
العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مدينة فاس
فزائر المدينة يعثر على ملامح العمارة ذات البعد العسكري في مواقع عدة، مثل: باب الجيسة، وباب المحروق، وباب القصبة القديمة، وباب بوجلود، وباب الحديد، وباب الفتوح، وقصبة الشراردة، وقصبة تمدارت، وغيرها من المباني ذات الطابع العسكري.
وهذا يعني أننا أمام مدينة لطالما لعبت دورا عسكريا مهما في تاريخ المغرب، باعتبارها فضاء حيويا لظهور هذا النوع من العمارة، الذي نجده أيضا في عدد من المدن التي شكلت عواصم في مراحل مختلفة من التاريخ المغربي.
غياب المؤرخ الفني
على الرغم من أن المصادر التاريخية تتحدث عن أشكال معمارية أخرى لم تعد موجودة على أرض الواقع، فإن الزائر للمدينة يجد نفسه أمام خلطة حضارية مركبة يصعب الإمساك بها ومعرفة ملامحها الجمالية وتطورها التاريخي وأبعادها الفنية.
لذلك، فإن المجال المعماري والبحث في تاريخ الفنون عموما لم يحظ باهتمام كبير من لدن الباحثين المغاربة والعرب، مقارنة بالتاريخ السياسي ونظيره الاجتماعي.
فهذا المبحث العلمي ظل مغيبا داخل المدونة التاريخية، لأسباب في مجملها علمية، ترتبط بالتكوين داخل الجامعات والمعاهد. إذ لا يتوفر المغرب، رغم حداثة تعليمه وثقافته، على شعب أو مواد تدرس فيها فنون العمارة، سواء داخل شعب التاريخ بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، أو حتى ضمن برامج معاهد علم الآثار التابعة للمنظومة التعليمية.
لذلك، فإن تهميش ثقافة المعمار يظل تهميشا بنيويا، مرتبطا بغياب المؤرخين الفنيين الذين يعدون من أبرز الحلقات المغيبة في تاريخ الثقافة المغربية والعربية عموما. والحقيقة أن هذا التهميش الذي يطال الفن نابع من كون الثقافة العربية شفوية، تراهن على المكتوب أكثر من البصري.
فلا غرابة، إذًا، في ألا تطالعنا أبحاث ودراسات عن تاريخ الفنون المغربية، بكل ما يتصل بها من معمار وموسيقى وفنون تشكيلية وسينما، في مقابل وفرة الكتابة التاريخية ذات الصلة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. ناهيك عن كون المعمار يتقاطع من حيث الاهتمام والبحث والدراسة بين تخصصين مختلفين هما التاريخ وعلم الآثار، إذ حتى وإن تقاطعا على مستوى العدة المنهجية، فإنهما يلتقيان حسب الغاية والجدوى من وراء البحث في المجال المعماري.
المؤرخ والأثري
حين يحفر الأركيولوجي عن بقايا آثار العمارة العسكرية، فإنه يتتبع الكتابات التاريخية التي دبجها المؤرخون عن بعض الدول والإمارات، ما يعني أن الكتابة التاريخية تكاد تكون المصدر الأول بالنسبة لعلماء الآثار وهم يستقون منها معلومات عن أماكن تاريخية تهم البحث فيها.
إن الباحث الأثري يعمد إلى المصادر التاريخية من أجل التحليل والتفسير، انطلاقا مما يعثر عليه من شواهد ولقى أثرية وتحف فنية مختلفة، مما يقوده إلى التدقيق في الآثار وتحديد أعمارها والمراحل التاريخية التي تنتمي إليها.
في حين يعمل المؤرخ الفني المهتم بالعمارة على كتابة دراسات علمية، انطلاقا مما يوفره له عالم الآثار من معلومات عن الطرز المعمارية، والنصب الأثرية، والتحف الفنية، والزخرفة وغيرها. فهو يبني مادته التأريخية اعتمادا على المادة الأركيولوجية التي يستقيها من الميدان.
فتقاطع وتلاقي المؤرخ والأركيولوجي لا يشكل حاجزا بالنسبة للباحث كما قد يعتقد، بل يمثل أفقا علميا يتيح له إمكانية كتابة بحث تاريخي علمي يمزج في ثناياه بين المعرفة التاريخية المستندة إلى المصادر والتحف، وتحليل أصيل لمختلف مظاهر العمارة العسكرية، وما يربط جمالياتها من صلة بين الأبراج والأسوار والأبواب والقصبات وغيرها.
ويأتي تكامل هذه العلاقة في سياق الطفرة الإبستمولوجية التي شهدها مجال البحث التاريخي، وذلك بعد توسيع مفهوم الشاهدة أو الوثيقة التاريخية. إذ إن المدرسة المنهجية أو الوضعية، مع شارل سينيوبوس ولانغلوا، ظلت تنظر إلى التاريخ وفق رؤية تقليدية تربطه بمفهوم الحدث.
في المقابل، عملت مدرسة الحوليات، مع كل من مارك بلوك، ولوسيان فيفر، وفرناند بروديل لاحقا، ضمن ما سمي بـ "التاريخ الجديد"، على توسيع مفهوم الوثيقة ليشمل النصب الأثرية، والتحف الفنية، والأفلام، واللوحات، والصور الفوتوغرافية، والمسكوكات (أو النميات)، والأدب التاريخي، وغيرها.
ومنذ تلك اللحظة، أصبح من حق المؤرخ أن ينفتح على وثائق جديدة، منها ما يقدمه عالم الآثار من لقى أثرية تلعب دورا بارزا في تطوير الكتابة التاريخية. فهذا الانفتاح على وُرش ومختبرات علماء الآثار ساعد المؤرخ نفسه على الكتابة وفق نزعة علمية مختلفة، لا تستقرئ التاريخ انطلاقا من المصادر والوثائق التقليدية فحسب، بل أيضا من الأبواب، والأسوار، والأفلام، ومحاكم التفتيش، على سبيل المثال.
