهونا بوضع إطار تشريعي وأخلاقي شامل، وفتح حوار متعدد التخصصات يجمع بين العلماء، والمشرعين، والخبراء في حقوق الإنسان، لضمان توجيه هذه الابتكارات ضمن مسارات آمنة ومنصفة. بالنهاية، ورغم الدقة المتقدمة التي بلغها، لا يزال نموذج "ديفايس" في مرحلة التجربة والاستكشاف، مما يستدعي توسيع قاعدة البيانات العرقية، وتحسين تمثيل التنوع البشري، إلى جانب تعزيز الأطر الأخلاقية والقانونية المصاحبة له. ولعل السؤال الأبرز في المستقبل لن يكون فقط: "هل يمكن التنبؤ بوجه الإنسان من حمضه النووي؟"، بل: "كيف يمكننا استخدام هذه القدرة بمسؤولية؟". سؤال يضع الذكاء الاصطناعي والعلوم الجينية أمام اختبار مزدوج: اختبار التقنية والقيم في آن واحد.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
هل أخطأ العلماء بشأن الانقراضات الخمسة الكبرى؟
مقدمة الترجمة لطالما رسمت كتب التاريخ صورة مهيبة للانقراضات الجماعية: خمسة أحداث كارثية قلبت موازين الحياة على الأرض، أبادت الديناصورات، وأغرقت المحيطات في صمت موحش، وأحرقت اليابسة بأسرارها المنقرضة. لكن، ماذا لو كانت هذه الصورة مجرد انطباع ناقص؟ ماذا لو أن اليابسة لم تشهد يومًا تلك الكوارث المروّعة التي نسبناها لها بهذا الشكل المُتخيّل؟ في هذا المقال، من مجلة "نيوساينتست" العلمية، نغوص عميقًا في قلب السجلات الأحفورية، ونتتبع ما تقوله النباتات والحشرات والفقاريات البرية عن قصة الانقراض الحقيقي، أو غيابه. وما بين الشك واليقين، وما بين المألوف والمفاجئ، سنعيد معًا التفكير في الماضي، لنفهم الحاضر، وربما ننقذ المستقبل. نص الترجمة شهدت الأرض حدثًا يُعد الأشد فتكًا في تاريخها، وهو الانقراض الجماعي في نهاية العصر البرمي، الذي وقع قبل نحو 252 مليون سنة، ويُسمى أيضًا "الموت العظيم". يعتقد العلماء أن هذا الحدث قضى تقريبًا على معظم أشكال الحياة على كوكب الأرض. ورغم هول هذه الكارثة، كشفتْ لنا الأبحاث الحديثة هذا العام عن مفاجأة مدهشة؛ ففي موقع جيولوجي يُدعى تاودونغو الجنوبي، فيما يُعرف اليوم بالصين، وجد العلماء بقايا نظام بيئي نابض بالحياة، لا يفصل ظهوره عن الكارثة سوى 75 ألف عام، وهي فترة قصيرة للغاية من منظور الزمن الجيولوجي. وكأن الحياة أبت إلا أن تنهض من رمادها، لتعلن عن معجزة متفردة. على خلاف التصورات الراسخة، لا يرى عالم الحفريات هندريك نواك، من جامعة نوتنغهام البريطانية، في الانقراض البرمي نهاية شاملة كما يُروى، على الأقل في عالم النبات. فعبر تحليله لحبوب لقاح متحجرة من مواقع متعددة، توصل إلى أن الاضطراب الذي سبّبه هذا الحدث لم يكن إلا اضطرابا عابرًا أو محدود الأثر. وبناءً على هذه الأدلة، يجادل نواك بأن الحدث لم يكن بالحدة التي نعتقدها، فلم تشهد النباتات انقراضا جماعيا حقيقيا في ذلك الوقت. ورغم الجدل الذي أثارته أطروحات هندريك نواك، فإن صدى أفكاره لم يتردد وحيدًا في الأوساط العلمية، إذ أجريت دراسات على الحشرات وحيوانات اليابسة ذات الأطراف الأربعة، ورسمتْ ملامح