logo
أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي

أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي

اليوم الثامنمنذ 2 أيام
عندما سألوا القاص الروسي الشهير "أنتون تشيخوف" عن سبب ارتداؤه ملابس سوداء طوال الوقت، أجابهم بهدوء: "لأني أقيم الحداد على حياتي". اخترق البؤس حياة "تشيخوف" منذ نعومة أظافره، وإن كان ذاك البؤس عينه ما صنع منه اسم لامع في عالم الأدب. فلو كان "ليو تولستوي هو الأب الروحي للرواية في روسياٍ"، فإن "أنتون تشيخوف" يماريه نفس المكانة محليًا و عالميًا، لكن في فن القصة القصيرة، الذي جعل منه مرآة جريئة تعكس الواقع بكل مآسيه، وإن غلَّف الواقعية التي تدمي القلوب بطبقة سميكة من الأسلوب الساخر الذي قد يثير الضحك، لكنه في نفس الوقت يجعل عقل القارئ يفكِّر بعمق فيما يطرحه "تشيخوف" من قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، وكأنه يفعل ذلك عن قصد حتى يثر حفيظة القارئ ويشحذ فكره.
والغريب أن الأدباء العالميين كانوا لا يعاملون "تشيخوف"، في بداية الأمر، بجدية؛ بسبب هذا اللون المستحدث من القصة القصيرة التي يقدمها، بل وكان الكثير منهم يتهكمون عليها. ومع ظهور أجيال جديدة ذات فكر واعي عميق، مثل "تي أس إليوت" T. S. Eliott و"جورج برنارد شو" George Bernard Show، أدركوا مدى العمق الذي يتناول به قضايا اجتماعية شديدة التعقيد، بأسلوب ممتع يسيل بسلاسة كالماء. فلقد كان ذكاء "تشيخوف" المتَّقد وتركيزه الشديد على أي أمر يشعر بأنه شديد الأهمية ويجب معرفة المزيد عنه وكذلك عرض التجربة للقارئ بشكل لائق مؤتِّر، كان يشابه إلى حد كبير أسلوب السيكوباتيين في معالجة الأمور محلّ اهتمامهم.
ولقد عالج عالم الطب النفسي الإنجليزي "كيفين داتون" Kevin Dutton (1967- ) في كتابه "حكمة السيكوباتيين" The Wisdom of Psychopaths ذاك الجانب من النفس البشرية. فالمعروف عن الأشخاص السيكوباتية أنهم أعداء المجتمع؛ فهم طائفة من المجانين بلا جنون، وذوي عقل إجرامي منظَّم، وعند اقتراف أيٍّ من جرائمهم يفعلون ذلك بأكثر الطرق وحشية، وكذلك بتركيز لضمان التلذذ والاستمتاع. وباستقصاء الأمر من جميع الجوانب، وجد "كيفين داتون" أن أعراض الإصابة بالسيكوباتية متفشية بين العديد من البشر؛ فليس بالضرورة أن يكون السيكوباتي عنيفًا أو تفكيره إجرامي بنفس الصورة المتعارف عليها. والعجيب أن الأفراد السيكوباتية غالبًا ما تعتلي أكبر المناصب في المجتمع سواء أكانوا من العلماء أو كبار المدراء والتنفيذين وكذلك الساسة. ويشترك كل هؤلاء مع النموذج التقليدي للسفاحين السيكوباتيين في خصال الشعور بالذات والقدرة على الإقناع والشعور بالعظمة والفتنة وعدم الرحمة والتلاعب بالآخرين، ومن الواضح أن قادة العالم وكبار السياسيين كلما تعاظمت لديهم كل هذه القدرات، كلَّما تم اعتبارهم عقليات منظمة فذَّة قادرة على صنع التاريخ.