ملامح العمارة العسكرية
يقصد بالعمارة العسكرية كل بقايا التحف الأثرية التي أنجزت لغايات عسكرية، مثل الأسوار، والتحصينات، والأبراج، والخنادق، والمعسكرات، وغيرها. ونظرا لقيمة هذا الشكل المعماري، فإن المؤرخين والمصممين يعتبرونه نوعا من أنواع الهندسة المعمارية، فهو نمط له تاريخه وجمالياته في المغرب، بحكم وجود العديد من المدن التي تتميز بهذا النمط المعماري المختلف من حيث الشكل والنسق.
ورغم وجود العديد من المدن المغربية التي تتوافر على هذا النموذج من العمارة العسكرية، فإن مدينة فاس تظل أكثر المدن التي عرفت انتشارا واسعا لهذا النمط، وذلك بسبب الأدوار التاريخية التي لعبتها، والمكانة الاعتبارية التي راكمتها من الناحية السياسية.
يقول الباحث منير أقصبي، في حديث خاص لـ "الجزيرة نت"، إنه بمجرد أن "نحصي في الميدان حاليا بفاس ما تبقى من تحصينات تاريخية (قصبات، وأبراج، وأسوار، وأبواب)، نجد أنها لا تمثل سوى الثلث مما شيد لأغراض حربية على مدى تاريخها. وأقدمها يعود إلى الفترة الموحدية، وأحدثها إلى فترة الاستعمار الفرنسي".
إعلان
ويوضح أن "هناك أشكالا وتصاميم مختلفة، إذ يمكننا من عدة نماذج رسم صورة واضحة لتطور العمارة العسكرية في المغرب عموما؛ (أبواب ذات مدخل مباشر وأخرى مرفقية، أبراج مستطيلة أو ذات شكل محرود أو نجمية، شرافات مختلفة هرمية ومسننة، وغيرها)".
ويضيف: "واقعها لا بأس به، على اعتبار أن أغلبها استفاد من الترميم. فهناك بعض الأبراج تحتاج إلى توظيف لتسهم في التنمية، مثل برج سيدي بونافع وبرج بوطويل، وبعض القصبات تحتاج إلى الإفراغ التام من محتليها لمباشرة ترميمها وتأهيلها، مثل قصبة مولاي الحسن. وقد تم تقييد أغلبها في عداد الآثار الوطنية".
أما عن طراز العمارة العسكرية بفاس، فيقول إنها تتميز "بالطابع الحربي الصرف، حيث إن سمك أسوارها المصنوعة من الطابية يصل إلى أكثر من مترين، وتخلو من العناصر الزخرفية. فقد كان التركيز في هندستها على مناعتها وقوة صمودها. هناك أسوار مزدوجة في فاس الجديدة، وعدد كبير من الأبراج حول القصر الملكي لحراسته جيدا. أما واجهات الأبواب، فتخلو من الزخارف الكثيرة، ما عدا بعض التشكيلات الهندسية مثل الشبك".
وفي الوقت الذي حظيت فيه أنماط معمارية أخرى بنصيب وافر من الدراسات العلمية، سواء من لدن باحثين عرب أم أجانب، ظلت العمارة العسكرية بمنأى عن كتابات الباحثين، وكأن الأمر يتعلق بعمارة محظورة لا ينبغي الاقتراب منها.
في حين أن هناك دراسات أخرى اهتمت بالعمارة الدينية، وصدرت عنها أبحاث أصيلة رصدت سيرة بعض المساجد وتاريخها، إلا أن هذه الدراسات نفسها ركزت في مجملها على الجوانب التاريخية المتفرقة في المصادر الوسيطية، ولم تعن عناية كافية بالجانب الاستطيقي للعمارة، مما يضع القارئ أمام كتابة تاريخية أحادية المنظور المعرفي، كونها لا تستلهم مناهج حديثة أو تخصصات موازية.
إن ما يوجد اليوم من أسوار وقصبات وأبراج، يظل في كثير من الحالات مجرد أطلال، تدفع الباحث إلى طرح أسئلة قلقة عن هذه العمارة وتاريخها وجمالياتها. غير أن الملاحظ فيها أنها تنتمي إلى حقب زمنية مختلفة، وهو ما منح هذا الشكل المعماري بعدا مركبا من حيث خصائصه الفنية البسيطة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
40 عاما على إطلاقه.. ماذا تبقى من "نقد العقل العربي" للجابري؟
قبل 4 عقود، وبالتحديد في عام 1984، أطلق المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936-2010) مشروعا فكريا طموحا نابعا من هاجس التفكير في سبل تحقيق النهضة المنشودة في العالم العربي، وهو مشروع أثار نقاشا واسعا في الأوساط الأكاديمية وخارجها، لا يزال مفعوله قائما إلى الآن. وانطلق الجابري في ذلك الطرح الجريء من فرضية أن مشروع النهضة العربية، الذي بدأ في أواخر القرن الـ19، ظل متعثرا لأنه لم ينبن على نقد العقل، وتساءل في مفتتح المشروع: "هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟" ومنذ إطلاق المشروع، أصبح مصطلح "العقل العربي" دارج الاستعمال في أكثر من سياق، وتعدى المعنى الذي يقصده المؤلف، وهو "العقل الذي تكون وتشكل داخل الثقافة العربية، في الوقت ذاته الذي عمل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها". أما مهمة نقد العقل العربي، فإنها تتمثل -في نظر الكاتب- في استئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها، وتحديدا في كيان العقل العربي من جهة، وفي آلياته من جهة أخرى. وبنى الجابري، وهو من مؤسسي الدرس الفلسفي في المغرب، ذلك المشروع الفكري على امتداد أكثر من 10 سنوات، وصدر في 4 أجزاء هي: "تكوين العقل العربي"، و**"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي"**. وبقدر ما قوبلت تصورات الجابري بترحيب