logo
فزع أميركا من انهيار وشيك

فزع أميركا من انهيار وشيك

إيطاليا تلغراف
كمال أوزتورك
كاتب وصحفي تركي
كان 'النظام العالمي الجديد' مصطلحًا صاغه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عام 1990، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحدث عنه حينها بثقة وفخر كبيرين.
لم يعد العالم ثنائي القطب كما كان إبّان الحرب الباردة، بل أصبح، وفقًا لتصور الولايات المتحدة، أحادي القطب بقيادتها، وكان من المفترض أن يصبح العالم أجمل وأكثر استقرارًا وسلامًا.
غير أن الأمور لم تسر على هذا النحو. وكالعادة، دفعت الدول النامية ثمن التناقضات الكبرى والخيال المفرط في خطط أميركا المرتجلة والبعيدة عن الواقع.
فقد احتل بوش الأب العراق تحت شعار 'النظام العالمي الجديد'، فكانت النتيجة مقتل مليون إنسان وتشريد الملايين، بينما ادّعت واشنطن أنها جاءت لتجلب الديمقراطية والازدهار إلى المنطقة. لكنها لم تجلب سوى التمزق الوطني، وانتعاش الإرهاب، وانتشار البؤس، والفقر.
ولم تقتصر تداعيات هذا التدخل الأميركي على العراق فحسب، بل وصلت إلى جورجيا، والشيشان، وأوكرانيا، أي إلى عمق المجال الحيوي لروسيا، حيث اندلعت حروب واضطرابات جديدة. فبدلًا من أن نخرج من ثنائية الأقطاب، أصبحنا نعيش ألمها من الجانبين معًا.
نظام يحوّل الحلفاء إلى أعداء
ربما كان الجانب الأكثر غرابة وإثارة للعبرة في 'النظام العالمي الجديد' هو أن الولايات المتحدة تحوّلت لاحقًا إلى عدو للدول التي كانت حليفة لها يومًا ما. فقد دعمت أفغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، ثم عادت فاحتلتها. وساندت العراق في حربه ضد إيران، ثم اجتاحته. ولم تجلب تدخلاتها في كوسوفو، والبوسنة، وأوكرانيا، وليبيا، والصومال، أي استقرار أو سلام لهذه البلدان.
استعمل جورج بوش الابن، ومن بعده الرئيسان أوباما وبايدن، المصطلح ذاته وتحدثوا كثيرًا عن السلام والرخاء، لكن حصيلة تدخلاتهم كانت المزيد من الدموع والمعاناة.
أما دونالد ترامب، فقد أتى بسياسات صادمة وغير منطقية، مدّعيًا أنه سيجعل العالم مكانًا أفضل. لكنه لم يلبث عامًا في سدة الحكم حتى بدأت نتائج تصريحاته تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا.
فمنذ حملته الانتخابية التي وعد فيها بإنهاء الحروب، شهد العالم اندلاع صراعات جديدة. دخل بنفسه على خط الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وتصاعدت حدة الحرب الروسية الأوكرانية، وتوسعت النزاعات في الشرق الأوسط.
وفي غضون عام واحد فقط، قُصفت خمس دول في المنطقة بأسلحة وطائرات وصواريخ أميركية. وبدأت إسرائيل – كما صرّحت المستشارة الألمانية سابقًا – تؤدي المهام الأمنية والعسكرية التي تتجنّب الدول الغربية القيام بها بشكل مباشر، وذلك تحت غطاء الحماية الأميركية.
لماذا ينهار النظام العالمي الجديد؟
في واقع الأمر، إن كل هذه العروض الاستعراضية للقوة، وهذه التطورات 'الخيالية' كما يسميها ترامب، ليست سوى انعكاس لفزع مفرط من انهيار وشيك. إن 'النظام العالمي الجديد' الذي حملت الولايات المتحدة شعاره، في طور الانهيار، وربما لا نلاحظ ذلك جيدًا؛ لأننا نعيش في قلبه.
والسبب في هذه الفوضى أن النظام العالمي الذي سعت أميركا إلى ترسيخه لم يتمكن من فرض نفسه فعليًا، أو أنه لم يُرضِ سوى الولايات المتحدة نفسها. فمنذ أن دخل بوش الأب الشرق الأوسط دخول الفيل- وهو شعار الحزب الجمهوري- لم يعرف الإقليم أي طمأنينة، بل زادت الأمور سوءًا.
تفتّت العراق إلى ثلاثة أجزاء، وظهرت من أراضيه المضطربة تنظيمات مثل القاعدة، وتنظيم الدولة، وحزب العمال الكردستاني (PKK)، مما جعل المنطقة غير قابلة للحياة. فجاء الرؤساء اللاحقون ليحتجّوا بهذه التنظيمات ويدخلوا المنطقة من جديد، وكانت النتيجة أن تحولت سوريا، ولبنان، واليمن إلى ساحات خراب لا تطاق.
ولم تقف الكارثة عند هذا الحد، بل ارتكبت الولايات المتحدة خطأً تاريخيًا حين استبعدت فلسطين من 'اتفاقات أبراهام'- التي أُطلقت بذريعة تعزيز السلام وتقوية حلفاء إسرائيل- وها نحن اليوم نعيش نتائج ذلك انحرافًا هائلًا ومجزرة مستمرة. ولو سألت ترامب، لأجابك بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام بسبب 'إنجازاته الخيالية'!
لكن الواقع أن العالم أصبح أكثر سوءًا، وأكثر فوضى، وأكثر انعدامًا للأمن. لماذا؟ لأن:
الرأسمالية الأميركية جشعة ولا تعرف الشبع.
الإدارة الأميركية مفرطة في الثقة بالنفس، إلى حد التسمم بالقوة.
النخبة الفكرية الأميركية لم تعد تنتج قيمًا إنسانية أو أخلاقية.
حين تُهان أوروبا على يد أميركا
وليس الشرق الأوسط وحده من يدفع الثمن، فأوروبا أيضًا تواجه المصير ذاته بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. ولا تكمن المشكلة في 'التهديد الروسي' فحسب، بل في رؤية ترامب وفريقه للعالم، حيث يرون أن 'أوروبا العجوز' لم يعد لها مكان في المعادلة، ويجب أن تتقاعد وتخرج من المشهد.