فالسيكوباتية تدرور في فلك أربعة أبعاد: بُعْد العلاقة مع الآخرين، والبُعْد العاطفي، وبُعْد أسلوب الحياة، وأخيرًا بُعْد مُعاداة المجتمع. وبالتأكيد، يندرج تحت كل بُعْد درجات كثيرة وصفات أكثر، وتظهر الشخصية السيكوباتية كمزيج من كل الأبعاد. ولهذا، لا يجب أن نختصرها جميعًا في بُعْد واحد وهو معاداة المجتمع، ونُطلق جُزافًا أن جميع السيكوباتيين يقترفون جرائم بشعة بدم بارد. وهؤلاء هم السيكوباتيين الناجحين والذين نجدهم في مجالات عديدة مثل القانون والطب والسياسة والمحاسبة. فأهم ما يميِّز السيكوباتي الناجح هو القدرة على إتخاذ القرارات بتصميم دون تردد، فهو كالجرَّاح الماهر الذي يتَّخذ القرارات الحاسمة في الأوقات الحرجة. ولعل أشهر نموذج وقريب من الأذهان هو شخصية على ذلك أبطال السينما في أفلام الحركة الذين يجابهون الأعداء بدم بارد ولا يهابون المغامرة، حتى ولو كانت إلقاء أنفسهم من طائرة أو مبنى، فهم لا يكترثون بالعواقب السلبية؛ لأن تركيزهم فقط على ما قد يحققونه من نفع لو أثمرت المجازفة.
ولقد أحيط "أنتون تشخوف" ( 1860-1904) منذ الصغر بجميع الظروف التي قد تصنع منه سيكوباتيًا عنيفًا عتيدًا في الإجرام. فلقد ولد في الريف في أسرة فقيرة محاطًا بالفقراء والكلاب الضَّالة والحيوانات. وأمَّا والده، فكان سكِّيرًا يتفنن في ضربه وتعنيفه، حتى ولو على أتفه الأمور. وعندما أفلس والده تمامًا وأصبح غارقًا في الديون، لم يجد بُدًّا سوى أن يترك القرية التي عاش فيها وينتقل إلى مكان آخر، فما كان من "تشيخوف" إلَّا وأن اجتهد وعمل منذ الصغر حتى يعيل عائلته، وكذلك يكتب القصص القصيرة ويبيعها للصحف والمجلات حتى تتوافر لديه النقود. فلقد كان يعمل بأكثر من طاقته بصبر وإصرار وتركيز دون أن تحيل تقلُّب الظروف بينه وبين غايته في كسب المال وإشباع هوايته الأدبية وفي نفس الوقت تحقيق ذاته في الحياة العملية؛ فلقد استطاع في خضم ظروفه الصعبة تلك أن يصير طبيبًا ناجحًا، وفي نفس الوقت كان أديبًا متميِّزًا.
وأمَّا القرار الأكثر سيكوباتية في حياة "تشيخوف" الذي أثار إعجاب الكاتب الأمريكي الشهير "روبرت جرين" Robert Greene (1959 - ) صاحب كتب تطوير الذَّات الأكثر مبيعًا، ومن أهمها: "قوانين القوَّة ال48" The 48 Laws of Power و"فن الإغواء" The Art of Seduction – هو قدرة "تشيخوف" على أن يُسامح والده على ما اقترفه في حقه من تعذيب نفسي وجسدي عندما كان طفلًا، وإرهاقًا نفسيًا وماديًا عندما كان يافعًا عندما أجبره لأن يصبح عائل الأسرة. قد يظن البعض أن قدرة "تشيخوف" على التسامح مصدرها الرَّحمة أو القلب الرقيق، لكن العكس هو الصحيح. فلقد كان مثل طبيب جرَّاح ماهر اختار أن يزيل سرطان الشعور بالقهر والحقد من البُعْد العاطفي لديه عندما حلل الموقف بعقلانية واستخلص أن إساءات والده له وإدمانه الشراب مصدرهما ما ذاقه هو نفسه من والده من معاملة سيئة في صغره، وكذلك أدرك أن الفقر المدقع والحظ السيئ الذي أحاط بوالده منذ طفولته قد ساهم في ذلك. لقد سامح "تشخوف" والده بسبب أنه أدرك أن الشعور بالحقد سوف يكون عائقًا له في مواصلة تحقيق أحلامه، وأنه قد يعمل على تشويش عقلانيته وذكائه، وأهم من كل ذاك نجاحاته التي كانت تضخم لديه الشعور بالأهمية وسمو الذَّات.