واسع لدى القراء في العالم العربي، وأعيد طبع كتبه عدة مرات في أكثر من بلد عربي، فإنها أثارت سجالات واسعة في الأوساط الأكاديمية والثقافية، إذ انبرت أسماء فكرية كبيرة لمناقشة تلك الأطروحات، إما لدحضها، أو لرصد ما تعتبره "قصورا مفاهيميا أو تاريخيا". وكان المفكر السوري جورج طرابيشي (1939-2016) من أبرز من انتقدوا أفكار الجابري، وألف في هذا الصدد عدة كتب ضمن مشروع مضاد سماه "نقد نقد العقل العربي". كما دخل على الخط مفكرون وأكاديميون آخرون، من أبرزهم اللبناني علي حرب، والسوري طيب تيزيني، والمصري حسن حنفي. وعلى إيقاع الثورة الإعلامية، وخاصة البث التلفزيوني منذ تسعينيات القرن الماضي، اتسع صدى أطروحات الجابري جماهيريا، ولا تزال الكثير من مداخلاته وتحليلاته متداولة على المنصات الرقمية. وبعد هذه العقود الطويلة، بات من المشروع أن نتساءل عما تبقى من أفكار الجابري ورؤاه بشأن مآل النهضة وأدواتها، في سياق عربي ودولي تتنازعه أطراف وتكتلات متباينة المرجعيات الحضارية، وهاجسها المشترك هو البحث عن المزيد من النفوذ والسلطان. لمناقشة مدى راهنية "نقد العقل العربي" معرفيا وسياسيا، تواصلت الجزيرة نت مع وجوه فكرية وأكاديمية من المشرق والمغرب، إضافة إلى باحث أميركي متخصص في أعمال الجابري، لتسليط المزيد من الأضواء، في سياق جديد، على ما اقترحه الجابري من أفكار وفرضيات لاستئناف القول في سؤال النهضة المتعثرة. ومن بين المشاركين في هذا الملف، المفكر المغربي كمال عبد اللطيف، وهو أيضا من أعمدة الدرس الفلسفي بالمغرب، ومن المواكبين لمشروع الجابري. ويرى عبد اللطيف أن "استمرار حضوره (الجابري) رغم غيابه المادي، أثمر وما زال يثمر كثيرا من المعطيات التي يدركها جيدا الذين يؤمنون بدور الأفكار في التاريخ". وفيما يلي عرض لأهم ما جاء في مساهمات من تواصلت معهم الجزيرة نت. كمال عبد اللطيف.. مفكر مغربي لا تزال أعمال المفكر المغربي محمد عابد الجابري تخاطبنا، تشخص أعطاب تفكيرنا، وتحاور مآلاتنا، كما تدعونا -بحس سياسي مباشر- إلى مزيد من التسلح بالخيارات والمواقف التي تساعدنا على بلوغ ما نتطلع إليه من تقدم. ونستطيع اليوم بالذات، ونحن أمام آثاره الفكرية المتنوعة، أن نعلن أن ما وحد مساعيه الفكرية والسياسية هو رؤيته الخاصة للتنوير وأدواره في التاريخ، وهي رؤية تبلورت في أغلب أعماله، بانية عقلانية نقدية مماثلة في روحها العامة لخيارات فلسفة الأنوار، مع محاولة في تكييف هذه العقلانية مع جملة من المعطيات التاريخية، المختلفة عن سياقات وشروط أنوار القرن الـ18 في أوروبا. كان الجابري يعي جيدا الأدوار التي لعبتها فلسفة الأنوار في الأزمنة الحديثة، كما كان يعي ضرورة إعادة بناء روحها في العمل والنظر، وبشكل يكافئ مقتضيات التغلب على أنماط التفكير السائدة في مجتمعنا. ولهذا السبب بالذات، تسلح بالنقد الأنواري، متوخيا محاصرة أشكال الهيمنة التي تمارسها القراءات المحافظة والجامدة لموروثنا الثقافي، بهدف تركيب قراءة نقدية لمنتوج العقل العربي، تؤهلنا لكسر قيود الماضي والانفتاح على مكاسب عالم جديد. ساهمت الأعمال الفكرية التي أنتجها محمد عابد الجابري في بناء مجموعة من المواقف والاقتناعات الفكرية والتاريخية، في موضوع قراءة التراث العربي الإسلامي، والتفكير في مشروع النهضة العربية، وكذا في إشكالات الوضع السياسي المغربي. وقد تميزت هذه الأعمال بقدرتها الكبيرة على تحقيق نوع من الانخراط المنفعل والفاعل في فضاء الفكر المغربي والفكر العربي المعاصر. وإذا كنا نؤمن بأن آثار الرجل، المتمثلة أساسا في مشروعه في نقد العقل العربي، تمتلك بعض مقومات الحضور في معارك الراهن العربي السياسية والفكرية، فإننا نتصور أن استمرار حضوره، رغم غيابه المادي، أثمر وما زال يثمر كثيرا من المعطيات التي يدركها جيدا الذين يؤمنون بدور الأفكار في التاريخ. نفترض أن قوة الأثر التي تحملها أعماله، تأتي من كونها تعكس صورة من صور انخراطه في جدل تاريخي هم -ويهم- الحاضر العربي، ويتعلق الأمر بكيفيات مقاربته لأسئلة الموقف من التراث ومن الماضي. فقد اهتم الجابري طيلة 4 عقود من الزمن بأسئلة التراث، وذلك في ضوء عنايته بأسئلة النهضة والتقدم في العالم العربي. ولم تكن عنايته بالموروث الثقافي العربي تندرج ضمن خطة في البحث التاريخي الموضوعي والمحايد، بحكم أن هذه المقاربة -في تصوره- لا تعد أمرا ممكنا، فنحن لا نستطيع -في نظره- استعادة الموروث الثقافي في الحاضر بمحتوى الماضي. محمد الأشهب.. أستاذ جامعي مغربي أرى أن المشروع النقدي لمحمد عابد الجابري لا يزال يضم العديد من الآليات المنهجية التي استثمرها في قراءته للتراث، والتي يمكن توظيفها لمواصلة التفكير الفلسفي النقدي اليوم، بمنطق النقد المزدوج. فالفلسفة بالنسبة للجابري