وقد تجلى ذلك في تصريحات مهينة لنائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس خلال مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/ شباط 2025، وهو ما فجّر أزمة خفية لم تهدأ بعد بين واشنطن والاتحاد الأوروبي.
بل إن التهديد بالانسحاب من الناتو، وفرض الرسوم الجمركية، لم يكن ذلك سوى امتداد لهذا الاستعلاء الأميركي على أوروبا. وبدلًا من أن تحاول أوروبا النهوض، آثرت أن تُذل نفسها أكثر، من خلال دعمها المطلق حروب إسرائيل الوحشية، وتملّقها ترامب في قمة الناتو الأخيرة، ما جعلها تستحق هذا الاحتقار في نظر الأميركيين أنفسهم.
أميركا لم تعد تدري ما تفعل
لقد تحولت الولايات المتحدة إلى دولة تفقد السيطرة على كل شيء تلمسه، فتعيث فيه فوضى ودمارًا. إنها في الحقيقة لا تعرف ما تفعل. فكلما أدركت أنها تخسر نفوذها، أصابها الهلع وراحت تضغط على كل الأزرار دفعة واحدة، على أمل أن تنقذ نفسها، لكنها لا تزداد إلا غرقًا.
وبينما تتراجع أمام الصين يومًا بعد يوم، تلجأ إلى آخر ما تثق به: 'سلاح راعي البقر'. فترسل قنابلها المدمّرة، وصواريخها، وحاملات طائراتها إلى أصقاع الأرض، معتقدة أنها بهذا الترهيب ستعود إلى 'أيامها السعيدة'. لكنها لا تجني سوى إنهاك اقتصادها، وخسارة حلفائها، وتعميق الكراهية العالمية تجاهها. ثم تعود لتسأل الشعوب: 'لماذا تكرهوننا؟'، وتسيء معاملتهم أكثر.
وباختصار، كلما سعت أميركا لفرض نظام عالمي، زاد اختلال التوازن، وانهار الاستقرار. إن النظام العالمي الذي تقوده أميركا ينهار، وهذه القنابل التي نسمع دويها، والفوضى التي نراها، والاضطراب الذي نعيشه، ليست سوى مظاهر لهذا الانهيار.
عقدة غورديون لا تُحل إلا بالسيف
من الطبيعي ألّا نستوعب تمامًا ما يحدث، لأننا لا نزال في قلب هذا الانهيار. لا نعلم إلى أين تسير الأمور، ولا كيف ستكون النتائج، لكن الأمر شبه المؤكد أن البشرية لن تنجو من الحروب، والفوضى، والمعاناة.
فالولايات المتحدة عاجزة عن إقامة نظام عالمي حقيقي، وهي لا تدرك أنها لم تجلب للعالم سوى الحروب، والاستغلال، والدمار. ومع أن هناك مفكرين وأكاديميين أميركيين يلاحظون هذا الانحدار، ويرون أن 'الحلم الأميركي' يشارف على نهايته، فإن إدارة ترامب، التي تنظر بريبة إلى المؤسسات الفكرية والأكاديمية، عمدت إلى قطع التمويل عن الجامعات واحدة تلو الأخرى.
ولذا لم تعد المؤسسات البحثية الكبرى والجامعات الأميركية قادرة على إنتاج حلول للأزمة العميقة التي تعصف بأميركا. وحتى لو أنتجت هذه الحلول، فلن تجد من يصغي إليها في أجهزة الدولة.
ولكن لا ينبغي أن ننسى أن أميركا قد نسجت علاقات شديدة التعقيد مع دول العالم، ومع النظام المالي العالمي، لدرجة أن هذه التشابكات تحولت إلى ما يشبه 'عقدة غورديون' (عقدة تاريخية في الأساطير الإغريقية عُرفت باستحالة حلّها)، ولا يبدو أنها ستُحل إلا إذا جاء إسكندر جديد وقطعها بسيفه.
وباختصار، لقد بدأ النظام العالمي الجديد بالتشقق بعد مرور 35 عامًا على ولادته. لا أعرف متى سينهار بالكامل، ولا ما الذي سيأتي بعده، لكنني واثق بأن المسألة باتت مسألة وقت ليس إلا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟
التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 3 أيام

  • إيطاليا تلغراف

التبشير المعاكس: هل نحتاج إلى «تفكيك الديمقراطية»؟

إيطاليا تلغراف محمد سامي الكيال كاتب سوري ينتشر حالياً في الثقافة السياسية الناطقة بالعربية نمط جديد من «الواقعية»، المتعلّقة هذه المرة بما يمكن تسميته «تفكيك الديمقراطية». والفكرة الأساسية فيه أن الديمقراطية ليست نظاماً كاملاً ونهائياً، أو نتيجة طبيعية وحتمية للتطوّر التاريخي، بل هو مجرد شكل بين أشكال متعددة من أنظمة الحكم، ظهر، ضمن ظروف اجتماعية وتاريخية خاصة، في الدول الغربية، وهو اليوم يمر بأزمة عميقة حتى في تلك الدول، كما أن محاولات تصديره إلى دول منطقتنا باءت بفشل ذريع، وأدت لكثير من الكوارث والفوضى. فضلاً عن هذا فإن جوهر الدولة الحديثة هو السيادة، وليس الحقوق والحريات، أو العقد الاجتماعي، أو تداول السلطة. يصعب إيجاد خطأ فادح في هذا الطرح، وإن كان يتسم بعدم دقّة واضحة، واللافت فيه جانبان أساسيان: الأول أنه يجيء بعد أكثر من عقد من الزمن على ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي شهد قناعة عامة بأن العرب ليسوا استثناءً تاريخياً، أو ثقافياً، وسيتوجّهون بدورهم إلى دمقرطة دولهم ومجتمعاتهم؛ والثاني أنه لا يقتصر على مثقفين ناطقين بالعربية، وإنما بات اتجاهاً عالمياً، له ممثلوه الوازنون في اليسار واليمين الغربي. لقد صارت الديمقراطية، والتبشير بها، صيحة قديمة على ما يبدو. كان التبشير بالديمقراطية، بل الديمقراطية المحاربة، جانباً أساسياً من الحرب الباردة، ووصل بعدها إلى ذروته أيام إدارة المحافظين الجدد، برئاسة جورج بوش