
"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر
تتخذ أحداث رواية "الصحوة" مساراً أفقياً لا تنكسر أفقيته، سوى في نهاية الرواية، في نقطة تتحول فيها الأحداث عن مجراها، وأن عدد الشخوص يقتصر على شخصين اثنين، ينخرطان في حوار غير مباشر، عن بعد، يتمحور حول مسائل فكرية راهنة.
وبمعزل عن إشكالية التجنيس، يطرح غونيل في "الصحوة" مسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بدور الشركات المتعددة الجنسيات في تشكيل العالم وفق مصالحها، وتحويل الإنسان، بالتواطؤ مع السياسيين الذين هم صنيعة هذه الشركات في معظم الأحيان، إلى مجرد رمز مشفر ومزود برقاقة، ورقم مسجل في وزارتي الداخلية والمالية. وبذلك، ينهض غونيل بدور المثقف الذي يختصره نعوم تشومسكي بالبوح بالحقيقة وكشف الأكاذيب، ويقوم بالتكليفين اللذين يصنعان عظمة مهنة الكتابة، على رأي ألبير كامو، وهما "خدمة الحقيقة وخدمة الحرية"، وهو ما يصرح به الكاتب في تذييل الرواية. من هنا، تشكل "الصحوة" صرخة في وجه الشركات المتعددة الجنسيات وصنائعها من السياسيين، من جهة، وانتصاراً لحرية الإنسان، من جهة ثانية.
التلاعب بالحشود
الرواية بالترجمة العربية (دار نوفل)
ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات، كما نرى في المتن الروائي، تتلاعب بالحشود، وتتحكم بغرائز الناس ودوافعهم، وتستغل مخاوفهم، لتسويق منتجاتها. وهي تقتفي في ذلك أثر "لجنة المعلومات العامة" التي شكلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1917، بهدف إقناع الرأي العام الأميركي بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وضمت صحافيين ورسامين ومؤثرين محترفين، وكان بينهم إدوارد بيرنيز ابن شقيق فرويد، فوجهت اهتمامها إلى إثارة الغرائز والمشاعر من خلال: اختلاق الأخبار وابتداع القصص وإنتاج الأفلام وطباعة الملصقات وصياغة النشرات اليومية. وهنا، تزخر الرواية بمعلومات شكلت مقدمات تاريخية لنشوء أساليب التلاعب بالحشود التي اتخذتها الشركات الكبرى سلاحاً لتحقيق أهدافها، فراحت تفتعل الأزمات حول العالم، وتجترح الحلول لها، في محاولة منها لمراكمة مزيد من رأس المال وافتتاح الجديد من الأسواق لمنتجاتها، ضاربة عُرض الحائط بصحة الإنسان وسلامة البيئة وحرمة الطبيعة. وذلك، بالتواطؤ مع سياسيين صنَّعتهم، وأسندت إليهم الأدوار القذرة المغلفة بنوازع إنسانية، فأخذوا يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي تحقق إستراتيجياتها، مما ترتب عليه تجريد الإنسان من حريته، وتلويث البيئة، وانتهاك حرمة الطبيعة.
في هذا السياق، تقول الرواية إن رئيس دولة غربية لا تصرح باسمها لكنها تلمح إلى أنها الولايات المتحدة الأميركية، يقوم بإعلان خمسة حروب متعاقبة على الموت، متمظهراً بحوادث السير وداء السكري والدفع نقداً والاحتباس الحراري والعنف. وتسخر الشركات الكبرى وسائل الإعلام وتتواصل لتضخيم أخطار هذه التمظهرات، بهدف دفع الناس إلى التهافت على الحلول التي تجترحها، والإقبال على استهلاك منتجاتها، مما يجعل من الإنسان مجرد حيوان مستهلك، تتفرد بتشكيله وفق مصالحها، ودائماً باسم الحرص على مصلحته. ففي مقابل التهويل بالأخطار التي تشكلها حوادث السير ورفد الرأي العام بإحصاءات يومية مبالغ فيها بعدد الضحايا، تخترع الشركات سيارات ذاتية القيادة وتغري الناس باقتنائها. وفي مقابل التهويل بأخطار داء السكري، تخترع المستشعر الحيوي لزرعه في جسم الإنسان وإشعاره بمعدلات السكر فيه. وفي مقابل التهويل بأخطار الدفع نقداً، تخترع البطاقة المصرفية. وفي مقابل التهويل بالاحتباس الحراري، تحدد الحد الأقصى لاستهلاك الطاقة وتفرض الضرائب على المخالفين. وفي مقابل التهويل بالعنف، يتم اختراع الكاميرات التي ترصد ملامح الوجوه وتتنبأ سابقاً بالدوافع الجرمية قبل ارتكاب الجرائم. وتتمكن بالترغيب والترهيب من فرض منتجاتها المختلفة على الناس.