لم تكن ترفا فكريا، بل كانت أداة للمقاومة: مقاومة الاستبداد أولا، وتفكيك البنى الفكرية التي تدعمه، ثم مقاومة الفكر الاستعماري الذي يعد السبب الرئيسي لكثير من المآسي التي عاشتها الشعوب المستعمرة في أفريقيا والعالم العربي وأميركا اللاتينية. لذا، لا يستغرب أن نجد تلقيا لمشروعه في أميركا اللاتينية، كما هو الحال مع الفيلسوف الأرجنتيني إنريكه دوسيل وآخرين، الذين استفادوا من فلسفة الجابري في نقد المركزية الأوروبية، بهدف نزع الطابع الاستعماري عن العقل. ومن وجهة نظري، يمكن قراءة مشروع "نقد العقل العربي" بجميع أجزائه ضمن هذا الإطار الأوسع، أي مشروع "نزع الاستعمار عن العقل والمعرفة" عموما. وهو مشروع بدأه الجابري في كتاباته المبكرة عن الخطاب التربوي في المغرب، وتناوله لقضايا الهوية وحقوق الإنسان، وقراءته النقدية للتراث، إضافة إلى نقده لـ"ورثة الاستعمار" في الفضاء الثقافي المغربي والمغاربي والعربي والأفريقي. وفي ظل التكالب المستمر للإمبريالية العالمية على ما يسمى بـ"الجنوب العالمي"، يظل المشروع النقدي للجابري يحتفظ براهنيته، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث سقطت أقنعة التحالف الغربي الصهيوني المتواطئ في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، متجاهلا كل القيم التي ادعى الدفاع عنها، مثل حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. هذا الوضع المتردي الذي تعيشه المنطقة العربية، والظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني (وهو موضوع أساسي في فكر الجابري السياسي)، يجعل من عمله النقدي -الهادف إلى مناهضة كل أشكال الاستبداد والظلم- مصدرا مهما يمكن الاستفادة منه اليوم، دون التعامل معه كمصدر للحقيقة المطلقة. كما أن دور الجابري في الفضاء العمومي المغربي والعربي، ليس كمنتج للمعرفة الفلسفية فحسب، بل كمثقف عمومي منخرط في الشأن السياسي والثقافي، انطلاقا من قناعته بـ"ممارسة السياسة بالثقافة"، يدعونا إلى العودة إلى إرثه الغني، سواء في سلسلة "مواقف" (التي تضم نحو 80 كتيبا)، أو في مئات المقالات والحوارات التي نشرها. هذا الإرث يجسد نموذج "الفيلسوف العمومي" الذي أصبح نادرا في زمن سيولة الثقافة وسيطرة "ثقافة التفاهة". هذا البعد العملي في فلسفته، وتدخلاته النقدية في الفضاء العام، كان دائما يوجهه هاجس تحقيق الديمقراطية، التي كان يرى أنها تبدأ بـ"طلب الحق في الكلمة". زهية جويرو.. أستاذة جامعية تونسية لقد خفتت كثيرا الحركية التي أحدثتها رباعية "نقد العقل العربي" زمن صدورها، مما يدل على أن القارئ العربي كان متعطشا لمشروع جديد يقطع مع الخطاب التراثي المؤدلج المعاد تدويره، من أجل فرض الأيديولوجيا السلفية من جهة، ومع خطابات تقتصر في دراسة التراث على قضاياه ومضامينه، بعيدا عن النظر في أنظمة الفكر التي أنتجته وتحكمت فيه. ويشار إلى أن هذه الحركية أثارت اهتماما واسعا، خاصة في الأوساط الأكاديمية، وانخرطت فيها الصحافة، مما كان جديرا بأن يطور الفكر العربي. لكن المآخذ الهيكلية التي اكتشفها القراء، المختصون أساسا، في مشروع الجابري، إضافة إلى عوامل أخرى، أسهمت في تبديد تلك الحركية وذلك الاهتمام. ومن بين هذه العوامل "قصر نفس" القارئ العربي وقلة جديته. وحتى المختصون في الموضوع والناشرون في مجال نقد العقل، يظهرون وكأن كل واحد منهم يفكر ويكتب من قارة منعزلة تماما عن الآخر، لذلك يظل الفكر العربي المعاصر يدور في حلقة مفرغة. أما في حال وجود "تفاعل" ما، فهو سلبي انتقادي لا يؤسس لتراكم معرفي نوعي كفيل بتحقيق التحولات في الفكر والمعرفة. يضاف إلى ذلك عامل آخر، هو انفتاح الإمكانيات التواصلية التقنية، إذ احتلت "وسائل التواصل الاجتماعي" ساحة الفكر، فخفتت الأصوات الجادة أو عادت إلى قواعد "الأكاديمية" لتحتمي بها، وانقطعت دونها السبل نحو إحداث الحركية الفكرية المنشودة في مجال الوعي العام. بالنسبة لراهنية "نقد العقل العربي" سياسيا ومعرفيا، أعتقد أنه يصعب الحديث عن شقها السياسي، إذا كان المقصود بذلك موقع هذا المشروع وأضرابه في الحقل السياسي، فشؤون الفكر والمعرفة والوعي لم تكن يوما داخلة في مجال تداول السياسيين العرب عامة، إلا باعتبارها موضوعا "للتدجين"، وليس موضوعا للتفكير والتعقل والتطوير. أما الراهنية المعرفية، فمؤكدة؛ فاليوم وغدا يحتاج الفكر العربي المعاصر حقا إلى أن يفكر في نفسه، وفيما ينتج من خطابات حتى يعي نقائصه واختلالاته، وإلى أن يؤسس لمشروع فلسفي يعي خصوصيات سياقاته بكل أبعادها، ويأخذها بعين الاعتبار فيما يفكر فيه وينتجه، وينخرط في الجهد الذي يبذله فلاسفة ومفكرو الجنوب العالمي من أجل تحرير المعرفة من كل أشكال الهيمنة الاستعمارية والاستلاب الذاتي. زياد