الابن، واستمرّ أيام إدارة أوباما، ولكن ليس بواسطة الجيوش الغازية فحسب، بل عبر دعم عشرات المنظمات، خاصة «غير الحكومية»، وكذلك المنح الأكاديمية والفنيّة، التي نشرت أفكاراً ومصطلحاتٍ جديدة في المنطقة، من «الثورة اللاعنفيّة» وحتى «النسوية التقاطعية». وبعد كل ما شهدته المنطقة، من التخبّط الأمريكي في العراق وأفغانستان، إلى مآسي الحروب الأهلية العربية، في اليمن وسوريا وليبيا، بدأ صوت النقد اليساري لـ»المركزية الغربية»، الداعي لـ»نزع الاستعمار»، يرتفع بشدة، في أوساط المنظمات والأكاديميات المُمَوّلة غربياً نفسها؛ ثم تبنّاه اليمين الغربي بقوة. وربما كانت تصريحات توم باراك، مبعوث إدارة ترامب إلى تركيا، حول عدم النية بـ»تصدير الديمقراطية»، ونقد اتفاقية سايكس بيكو، أقوى مثال على هذه الانعطافة في خطاب اليمين، وتبنيه لعناصر كثيرة من مقولات اليسار، مع ملاحظة أن مثل هذه التصريحات تبدو في الأصل أنسب لعالم اليمين المحافظ والرجعي. كل هذا يجعل من «تفكيك الديمقراطية» أقرب لنوع من التبشير المضاد، فبعد أن بُشِّرنا لعقود بالديمقراطية، غيّر المُبشِّرون رأيهم، وصاروا يبشرون في أوساطنا بخصوصياتنا الثقافية، واختلافنا الجوهري، أو البنيوي، أو التاريخي، عن التجربة الغربية. وفي الحالتين، التحق كثير من المثقفين الناطقين بالعربية بالموجة، وصار الدارج بينهم «تفكيك الديمقراطية». يمكن القول إن المقولتين، التبشير بانتقال «القيم الغربية»، والتبشير ضدها، هما نزعتان كلاسيكيتان في الاستشراق، دارجتان منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الموضوع نفسه أكبر كثيراً من الاستشراق، ونقده. يعيد كثير من المتداخلين في الشأن العام اليوم اكتشاف مقولات «السيادة»؛ ويضيفون إليها مقولة «احتكار الدولة للعنف» العائدة لماكس فيبر، أو «الاحتكار الشرعي للعنف المادي والرمزي» حسب تعبير بيير بورديو؛ ويستشهدون بمفكرين، مثل كارل شميت، وجورجيو أغامبين، وميشيل فوكو، لبيان أبعاد «الوهم»، الذي انخدع به كثير من «الليبراليين العرب» لسنوات طويلة، ما يجعل التبشير المضاد يتخذ طابعاً «مترجماً» عن أصل غربي، إن صح التعبير، كحال كثير من التيارات الأيديولوجية العربية؛ وإذا رغبوا في «التأصيل»، فقد يذكرون نظريات ابن خلدون عن العصبيّة والدولة (وتأصيل المقولات الغربية في كتابات ابن خلدون عادة أيديولوجية عربية قديمة كذلك). والنتيجة أن قوى الأمر الواقع، سواءً كانت دولاً أو أشباه دول أو ميليشيات، هي أفضل ما قد نصل إليه، ويجب التعامل معها بـ»واقعية» و»براغماتية». علينا أن نفحص كثيراً ادعاءات الواقعية والبراغماتية، بل حتى «الماديّة» و»التاريخية» هذه، فهي توحي بكثير من التلفيق والاحتيال الأيديولوجي، أو على الأقل سوء فهم عميق للمصادر التي يتم الاقتباس منها. هل الدولة والسلطة فعلاً مجرّد سيادة لأجل السيادة؟ وهل الانتقال الديمقراطي في منطقتنا مجرّد وهم أيديولوجي غربي، آن أوان تجاوزه؟ الوظيفة والهيمنة بالفعل، قد يكون تعريف نموذج الدولة الحديثة بأنه «احتكار كل الاحتكارات»، مناسباً ودقيقاً للغاية، فالدولة لا تحتكر فقط الأجهزة العنفيّة الماديّة، مثل الجيش والشرطة، بل أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج الشرعية، في كل مجالاتها، فكل ما لا يدوَّن في أجهزة الدولة من مجالات الحياة العامة، وكذلك الأحوال الشخصية، هو، باختصار، غير شرعي؛ وكل ما هو مقياس عام، من العملات والموازين والتوقيت، وحتى «الآداب العامة»، شأن «دولتي» في نهاية المطاف. والدولة هي المسؤولة عن تأسيس وتنظيم مجالات مثل الهوية الوطنية، التعليم العمومي، الشؤون الحيوية الأساسية للمواطنين، مثل الصحة ومستوى الحياة، وبالتالي فهي «المصرف الأساسي للرأسمال الرمزي»، حسب تعبير بورديو، وهي لذلك الجهة الأقدر على ممارسة العنف الرمزي، واحتكاره، ولكن هل هذا الاحتكار سببه شهوة سلطوية لا محدودة فقط؟ يصعب أن نجد مُنظّراً مهماً للسيادة، لم يركز معها على مسألتين متلازمتين: تأدية السلطة لوظائف اجتماعية أساسية؛ وتحقيق الهيمنة الأيديولوجية. والوظائف الاجتماعية لا تعني فقط الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية والصحيّة، والخدمات التعليمية، وإنما الأسس البنيوية العميقة لاستمرار المجتمعات نفسها. وقد عمل مفكرون كثر على تحديد تلك الوظائف وتلخيصها، ولعل من أهم الإسهامات في هذا المجال النموذج الشهير لعالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز، الذي حدد فيه أربع وظائف: التكيّف (التأقلم مع البيئة المحيطة بمعناها الواسع، بما يشمل الإنتاج، العمل، توزيع الموارد)؛ تحقيق الأهداف (أي تحديد الأهداف الاجتماعية الأساسية، وترتيب أولوياتها، بما يشمل القيادة والتخطيط واتخاذ القرار)؛ الاندماج (تحقيق التماسك بين المجموعات والفئات المتعددة، ومكونات ومؤسسات النظام العام، بما يشمل