رواية مماثلة تؤكد أن الحياة على الأرض ربما لم تُسحق تحت وطأة الانقراض البرمي كما كنا نعتقد. لم يعد نواك وحده الذي يتبنى هذا الرأي، إذ يشاركه الشك عالمُ الحفريات سبنسر لوكاس، من متحف نيو مكسيكو للتاريخ الطبيعي والعلوم، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، معلنًا اعتقاده بأن الحياة على اليابسة لم تعرف يومًا انقراضًا جماعيًا بحق. ويضيف قائلاً: "تملك الكائنات البرية فرصة أفضل للنجاة من انقراض كبير، مقارنة بأقرانها في أعماق البحار". قد يُعيد هذا التحول الجذري في طريقة فهمنا للانقراضات؛ كتابة تاريخ الحياة على كوكب الأرض من جديد. فإذا ثبتت صحة هذه الرؤية، فإنها ستقلب المفهوم الراسخ بأن القارات شهدت 5 حالات انقراض جماعي كبرى. بل إن لهذا التوجه تأثيرًا أعمق قد يتجاوز الماضي، ويُعيد تشكيل فهمنا لأبعاد أزمة التنوع البيولوجي الحالية الناجمة عن الأنشطة البشرية. صحيح أن الديناصورات التي انقرضت قبل نحو 66 مليون سنة تُعد أشهر ضحايا الانقراضات الجماعية، إلا أن معظم ما نعرفه عن هذه الأحداث الكارثية يستند في الأساس إلى دراسة الحياة البحرية. ففي عام 1982، أجرى عالمَا الحفريات، ديفيد راوب، وجاك سيبكوسكي، تحليلًا لسجل الحفريات البحرية يمتد إلى نصف مليار سنة، ولاحظا خلاله 5 فترات شهدت انهيارات حادة في التنوع البيولوجي البحري. أصبحت تُعرَف هذه الفترات لاحقًا باسم "الانقراضات الخمسة الكبرى"، وهي: نهاية العصر الأوردوفيشي (قبل 445 مليون سنة)، وأواخر العصر الديفوني (قبل 372 مليون سنة)، ونهاية العصر البرمي (قبل 252 مليون سنة)، ونهاية العصر الترياسي (قبل 201 مليون سنة)، وأخيرًا نهاية العصر الطباشيري (قبل 66 مليون سنة)، وهو الحدث الذي شهد انقراض معظم الديناصورات. وقد أرست هذه التحليلات الأساس الذي انطلقت منه فرضية أن الأرض مرت بخمس موجات كبرى من الانقراض الجماعي. ما وراء المحيطات لا شك في أن الانقراضات الجماعية الكبرى اجتاحت أعماق البحار بكل عنف، مدمّرةً عوالم كاملة من الكائنات البحرية. لكن، باستثناء الديناصورات، لم يكن واضحا في البداية ما إذا كانت تلك الكوارث قد امتدّت أيضًا إلى النظم البيئية على اليابسة. في الوقت نفسه، يتذكّر مايك بينتون، من جامعة بريستول، كيف كانت كتب الثمانينيات تؤكد بثقةٍ أن لا أدلة واضحة على حدوث انقراض جماعي لرباعيات الأطراف التي عاشت على اليابسة في نهاية العصر البرمي. بدت تلك الكائنات التي تنحدر منها اليوم الزواحف والبرمائيات والطيور والثدييات، وكأنها نجت من مقصلة الفناء الجماعي. ويرى بينتون أن هذا التصور لم يكن نتيجة قناعة علمية بقدر ما كان نتيجة نقص في البيانات، فالكائنات البحرية الميتة يَسهُل أن تُدفن في قاع البحر وتبدأ عملية التحجّر، أما الكائنات البرية فاحتمالية تحوّلها إلى أحافير أقلُّ بكثير، مما يجعل الأدلة على وجودها أو انقراضها أندر وأصعب في التتبع. ومع أن الأرض نادراً ما تحتفظ بأسرارها كاملة، فإن بعض المواقع الجيولوجية القليلة نجحت في