حافظ.. الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي يحتل المفكر محمد عابد الجابري مكانة مميزة بين الأعلام الفكرية العربية في العصر الحديث، حيث إن مؤلفاته ساهمت في تعميق الوعي بدور التراث الفكري العربي والإسلامي في تفسير حالة العرب والمسلمين. ومما لا شك فيه أن مؤلفاته الموسوعية أصبحت مرجعا فكريا لمن يريد أن يقارب المشهد الفكري العربي، لا سيما في ثنائيات الحداثة والأصالة، والعقلانية والغيبية، والتراث والعصرنة، وهي ثنائيات عمت الفضاء الفكري العربي بعد الحرب العالمية الثانية كمحاولات لتفسير التراجع. وجاء المشروع الذي أطلقه محمد عابد الجابري لتفكيك العقل العربي كمحاولة للإجابة على سؤال مفصلي: لماذا تأخر العرب بعدما كانوا هم من أنتج المعرفة ونقلوها إلى الغرب؟ لقد أدرك الجابري أهمية العقل معرفيا وسياسيا، وترجمها في دعوته لإيجاد الكتلة التاريخية بالمغرب في مواجهة التحديات الخارجية الاستعمارية والتغريبية. ويسجل لمؤسسة محمد عابد الجابري، التي تأسست بعد وفاته، التقاط تلك الدعوة وإطلاقها مجددا كضرورة في مواجهة حملات التطبيع التي تفرض على الدول العربية. فتحالف مختلف المكونات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي هو انعكاس لتلازم العقل مع الإيمان، وتجاوز التباينات الفكرية المصطنعة الوافدة من التوريد الغربي، والتي ساهمت في تعميم ثقافة التجزئة. فالتراجع العربي هو من نتائج التجزئة، والتجزئة من منتوج الاستعمار، ونجاح الأخير في تعميق ثقافة الهزيمة ناتج عن الانشطار بين العقل والإيمان، أو بين الحداثة والتراث. نايلة أبي نادر.. أستاذة جامعية لبنانية رسم الجابري إطارا معرفيا مختلفا في البحث عن أسباب الركود في الفكر العربي، وحاول أن يتوقف في مشروع "نقد العقل العربي" عند الأسباب التي حالت دون تطور "أدوات المعرفة" كالمفاهيم، والمناهج، والرؤية داخل الثقافة العربية. وأصر على الكشف عن أسباب عدم تحقق نهضة فكرية وعلمية في العالم العربي، كما حصل في أوروبا. لذا كان طرحه لمسألة التأخر على الصعيد الإبستمولوجي يشكل الإطار الصحيح للبحث، بالنسبة إليه، من خلال التوجه المباشر إلى العقل العربي، الذي بدأ بالتقاعس إلى أن تخلى عن دوره. من هنا جاء اهتمام الجابري بتكوين العقل العربي وبآلية اشتغاله، وحاول التمييز بين العقل والفكر عن طريق التمييز بين العقل المكون والعقل المكون، مفضلا التركيز على الأداة التي تنتج الأفكار أكثر من الأفكار نفسها. وأشار إلى أن هناك تداخلا بين العقل كأداة تنتج الأفكار، وبين مجموع هذه الأفكار التي يتضمنها العقل، لافتا الانتباه إلى أن هذا التداخل مخفي وراء عملية المزج الحاصلة بين الفكر والأيديولوجيا. كما يرى أن الفكر هو نتيجة للتفاعل مع المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يتعامل معه، أي أن للمحيط الاجتماعي الثقافي دورا في عملية تكوين خصوصية الفكر. لذا أكد الجابري على تاريخية العقل، لأنه مرتبط بالثقافة التي يعمل داخلها، رافضا إضفاء أي صبغة أخلاقية عليه، وركز على "النظرة العلمية المعاصرة للعقل"، من دون أن يجعل منها الحقيقة المطلقة. جوردان كاينز.. باحث أميركي متخصص في أعمال الجابري أنظر إلى مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" (وخاصة الجزأين الأول والثاني) من زاوية تربوية. وعلى غرار العمل الضخم للمؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (1737-1794) حول سقوط روما، بعنوان "تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية"، يعد مشروع الجابري عملا موسوعيا مبنيا على أطروحة بسيطة نسبيا، إذ يروي قصة صعود وسقوط العقل البرهاني في العالم الإسلامي. ويركز الجابري في الجزء الأول (تكوين العقل العربي) على ضرورة تصحيح مفهوم "الزمن الثقافي" العربي. وبالنسبة لي، فإنه من الواضح أن هذه القصة انبثقت من مشروعه التربوي الهادف إلى تقديم توجه ثقافي وتاريخي جديد للطلاب المغاربة من خلال النظام التعليمي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ورغم أن استخدامه الإجرائي للتاريخ تعرض للنقد، لا بد من الاعتراف بأن مفهوم "الزمن الثقافي" لطالما لعب دورا في التعليم الغربي، حيث يوجه الطلاب نحو قصة التقدم الحديث غير المقيد: عصور يونانية ورومانية مجيدة، تلتها عصور الظلام، ثم عودة ظافرة للعقل في عصر النهضة. وإلى جانب وظيفته التوجيهية، يقدم نقد الجابري التاريخي بيانا جريئا حول الحاضر، فهو بمثابة تحذير من مخاطر الجمع بين ادعاءات المعرفة الباطنية والسياسة. يكتب التاريخ دائما من الحاضر، ويعكس نقد الجابري للعقل العربي بالفعل هموم عصره. ومع ذلك، فإن مشروعه الأساسي، الذي يدعو إلى قراءات جديدة للتاريخ في ضوء التحديات الراهنة، لا يزال وثيق الصلة بالواقع.