القوانين والقيم والتقاليد)؛ تأصيل ونقل الأنماط (ويعني نقل القيم والأعراف الثقافية العامة إلى الأفراد والأجيال الجديدة، بما يشمل التعليم والإعلام والأسرة والدين)، وهكذا تشمل هذه الوظائف أنظمة الاقتصاد والسياسة والقانون والأخلاق. هذا يعني أن استمرار أي دولة ونظام سياسي، وقبول المجتمعات باحتكاراته، متوقف بالضرورة على أداء تلك الوظائف، التي تشكّل نوعاً من عقد اجتماعي عميق، ستتحلّل العلاقة بين الحاكم والمحكوم دون تحقيق بنوده. الدولة ليست بالتأكيد مجرّد صاحب سيادة بقدرات سحرية، يسيطر على البشر دون قيد أو شرط، ولا يعنيه سوى تأمين احتكاراته، عبر مزيج من القوة والدهاء. أمّا الهيمنة فهي جانب تأسيسي للسلطة، ولإنتاج المعنى والدلالة في المجتمعات، بما يحفظ تماسكها واستمرارها. فهي تؤمّن لها أنماطاً متعددة من السرد المؤسِّس؛ وتُنتج «حسّاً سليماً»، ينظّم جانباً كبيراً من منطقها وممارساتها وأساليب تعبيرها. وهي مرتبطة بالعنف المادي والرمزي بالتأكيد، ولكن الاقتصار على العنف، والعنف الضاري، لا يدلّ سوى على فشل الهيمنة. وهذا يعني أن الدولة «صانع حكايات»، ومعلّم أيديولوجي، ومنتج للقيم والرموز، وليس فقط عصبة متسلّطة، تتغلّب على غيرها، وتفرض نفسها فوقياً على المجتمعات. إنها منتجة بالضرورة للأجساد والذوات، ولا تكتفي بالقمع والبتر والسحق. كيف يمكن للدول أن تؤدي كل هذه الوظائف، وتحقق الهيمنة، في مجتمعات معقدة، فقدت غالبية بناها التقليدية، مع موجات التحديث المتلاحقة، أو أٌعيد إنتاجها عبر الربط بأجهزة الدولة ومؤسساتها؟ بالتأكيد ليس عبر التصورات المبتذلة عن السلطة والسيادة، الدارجة اليوم بين أنصار «التبشير المعاكس». المشاركة والتمرّد يمكن ملاحظة نوع من الفهم السطحي لمفهوم «ثقافة المجتمع» لدى أنصار التبشير المعاكس، من توم باراك وحتى المثقفين العرب المفككين لـ»وهم الديمقراطية»، وهو أن مجتمعات المنطقة ستنتج، بشكل بديهي، من ثقافتها أو دينها أو بناها الأهلية (والتعبير الأخير لا معنى واضحاً له)، أنظمة حكم مناسبة لها، لا تتبع بالضرورة النماذج الغربية، ولكنها، للعجب، تشاركها في نقطة واحدة، حديثة للغاية: الاحتكار والتدخليّة الكاملة في حياة مجمل السكان ضمن حدودها، أي ثقل نموذج الدولة الحديثة، دون أي من مزاياه، أو وظائفه، أو حقوقه. الأمر ليس بهذه البديهية والعفوية بالتأكيد، فتأسيس نظام سياسي، أياً كان نوعه، عملية أكثر «اصطناعاً» بكثير، ولا يكفي لتحقيقها تأييد ودعم دولة فاشلة، أو جماعة ميليشياوية حاكمة في هذا البلد أو ذاك. إذا فشلت السلطات القمعية في تأدية الوظائف وتحقيق الهيمنة، فهذا لا يعني إلا مزيداً من الفوضى، والعجز عن تحقيق الاحتكارات السلطوية المطلوبة. ما سيؤدي إلى نشوء منافسين للسلطات، سيكون لهم عنفهم واحتكاراتهم الخاصة. وهذا هو نموذج إمارات الحرب، والإقطاعيات الميليشياوية، الذي يسود في كثير من دول المشرق، ولا يبدو معبّراً عن ثقافتها، أو أي ثقافة أخرى، بقدر ما هو مظهر همجي. الفشل متوقع وحاضر، ويعيد إنتاج نفسه، بسبب الإصرار على الغلبة، والأحادية، وممارسة العنف الضاري، وعدم الالتفات لأي وظيفة اجتماعية جديّة. نجحت كثير من الأنظمة، التي توصف بـ»الديكتاتورية»، في تأدية الوظائف المذكورة أعلاه، وتحقيق هيمنة أيديولوجية متينة، إلا أن الفكرة النمطية عنها، التي تتلخص بحاكم فرد، أو دائرة ضيقة من المتنفذين، تفرض سلطتها على شعب مظلوم بأكمله، وتقصيه بشكل كامل عن المشاركة، وتقمعه بالحديد والنار، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، فمعظم الأنظمة السياسية المستقرة تؤمّن نوعاً من المشاركة والتمثيل لمحكوميها، سواء عبر مؤسسات مدسترة (كما في نموذج «الديمقراطية الشعبية» في دول المعسكر الشرقي السابق)؛ أو بنوع من المحاصصة الصامتة؛ أو عبر توازن مستقر نسبياً لمراكز القوى، التي تتمتع بصفة تمثيلية غير معلنة (لطائفة، عرق، طبقة اجتماعية، فئة نوعية، منطقة، الخ)، وهذا قد ينطبق على دول مثل الصين وفيتنام وغيرها. وفي كل الأحوال يؤمّن هذا النوع من الأنظمة، في سبيل تحقيق وظائفه الأساسية، دخول مجاميع واسعة من السكان إلى الشأن العام بشكل فاعل، وتحت غطاء متماسك من الهيمنة الأيديولوجية. التجربة التاريخية علّمتنا أن نجاح الأنظمة، حتى لو كانت ديكتاتورية، في تأدية وظائفها، سينشئ فئات جديدة، أقلّ فقراً، وأفضل تعليماً، وأكثر وعياً، ستطالب غالباً في ما بعد بنصيب أكبر من المشاركة والتمثيل، وبمزيد من الحقوق والحريات. سبق للناقد الثقافي الأمريكي فريدرك جيمسون والمفكر الإيطالي أنطونيو نيغري تفسير سقوط الاتحاد السوفييتي جزئياً بهذا: نجاحه بالتحديث، ما أدى لخلق فئات شابة جديدة، تمرّدت على أحادية النظام الاشتراكي وانغلاقه، وأرادت الانفتاح على العالم. أمر مشابه إلى حد ما قد ينطبق على مصر في أواخر عهد مبارك، فالمتمردون الأوائل لم