منظوران روائيان
الروائي الفرنسي لوران غونل وروايته (فناك)
إزاء هذه الوقائع، ثمة منظوران روائيان اثنان مختلفان تنطوي عليهما "الصحوة". والمفارق أنهما يصدران عن صديقين، لكل منها مكان إقامته ورؤيته ونمط عيشه المختلف عن الآخر، ومع هذا، يتواصلان ويتبادلان الرأي ويمثلان خطين متوازيين، خلال مجرى الأحداث، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، يتقاطعان بأن يتبنى أحدهما وجهة نظر الآخر، وتتحقق الصحوة بعد فوات الأوان.
المنظور الأول يؤيد الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة، ويعبر عنه المهندس الشاب توم الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويلتزم سائر الحلول التي تجترحها الشركات الكبرى، معتبراً أنها تصب في مصلحة الإنسان، فيقتني السيارة الذاتية الدفع، ويدس المستشعر الحيوي في جسده، ويستخدم البطاقة المصرفية، ويستخدم الأدوات الكهربائية المحددة الطاقة، ولا يمانع في تعريض وجهه لكاميرات المراقبة. ويترتب على التزامه هذه الحلول ترديه في الاكتئاب والوحدة واعتزال الناس والشعور أنه موضع مراقبة وافتقاد الحرية. ومع هذا، يصر على صحة خياراته.
المنظور الثاني يشكك في خلفيات الشركات المضمرة وأهدافها المعلنة، ويعبر عنه الشاب اليوناني كريستوس أناستوبولوس المقيم في أثينا الذي درس الفلسفة في المهجر. ويرى في الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة تنويعاً على الأساليب الشيوعية للاستجواب القسري التي وردت في تقرير العالم الاجتماعي الألماني ألبرت د. بيدرمان، ويطبقها على صديقه توم الراضخ لها، وينحاز إلى الطبيعة والحرية، ويصدر عن الحكمة التاوية في مقاربة الأشياء، معتبراً أن الإمبراطوريات المصطنعة خلافاً للطبيعة تحمل في صميمها بذور انهيارها.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذان المنظوران ينتظمهما مسلكان سرديان، يتعاقبان بالتناوب في النص، ويتوازيان في الرأي، ويختلفان في المنطلقات والنتائج، ويتقاطعان، في الشكل، مرات عدة، من خلال الهاتف والرسائل الإلكترونية. ويتقاطعان، في المضمون، مرة واحدة، في نهاية الرواية، حين يقتنع توم بوجهة نظر صديقه كريستوس، ويترجم قناعته المستجدة إلى فعل هرب من المدينة إلى الطبيعة، وينسى أنه مراقب من خلال الرقاقة المغروسة في جسده والكاميرات التي تترصده، فيتم القبض عليه وإعادته إلى "القفص"، وبذلك، تأتي خطوته بعد فوات الأوان، في إشارة روائية إلى سيطرة الشركات على مسارات الناس ومصائرهم. على أن هذا التحول ما كان له أن يتحقق لولا مراسلات دورية تشتمل على قوائم بأدوات التلاعب بالحشود يرسلها كريستوس إلى صديقه توم، ولولا اكتشافه أن منتجات الشركات قابلة للاختراق ومضرة بالإنسان، فالسيارات الذكية يتحكم بها قراصنة وتودي بسائقيها إلى الموت، والمستشعر الحيوي يرسل بيانات الجسم الصحية إلى جهة معينة، والبطاقة المصرفية تتحول إلى جاسوس على حاملها، والكاميرا تقرأ نوايا الإنسان، مما يجعله يشعر بالاختناق حتى إذا ما خرج في طلب الحرية يكون قد فات الأوان. وهنا ينفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي بعدما انطلق من فضاء تاريخي.