الجزيرة
منذ 6 أيام
- الجزيرة
العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مدينة فاس
تمثل العمارة العسكرية في المغرب أحد أبرز النماذج المعمارية الضاربة في القدم، إذ تبدو جمالياتها بارزة مقارنة بأنماط معمارية أخرى. ففي مدينة فاس، التي تعتبر من أكثر المدن التاريخية أصالة من حيث أنماطها المعمارية، نجد فضاءات شيدت بهذا النوع من العمارة. فزائر المدينة يعثر على ملامح العمارة ذات البعد العسكري في مواقع عدة، مثل: باب الجيسة، وباب المحروق، وباب القصبة القديمة، وباب بوجلود، وباب الحديد، وباب الفتوح، وقصبة الشراردة، وقصبة تمدارت، وغيرها من المباني ذات الطابع العسكري. وهذا يعني أننا أمام مدينة لطالما لعبت دورا عسكريا مهما في تاريخ المغرب، باعتبارها فضاء حيويا لظهور هذا النوع من العمارة، الذي نجده أيضا في عدد من المدن التي شكلت عواصم في مراحل مختلفة من التاريخ المغربي. غياب المؤرخ الفني على الرغم من أن المصادر التاريخية تتحدث عن أشكال معمارية أخرى لم تعد موجودة على أرض الواقع، فإن الزائر للمدينة يجد نفسه أمام خلطة حضارية مركبة يصعب الإمساك بها ومعرفة ملامحها الجمالية وتطورها التاريخي وأبعادها الفنية. لذلك، فإن المجال المعماري والبحث في تاريخ الفنون عموما لم يحظ باهتمام كبير من لدن الباحثين المغاربة والعرب، مقارنة بالتاريخ السياسي ونظيره الاجتماعي. فهذا المبحث العلمي ظل مغيبا داخل المدونة التاريخية، لأسباب في مجملها علمية، ترتبط بالتكوين داخل الجامعات والمعاهد. إذ لا يتوفر المغرب، رغم حداثة تعليمه وثقافته، على شعب أو مواد تدرس فيها فنون العمارة، سواء داخل شعب التاريخ بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، أو حتى ضمن برامج معاهد علم الآثار التابعة للمنظومة التعليمية. لذلك، فإن تهميش ثقافة المعمار يظل تهميشا بنيويا، مرتبطا بغياب المؤرخين الفنيين الذين يعدون من أبرز الحلقات المغيبة في تاريخ الثقافة المغربية والعربية عموما. والحقيقة أن هذا التهميش الذي يطال الفن نابع من كون الثقافة العربية شفوية، تراهن على المكتوب أكثر من البصري. فلا غرابة، إذًا، في ألا تطالعنا أبحاث ودراسات عن تاريخ الفنون المغربية، بكل ما يتصل بها من معمار وموسيقى وفنون تشكيلية وسينما، في مقابل وفرة الكتابة التاريخية ذات الصلة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. ناهيك عن كون المعمار يتقاطع من حيث الاهتمام والبحث والدراسة بين تخصصين مختلفين هما التاريخ وعلم الآثار، إذ حتى وإن تقاطعا على مستوى العدة المنهجية، فإنهما يلتقيان حسب الغاية والجدوى من وراء البحث في المجال المعماري. المؤرخ والأثري حين يحفر الأركيولوجي عن بقايا آثار العمارة العسكرية، فإنه يتتبع الكتابات التاريخية التي دبجها المؤرخون عن بعض الدول والإمارات، ما يعني أن الكتابة التاريخية تكاد تكون المصدر الأول بالنسبة لعلماء الآثار وهم يستقون منها معلومات عن أماكن تاريخية تهم البحث فيها. إن الباحث الأثري يعمد إلى المصادر التاريخية من أجل التحليل والتفسير، انطلاقا مما يعثر عليه من شواهد ولقى أثرية وتحف فنية مختلفة، مما يقوده إلى التدقيق في الآثار وتحديد أعمارها والمراحل التاريخية التي تنتمي إليها. في حين يعمل المؤرخ الفني المهتم بالعمارة على كتابة دراسات علمية، انطلاقا مما يوفره له عالم الآثار من معلومات عن الطرز المعمارية، والنصب الأثرية، والتحف الفنية، والزخرفة وغيرها. فهو يبني مادته التأريخية اعتمادا على المادة الأركيولوجية التي يستقيها من الميدان. فتقاطع وتلاقي المؤرخ والأركيولوجي لا يشكل حاجزا بالنسبة للباحث كما قد يعتقد، بل يمثل أفقا علميا يتيح له إمكانية كتابة بحث تاريخي علمي يمزج في ثناياه بين المعرفة التاريخية المستندة إلى المصادر والتحف، وتحليل أصيل لمختلف مظاهر العمارة العسكرية، وما يربط جمالياتها من صلة بين الأبراج والأسوار والأبواب والقصبات وغيرها. ويأتي تكامل هذه العلاقة في سياق الطفرة الإبستمولوجية التي شهدها مجال البحث التاريخي، وذلك بعد توسيع مفهوم الشاهدة أو الوثيقة التاريخية. إذ إن المدرسة المنهجية أو الوضعية، مع شارل سينيوبوس ولانغلوا، ظلت تنظر إلى التاريخ وفق رؤية تقليدية تربطه بمفهوم الحدث. في المقابل، عملت مدرسة الحوليات، مع كل من مارك بلوك، ولوسيان فيفر، وفرناند بروديل لاحقا، ضمن ما سمي بـ "التاريخ الجديد"، على توسيع مفهوم الوثيقة ليشمل النصب الأثرية، والتحف الفنية، والأفلام، واللوحات، والصور الفوتوغرافية، والمسكوكات (أو النميات)، والأدب التاريخي، وغيرها. ومنذ تلك اللحظة، أصبح من حق المؤرخ أن ينفتح على وثائق جديدة، منها ما يقدمه عالم الآثار من لقى أثرية تلعب دورا بارزا في تطوير الكتابة التاريخية. فهذا الانفتاح على وُرش ومختبرات علماء الآثار ساعد المؤرخ نفسه على الكتابة وفق نزعة علمية مختلفة، لا تستقرئ التاريخ انطلاقا من المصادر والوثائق التقليدية فحسب، بل أيضا من الأبواب، والأسوار، والأفلام، ومحاكم التفتيش، على