وبنفس الأسلوب، تعامل "تشيخوف" مع المادة الأدبية التي كان يُقدِّمها لجمهور القرَّاء؛ فعلى عكس كبار الأدباء السالفين له والمعاصرين الذين ينتمون للطبقات العُليا أو المتوسِّطة، ويكتبون عن حياة تلك الطبقات، عالج "تشيخوف" في أعماله تفاصيل حياة الطبقات الفقيرة وخاض في حياة المزارعين والقرويين. وعلى نقيض سالفيه أيضًا، لم يقدِّم القروي محاطًا بهالة من حسن النوايا وطيبة القلب وحب الخير للآخرين، بل جعل أعماله مرآة تعكس الواقع بكل مساوئه أو إيجابياته؛ فأبطاله منهم الطيب أو الخبيث أو المُتلاعب أو الشرير، وكل هذه كانت نماذج تخالف الأعراف المتبعة حينها التي تقدِّم مجتمع الريف في إطار رومانسي.
لقد أثار أسلوبه الواقعي حفيظة الأدباء في بداية الأمر، لكن استمتاعهم بالمحتوى وإقبال القرَّاء على أعماله كان خير دليل على أن "تشيخوف" عبقرية أدبية. وظهر نفس ذاك الحسم في القالب الفنِّي الذي قدَّم فيه أعماله الأدبية أيضًا؛ عندما أصرّ أن تكون أعماله مباشرة وشديدة التكثيف ولا تجنح للاستطراد وكثرة الوصف مثل الروايات، فكان يردد أن الفلَّاح ليس لديه الوقت لقراءة عمل طويل، أو القدرة الذهنية على استيعاب جماليات ووصف لا يضيف للحبكة الدرامية، حتى ولو كان مكتوبًا بلغة شديدة الرُّقي ورائعة من النَّاحية الفنِّية.
وبذلك وضع "تشيخوف" قوانين جديدة لفن الكتابة القصصية، وأهمها نظرية "بندقية تشيخوف". وتقتضي نظرية "البندقية" إقصاء كل ما لا يكون له علاقة أو استخدام في النص أو البناء الدرامي، فلكل أمر يُذكر في سياق الكلام أهمية ودور، حتى ولو كان بندقية معلَّقة على الحائط. فنّ التكثيف الشديد هو من أهم صفات السيكوباتي الرَّاغب عن إضاعة الوقت في ترَّاهات تعمل على تشوِيش عقليته المنظمة وتجعله لا يستمتع استمتاع كامل بنتيجة العمل الذي يضَّلع به؛ فكل أمر بالنسبة له يخضع للتحليل والمنطق، وهو لا ينساق وراء التعاطف الحار، بل لديه مخزون من التعاطف البارد الذي يدفعه لطريق التفوُّق؛ لأنه لا يأخذ الأمور على محمل شخصي.
لقد كان "تشيخوف" سيكوباتيًا؛ لأنه استطاع الفصل بين التعاطف الحسِّي البارد والتعاطف الانفعالي الحار؛ فهو لم يترك أمرًا ليسير وفق أهواء الظروف، بل رغب في أن يكون العليم والمسيطر حتى على مسار حياته. ونجح في كبت الرَّحمة في المواقف التي تتطلَّب الحسم، واستطاع أن يصفِّي ذهنه ويصبح شديد التركيز حتى في أحلك المواقف. وأمَّا صلابته الذهنية جعلته لا يبالي بآراء الآخرين في شخصه أو في اللون الأدبي الجديد الذي يقدِّمه، وكان يضلِّع بكل هذه المخاطر دون تردد ويقظة تامة لكل ما يدور من حوله، ولم ينقصه في كل هذا أن يضفي عامل الفتنة والجذب على شخصيته الكاريزمية أو على أعماله التي تَعْلق رسالتها في الأذهان بسهولة. والأهم من كل هذا، أنه لم يبالي بماضيه وكل مآسيه، ولم يكترث لما سوف يحدث له في المستقبل؛ فلقد حصر نفسه وأفعاله في الحاضر فقط، وما يستطيع أن يحققه من إنجاز لحظي يشبع نهمه الآني.
قدَّم "تشيخوف" للبشرية أنموذجًا مُحببًا للأشخاص السيكوباتية. ولا يعني ذلك أن الهموم وأسوأ أنواع الشعور كانت لا تصيب نفسه بالسأم، لكنه تميَّز بأنه في لحظة واحدة له القدرة على أن ينفصل عن الواقع ويسعى في تحقيق أي هدف، حتى ولو كان آني تافه، بإصرار وتصميم أو بالأحرى "مع سبق الإصرار والترصُّد".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فرقة كركلا اللبنانية تشعل المسرح الكبير في موسكو بعرض 'ألف ليلة وليلة'
فرقة كركلا اللبنانية تشعل المسرح الكبير في موسكو بعرض 'ألف ليلة وليلة'