في نهاية الرواية، يهرب توم من كل الأماكن التي تحاصره إلى فضاء طبيعي في حديقة المدينة، فيتعقبه شرطيان ويلقيان القبض عليه في إشارة روائية إلى تأخره في الهرب، والعاقبة الوخيمة للرضوخ لأحكام الشركات، والمآل القاتم لنمط العيش الذي يمثله. وفي المقابل، نرى كريستوس في غمرة السعادة والحرية وهو يفترش رمل الشطآن في واجهة بحرية بعدما "التقى أصدقاءه في العشية، فأكلوا وشربوا وطربوا في مطعم من مطاعم الواجهة البحرية، ثم طاب له قضاء الليل بأسره في الهواء الطلق" (ص 129)، في إشارة روائية إلى أهمية العلاقات الاجتماعية ونمط العيش المختار في تحقيق سعادة الإنسان. وهكذا، ينتصر المنظور الطبيعي على المصطنع، والنقد على الرضوخ، والحرية على القيود، والإنسان على الشركات المتعددة الجنسيات.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 11 ساعات
- Independent عربية
الأرباح والخسائر في لعبة أكبر
الرئيس دونالد ترمب أمسك باللعبة من أيدي القوى الإقليمية في المنطقة، وأعاد الدورين الروسي والصيني إلى مسافة طويلة وراء الدور الأميركي. وما كان من الصعب عليه الانتقال سريعاً من توجيه ضربة هائلة للمنشآت النووية الإيرانية إلى فرض وقف النار على إسرائيل وإيران، المتعبتين من تبادل التدمير في حرب قاسية. ولم يكن خارج التوقعات إعلان ثلاثة "منتصرين" في حرب هي عملياً حرب "منتصر" واحد وعاجزين اثنين عن الانتصار. فليس في حرب كالتي بدأتها إسرائيل بالطائرات وردت عليها إيران بالصواريخ انتصارات، بل مجرد أرباح وخسائر لدى كل طرف. ولا شيء يمنع من الادعاء أن نتنياهو "ملك إسرائيل" وأن المرشد الأعلى علي خامنئي "إمبراطور غرب آسيا"، وأن ترمب "ملك العالم"، لكن على الجميع الجلوس في هدوء و"البحث عن الحقيقة في الوقائع" حسب الحكمة الصينية. ذلك أن حسابات الأرباح والخسائر ليست نهائية ولا كاملة في حرب ناقصة، حرب هي الأولى بين دولتين وجيشين في المنطقة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين التحالف المصري-السوري وإسرائيل، لأن كل الحروب الأخرى كانت بين إسرائيل ومجرد فصائل مثل "حزب الله و'حماس' وأنصار الله الحوثيين"، حرب لا تستطيع أطرافها تحمل دمارها وكلفتها ومضاعفاتها طويلاً، وليسوا قليلي الرغبة في إكمالها حين تسمح الظروف. وما تقوله الوقائع واضح، بصرف النظر عن القراءات المتسرعة والقراءة الأيديولوجية. إسرائيل ربحت إبعاد الكابوس النووي وتدمير جزء من منصات الصواريخ، مقابل خسارتها لما روجت له من كونها "القلعة الحصينة"، وانكشاف ضعف قدرتها على حماية أصولها الاستراتيجية من ضرب الصواريخ الباليستية. إيران ربحت تأكيد القدرة على الصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل، وما لم يكن على جدول الأعمال أمام أميركا وإسرائيل، وهو بقاء النظام، لكنها خسرت أسطورة الاقتدار، وبدت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي من دون حماية فعلية، بحيث دفعت في الضربات اليومية أثماناً لا تقل عن الأثمان التي دفعتها في "الضربة الاستباقية" لجهة اغتيال القادة الكبار وعلماء الذرة، كما أن قوتها الصاروخية لفتت