تخليد جزء ثمين من سجل الحياة على اليابسة خلال لحظات الانقراض الجماعي. وعلى مدار الأعوام الثلاثين الماضية، كرس الباحثون جهودًا مضنية في جمع وتحليل بقايا الكائنات الرباعية الأطراف من هذه المواقع. وبحسب مايك بينتون، بدأت ملامح الصورة تتضح شيئا فشيئا، فقد شهدت اليابسة -كشأن المحيطات- انقراضات جماعية لتلك الكائنات. ويبدو ذلك منطقيًا، خاصة أن الانقراضات الخمسة الكبرى كانت مدفوعة بمجموعة من العوامل البيئية العنيفة، مثل التغير المناخي السريع، والاضطرابات البيئية الهائلة الناتجة عن ارتطام الكويكبات أو النشاط البركاني. ويضيف بينتون أن هناك تفاعلات كبيرة ومعقدة بين اليابسة والمحيطات، فمثلاً، ظاهرة الاحتباس الحراري الجامح تمتد أثرها بلا رحمة إلى الجميع. لهذا، يصعب أن نتخيل انقراضًا جماعيًا بهذا الحجم يمكن أن يضرب أحد الجانبين دون أن يمتد أثره إلى الجانب الآخر. لقد أصبحت العلاقة بين الانقراضات الجماعية في البحر والبر واضحة إلى حدّ أن العديد من العلماء باتوا يعتبرونها حجر الأساس لفهم تلك الأحداث الكارثية. ومن جانبه، يقول بول ويغنال، من جامعة ليدز في المملكة المتحدة: "لا تعرف الانقراضات الجماعية حدودًا، إنها تضرب كل شيء في الوقت نفسه.. لا تفرّق بين المحيطات واليابسة". ومع ذلك، أبدى بعض الباحثين شكوكًا حول هذا التصور، ويبرز من بينهم عالم الحفريات سبنسر لوكاس. ففي ورقة بحثية نُشرت عام 2017، درس لوكاس الادعاء القائل بوقوع انقراض جماعي لرباعيات الأطراف البرية في نهاية العصر البرمي، وتوصل إلى نتيجة مغايرة، وهي أن بعض الانقراضات حدثت بالفعل، لكنه قدّر أن أقل من 20 جنسًا فقط قد اختفى، وهو عدد ضئيل لا يرقى إلى مستوى الكارثة البيئية، خاصة في وقتٍ كانت فيه الأرض تعج بمئات -وربما آلاف- الأجناس من تلك الكائنات. ويضيف: "لم يكن هناك انقراض جماعي كبير لرباعيات الأطراف على اليابسة في نهاية العصر البرمي". منذ ذلك الحين، وسّع لوكاس نظرته النقدية لتشمل بقية الانقراضات الخمسة الكبرى. وفي مراجعة نُشرت عام 2021، خرج باستنتاج جريء، وهو أن الكائنات الرباعية الأطراف التي عاشت على اليابسة لم تتأثر بشكل يُذكر بأيٍّ من تلك الانقراضات، بل نجت منها بأقل الخسائر، ويعبّر عن رأيه بصراحة قائلاً: "أعتقد أن هناك الكثير من المبالغات في هذا الأمر". صحيح أن اختفاء الديناصورات غير الطائرة في نهاية العصر الطباشيري يُعد حدثًا جللًا، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى الانقراض الجماعي بالمعنى الحاسم. فها هي التماسيح -من كبار سكان اليابسة- قد عبرت العاصفة سالمة، وكذلك الثدييات، وحتى الطيور، التي هي في الأصل سلالة من الديناصورات، لم تنقرض أيضًا. ويرى لوكاس أن رباعيات الأطراف البرية تتمتع بميزة تجعلها أكثر قدرة على النجاة، فالهواء أقل لزوجة من الماء، ما يعني أن الهجرة إلى بيئات جديدة بعد تدهور الموطن الأصلي تُكلِّف طاقة أقل بكثير للكائنات البرية، مقارنةً بالكائنات البحرية. الحشرات.. أبطال البقاء في وجه