يكونوا من الجياع، بل فئات تطوّرت في ظل «الانفتاح»، وارتفاع دخل طبقات معيّنة، والحريات النسبية التي عرفها ذلك العهد. المطالبة بالمشاركة والتمثيل، والاعتراف بالتعددية، قد تكون النتيجة المتوقعة لأي نظام ناجح، ولذلك فإن الديمقراطية، أي مزيداً من سيادة العامة (من ليسوا أصحاب امتياز متأصّل) الذين برزوا على الساحة، بفئاتهم المتعددة، مطلب ناتج عن بنية الدولة الحديثة نفسها، بسلطتها وهيمنتها ووظائفها وتناقضاتها، والتبشير ضد هذا قد لا يكون إلا خطاباً لفئات وأفراد، يراهنون على سلطات قمعية، لدوافع متعددة. أما القول إن «الظروف لم تنضج بعد» للمطالبة بأي شكل من المشاركة والتمثيل والاعتراف بالتعددية، وعلينا في البداية احتمال سنوات من الحكم الأحادي، الذي ينزع إلى الاستفراد والإقصاء الكامل، وغير المهتم ببناء أي نوع من الائتلافات الاجتماعية، فهو غالباً نوع من الاحتيال الأيديولوجي، خاصة إذا تذكرنا أن معظم القائلين به من أنصار الميليشيات والدول الفاشلة، العاجزة، بشبكاتها الرثّة، عن تأدية أي وظيفة فعليّة، أو تحقيق أي شكل للهيمنة. قد تكون المطالبة بالديمقراطية، بأشكالها العديدة، ضرورة لاستمرار الحياة، وحماية المجتمعات من الاعتداء الهمجي لقوى الأمر الواقع، وليس ترفاً ناتجاً عن تبشير غربي أو غير غربي.

فزع أميركا من انهيار وشيك
فزع أميركا من انهيار وشيك

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 6 أيام

  • إيطاليا تلغراف

فزع أميركا من انهيار وشيك

إيطاليا تلغراف كمال أوزتورك كاتب وصحفي تركي كان 'النظام العالمي الجديد' مصطلحًا صاغه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عام 1990، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحدث عنه حينها بثقة وفخر كبيرين. لم يعد العالم ثنائي القطب كما كان إبّان الحرب الباردة، بل أصبح، وفقًا لتصور الولايات المتحدة، أحادي القطب بقيادتها، وكان من المفترض أن يصبح العالم أجمل وأكثر استقرارًا وسلامًا. غير أن الأمور لم تسر على هذا النحو. وكالعادة، دفعت الدول النامية ثمن التناقضات الكبرى والخيال المفرط في خطط أميركا المرتجلة والبعيدة عن الواقع. فقد احتل بوش الأب العراق تحت شعار 'النظام العالمي الجديد'، فكانت النتيجة مقتل مليون إنسان وتشريد الملايين، بينما ادّعت واشنطن أنها جاءت لتجلب الديمقراطية والازدهار إلى المنطقة. لكنها لم تجلب سوى التمزق الوطني، وانتعاش الإرهاب، وانتشار البؤس، والفقر. ولم تقتصر تداعيات هذا التدخل الأميركي على العراق فحسب، بل وصلت إلى جورجيا، والشيشان، وأوكرانيا، أي إلى عمق المجال الحيوي لروسيا، حيث اندلعت حروب واضطرابات جديدة. فبدلًا من أن نخرج من ثنائية الأقطاب، أصبحنا نعيش ألمها من الجانبين معًا. نظام يحوّل الحلفاء إلى أعداء ربما كان الجانب الأكثر غرابة وإثارة للعبرة في 'النظام العالمي الجديد' هو أن الولايات المتحدة تحوّلت لاحقًا إلى عدو للدول التي كانت حليفة لها يومًا ما. فقد دعمت أفغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، ثم عادت فاحتلتها. وساندت العراق في حربه ضد إيران، ثم اجتاحته. ولم تجلب تدخلاتها في كوسوفو، والبوسنة، وأوكرانيا، وليبيا، والصومال، أي استقرار أو سلام لهذه البلدان. استعمل جورج بوش الابن، ومن بعده الرئيسان أوباما وبايدن، المصطلح ذاته وتحدثوا كثيرًا عن السلام والرخاء، لكن حصيلة تدخلاتهم كانت المزيد من الدموع والمعاناة. أما دونالد ترامب، فقد أتى بسياسات صادمة وغير منطقية، مدّعيًا أنه سيجعل العالم مكانًا أفضل. لكنه لم يلبث عامًا في سدة الحكم حتى بدأت نتائج تصريحاته تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فمنذ حملته الانتخابية التي وعد فيها بإنهاء الحروب، شهد العالم اندلاع صراعات جديدة. دخل بنفسه على خط الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وتصاعدت حدة الحرب الروسية الأوكرانية، وتوسعت النزاعات في الشرق الأوسط. وفي غضون عام واحد فقط، قُصفت خمس دول في المنطقة بأسلحة وطائرات وصواريخ أميركية. وبدأت إسرائيل – كما صرّحت المستشارة الألمانية سابقًا – تؤدي المهام الأمنية والعسكرية التي تتجنّب الدول الغربية القيام بها بشكل مباشر، وذلك تحت غطاء الحماية الأميركية. لماذا ينهار النظام العالمي الجديد؟ في واقع الأمر، إن كل هذه العروض الاستعراضية للقوة، وهذه التطورات 'الخيالية' كما يسميها ترامب، ليست سوى انعكاس لفزع مفرط من انهيار وشيك. إن 'النظام العالمي الجديد' الذي حملت الولايات المتحدة شعاره، في طور الانهيار، وربما لا نلاحظ ذلك جيدًا؛ لأننا نعيش في قلبه. والسبب في هذه الفوضى أن النظام العالمي الذي سعت أميركا إلى ترسيخه لم يتمكن من فرض نفسه فعليًا، أو أنه لم يُرضِ سوى الولايات المتحدة نفسها. فمنذ أن دخل بوش الأب الشرق الأوسط دخول الفيل- وهو شعار الحزب الجمهوري- لم يعرف الإقليم أي طمأنينة، بل زادت الأمور سوءًا. تفتّت العراق إلى ثلاثة أجزاء، وظهرت من أراضيه المضطربة تنظيمات مثل القاعدة، وتنظيم الدولة، وحزب العمال الكردستاني (PKK)، مما جعل المنطقة غير قابلة للحياة. فجاء الرؤساء اللاحقون ليحتجّوا بهذه التنظيمات ويدخلوا المنطقة من جديد، وكانت النتيجة أن تحولت سوريا، ولبنان، واليمن إلى ساحات خراب لا تطاق. ولم تقف الكارثة عند هذا الحد، بل ارتكبت الولايات المتحدة خطأً تاريخيًا حين استبعدت فلسطين من 'اتفاقات أبراهام'- التي أُطلقت بذريعة تعزيز السلام وتقوية حلفاء إسرائيل- وها نحن اليوم نعيش نتائج ذلك انحرافًا هائلًا ومجزرة مستمرة. ولو سألت ترامب، لأجابك بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام بسبب 'إنجازاته الخيالية'! لكن الواقع أن العالم أصبح أكثر سوءًا، وأكثر فوضى، وأكثر انعدامًا للأمن. لماذا؟ لأن: الرأسمالية الأميركية جشعة ولا تعرف الشبع. الإدارة الأميركية مفرطة في الثقة بالنفس، إلى حد التسمم بالقوة. النخبة الفكرية الأميركية لم تعد تنتج قيمًا إنسانية أو أخلاقية. حين تُهان أوروبا على يد أميركا وليس الشرق الأوسط وحده من يدفع الثمن، فأوروبا أيضًا تواجه المصير ذاته بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. ولا تكمن المشكلة في 'التهديد الروسي' فحسب، بل في رؤية ترامب وفريقه للعالم، حيث يرون أن 'أوروبا العجوز' لم يعد لها مكان في المعادلة، ويجب أن تتقاعد وتخرج من المشهد. وقد تجلى ذلك في تصريحات مهينة لنائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس خلال مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/ شباط 2025، وهو ما فجّر أزمة خفية لم تهدأ بعد بين واشنطن والاتحاد الأوروبي. بل إن التهديد بالانسحاب من الناتو، وفرض الرسوم الجمركية، لم يكن ذلك سوى امتداد لهذا الاستعلاء الأميركي على أوروبا. وبدلًا من أن تحاول أوروبا النهوض، آثرت أن تُذل نفسها أكثر، من خلال دعمها المطلق حروب إسرائيل الوحشية، وتملّقها ترامب في قمة الناتو الأخيرة، ما جعلها تستحق هذا الاحتقار في نظر الأميركيين أنفسهم. أميركا لم تعد تدري ما تفعل لقد تحولت الولايات المتحدة إلى دولة تفقد السيطرة على كل شيء تلمسه، فتعيث فيه فوضى ودمارًا. إنها في الحقيقة لا تعرف ما تفعل. فكلما أدركت أنها تخسر نفوذها، أصابها الهلع وراحت تضغط على كل الأزرار دفعة واحدة، على أمل أن تنقذ نفسها، لكنها لا تزداد إلا غرقًا. وبينما تتراجع أمام الصين يومًا بعد يوم، تلجأ إلى آخر ما تثق به: 'سلاح راعي البقر'. فترسل قنابلها المدمّرة، وصواريخها، وحاملات طائراتها إلى أصقاع الأرض، معتقدة أنها بهذا الترهيب ستعود إلى 'أيامها السعيدة'. لكنها لا تجني سوى إنهاك اقتصادها، وخسارة حلفائها، وتعميق الكراهية العالمية تجاهها. ثم تعود لتسأل الشعوب: 'لماذا تكرهوننا؟'، وتسيء معاملتهم أكثر. وباختصار، كلما سعت أميركا لفرض نظام عالمي، زاد اختلال التوازن، وانهار الاستقرار. إن النظام العالمي الذي تقوده أميركا ينهار، وهذه القنابل التي نسمع دويها، والفوضى التي نراها، والاضطراب الذي نعيشه، ليست سوى مظاهر لهذا الانهيار. عقدة غورديون لا تُحل إلا بالسيف من الطبيعي ألّا نستوعب تمامًا ما يحدث، لأننا لا نزال في قلب هذا الانهيار. لا نعلم إلى أين تسير الأمور، ولا كيف ستكون النتائج، لكن الأمر شبه المؤكد أن البشرية لن تنجو من الحروب، والفوضى، والمعاناة. فالولايات المتحدة عاجزة عن إقامة نظام عالمي حقيقي، وهي لا تدرك أنها لم تجلب للعالم سوى الحروب، والاستغلال، والدمار. ومع أن هناك مفكرين وأكاديميين أميركيين يلاحظون هذا الانحدار، ويرون أن 'الحلم الأميركي' يشارف على نهايته، فإن إدارة ترامب، التي تنظر بريبة إلى المؤسسات الفكرية والأكاديمية، عمدت إلى قطع التمويل عن الجامعات واحدة تلو الأخرى. ولذا لم تعد المؤسسات البحثية الكبرى والجامعات الأميركية قادرة على إنتاج حلول للأزمة العميقة التي تعصف بأميركا. وحتى لو أنتجت هذه الحلول، فلن تجد من يصغي إليها في أجهزة الدولة. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن أميركا قد نسجت علاقات شديدة التعقيد مع دول العالم، ومع النظام المالي العالمي، لدرجة أن هذه التشابكات تحولت إلى ما يشبه 'عقدة غورديون' (عقدة تاريخية في الأساطير الإغريقية عُرفت باستحالة حلّها)، ولا يبدو أنها ستُحل إلا إذا جاء إسكندر جديد وقطعها بسيفه. وباختصار، لقد بدأ النظام العالمي الجديد بالتشقق بعد مرور 35 عامًا على ولادته. لا أعرف متى سينهار بالكامل، ولا ما الذي سيأتي بعده، لكنني واثق بأن المسألة باتت مسألة وقت ليس إلا. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

4 خروقات تفضح إسرائيل في حربها مع إيران - إيطاليا تلغراف