أنظار أوروبا والعرب إلى أخطار الصواريخ الباليستية على أمن أوروبا والمنطقة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ترمب ربح الحرب عبر الضربة العسكرية التي شكلت مشهد الذروة في التراجيديا القتالية، ويريد أن يربح السلام. ومن المبكر رسم السيناريوهات حول الصورة الجديدة للشرق الأوسط، فلا تقسيمات سايكس-بيكو كانت ممكنة لولا الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية-المجرية والإمبراطورية البروسية ثم القيصرية. ولولا الحرب العالمية الثانية لما حصلت البلدان العربية على الاستقلال، ولما كان من السهل أن تولد إسرائيل. والتطورات الدراماتيكية التي يتحدث عنها أصحاب الخيال، وبينهم أصحاب رؤية بعيدة، تحتاج إلى حرب أكبر من حرب غزة ولبنان وحرب إسرائيل وإيران وإن دخلتها أميركا مباشرة. وما حدث ليس السيناريو الخطر الذي تصوره بعض، وهو أن تسجل إسرائيل نصراً مطلقاً على الجمهورية الإسلامية أو بالعكس أن تلحق طهران بإسرائيل هزيمة كاملة. ففي مثل هذا السيناريو تقع المنطقة من المتوسط إلى الخليج، وحتى من المحيط إلى الخليج بحسب الشعار القديم، تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة تتحالف مع قوة دولية واحدة أو أكثر. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتطلب التخلص منه عقوداً وتضحيات وعذابات. وليس سراً أن كثراً في المنطقة راهنوا على أن تنتهي الحرب بخسارة الطرفين، مقابل قلة راهنت على ربح إيران وقلة راهنت على ربح إسرائيل، ولكل أسبابه وظروفه وموقفه المبني على تجارب الماضي وما فعلته في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وسواها هيمنة إسرائيل وهيمنة إيران. والسؤال المباشر الآن هو ماذا بعد وقف النار؟ هل تنتهي الحرب أم أن المنطقة في استراحة محارب قبل معاودة القتال، وما التسوية التي تقود إليها المفاوضات بين أميركا وإيران؟ طهران توحي أنها ستكمل برنامجها النووي وأن الأضرار التي وقعت في المنشآت لم تدمر كل شيء، كما أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وترمب يقول إن الضربة الأميركية دمرت المنشآت النووية بالكامل، وسط تشكيك حتى في أوساط الاستخبارات الأميركية، ويهدد بضرب أية منشأة تحاول طهران إعادة بنائها وإحياء وظيفتها، ونتنياهو يهدد بما هو أكثر، وهما معاً يصران على شعار "صفر تخصيب" داخل إيران. وإذا كان أنصار إيران يتصورون أن الجمهورية الإسلامية ستخرج من المفاوضات مع أميركا، لا فقط برفع العقوبات عنها بل أيضاً بإطلاق يدها في المنطقة، فإن الأوساط الأميركية والإسرائيلية تضع على جدول الأعمال ثلاث لاءات، لا للمشروع النووي الإيراني ولا لتطوير البرنامج الصاروخي ولا للمشروع الإقليمي الإيراني وأذرعه. الحرب التي كشفت نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل وإيران، تركت لدى بعض انطباعاً خلاصته أن الجمهورية الإسلامية خسرت دور القوة الإقليمية، ولم تعد قادرة على حماية الرأس ولا الأذرع من إسرائيل. ومقابل الرهانات على الطائرات والصواريخ لصنع التاريخ، يقول هيغل "الفلسفة وحدها تستطيع قراءة ما خفي من التاريخ".