الانقراض كان من الطبيعي أن يثير هذا الادعاء الجريء موجة من الجدل والرفض. فعلى سبيل المثال، يُصرّ مايك بينتون على أن هذه الكائنات شهدت بالفعل موجة انقراض هائلة في نهاية العصر البرمي، شملت انقراض فروع كاملة مثل الجورجونوبسيات، وهي مجموعة من الحيوانات المنقرضة التي كانت تعيش خلال العصر البرمي المتأخر، وتعتبر من أوائل الحيوانات ذات الأسنان السيفية. لكنه يوضح أن هذا الانقراض لم يكن لحظة مفاجئة، بل امتد على مدى مليون عام تقريبًا. ويرى أن لوكاس أغفل "الصورة الكبرى" عندما ركّز تحليله فقط على اللحظات الأخيرة من تلك المرحلة الطويلة من الانحدار البيولوجي. ومن بين الأصوات المنتقدة أيضًا بول ويغنال، الذي علّق قائلا: "من العدل أن نقول إن وجهة نظر لوكاس لا تمثل التيار السائد في المجتمع العلمي". ومع ذلك، لا يُعدّ لوكاس الصوت الوحيد الذي يشكّك في نموذج "الانقراضات الخمسة الجماعية". فبعيدًا عن الجدل المتعلق برباعيات الأطراف، بدأ باحثون متخصصون في دراسة مجموعات أخرى من الكائنات البرية الكبرى؛ بالتوصّل إلى استنتاجات مشابهة. إذا شئنا أن نُجسّد ما نقول، فالحشرات خير شاهد على ذلك، إذ يوجد منها اليوم ملايين الأنواع. ففي عام 2021، تعاونت ساندرا شاشات، التي تعمل حاليًا بجامعة هاواي في مانوا، مع كونراد لاباندييرا، من المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في واشنطن، لدراسة السجل الأحفوري للحشرات. وخلصا كلاهما إلى أن هذه الكائنات الدقيقة لا تبدو وكأنها شهدت انقراضًا جماعيًا عبر تاريخها. لكن هذا لا يعني أن الحشرات عاشت حياة خالية من الأزمات، إذ شهدت مجتمعاتها تحولات كبيرة قرب نهاية العصر البرمي. في تلك الفترة، انقرضت مجموعات مهمة، مثل الحشرات الشبيهة باليعاسيب المعروفة باسم "شبكيات الأجنحة القديمة"، بينما صعدت مجموعات أخرى مثل "نصفيات الأجنحة" التي تضم "البق الحقيقي" إلى واجهة المشهد البيئي. ومع ذلك، تؤكد ساندرا شاشات، أن الطريقة التي حدثت بها هذه التغيرات ما تزال غامضة، بسبب هشاشة السجل الأحفوري للحشرات، الذي يفتقر إلى بيانات تغطي نحو 20 مليون سنة قرب نهاية العصر البرمي. وعلى امتداد هذه الفترة الزمنية الطويلة، قد يمر مجتمع الحشرات بتحوّلات كبيرة وتغيرات عميقة تحدث تدريجيًا، دون أن يكون هناك بالضرورة كارثة كبرى أو انقراض مفاجئ. وتوضح شاشات أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص السجل الأحفوري، فعندما تكون الفجوات الزمنية بين الحفريات المتوفرة كبيرة وتمتد لعشرات الملايين من السنوات، يغدو من الصعب تتبعُ التغيرات بدقة. كما أنه من الطبيعي أن تظهر اختلافات كبيرة بين ما نراه في كل فترة زمنية، سواءٌ وقع انقراض جماعي أم لم يقع. يرى بعض الباحثين، ومن بينهم ويغنال، أن التغيرات التي طرأت على مجتمع الحشرات قرب نهاية العصر البرمي، يُحتمل أن تكون نتيجة لانقراض جماعي، وهو تفسير يبدو منطقياً في نظرهم. لكن شاشات تُبقي الباب مفتوحاً أمام هذا الاحتمال، مع تأكيدها على نقطة