4 خروقات تفضح إسرائيل في حربها مع إيران - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 6 أيام

  • إيطاليا تلغراف

4 خروقات تفضح إسرائيل في حربها مع إيران - إيطاليا تلغراف

إيطاليا لتغراف د. محمود الحنفي أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان لم تكن الضربات العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران في يونيو/ حزيران 2025 مجرّد تصعيد تقليدي في صراع إقليمي مزمن، بل مثّلت تحوّلًا نوعيًا في مسار العلاقات العدائية بين الطرفين، وحملت في طياتها تساؤلات حادّة حول مدى احترام قواعد القانون الدولي العام والإنساني. فللمرة الأولى منذ عقود، يستهدف طرفٌ في نزاع منشآت نووية خاضعة لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في خطوة تضع المجتمع الدولي أمام اختبار غير مسبوق: هل يمكن تبرير استخدام القوّة ضد منشآت مدنية ذات طبيعة إستراتيجية؟ وهل يسمح القانون الدولي بما يُسمّى 'الضربة الوقائية' في ظل غياب خطر وشيك؟ في هذا السياق، يقدّم هذا المقال قراءة قانونية تحليلية لمسار الحرب بين إسرائيل وإيران، انطلاقًا من القاعدة القانونية العامة المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، مرورًا بتقييم موقفي الطرفين استنادًا إلى مبادئ 'الضرورة' و'التناسب'، وصولًا إلى مساءلة موقف الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الذرية، ومدى التزامها بحماية النظام الدولي من التفكك تحت وطأة ازدواجية المعايير. أولًا: الخلفية والقاعدة القانونية العامة يحكم ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوّة بين الدول، وبشكل خاص تنص المادة 2 (4) منه على حظر التهديد أو استخدام القوّة في العلاقات الدولية. كما تنص المادة 51 على أن من حق الدول استخدام القوّة دفاعًا عن النفس، فقط في حال وقوع 'هجوم مسلّح'، شريطة احترام معايير الضرورة والتناسب، مع إبلاغ مجلس الأمن فورًا بالإجراءات المتخذة. وبناءً عليه، فإن أي عمل عسكري لا يستوفي هذه الشروط ولا يصدر بموجبه تفويض صريح من مجلس الأمن يُعدّ غير مشروع في القانون الدولي. يُميّز الفقه القانوني بين حالتين مختلفتين من اللجوء إلى القوّة: الدفاع الاستباقي المشروع، وهو ما يُجيز الردّ العسكري على خطر وشيك وفوري لا يمكن تفاديه إلا باستخدام القوّة الفورية. يشترط في هذه الحالة أن يكون التهديد مؤكدًا، وأن يكون الردّ ضروريًا ولا بديل عنه. الحرب الوقائية، وهي التي تُشنّ ضد تهديد محتمل أو مفترض لم يحن أوانه بعد. هذه الحرب تُعدّ محظورة دوليًا لأنها تقوم على تخمينات مستقبلية لا ترقى إلى مستوى الخطر الوشيك. وقد رفضت الأمم المتحدة وغالبية الفقهاء هذا النمط من الحروب، خاصة بعد تبنّيها في 'عقيدة بوش' عام 2003. إعلان ويُعدّ المعيار التاريخي لقضية كارولاين مرجعًا في هذا السياق، إذ نصّ على أنه لا يجوز استخدام القوّة إلا عندما يكون الخطر: وشيكًا وفوريًا، لا يترك مجالًا لاختيار بديل، ولا يسمح بتأخير الردّ. ثانيًا: تقييم موقف إسرائيل فجر 13 يونيو/ حزيران 2025، شنّت إسرائيل عملية جوية واسعة النطاق حملت اسم 'الأسد الصاعد'، استهدفت خلالها عشرات المواقع داخل الأراضي الإيرانية، من بينها منشآت نووية ومنصات صاروخية، بالإضافة إلى مراكز قيادة وأبحاث عسكرية. وأسفرت الضربات عن مقتل عدد من كبار الضباط في الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب علماء نوويين بارزين. برّرت تل أبيب هذه العملية باعتبارها 'هجومًا وقائيًا' يهدف إلى إحباط تهديد وشيك من إيران، يتمثل في هجوم مرتقب بواسطة صواريخ باليستية وطائرات مُسيّرة كانت إيران – بحسب الرواية الإسرائيلية – بصدد إطلاقها عبر شبكة من الحلفاء في المنطقة. وقد ربطت الحكومة الإسرائيلية هذا التهديد بالبرنامج النووي الإيراني، الذي اعتبرته يشكّل 'خطرًا وجوديًا مباشرًا' على أمن إسرائيل. وادّعت أن طهران بلغت في الأشهر الأخيرة مراحل متقدمة في تخصيب اليورانيوم تقترب من إنتاج سلاح نووي، وأنها في الوقت نفسه تُعدّ لهجوم عسكري متعدد الجبهات قد يشمل لبنان وسوريا وغزة. من هذا المنطلق، رأت إسرائيل أن ضرباتها جاءت في إطار 'الضرورة الإستراتيجية' لمنع تعاظم التهديد الإيراني قبل تحوّله إلى واقع عملي يصعب احتواؤه لاحقًا. المآخذ القانونية على العمليات العسكرية الإسرائيلية: معيار الخطر الوشيك: يُعدّ معيار 'الوشيك' في العرف الدولي من أكثر المعايير صرامة فيما يتعلق بشرعية اللجوء إلى القوة. فلا يُعدّ التهديد المسوَّغ لضربة استباقية مشروعًا، إلا إذا كان الهجوم المعادي على وشْك الوقوع فعلًا، ولم يتبقَّ أمام الدولة المستهدفة أي خيار واقعي لمنعه سوى استخدام القوة فورًا. وفي الحالة الراهنة، شكّك عدد كبير من الخبراء والباحثين القانونيين في كفاية الأدلة التي قدّمتها إسرائيل لتبرير ضربتها لإيران، إذ لم تُثبت أن هجومًا إيرانيًا كان وشيك الوقوع ولا