Independent عربية
١٩-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
هل يقود الصراع الإسرائيلي- الإيراني إلى حرب عالمية ثالثة؟
يدعو إلى القلق أن قادة مجموعة السبع - القوى الصناعية والديمقراطيات الكبرى في العالم - الذين اجتمعوا في كندا، لا يملكون ما يمكنهم أو يرغبون في فعله لإنهاء الحرب بين إيران وإسرائيل. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الحرب، على رغم ما تحمله من مشاهد درامية وخسائر مدنية حقيقية، ما زالت حتى الآن محصورة في القصف الجوي المتبادل. إنها نسخة أطول وأكثر كثافة من الضربات التي شنها الطرفان في أبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول)، وقد تهدأ حين ترى إسرائيل أن التهدئة باتت تصب في مصلحتها، على رغم أن الجيش الإسرائيلي يقول حالياً إنه يسيطر بالكامل على الأجواء فوق طهران. تقول إسرائيل إن الغارات الليلية على حيفا وتل أبيب أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص، بينما تقول طهران إن عدد القتلى بلغ مئات. ومع ذلك، لم تصل الأمور بعد إلى مستوى الحرب الشاملة. لا مجال لأن تستخدم إسرائيل سلاحها النووي، ولا احتمال كبيراً بأن تتدخل الولايات المتحدة مباشرة ضد الأراضي الإيرانية أو قواتها. إذا كان دونالد ترمب يريد الانتقام بسبب الأضرار الطفيفة التي لحقت بالسفارة الأميركية في تل أبيب بعد الغارات الليلية على منطقة سكنية، فيمكنه ترك هذه المهمة لبنيامين نتنياهو (بيبي). لذا، قد تكون هذه لحظة الخطر الأقصى أو ذروة الخطر، وليس تصعيداً إضافياً. إن الأمر لا يبدو حتى الآن وكأنه بداية لحرب عالمية ثالثة. إذا رأيت أن هجمات "حماس" في السابع من أكتوبر كانت لحظة مفصلية ومزعزعة للاستقرار، على غرار اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو عام 1914 – الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى – فقد تميل إلى اعتبار التطورات الحالية سلسلة من الصحوات القومية في منطقة مضطربة، مرشحة لاستدراج القوى العظمى في زمننا إلى صراع أوسع. وكما فعل الإرهابيون الصرب آنذاك، سترحب "حماس" بالتأكيد بتدخلات قوى أخرى اعتبرتها تقليدياً حليفة لها، أي إيران وروسيا، للوقوف إلى جانبها في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. فلا يمكن لـ"حماس" أن تكسب حرباً ضد إسرائيل بمفردها، لكن مع دعم إيران وروسيا، قد تكون لديها فرصة لتحقيق أهدافها وإضعاف إسرائيل. لهذا السبب، بدا رد فعل بيبي المفرط على هجمات السابع من أكتوبر 2023 ساذجاً وغير محسوب، لأنه خدم مصالح "حماس". وعلى رغم كل ما جرى، لم يجر القضاء على المنظمة الإرهابية. ولم تحقق الأهداف الحربية لإسرائيل، بل توسعت لتشمل إذلال إيران، وإنهاء طموحاتها النووية، وربما حتى إسقاط الجمهورية الإسلامية. من الممكن أن تستدرج الولايات المتحدة وروسيا إلى هذا الصراع، كان ذلك ليحدث في عهد بايدن. أما في عهد دونالد ترمب، ومع انكشاف ضعف إيران كما هو الآن، فإن الظروف التي قد تفضي إلى تصعيد أكبر ليست متوفرة. يتردد ترمب بشدة في فعل أي شيء يمكن أن يعرقل هدفه الاستراتيجي المتمثل في إقامة شراكة مع روسيا، إلى درجة أنه لن يتدخل إلا إذا كانت إسرائيل تواجه خطراً وجودياً مباشراً. وبالمثل، لن يتدخل بوتين إلا إذا أصبحت إيران، وهي مصدر دعم دبلوماسي وعسكري للحملة في أوكرانيا، معرضة للخطر. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) فلا إسرائيل ولا إيران على وشك الانهيار، فيما تبذل إسرائيل جهداً غير مسبوق لعرقلة مساعي إيران نحو امتلاك قدرة نووية. وهي حقيقة مقلقة، وكان من الأفضل بكثير للجميع لو أن الاتفاق النووي مع إيران حقق هذه النتيجة. لكن بعد انسحاب ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة خلال ولايته الأولى، لم تفعل إيران سوى تسريع برنامجها. إن منع إسرائيل للنظام في طهران من الحصول على أسلحة دمار شامل يتوافق تماماً مع مصالح ترمب. وفي هذا السياق، ليس مفاجئاً أن يلمح إلى إمكان أن يقوم فلاديمير بوتين بدور الوسيط لعقد اتفاق سلام أو في الأقل هدنة. وفي الوقت الراهن، وبالمنطق ذاته، لا يوجد سبب واضح يدفع المملكة العربية السعودية أو تركيا إلى التدخل في الصراع بين إسرائيل وإيران. لذا، ستصدر مجموعة السبع هذا الأسبوع بياناً باهتاً آخر يدعو إلى خفض التصعيد، وهو بيان لن يكون له تأثير يذكر في إسرائيل أو إيران، وسيستمر القصف. وسيتواصل أيضاً التدمير العقيم في غزة، وقد يستأنف الحوثيون أعمالهم الإرهابية منخفضة الحدة قرب مضيق باب المندب، مع تراجعها أحياناً بسبب القصف الأميركي العقابي المتكرر. ومع ذلك، فكل هذا لا يشكل استقراراً، وقد تنفجر الأمور فعلاً، لكن ذلك سيتطلب شيئاً دراماتيكياً، مثل أن يهدي الروس والكوريون الشماليون لإيران سلاحاً نووياً ونظاماً صاروخياً يمكنه الوصول إلى إسرائيل، أو أن تقصف الولايات المتحدة طهران أو المواقع الدينية. عندها فقط، يمكننا أن نتأمل مجدداً كيف ستصطف القوى العظمى وحلفاؤها في مواجهة شاملة، لكن لم يحن ذلك الوقت، بعد.


Independent عربية
١٦-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر
تتخذ أحداث رواية "الصحوة" مساراً أفقياً لا تنكسر أفقيته، سوى في نهاية الرواية، في نقطة تتحول فيها الأحداث عن مجراها، وأن عدد الشخوص يقتصر على شخصين اثنين، ينخرطان في حوار غير مباشر، عن بعد، يتمحور حول مسائل فكرية راهنة. وبمعزل عن إشكالية التجنيس، يطرح غونيل في "الصحوة" مسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بدور الشركات المتعددة الجنسيات في تشكيل العالم وفق مصالحها، وتحويل الإنسان، بالتواطؤ مع السياسيين الذين هم صنيعة هذه الشركات في معظم الأحيان، إلى مجرد رمز مشفر ومزود برقاقة، ورقم مسجل في وزارتي الداخلية والمالية. وبذلك، ينهض غونيل بدور المثقف الذي يختصره نعوم تشومسكي بالبوح بالحقيقة وكشف الأكاذيب، ويقوم بالتكليفين اللذين يصنعان عظمة مهنة الكتابة، على رأي ألبير كامو، وهما "خدمة الحقيقة وخدمة الحرية"، وهو ما يصرح به الكاتب في تذييل الرواية. من هنا، تشكل "الصحوة" صرخة في وجه الشركات المتعددة الجنسيات وصنائعها من السياسيين، من جهة، وانتصاراً لحرية الإنسان، من جهة ثانية. التلاعب بالحشود الرواية بالترجمة العربية (دار نوفل) ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات، كما نرى في المتن الروائي، تتلاعب بالحشود، وتتحكم بغرائز الناس ودوافعهم، وتستغل مخاوفهم، لتسويق