سبيل المثال. ملامح العمارة العسكرية يقصد بالعمارة العسكرية كل بقايا التحف الأثرية التي أنجزت لغايات عسكرية، مثل الأسوار، والتحصينات، والأبراج، والخنادق، والمعسكرات، وغيرها. ونظرا لقيمة هذا الشكل المعماري، فإن المؤرخين والمصممين يعتبرونه نوعا من أنواع الهندسة المعمارية، فهو نمط له تاريخه وجمالياته في المغرب، بحكم وجود العديد من المدن التي تتميز بهذا النمط المعماري المختلف من حيث الشكل والنسق. ورغم وجود العديد من المدن المغربية التي تتوافر على هذا النموذج من العمارة العسكرية، فإن مدينة فاس تظل أكثر المدن التي عرفت انتشارا واسعا لهذا النمط، وذلك بسبب الأدوار التاريخية التي لعبتها، والمكانة الاعتبارية التي راكمتها من الناحية السياسية. يقول الباحث منير أقصبي، في حديث خاص لـ "الجزيرة نت"، إنه بمجرد أن "نحصي في الميدان حاليا بفاس ما تبقى من تحصينات تاريخية (قصبات، وأبراج، وأسوار، وأبواب)، نجد أنها لا تمثل سوى الثلث مما شيد لأغراض حربية على مدى تاريخها. وأقدمها يعود إلى الفترة الموحدية، وأحدثها إلى فترة الاستعمار الفرنسي". إعلان ويوضح أن "هناك أشكالا وتصاميم مختلفة، إذ يمكننا من عدة نماذج رسم صورة واضحة لتطور العمارة العسكرية في المغرب عموما؛ (أبواب ذات مدخل مباشر وأخرى مرفقية، أبراج مستطيلة أو ذات شكل محرود أو نجمية، شرافات مختلفة هرمية ومسننة، وغيرها)". ويضيف: "واقعها لا بأس به، على اعتبار أن أغلبها استفاد من الترميم. فهناك بعض الأبراج تحتاج إلى توظيف لتسهم في التنمية، مثل برج سيدي بونافع وبرج بوطويل، وبعض القصبات تحتاج إلى الإفراغ التام من محتليها لمباشرة ترميمها وتأهيلها، مثل قصبة مولاي الحسن. وقد تم تقييد أغلبها في عداد الآثار الوطنية". أما عن طراز العمارة العسكرية بفاس، فيقول إنها تتميز "بالطابع الحربي الصرف، حيث إن سمك أسوارها المصنوعة من الطابية يصل إلى أكثر من مترين، وتخلو من العناصر الزخرفية. فقد كان التركيز في هندستها على مناعتها وقوة صمودها. هناك أسوار مزدوجة في فاس الجديدة، وعدد كبير من الأبراج حول القصر الملكي لحراسته جيدا. أما واجهات الأبواب، فتخلو من الزخارف الكثيرة، ما عدا بعض التشكيلات الهندسية مثل الشبك". وفي الوقت الذي حظيت فيه أنماط معمارية أخرى بنصيب وافر من الدراسات العلمية، سواء من لدن باحثين عرب أم أجانب، ظلت العمارة العسكرية بمنأى عن كتابات الباحثين، وكأن الأمر يتعلق بعمارة محظورة لا ينبغي الاقتراب منها. في حين أن هناك دراسات أخرى اهتمت بالعمارة الدينية، وصدرت عنها أبحاث أصيلة رصدت سيرة بعض المساجد وتاريخها، إلا أن هذه الدراسات نفسها ركزت في مجملها على الجوانب التاريخية المتفرقة في المصادر الوسيطية، ولم تعن عناية كافية بالجانب الاستطيقي للعمارة، مما يضع القارئ أمام كتابة تاريخية أحادية المنظور المعرفي، كونها لا تستلهم مناهج حديثة أو تخصصات موازية. إن ما يوجد اليوم من أسوار وقصبات وأبراج، يظل في كثير من الحالات مجرد أطلال، تدفع الباحث إلى طرح أسئلة قلقة عن هذه العمارة وتاريخها وجمالياتها. غير أن الملاحظ فيها أنها تنتمي إلى حقب زمنية مختلفة، وهو ما منح هذا الشكل المعماري بعدا مركبا من حيث خصائصه الفنية البسيطة.


الجزيرة
١٠-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
"خطارات مراكش".. تراث بيئي مستدام بمواجهة الإجهاد المائي
مراكش – من يزور مدينة مراكش من الباحثين في مجال البيئة، لا يمكن أن يتغاضى عن وجود قنوات كانت تستعمل لجلب المياه العذبة لكيلومترات عديدة من المناطق المحيطة، لتصل الى المدينة ويتم توزيعها بشكل مدروس على عدد من المرافق الحيوية، واستغلالها في سقي المساحات الخضراء، أو المزروعة أو في الاستعمال اليومي للمواطنين. وتشكل الخطارات نظاما مائيا تقليديا يعكس خبرة الإنسان المغربي في تدبير الماء، وهو كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالحدائق التقليدية مثل حدائق المنارة وأكدال ذات المساحة الواسعة وبها صهاريج مياه كبيرة، أو الحدائق الصغيرة في المنازل التقليدية (الرياض)، والمساحات الخضراء العمومية (العراصي والجنانات) والتي تمثل نموذجا مستداما للتنظيم البيئي. يقول الباحث المغربي عبد الرزاق ناهض في حديث للجزيرة إن قيام الحضارة الإنسانية يرتبط بوجود الماء على مر العصور وفي كل الأمكنة، وهكذا كان الحال بالنسبة لوجود الخطارات في مراكش وأحوازها. ويستحضر ناهض في كتابه "خطارات حوز مراكش، الماضي، والحاضر، والمستقبل" مقولة الباحث المغربي المعروف في مجال البيئة محمد الفايز، والذي اعتبر فيها أن مدينة مراكش هي هبة الخطارات، كما كانت "مصر هبة نهر النيل"، حسب هيرودورت. نظام ري مستدام ينسج تاريخ مراكش وتاريخ هذه الشبكة الجوفية المنتشرة تحت نسيجها العمراني أسطورة مشتركة، كما يعبر عن ذلك الباحث ناهض، مبرزا أن حضارة المدينة الحمراء شيدت في قلب الجفاف، وهو ما يثير الكثير من الاهتمام والإعجاب. من جهته، يؤكد الباحث المغربي في التاريخ الاجتماعي رشيد شحمي