
اقتصاد مقاوم للصدمات الجيوسياسية.. سطور من صندوق النقد الدولي
ليس من المعتاد أن تحمل تقارير صندوق النقد الدولي عبارات الإشادة والرضا بهذه الكثافة والوضوح، كما ورد في البيان الختامي لبعثة مشاورات المادة الرابعة مع المملكة العربية السعودية لعام 2025، فهذه التقارير عادةً ما تتسم بالتحفظ، وتترك هامشًا للقلق أو التنبيه، لكنها هذه المرة بدت وكأنها شهادة اعتماد دولية تؤكد عمق التحول الاقتصادي الذي تعيشه بلادنا، وتبرهن على جدية الرؤية، وصلابة التنفيذ، وتماسك الأداء المالي رغم ما يمر به العالم من اضطرابات وتحديات.
البيان استعرض بجلاء أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للقطاع غير النفطي قد حقق نموًا بنسبة 4,2% العام الماضي (2024)، مدفوعًا بالاستهلاك الخاص والاستثمارات غير النفطية، وما اُسْتُعْرِض ليست أرقاماً فقط، بل انعكاساً دقيقاً لاستراتيجية المملكة في فك الارتباط التاريخي بين النمو الاقتصادي وأسعار النفط، حيث باتت أنشطتنا الاقتصادية تُدار من بوابة القطاعات الحيوية الأخرى، من تجارة الجملة والتجزئة، إلى السياحة، والبناء، والخدمات، مدعومًا بسياسات مالية رشيدة وإصلاحات هيكلية ممنهجة.
ولم يتوقف الزخم عند العام الماضي، بل استمر في الربع الأول من 2025، حيث سجلت الأنشطة غير النفطية توسعًا بنسبة 4,9% على أساس سنوي، وفق التقديرات الأولية، وهنا تحديدًا يبرز نجاح المملكة في تكوين اقتصاد مقاوم للصدمات الجيوسياسية والتجارية العالمية، بل ومتفاعل مع متغيرات السوق الداخلي بشكل متسارع وفعّال.
إحدى أهم إشارات البيان تمثّلت في إشادته بقدرة المملكة على احتواء التضخم، والحفاظ على الاستقرار المالي، إلى جانب تحقيق معدلات بطالة متدنية غير مسبوقة بانخفاض 7% (2024)، وهو ما يحقق أحد أبرز مستهدفات رؤية السعودية 2030، وهنا من المهم استيعاب نقطة في غاية الأهمية، وهي أن هذه الأرقام لم تأتِ من فراغ، بل تعكس عمق الإصلاحات التي تبنّتها الدولة في سوق العمل، والبرامج التي أطلقتها لتمكين الكوادر الوطنية، ورفع نسب التوطين في القطاع الخاص، الذي سجل ارتفاعًا في معدلات التوظيف بلغ 12% في المتوسط العام الماضي.
وهنا، ينبغي قراءة هذه المؤشرات في سياق أكبر، يتعلّق بمفهوم "الفرصة الاقتصادية" التي تحققت للمواطنين، وتحولت من شعارات إلى واقع ملموس، فبلادنا لم تكتف بتوفير الوظائف، بل عملت على بناء بيئة عمل أكثر تحفيزًا، ونظام تشغيلي أكثر عدالة، وأسواق أكثر كفاءة.
واحدة من الرسائل الجوهرية التي وردت في بيان صندوق النقد، هي تأكيده أن المملكة تحتفظ بـ"حيز مالي كبير" يمكّنها من مواجهة التحديات المستقبلية، رغم الاضطرابات العالمية، فمستويات الدين العام لا تزال عند 26,2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من أقل المعدلات عالميًا، والأهم، أن هذا الدين يُدار ضمن إطار استدامة مالية، وباحتياطيات حكومية آمنة، ما يعزز ثقة المستثمرين، ويُبقي على قوة المركز المالي للدولة.
هذا الحيز المالي لا يُستخدم كأداة طوارئ فقط، بل كوسيلة استراتيجية لتعزيز الاستقرار، ودعم السياسات الاجتماعية والاقتصادية، دون الانزلاق إلى العجوزات أو الطروحات الضاغطة.