أساسية كثيرًا ما نغفل عنها، وهي أن الحشرات تتمتع بقدرات مذهلة على التكيّف والبقاء في وجه الأوقات العصيبة. ففي دراستها التي نُشرت عام 2021 مع لاباندييرا، أوضحت أن الحشرات تتميز بأعداد هائلة ودورات حياة قصيرة، ما يمنحها قدرة فائقة على التغيّر السريع والتأقلم مع البيئات المتقلبة. إلى جانب ذلك، تمتلك الحشرات آلية دفاع طبيعية تُعرف باسم "البيات" أو "السبات المؤقت"، حيث تدخل في حالة خمول إلى أن تتحسن الظروف البيئية. الجدير بالذكر أن بعض اللافقاريات البحرية تمتلك سمات شبيهة بتلك التي تساعد الحشرات على النجاة، إلا أن العيش في البيئة البحرية قد يجعلها أكثر عرضة للانقراض، كما تشير ساندرا ولاباندييرا. فالتحولات في مستويات الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يمكن أن تؤدي إلى موت الكائنات البحرية اختناقًا نتيجة لنقص الأوكسجين. أما الكائنات البرية فهي لا تواجه هذا النوع من المخاطر البيئية. وعن ذلك، تقول ساندرا: "نلاحظ تغيرات هائلة في المجتمعات البحرية تتزامن مع انخفاض مستويات الأوكسجين في الغلاف الجوي، لكن حين نُقارن ذلك بسجل الحياة على اليابسة، لا نجد شيئًا مماثلًا". لا يبدو أن السجل الأحفوري للنباتات البرية ينصاع للرواية الكلاسيكية التي تروي حكاية الانقراضات الخمسة الكبرى. ففي عام 2013، غاص كل من بورخا كاسكالس ميانيانا، الذي يعمل حاليًا بجامعة ليل بفرنسا، وكريستوفر كليال، الذي يعمل حاليًا بجامعة بريستول، في أعماق هذا السجل الأحفوري، ليخرجا بنتيجة لافتة، وهي أن انقراضات النباتات الجماعية نادرة، وربما أندر مما كنا نظن. فعلى سبيل المثال، لم تنقرض أي عائلة من النباتات الوعائية -كالسراخس والصنوبريات- خلال ما يُعرف تقليديًا بالانقراض الخامس عند نهاية العصر الطباشيري، بل خلصا إلى أن حدثًا واحدًا فقط من بين "الخمسة الكبار" -وهو نهاية العصر البرمي- يمكن أن يُعَد انقراضًا حقيقيًا للنباتات. ومع ذلك، فإن الاكتشافات الحديثة في موقع "ساوث تاودونغو" (حيث وُجدت حياة نباتية نابضة بعد فترة وجيزة من تلك الكارثة*)، تُلقي بظلال الشك حتى على هذا الحدث. في السياق ذاته، يقول عالم الحفريات هندريك نواك، من جامعة نوتنغهام البريطانية: "حين نتأمل السجل الأحفوري من منظور شامل، سيتبدى بوضوح أن شيئًا جللا قد وقع.. لقد تغيّرت النباتات البرية تغيرًا ملحوظًا". فمثلا، اختفت الغابات التي كانت تهيمن عليها نباتات السراخس اللسانية، أو ما تُسمى "الغلوسوبتريس" في نهاية العصر البرمي، لكنه يتساءل: "هل يكفي هذا لنُطلق عليه انقراضًا جماعيًا؟". في دراسة نُشرت عام 2019، رأى نواك وزملاؤه أن الإجابة هي لا، وخلصوا إلى أن ما جرى لم يكن كارثة شاملة، بل تأثيرًا متفاوتًا. بمعنى أن بعض النباتات -مثل السرخسيات- قد تضررت، بينما نجت أخرى وازدهرت، مثل الصنوبريات التي يبدو أنها تنوّعت وتكاثرت. لكن في الجهة الأخرى من هذا الجدل، يقف كاسكالس ميانيانا وكليال ثابتين على رأيهما بأن نهاية العصر البرمي كانت بالفعل لحظة