المدى

timeمنذ يوم واحد

  • المدى

فرقة كركلا اللبنانية تشعل المسرح الكبير في موسكو بعرض 'ألف ليلة وليلة'

شاركت فرقة كركلا اللبنانية، لمؤسسها الفنان اللبناني عبد الحليم كركلا، في مهرجان تشيخوف الدولي للمسرح، بلوحتها الفنية الراقصة 'ألف ليلة وليلة'. وحول هذه المشاركة، قال السفير اللبناني لدى روسيا وعميد الدبلوماسيين العرب، شوقي بونصار، لـ'سبوتنيك': 'مسرور جداً لوجود فرقة عظيمة مثل كركلا في موسكو، وهي تعكس مدى الانسجام الثقافي بين البلدين. وتابع السفير أن روسيا دولة عظيمة بكل المعايير، وخاصة في الناحية الثقافية، ولبنان أيضاً بلد صغير بمساحته، ولكنه كبير بإنجازات أبنائه في مختلف المجالات، لا سيما منها العلمية والثقافية والفنية. وأضاف بونصار أن مؤسس الفرقة عبد الحليم كركلا من الرواد الأوائل الذين أنشأوا فرقة رقص فولكلوري في لبنان، وبسبب المستوى الراقي جداً، انتقلت للعالمية'. بدوره، قال المخرج والفنان إيفان كركلا لـ'سبوتنيك': 'وجودنا في روسيا، منطقة التاريخ والفن، يعطينا شعوراً خاصاً، ونعتبره تتويجاً لمسيرة خمسة وخمسين عاماً لمسرح وموسيقى 'ألف ليلة وليلة'، المستوحاة من موسيقى الموسيقار الروسي كورساكوف، وكركلا هنا، في مسرح البولشوي، ينشر الحضارة والثقافة العربية واللبنانية'. وعبّرت كارينا تساتوروفا، المديرة العامة لمهرجان تشيخوف الدولي للمسرح، عن إعجابها بأداء الفرقة، قائلة: 'إنها المشاركة الأولى لكركلا في المهرجان، وقد أذهلنا جمال ومستوى الفنانين'.

أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي
أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي

اليوم الثامن

timeمنذ 2 أيام

  • اليوم الثامن

أنتون تشيخوف وتقديم النموذج المحبب للسيكوباتي

عندما سألوا القاص الروسي الشهير "أنتون تشيخوف" عن سبب ارتداؤه ملابس سوداء طوال الوقت، أجابهم بهدوء: "لأني أقيم الحداد على حياتي". اخترق البؤس حياة "تشيخوف" منذ نعومة أظافره، وإن كان ذاك البؤس عينه ما صنع منه اسم لامع في عالم الأدب. فلو كان "ليو تولستوي هو الأب الروحي للرواية في روسياٍ"، فإن "أنتون تشيخوف" يماريه نفس المكانة محليًا و عالميًا، لكن في فن القصة القصيرة، الذي جعل منه مرآة جريئة تعكس الواقع بكل مآسيه، وإن غلَّف الواقعية التي تدمي القلوب بطبقة سميكة من الأسلوب الساخر الذي قد يثير الضحك، لكنه في نفس الوقت يجعل عقل القارئ يفكِّر بعمق فيما يطرحه "تشيخوف" من قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، وكأنه يفعل ذلك عن قصد حتى يثر حفيظة القارئ ويشحذ فكره. والغريب أن الأدباء العالميين كانوا لا يعاملون "تشيخوف"، في بداية الأمر، بجدية؛ بسبب هذا اللون المستحدث من القصة القصيرة التي يقدمها، بل وكان الكثير منهم يتهكمون عليها. ومع ظهور أجيال جديدة ذات فكر واعي عميق، مثل "تي أس إليوت" T. S. Eliott و"جورج برنارد شو" George Bernard Show، أدركوا مدى العمق الذي يتناول به قضايا اجتماعية شديدة التعقيد، بأسلوب ممتع يسيل بسلاسة كالماء. فلقد كان ذكاء "تشيخوف" المتَّقد وتركيزه الشديد على أي أمر يشعر بأنه شديد الأهمية ويجب معرفة المزيد عنه وكذلك عرض التجربة للقارئ بشكل لائق مؤتِّر، كان يشابه إلى حد كبير أسلوب السيكوباتيين في معالجة الأمور محلّ اهتمامهم. ولقد عالج عالم الطب النفسي الإنجليزي "كيفين داتون" Kevin Dutton (1967- ) في كتابه "حكمة السيكوباتيين" The Wisdom of Psychopaths ذاك الجانب من النفس البشرية. فالمعروف عن الأشخاص السيكوباتية أنهم أعداء المجتمع؛ فهم طائفة من المجانين بلا جنون، وذوي عقل إجرامي منظَّم، وعند اقتراف أيٍّ من جرائمهم يفعلون ذلك بأكثر الطرق وحشية، وكذلك بتركيز لضمان التلذذ والاستمتاع. وباستقصاء الأمر من جميع الجوانب، وجد "كيفين داتون" أن أعراض الإصابة بالسيكوباتية متفشية بين العديد من البشر؛ فليس بالضرورة أن يكون السيكوباتي عنيفًا أو تفكيره إجرامي بنفس الصورة المتعارف عليها. والعجيب أن الأفراد السيكوباتية غالبًا ما تعتلي أكبر المناصب في المجتمع سواء أكانوا من العلماء أو كبار المدراء والتنفيذين وكذلك الساسة. ويشترك كل هؤلاء مع النموذج التقليدي للسفاحين السيكوباتيين في خصال الشعور بالذات والقدرة على الإقناع والشعور بالعظمة والفتنة وعدم الرحمة والتلاعب بالآخرين، ومن الواضح أن قادة العالم وكبار السياسيين كلما تعاظمت لديهم كل هذه القدرات، كلَّما تم اعتبارهم عقليات منظمة فذَّة قادرة على صنع التاريخ. فالسيكوباتية تدرور في فلك أربعة أبعاد: بُعْد العلاقة مع الآخرين، والبُعْد العاطفي، وبُعْد أسلوب الحياة، وأخيرًا بُعْد مُعاداة المجتمع. وبالتأكيد، يندرج تحت كل بُعْد درجات كثيرة وصفات أكثر، وتظهر الشخصية السيكوباتية كمزيج من كل الأبعاد. ولهذا، لا يجب أن