ومن زاوية أخرى، أشار البيان إلى أثر نظام الاستثمار الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في فبراير 2025، والذي يتوقع أن يُسهم في تعزيز السيولة وجذب الاستثمارات الأجنبية إلى أسواق رأس المال السعودية، وتحمل هذه الإشارة دلالة سياسية اقتصادية مهمة، تفيد بأن المملكة تمضي في فتح أسواقها بشكل مدروس، وتحفّز المستثمرين الدوليين على الثقة ببنيتها الاقتصادية، ومتانة بيئتها النظامية، وكفاءة الجهات التنظيمية.
ما يمكن استخلاصه من هذا التقرير هو أن العالم، ممثلاً بأحد أهم المرجعيات المالية الدولية، يقرّ بأن المملكة باتت نموذجًا يُحتذى به في التحول الاقتصادي القائم على الرؤية، والتخطيط، والتنفيذ المرحلي، فحين يتحدث صندوق النقد بهذه اللغة، فإنه لا يجامل، بل يقيس، ويقارن، ويحلل على قاعدة بيانات وشواهد.
إن البيان ليس نهاية مطاف، بل دعوة إلى استكمال المشوار بنفس الجدية والجرأة والشفافية، فالمستقبل لا ينتظر، والتحديات لا تنتهي، لكن الأسس التي وضعتها المملكة تضمن الاستمرارية والاستدامة، إذا ما حُوفِظ على ديناميكيتها وتمكين مؤسساتها وتعزيز مشاركة القطاع الخاص... دمتم بخير.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 14 دقائق
- عكاظ
السياحة السعودية.. قفزات للعالي
تطلق هيئة السياحة السعودية مع كل بداية صيف برنامجها السياحي «صيف السعودية» والذي حمل هذا العام 2025 شعار «لون صيفك»، حيث البرامج والأنشطة والفعاليات الجاذبة للسياح من داخل المملكة وخارجها وبكل مواقع ومناطق وطننا الغالي، وهو اهتمام غير مستغرب بالقطاع السياحي من حكومتنا وضمن رؤيتها الطموحة 2030، حيث تستهدف الوصول بمساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10% بحلول عام 2030م. وتزخر المملكة ولله الحمد بتنوع جميل في مناطقها ومدنها بمختلف مواقعها، مما يقدم تجربة فريدة من نوعها للسائح من داخل المملكة وخارجها، ولم يأتِ هذا الاهتمام بالقطاع السياحي من فراغ بل وضعت رؤية ٢٠٣٠ هذا القطاع ضمن أولوياتها لما يحققه من عوائد اقتصادية، فالعمل متواصل والمشاريع السياحية لا تتوقف، وبدأ القطاع السياحي ينشط وبشكل مستمر وملحوظ ويتطور عاماً بعد عام، وحقق قطاع السياحة في السعودية قفزات قياسية خلال عام 2024، جعلته من بين الأسرع نمواً عالمياً، ومتقدماً على معظم دول العالم، ومحققاً أهدافاً سابقة لأوانها ضمن رؤية 2030. ولأن نتاج كل عمل متقن ومدروس، تصدرت السعودية دول مجموعة العشرين في معدل نمو السياح الدوليين، وسجّلت السعودية نمواً قياسياً في إنفاق الزوار القادمين من الخارج خلال الربع الأول من عام 2025، بنسبة 9.7% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2024، وبلغ إجمالي إنفاق الزوار القادمين للمملكة نحو 49.4 مليار ريال، محققاً فائضاً في بند السفر لميزان المدفوعات بلغ نحو 26.8 مليار ريال، بنسبة نمو بلغت 11.7% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2024، وفقاً لبيانات بند السفر في ميزان المدفوعات لشهر مايو. فالمملكة تملك المقومات ولديها الإمكانيات والتنوع بالطبيعة والأجواء وأصبحت مشاريعها السياحية بمختلف مناطقنا ومدننا وفق رؤيتنا جاذبة مكتملة الخدمات، فأهلاً بالسياح والزوار في وطن الأمن والأمان والسلام. أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 14 دقائق
- عكاظ
المملكة في مسار التنويع الاقتصادي