منتجاتها. وهي تقتفي في ذلك أثر "لجنة المعلومات العامة" التي شكلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1917، بهدف إقناع الرأي العام الأميركي بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وضمت صحافيين ورسامين ومؤثرين محترفين، وكان بينهم إدوارد بيرنيز ابن شقيق فرويد، فوجهت اهتمامها إلى إثارة الغرائز والمشاعر من خلال: اختلاق الأخبار وابتداع القصص وإنتاج الأفلام وطباعة الملصقات وصياغة النشرات اليومية. وهنا، تزخر الرواية بمعلومات شكلت مقدمات تاريخية لنشوء أساليب التلاعب بالحشود التي اتخذتها الشركات الكبرى سلاحاً لتحقيق أهدافها، فراحت تفتعل الأزمات حول العالم، وتجترح الحلول لها، في محاولة منها لمراكمة مزيد من رأس المال وافتتاح الجديد من الأسواق لمنتجاتها، ضاربة عُرض الحائط بصحة الإنسان وسلامة البيئة وحرمة الطبيعة. وذلك، بالتواطؤ مع سياسيين صنَّعتهم، وأسندت إليهم الأدوار القذرة المغلفة بنوازع إنسانية، فأخذوا يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي تحقق إستراتيجياتها، مما ترتب عليه تجريد الإنسان من حريته، وتلويث البيئة، وانتهاك حرمة الطبيعة. في هذا السياق، تقول الرواية إن رئيس دولة غربية لا تصرح باسمها لكنها تلمح إلى أنها الولايات المتحدة الأميركية، يقوم بإعلان خمسة حروب متعاقبة على الموت، متمظهراً بحوادث السير وداء السكري والدفع نقداً والاحتباس الحراري والعنف. وتسخر الشركات الكبرى وسائل الإعلام وتتواصل لتضخيم أخطار هذه التمظهرات، بهدف دفع الناس إلى التهافت على الحلول التي تجترحها، والإقبال على استهلاك منتجاتها، مما يجعل من الإنسان مجرد حيوان مستهلك، تتفرد بتشكيله وفق مصالحها، ودائماً باسم الحرص على مصلحته. ففي مقابل التهويل بالأخطار التي تشكلها حوادث السير ورفد الرأي العام بإحصاءات يومية مبالغ فيها بعدد الضحايا، تخترع الشركات سيارات ذاتية القيادة وتغري الناس باقتنائها. وفي مقابل التهويل بأخطار داء السكري، تخترع المستشعر الحيوي لزرعه في جسم الإنسان وإشعاره بمعدلات السكر فيه. وفي مقابل التهويل بأخطار الدفع نقداً، تخترع البطاقة المصرفية. وفي مقابل التهويل بالاحتباس الحراري، تحدد الحد الأقصى لاستهلاك الطاقة وتفرض الضرائب على المخالفين. وفي مقابل التهويل بالعنف، يتم اختراع الكاميرات التي ترصد ملامح الوجوه وتتنبأ سابقاً بالدوافع الجرمية قبل ارتكاب الجرائم. وتتمكن بالترغيب والترهيب من فرض منتجاتها المختلفة على الناس. منظوران روائيان الروائي الفرنسي لوران غونل وروايته (فناك) إزاء هذه الوقائع، ثمة منظوران روائيان اثنان مختلفان تنطوي عليهما "الصحوة". والمفارق أنهما يصدران عن صديقين، لكل منها مكان إقامته ورؤيته ونمط عيشه المختلف عن الآخر، ومع هذا، يتواصلان ويتبادلان الرأي ويمثلان خطين متوازيين، خلال مجرى الأحداث، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، يتقاطعان بأن يتبنى أحدهما وجهة نظر الآخر، وتتحقق الصحوة بعد فوات الأوان. المنظور الأول يؤيد الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة، ويعبر عنه المهندس الشاب توم الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويلتزم سائر الحلول التي تجترحها