نختصرها جميعًا في بُعْد واحد وهو معاداة المجتمع، ونُطلق جُزافًا أن جميع السيكوباتيين يقترفون جرائم بشعة بدم بارد. وهؤلاء هم السيكوباتيين الناجحين والذين نجدهم في مجالات عديدة مثل القانون والطب والسياسة والمحاسبة. فأهم ما يميِّز السيكوباتي الناجح هو القدرة على إتخاذ القرارات بتصميم دون تردد، فهو كالجرَّاح الماهر الذي يتَّخذ القرارات الحاسمة في الأوقات الحرجة. ولعل أشهر نموذج وقريب من الأذهان هو شخصية على ذلك أبطال السينما في أفلام الحركة الذين يجابهون الأعداء بدم بارد ولا يهابون المغامرة، حتى ولو كانت إلقاء أنفسهم من طائرة أو مبنى، فهم لا يكترثون بالعواقب السلبية؛ لأن تركيزهم فقط على ما قد يحققونه من نفع لو أثمرت المجازفة. ولقد أحيط "أنتون تشخوف" ( 1860-1904) منذ الصغر بجميع الظروف التي قد تصنع منه سيكوباتيًا عنيفًا عتيدًا في الإجرام. فلقد ولد في الريف في أسرة فقيرة محاطًا بالفقراء والكلاب الضَّالة والحيوانات. وأمَّا والده، فكان سكِّيرًا يتفنن في ضربه وتعنيفه، حتى ولو على أتفه الأمور. وعندما أفلس والده تمامًا وأصبح غارقًا في الديون، لم يجد بُدًّا سوى أن يترك القرية التي عاش فيها وينتقل إلى مكان آخر، فما كان من "تشيخوف" إلَّا وأن اجتهد وعمل منذ الصغر حتى يعيل عائلته، وكذلك يكتب القصص القصيرة ويبيعها للصحف والمجلات حتى تتوافر لديه النقود. فلقد كان يعمل بأكثر من طاقته بصبر وإصرار وتركيز دون أن تحيل تقلُّب الظروف بينه وبين غايته في كسب المال وإشباع هوايته الأدبية وفي نفس الوقت تحقيق ذاته في الحياة العملية؛ فلقد استطاع في خضم ظروفه الصعبة تلك أن يصير طبيبًا ناجحًا، وفي نفس الوقت كان أديبًا متميِّزًا. وأمَّا القرار الأكثر سيكوباتية في حياة "تشيخوف" الذي أثار إعجاب الكاتب الأمريكي الشهير "روبرت جرين" Robert Greene (1959 - ) صاحب كتب تطوير الذَّات الأكثر مبيعًا، ومن أهمها: "قوانين القوَّة ال48" The 48 Laws of Power و"فن الإغواء" The Art of Seduction – هو قدرة "تشيخوف" على أن يُسامح والده على ما اقترفه في حقه من تعذيب نفسي وجسدي عندما كان طفلًا، وإرهاقًا نفسيًا وماديًا عندما كان يافعًا عندما أجبره لأن يصبح عائل الأسرة. قد يظن البعض أن قدرة "تشيخوف" على التسامح مصدرها الرَّحمة أو القلب الرقيق، لكن العكس هو الصحيح. فلقد كان مثل طبيب جرَّاح ماهر اختار أن يزيل سرطان الشعور بالقهر والحقد من البُعْد العاطفي لديه عندما حلل الموقف بعقلانية واستخلص أن إساءات والده له وإدمانه الشراب مصدرهما ما ذاقه هو نفسه من والده من معاملة سيئة في صغره، وكذلك أدرك أن الفقر المدقع والحظ السيئ الذي أحاط بوالده منذ طفولته قد ساهم في ذلك. لقد سامح "تشخوف" والده بسبب أنه أدرك أن الشعور بالحقد سوف يكون عائقًا له في مواصلة تحقيق أحلامه، وأنه قد يعمل على تشويش عقلانيته وذكائه، وأهم من كل ذاك نجاحاته التي كانت تضخم لديه الشعور بالأهمية وسمو الذَّات. وبنفس الأسلوب، تعامل "تشيخوف" مع المادة الأدبية التي كان يُقدِّمها لجمهور القرَّاء؛ فعلى عكس كبار الأدباء السالفين له والمعاصرين الذين ينتمون للطبقات