انقراض جماعي في عالم النبات، ويشيران إلى أن فريق نواك استند بشكل أساسي إلى دراسة حبوب اللقاح والأبواغ التي تُنتجها الأشجار بالمليارات، وهو ما قد يخلق انطباعًا زائفًا بوجود تنوع نباتي حتى في ظل تراجع حقيقي. تأكيدًا على ذلك، يقول كاسكالس ميانيانا: "إذا كنت تحصي الأبواغ، فأنت لا تحصي النباتات". (والأبواغ هي خلايا تكاثرية دقيقة تُنتجها بعض الكائنات الحية مثل الفطريات، والطحالب، والنباتات، وتُستخدم أساسًا للتكاثر أو الانتشار أو البقاء في الظروف القاسية.*) وبرغم ما يُثار من خلاف، فإن الخلاصة الكبرى تبقى ماثلة بوضوح، وهي أن النباتات لم تكن الضحية الكبرى في معظم الانقراضات الخمسة، وهي فرضية أصبحت اليوم أشبه بقناعة راسخة في وجدان علماء النباتات القديمة، كما يوضح كليال. يرجّح العلماء أن السبب وراء عدم تعرض النباتات لانقراضات جماعية حقيقية يعود بالأساس إلى طبيعتها البيولوجية. فالنباتات تمتلك آليات متطورة تتيح لها الصمود في وجه الكوارث البيئية، ويشير الباحث كليال إلى أن أبرز هذه الآليات هي قدرتها على البقاء لفترات طويلة -قد تمتد لعقود أو حتى قرون- في هيئة بذور أو أبواغ كامنة تنتظر الظروف الملائمة لتنبت من جديد. ولتوضيح ذلك، يُقدِّم مثالًا بسيطًا بقوله: "تخيّل معي لو قُدّر لجميع الفيلة أن تُبَاد من على وجه الأرض، ستكتشف أنه لا يوجد أثر لأي فيل على الإطلاق بعد 10 سنوات، في حين لو اجتُثتْ جميع أشجار البلوط فقد تعود غابات البلوط للنمو بعد 10 سنوات، لأن ثمار البلوط -وإن قُطعت الأشجار- تشرع في النمو مجددًا. هل نحن على أعتاب انقراض سادس؟ إن نجاة النباتات من معظم -وربما جميع- الانقراضات الخمسة الكبرى تفتح الباب أمام تساؤل فلسفي عميق، طرحه لأول مرة العالِمان كاسكالس ميانيانا وكليال في دراستهما عام 2013: "هل يحق لنا أن نصف حدثًا ما بالانقراض الجماعي إذا كان أثره يطال كائنات محددة فقط، بينما تمر مجموعات كبرى أخرى -كالنباتات- دون أن تنحني لعاصفته؟ يرى سبنسر لوكاس أن الجواب هو لا. ففي نظره، لا يكون الانقراض حقًّا جماعيًا إلا إذا انهارت القاعدة التي يقوم عليها الهرم البيئي، وهي النباتات. ويتساءل ساخرًا: "كيف تنهار منظومة الحياة على اليابسة إذا كانت جذورها -أي النباتات- لا تزال متماسكة؟ وبما أن النباتات لا تنقرض في مثل هذه الظروف، فكيف تنهار المنظومة الحيوانية إذًا؟". تتسع فجوة الشك يوماً بعد يوم حول ما يمكن اعتباره "انقراضا جماعيا"، وهذه الريبة لا تقف عند حدود الجدل الأكاديمي، بل تمتد لتطال فهمنا العميق لأزمة التنوع البيولوجي الراهنة التي يشهدها كوكب الأرض بفعل النشاط البشري. لقد بات من المألوف أن يُطلق البعض على ما نعيشه اليوم اسم "الانقراض الجماعي السادس"، غير أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا، فبالنسبة للحياة على اليابسة، قد يكون هذا في الحقيقة أول اختبار لها من هذا النوع. ومع ذلك، فإن مجرد إطلاق تسميات كهذه قد لا يكون دقيقًا أو منصفًا. ففي دراستهما المنشورة