للجزيرة نت أن مراكش عرفت بالحر الشديد، و"فيها يسقط الطير من شدته" كما يقال، لكن المرابطين استطاعوا تحويلها الى جنة خضراء فيحاء بعد أن جلبوا لها الماء من جبال الأطلس المحيطة عبر الخطارات، وأصبحت واحة النخيل في مراكش بهجة الناظرين وواحة فيحاء للمتنزهين. ويضيف أنها إلى جانب كونها وسيلة أو منشأة مائية للسقي والري وتحويل وجلب المياه، فهي أيضا نظام بيئي يحافظ على جودة الماء عبر ثقب التهوية وكذلك تحافظ على الرطوبة الجوية كما أنها وسيلة فعالة في نقل الماء من مسافة بعيدة دون تبخره. من جانبها، تقول الأكاديمية المغربية حنان حمودا للجزيرة نت إن الخطارة في المغرب ساهمت في مواجهة إشكالية ندرة الموارد المائية، نظرا لأن مجتمع الواحة قام بإنتاج نظام توزيع عرفي محلي لمياه الخطارة، قائم أساسا على تدبير فترات الندرة والخصاص، عبر تمسك سكان الواحات المغربية بتطبيق قوانين وأعراف الماء القديمة. مختبرات بيئية تشكل الخطارات في مدينة مراكش مختبرات طبيعية وبيئية عريقة جدا، أثارت اهتمام العديد من الباحثين، في مجال يميزه ندرة المياه، كما هو الشأن في عدد من الواحات المغربية. ويعتمد نظام الخطارة، وتسمى أيضا في الجنوب المغربي بالفجارة، على نقل المياه عبر قنوات باطنية، تتخللها أجواف أو ثقب لأجل التهوية، معتمدة على الانحدار الطبوغرافي. وتشير الأكاديمية المغربية سعاد بلقزيز في حديث للجزيرة نت إلى أن الباحثين لاحظوا أن مراكش تتمتع بموقع جغرافي فريد في مخروط رسوبي محاط بسلاسل جبلية، مما يسمح بتدفق المياه من الطبقات الجوفية والأودية، وهي نقطة تقاطع لعدة مكامن مائية تم استغلالها بفضل عبقرية تصميم الخطارات. وتضيف أن هذه المنشآت تلعب دورا أساسيا في توازن المياه في المنطقة، فتصميمها تحت السطح يجعلها قادرة على توجيه المياه إلى المناطق الزراعية من دون هدر أو تبخر مفرط، وبالتالي تعتبر نموذجا للإدارة المستدامة للموارد المائية، والحفاظ على النظم البيئية. بينما تضيف الباحثة حمودا أن التدبير المستدام لدورة مياه الخطارة، يعتمد دورة وتوقيت محدد، وساعة خاصة وصارمة، يراقبها ويسهر عليها شيخ الخطارة، بضوابط وقواعد اجتماعية تتحكم في توزيع حصص الفرد من الماء. فيتم توزيع الماء بالتتابع وحسب نظام الحصص. نجاعة وصمود لا يقتصر الاهتمام المتجدد بالخطارات على هندستها العبقرية ودورها التاريخي في تدبير شح الموارد المائية، بل يتعداه لتصبح مصدر إلهام لحلول مستقبلية في مواجهة التغيرات المناخية. وتؤكد حنان حمودا وهي مستشارة في مؤسسة مفتاح السعد (مؤسسة غير حكومية تهتم بالتراث المائي) على التقدير الدولي الكبير الذي تحظى به الخطارات، وذلك لعبقريتها الاجتماعية في فلسفتها المقتصدة للماء وحفظه جوفيا، ولدورها في الحفاظ على الرابط الاجتماعي للواحات المغربية العريقة. وتبرز أن البحث العلمي ينظر بإعجاب لهذه التقنية المائية العرفية والتاريخية، فهناك العديد من التجارب العلمية الدولية التي تحاول نقل الخبرات والمعارف وتقنيات بناء الآبار الجوفية للخطارة وطرق إيصال الماء من "المنبع" إلى "المصرف"، مع الاعتراف بمدى نجاعتها في الصمود أمام موجة التغيرات المناخية والجفاف الهيكلي، بناء على فلسفتها المقتصدة للماء. ويؤكد الباحث عبد الرزاق ناهض أن هذا الاهتمام المتجدد الذي تحظى به الخطارات يجب في جميع الأحوال، أن يبرر بأبحاث متعددة التخصصات ومشاريع ترميم وصون تراثي تدمج حماية هذه التقنية والمحافظة عليها مع ترويجها كتراث، مع إشراك مختلف الفاعلين. ويشير إلى أن ذلك ينبغي أن يراعي الخصوصيات الهيدروليكية الجوفية، ويأخذ عين الاعتبار مختلف الأبعاد الزمانية والمكانية لهذه التقنية التقليدية للريّ واحتياجات كل منطقة من التراب المغربي. كفاءة بيئية ومع تصاعد الضغوط المائية، تبرز الحاجة إلى إعادة تأهيل الخطارات والحدائق التقليدية بصفتها خطوة نحو تبني حلول مستدامة تستند إلى مبادئ الهندسة الخضراء. وترى الأكاديمية بلقزيز أنه على الرغم من صعوبة تنفيذ الخطارات اليوم بسبب تعقيد بنائها الذي يتطلب قوة عمل كبيرة إلا أنها تملك القدرة على إلهام الأعمال الهيدروليكية الحديثة. وتشير إلى أن مشروع طريق المياه في المغرب هو مثال بارز على هذا الإلهام، إذ تم نقل المياه من مناطق الشمال إلى الجنوب، مستفيدا من الأساليب القديمة لمواجهة التحديات المائية المعاصرة. وتؤكد بلقزيز أن هذا المشروع يطبق نهجا مشابها بإنشاء قنوات تحت الأرض، لتحسين كفاءة نقل المياه وتقليل التأثير البيئي، متماشيا مع المبادئ الأساسية للخطارات، لا سيما الإدارة المستدامة والفعالة للمياه. بدوره، يقول الباحث المغربي عبد الرزاق ناهض إن الخطارات تشكل مرجعا نموذجيا للهندسة في تدبير المياه، لذلك يجب إحياؤها بإدماجها ضمن مشاريع مائية من خلال اعتماد تقنية مائية ناعمة وبيئية محلية. ويشير إلى كونها تمثل اختراعا عالميا بارعا، وينبغي حمايتها بهدف نقل الذاكرة الجماعية في إطار تنمية مستدامة، من شأنها أن تصون وتعيد الاعتبار لتراث يعكس الثقافة والقيم المغربية.