العُليا أو المتوسِّطة، ويكتبون عن حياة تلك الطبقات، عالج "تشيخوف" في أعماله تفاصيل حياة الطبقات الفقيرة وخاض في حياة المزارعين والقرويين. وعلى نقيض سالفيه أيضًا، لم يقدِّم القروي محاطًا بهالة من حسن النوايا وطيبة القلب وحب الخير للآخرين، بل جعل أعماله مرآة تعكس الواقع بكل مساوئه أو إيجابياته؛ فأبطاله منهم الطيب أو الخبيث أو المُتلاعب أو الشرير، وكل هذه كانت نماذج تخالف الأعراف المتبعة حينها التي تقدِّم مجتمع الريف في إطار رومانسي. لقد أثار أسلوبه الواقعي حفيظة الأدباء في بداية الأمر، لكن استمتاعهم بالمحتوى وإقبال القرَّاء على أعماله كان خير دليل على أن "تشيخوف" عبقرية أدبية. وظهر نفس ذاك الحسم في القالب الفنِّي الذي قدَّم فيه أعماله الأدبية أيضًا؛ عندما أصرّ أن تكون أعماله مباشرة وشديدة التكثيف ولا تجنح للاستطراد وكثرة الوصف مثل الروايات، فكان يردد أن الفلَّاح ليس لديه الوقت لقراءة عمل طويل، أو القدرة الذهنية على استيعاب جماليات ووصف لا يضيف للحبكة الدرامية، حتى ولو كان مكتوبًا بلغة شديدة الرُّقي ورائعة من النَّاحية الفنِّية. وبذلك وضع "تشيخوف" قوانين جديدة لفن الكتابة القصصية، وأهمها نظرية "بندقية تشيخوف". وتقتضي نظرية "البندقية" إقصاء كل ما لا يكون له علاقة أو استخدام في النص أو البناء الدرامي، فلكل أمر يُذكر في سياق الكلام أهمية ودور، حتى ولو كان بندقية معلَّقة على الحائط. فنّ التكثيف الشديد هو من أهم صفات السيكوباتي الرَّاغب عن إضاعة الوقت في ترَّاهات تعمل على تشوِيش عقليته المنظمة وتجعله لا يستمتع استمتاع كامل بنتيجة العمل الذي يضَّلع به؛ فكل أمر بالنسبة له يخضع للتحليل والمنطق، وهو لا ينساق وراء التعاطف الحار، بل لديه مخزون من التعاطف البارد الذي يدفعه لطريق التفوُّق؛ لأنه لا يأخذ الأمور على محمل شخصي. لقد كان "تشيخوف" سيكوباتيًا؛ لأنه استطاع الفصل بين التعاطف الحسِّي البارد والتعاطف الانفعالي الحار؛ فهو لم يترك أمرًا ليسير وفق أهواء الظروف، بل رغب في أن يكون العليم والمسيطر حتى على مسار حياته. ونجح في كبت الرَّحمة في المواقف التي تتطلَّب الحسم، واستطاع أن يصفِّي ذهنه ويصبح شديد التركيز حتى في أحلك المواقف. وأمَّا صلابته الذهنية جعلته لا يبالي بآراء الآخرين في شخصه أو في اللون الأدبي الجديد الذي يقدِّمه، وكان يضلِّع بكل هذه المخاطر دون تردد ويقظة تامة لكل ما يدور من حوله، ولم ينقصه في كل هذا أن يضفي عامل الفتنة والجذب على شخصيته الكاريزمية أو على أعماله التي تَعْلق رسالتها في الأذهان بسهولة. والأهم من كل هذا، أنه لم يبالي بماضيه وكل مآسيه، ولم يكترث لما سوف يحدث له في المستقبل؛ فلقد حصر نفسه وأفعاله في الحاضر فقط، وما يستطيع أن يحققه من إنجاز لحظي يشبع نهمه الآني. قدَّم "تشيخوف" للبشرية أنموذجًا مُحببًا للأشخاص السيكوباتية. ولا يعني ذلك أن الهموم وأسوأ أنواع الشعور كانت لا تصيب نفسه بالسأم، لكنه تميَّز بأنه في لحظة واحدة له القدرة على أن ينفصل عن الواقع ويسعى في تحقيق أي هدف، حتى ولو كان آني تافه، بإصرار وتصميم أو بالأحرى "مع سبق الإصرار والترصُّد".