عام 2021، تُحاجِج العالمة ساندرا شاشات وزميلها لابانديير بأن الإعلان عن انقراض جماعي بين الحشرات لا ينبغي أن يتم إلا إذا شهدنا اندثار فروع كاملة من شجرة تطورها. ولا جدال في أن هذه الكائنات الصغيرة تمرّ حاليًا بفقدان كارثي في أعدادها، إلا أن الباحثين يؤكدان عدم وجود دلائل حقيقية تشير إلى أننا بلغنا حافة هاوية بهذا القدر من التطرّف. قد يبدو من التهور أن نشكك في مصطلح "الانقراض الجماعي السادس" الذي هو أشبه بصيحة استغاثة في وجه الخراب البيئي المتسارع. ومع ذلك، يرى جون وينز، من جامعة أريزونا، أن التمسك بهذا الخطاب قد لا يخدم القضية كما نظن، ويقول: "تتكرر الدعوات اليوم إلى التحذير من اقتراب الانقراض الجماعي السادس"، لكنه يتساءل: أهو هدف طموح حقا؟ فبرأيه، هذا الهدف ليس طموحًا بما يكفي، ولا يعكس حجم الإلحاح الحقيقي المطلوب في جهود الحماية البيئية. لفهم جوهر هذا الجدل، لا بد من العودة إلى البدايات، إلى الأساس الذي يُبنى عليه هذا المصطلح. فرغم شيوع الحديث عن "الانقراض الجماعي"، فإنه لا يحظى بتعريف صارم ومتفق عليه، وإن كان هناك إجماع عام على أنه يشير إلى فقدان ما لا يقل عن 75% من الأنواع خلال فترة تمتد من عدة آلاف إلى نحو مليوني سنة. وفي ضوء هذا المعيار، تبدو الصورة الحالية أقل سوداوية مما يُروّج لها، إذ تُظهر التقديرات أن أقل من 0.1% من الأنواع المعروفة قد انقرضت خلال السنوات 500 الماضية. ويشير جون وينز، في دراسة حديثة شارك فيها مع الباحثة كريستين سابان، من جامعة هارفارد، إلى أن هذه الأرقام توحي بأن "تفادي الانقراض الجماعي السادس -إن جاز لنا وصفه بذلك- قد لا يكون المهمة المستحيلة التي نُصوّرها لأنفسنا، بل سيكون أمرًا يسيرًا مقارنة بما تعنيه الانقراضات الجماعية الحقيقية من دمار شامل". على الجانب الآخر، يقول وينز ساخرًا: "قد نفقد نصف الأنواع الموجودة على كوكب الأرض خلال السنوات 3000 القادمة، ورغم ذلك سنحتفل قائلين: لقد فعلناها! لقد تجنبنا الانقراض الجماعي السادس". لكن، وبحسب رؤيته، فإن الاكتفاء بمثل هذا الهدف الهزيل لا يعكس طموحًا حقيقيًا في الحفاظ على الحياة، بل قد يكون خادعًا ومضللا. فلو أردنا فعلًا الحفاظ على تنوع الكائنات، علينا ألّا ننتظر اقتراب الفاجعة، بل نتحرك الآن لمنع الانقراضات البشرية من أن تقترب حتى من عتبة 0.2%. أما أن نطمئن لمجرد أننا لم نبلغ 50 أو 75% من الانقراض، فذاك تساهل لا يليق بحجم التحدي. لا ريب أن السجال سيظل محتدمًا حول ما إذا كانت اليابسة قد عرفت حقًا 5 موجات من الانقراض الجماعي، أو واحدة فحسب، أم أنها لم تشهد شيئًا منها على الإطلاق. غير أن هذا الجدل العلمي، بكل ما يحمله من أبعاد وتفاصيل، لا يُنقص شيئًا من خطورة ما نواجهه اليوم، وهو ما يؤكد عليه جون وينز بأن هناك أزمة بيئية راهنة وملحّة تستدعي تحركًا عاجلًا. ويضيف أن ربط هذه الأزمة بمفهوم "الانقراض الجماعي السادس" قد يبدو شائعًا ومؤثرًا اليوم، لكنه ليس الطريقة الأنسب أو الأدق للتفكير في الأمر.