تسير المملكة بخطوات واثقة نحو اقتصاد أكثر تنوع واستدامة مستندة إلى رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي من أهدافها تقليل الاعتماد على النفط كمحور رئيسي لبناء اقتصاد وطني قوي ومتنوع، هذا التحول ليس مجرد شعار بل مشروع عملي يُترجم إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع. فالمتابع للاقتصاد السعودي يرى أنه خلال السنوات الماضية قد شهد نمواً ملحوظاً في القطاعات غير النفطية التي باتت تساهم بحوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي. تنمية قطاعات مثل السياحة، الترفيه، الصناعة، التقنية، والطاقة المتجددة تعكس رؤية واضحة نحو مستقبل يعتمد على مصادر دخل متنوعة ويخلق فرص عمل أكثر لمختلف فئات المجتمع. ويأتي أحد أبرز عناصر التنويع هو صندوق الاستثمارات العامة الذي توسعت أصوله إلى أكثر من 3.5 تريليون ريال، مستثمراً في مشاريع داخلية وعالمية تهدف إلى دعم القطاعات الحيوية وتنمية الاقتصاد الوطني بشكل مستدام، ويعمل الصندوق على بناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار بعيداً عن تقلبات أسعار النفط. كما شهدت المملكة طفرة في السياحة والترفيه حيث أصبحت وجهة عالمية للفعاليات ما جذب ملايين الزوار وأسهم في خلق آلاف الوظائف، إضافة إلى ذلك ركزت الحكومة على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل ركيزة الاقتصاد الوطني من خلال تسهيلات تمويلية وبرامج تدريبية. تطوير الصناعات التحويلية والتقنية يعزز من تنافسية المملكة في الأسواق العالمية، ويضمن مستقبلاً اقتصادياً متيناً قادراً على مواجهة تحديات الاقتصاد العالمي. هذا التحول الاقتصادي ليس فقط مطلباً مالياً، بل هو رؤية اجتماعية تعزز من رفاهية المواطن وتوفر له فرص عمل متنوعة وتحسين جودة الحياة. المملكة اليوم ترسم صورة جديدة لمستقبلها الاقتصادي، مستقبل متنوع مستدام وقادر على المنافسة على الساحة الدولية. أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
"الصناعة: 9991 مصنعاً منتجاً في السعودية حتى نهاية 2024
أظهر التقرير السنوي لوزارة الصناعة والثروة المعدنية، أن عدد المصانع المنتجة في المملكة العربية السعودية بلغ بنهاية الربع الرابع 2024 أكثر من 9991 مصنعاً، بعدد عمالة نحو 980 ألف عامل وبحجم استثمارات تجاوز 966 مليار ريال. وتوزعت المصانع ما بين استثمارات وطنية وأجنبية ومشتركة، تصدرتها المصانع المشتركة بنحو 94% من الإجمالي بحجم رؤس أموال يبلغ 956.6 مليار ريال. واستحوذت المصانع الصغيرة والمتوسطة على النسبة الأكبر من إجمالي المصانع المنتجة بإجمالي أكثر من 92%، فيما تصدرت المصانع كبيرة الحجم من حيث حجم الاستثمارات بأكثر من 594 مليار ريال. وتوزعت تلك المصانع على 24 نشاطاً، تصدرها نشاط صنع المواد الكيميائية والمنتجات الكيميائية من حيث رأس المال بنحو 412.41 مليار ريال، تلاه نشاط صنع منتجات المعادن اللافلزية الأخرى بنحو 213 مليار ريال. وتصدرت المنطقة الشرقية، مناطق المملكة من حيث حجم الاستثمار في القطاع الصناعي، بنحو 447 مليار ريال وبنسبة أكثر من 46% من الإجمالي، ثم منطقة الرياض، بقيمة بلغت أكثر من 182.3 مليار ريال، وتصدرت كذلك من حيث عدد العمالة بنحو 3745 عاملاً. وكانت وزارة الصناعة والثروة المعدنية قد أصدرت 63 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال يناير الماضي 2025، فيما بدأت 103 مصانع جديدة الإنتاج خلال الشهر نفسه، وفقاً لتقرير المركز الوطني للمعلومات الصناعية والتعدينية التابع للوزارة. وبيّن التقرير الذي يرصد المؤشرات الصناعية بشكل شهري، أن حجم الاستثمارات المرتبطة بالتراخيص الجديدة بلغ 1.197 مليار ريال، ومن المتوقع أن تُسهم هذه المشاريع في توفير أكثر من 2500 فرصة وظيفية في مختلف مناطق المملكة. وبلغت قيمة الاستثمارات في المصانع التي بدأت الإنتاج خلال يناير 900 مليون ريال، مع فرص وظيفية تُقدّر بـ1504 وظائف جديدة، ما يعكس استمرار توسّع القاعدة الصناعية في المملكة، وارتفاع وتيرة دخول المصانع إلى حيّز التشغيل الفعلي. أخبار ذات صلة