الشركات الكبرى، معتبراً أنها تصب في مصلحة الإنسان، فيقتني السيارة الذاتية الدفع، ويدس المستشعر الحيوي في جسده، ويستخدم البطاقة المصرفية، ويستخدم الأدوات الكهربائية المحددة الطاقة، ولا يمانع في تعريض وجهه لكاميرات المراقبة. ويترتب على التزامه هذه الحلول ترديه في الاكتئاب والوحدة واعتزال الناس والشعور أنه موضع مراقبة وافتقاد الحرية. ومع هذا، يصر على صحة خياراته. المنظور الثاني يشكك في خلفيات الشركات المضمرة وأهدافها المعلنة، ويعبر عنه الشاب اليوناني كريستوس أناستوبولوس المقيم في أثينا الذي درس الفلسفة في المهجر. ويرى في الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة تنويعاً على الأساليب الشيوعية للاستجواب القسري التي وردت في تقرير العالم الاجتماعي الألماني ألبرت د. بيدرمان، ويطبقها على صديقه توم الراضخ لها، وينحاز إلى الطبيعة والحرية، ويصدر عن الحكمة التاوية في مقاربة الأشياء، معتبراً أن الإمبراطوريات المصطنعة خلافاً للطبيعة تحمل في صميمها بذور انهيارها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) هذان المنظوران ينتظمهما مسلكان سرديان، يتعاقبان بالتناوب في النص، ويتوازيان في الرأي، ويختلفان في المنطلقات والنتائج، ويتقاطعان، في الشكل، مرات عدة، من خلال الهاتف والرسائل الإلكترونية. ويتقاطعان، في المضمون، مرة واحدة، في نهاية الرواية، حين يقتنع توم بوجهة نظر صديقه كريستوس، ويترجم قناعته المستجدة إلى فعل هرب من المدينة إلى الطبيعة، وينسى أنه مراقب من خلال الرقاقة المغروسة في جسده والكاميرات التي تترصده، فيتم القبض عليه وإعادته إلى "القفص"، وبذلك، تأتي خطوته بعد فوات الأوان، في إشارة روائية إلى سيطرة الشركات على مسارات الناس ومصائرهم. على أن هذا التحول ما كان له أن يتحقق لولا مراسلات دورية تشتمل على قوائم بأدوات التلاعب بالحشود يرسلها كريستوس إلى صديقه توم، ولولا اكتشافه أن منتجات الشركات قابلة للاختراق ومضرة بالإنسان، فالسيارات الذكية يتحكم بها قراصنة وتودي بسائقيها إلى الموت، والمستشعر الحيوي يرسل بيانات الجسم الصحية إلى جهة معينة، والبطاقة المصرفية تتحول إلى جاسوس على حاملها، والكاميرا تقرأ نوايا الإنسان، مما يجعله يشعر بالاختناق حتى إذا ما خرج في طلب الحرية يكون قد فات الأوان. وهنا ينفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي بعدما انطلق من فضاء تاريخي. في نهاية الرواية، يهرب توم من كل الأماكن التي تحاصره إلى فضاء طبيعي في حديقة المدينة، فيتعقبه شرطيان ويلقيان القبض عليه في إشارة روائية إلى تأخره في الهرب، والعاقبة الوخيمة للرضوخ لأحكام الشركات، والمآل القاتم لنمط العيش الذي يمثله. وفي المقابل، نرى كريستوس في غمرة السعادة والحرية وهو يفترش رمل الشطآن في واجهة بحرية بعدما "التقى أصدقاءه في العشية، فأكلوا وشربوا وطربوا في مطعم من مطاعم الواجهة البحرية، ثم طاب له قضاء الليل بأسره في الهواء الطلق" (ص 129)، في إشارة روائية إلى أهمية العلاقات الاجتماعية ونمط العيش المختار في تحقيق سعادة الإنسان. وهكذا، ينتصر المنظور الطبيعي على المصطنع، والنقد على الرضوخ، والحرية على القيود، والإنسان على الشركات المتعددة الجنسيات.