روح صوّر فيديو... و ارقص!
روح صوّر فيديو... و ارقص!

الرأي

time١٠-١٠-٢٠٢٤

  • الرأي

روح صوّر فيديو... و ارقص!

حاول جميع من في الديوانية أن يخبره الحقيقة... ولكن لم يكن فيهم أحد يجرؤ على قولها. فكما قال تشيخوف «الأغنياء تجد دائماً بجانبهم المتعيشين، والفن والعلم كذلك». فقد كان صاحبنا من المتعيشين على الفن رغم أنه بعيدٌ عنه كل البعد. فإلى جانب كونه موظفاً في وزارة، كان كاتباً يسعى إلى تحقيق الشهرة بكل «الحبر» الذي يمتلكه في العالم. طبع مجموعته القصصية الأولى ولم تحقق النجاح الذي يسعى إليه، وكتب مقالين في صحيفة، وطلب من كل أصدقائه أن ينشروا المقالة في السوشيال ميديا، ورغم ذلك لم يتردد اسمه «في كل مكان» كما كان يعتقد أو يرغب! حضر التجمعات والملتقيات الثقافية والأدبية، واشترك في ورش عمل للكتابة الإبداعية، وحفلات توقيع الكُتب، وتواجد في كل معارض الكتاب، وحاول أن يوسع علاقاته بالكُتاب، وأن يُرسل مسودات أولى إلى العديد منهم، وانشأ مدونة خاصة لم يزرها سوى عدد قليل من القراء. لم تصل به الكتابة إلى أي طريق، فاتجه إلى التمثيل. ولم يصل به التمثيل إلى أي طريق، وأصبح مثل شخص معصوب العينين، يبحث في حجرة كاملة الظلام عن قطة سوداء،غير موجودة في الحجرة... فحاول أن يشنق نفسه ثماني مرات في ليلة واحدة بمناشف السرير، وعندما فشل في ذلك أيضاً، تحول إلى ناقد فني، وفتح مكتباً لكتابة السيناريو، ثم فتح دار نشر، واشترى حقوق نشر لروايات عربية ومترجمة، لكُتاب يسعون للشهرة أيضاً وراهن عليهم، وأرسل سيناريوهات، لشركات عدة، وكانت ترفعه أحقاف وتخفضه أحقاف... ولكن لم يصل به كل هذا إلى أي طريق. الأسبوع الماضي، اشتد النقاش بينه وبين صديقنا عبدالعزيز، في الديوانية، فقال له عبدالعزيز ضمن كلام كثير «أنت مدعي ثقافة، وتسعى للشهرة... روح صور فيديو وارقص فيه تصير مشهور من باجر، لا تزاحم الكُتاب و المثقفين في مجالهم». لم يتفاجأ صاحبنا مما قاله عبدالعزيز، بل ابتسم ابتسامة ساحرة ومهيبة في الوقت نفسه، وتوجه إلى الباب بخطوات لا تقل جمالاً عن ابتسامته، ثم قال وهو ينظر لي تحديداً رغم أني لا ناقة لي ولا جمل في هذا النقاش «أحياناً يكون الصمت في موضعه، أبلغ من المنطق في غير موضعه». لا أدري لماذا شعرت، أنه في تلك الليلة كان في أعمق حالاته الثقافية والأدبية، وأن تجربة السنين هذبته وشذبته وجعلته شخصاً مثقفاً مستنيراً حقاً، وأن كلام الآخرين لن يثنيه عن هدفه حتى ولو اختلف الجميع معه. لُمت عبدالعزيز، على قسوته في العبارة معه، وعدت للبيت وأنا أشعر بالحزن... في الصباح أرسل لي عبدالعزيز رسالة على «الواتس أب» عبارة عن فيديو يرقص فيه صاحبنا المثقف المستنير محاطاً بالكتب والروايات مع إعلان عن ورشة بعنوان «التداوي بالكتابة الراقصة»... كل ذلك كان لا يستحق سوى شيئاً واحداً وهو ترديد عبارة «سبحان الله» لأكثر من مرة. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر. moh1alatwan@

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store