يمكن تداركه بوسائل دبلوماسية أو عبر اللجوء إلى مجلس الأمن. كما أن إسرائيل لم تُفصح علنًا عن أي معلومات محددة تُظهر أن إيران كانت على وشك تنفيذ ضربة صاروخية أو باستخدام المسيّرات. واكتفت إسرائيل بالحديث عن تطورات مقلقة في البرنامج النووي الإيراني وتصريحات عدائية متكررة، دون أن تبيّن خطرًا وشيكًا ومحدّدًا. لذلك، يرجّح معظم الفقهاء أن ما جرى هو ضربة وقائية تهدف إلى تحييد قدرات عدو محتمل في المستقبل، وهو ما يُخالف المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تُجيز استخدام القوة فقط في حال وقوع هجوم مسلّح فعلي أو وشيك لا لبس فيه. شرط التناسب: يفرض القانون الدولي، ضمن مبدأ الدفاع الشرعي، أن يقتصر أي ردّ مسلّح على الهدف المباشر المتمثل في إزالة التهديد، دون أن يتعدّاه لتحقيق مكاسب عسكرية إضافية أو لإضعاف الخصم على المدى البعيد. فشرط التناسب يقتضي أن تكون القوة المستخدمة متناسبة مع حجم التهديد المحدق، لا أن تُستغل الفرصة لإحداث تغيير إستراتيجي. وفي السياق الحالي، تشير المعطيات إلى أن العملية الإسرائيلية لم تقتصر على هدف منع هجوم إيراني وشيك، بل توسّعت لتشمل سلسلة واسعة من الأهداف داخل إيران، منها منشآت نووية بارزة كمبنى التخصيب فوق الأرض في نطنز، إضافة إلى قواعد عسكرية ومقار قيادة ومراكز أبحاث، بل حتى علماء. هذا الاتساع في النطاق الجغرافي والنوعي للأهداف يُضعف حُجّة الدفاع المشروع، ويُظهر سعيًا لإضعاف القدرات الإيرانية على المدى الطويل في المجالين: النووي، والصاروخي. وعليه، إذا ثبت أن الضربات الإسرائيلية هدفت إلى تحقيق ردع إستراتيجي شامل أو إعادة صياغة ميزان القوى مع إيران، فإن ذلك يشكّل خروجًا عن شرط التناسب، ويُعدّ استخدامًا مفرطًا وغير مشروع للقوة وفق قواعد القانون الدولي. الإخطار والشفافية: تنصّ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أن تُبلغ الدولة التي تستخدم حقّ الدفاع عن النفس مجلس الأمن 'فورًا' بالإجراءات المتخذة. ويُعدّ هذا الإخطار جزءًا جوهريًا من شرعية العمل العسكري، إذ يسمح للمجتمع الدولي بمراقبة مدى احترام القواعد التي تنظّم استخدام القوة. حتى تاريخ إعداد هذا التقييم، لم تُقدّم إسرائيل أي إخطار رسمي إلى مجلس الأمن يبرّر عملياتها العسكرية ضد إيران. هذا الغياب لا يُعدّ مجرد خلل إجرائي، بل يمثّل إخفاقًا في الالتزام بشرط أساسي يعكس مدى التزام الدولة بالقانون الدولي. كما يُضعف الموقف القانوني الإسرائيلي، ويوحي بأن إسرائيل نفسها قد تكون غير واثقة من قانونية حجّة 'الدفاع الوقائي' التي تتذرّع بها. وعلاوة على ذلك، فإن غياب الرسالة الرسمية يحرم مجلس الأمن من ممارسة دوره الرقابي، ويُعطّل إمكانية إجراء تقييم أممي لمشروعية استخدام القوة. وهو ما يطرح علامات استفهام قانونية إضافية حول دوافع وشرعية الضربات الإسرائيلية. إطار النزاع المستمر: في محاولة لتبرير الهجوم، ذهب بعض القانونيين الإسرائيليين إلى طرح تفسير بديل يعتبر الضربة العسكرية الأخيرة تصعيدًا في إطار نزاع مسلّح قائم وممتد بين إسرائيل وإيران، وليس عملًا منفصلًا يستوجب تبريرًا قانونيًا مستقلًا في كل مرة. ووفق هذا الرأي، فإن الدولتين تخوضان منذ سنوات 'حربًا منخفضة الوتيرة'، تتجلى في مواجهات غير مباشرة وعمليات متبادلة عبر أطراف ثالثة في سوريا، وغزة، ومناطق أخرى، وعليه تُفهم عملية يونيو/ حزيران كمرحلة جديدة ضمن هذا النزاع المستمر. غير أن هذا التبرير يواجه انتقادات واسعة من قِبل فقهاء القانون الدولي، إذ إن فكرة وجود 'حالة حرب مزمنة' دون إعلان رسمي أو اعتراف متبادل لا تستند إلى نصوص صريحة في القانون الدولي. كما أن القبول بمثل هذا الطرح لا يُعفي الدولة من التقيد الصارم بقاعدتي 'الضرورة' و'التناسب' عند تنفيذ أي تصعيد جديد، بصرف النظر عن سياق النزاع السابق. وفوق ذلك، فإن اعتماد هذا المنطق قد يفتح بابًا خطيرًا يُتيح للدول تنفيذ ضربات متكررة تحت مظلة 'نزاعات مستدامة'، مما يُهدد بتقويض ميثاق الأمم المتحدة، وإفراغ ضوابط استخدام القوة من مضمونها القانوني. ثالثًا: تقييم موقف إيران ردّت طهران على الضربات الإسرائيلية باعتبارها عملًا عدوانيًا صارخًا يرقى إلى مستوى 'الهجوم المسلح' بالمعنى المقصود في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، مما يتيح لها- وفق تعبيرها- ممارسة حقّها في الدفاع عن النفس بشكل فردي ومشروع. وخلال جلسة طارئة لمجلس الأمن عقدت في 13 يونيو/ حزيران 2025، بدعوة من إيران، وصف مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة الهجمات الإسرائيلية بأنها 'إعلان حرب' و'اعتداء مباشر على النظام الدولي'، مؤكّدًا أن بلاده ستردّ بحزم دفاعًا عن سيادتها ووحدة أراضيها. وبحسب ما أعلنته وزارة الصحة الإيرانية رسميًا، فقد أسفرت الضربات الإسرائيلية حتى 25 يونيو/ حزيران 2025 عن مقتل 627 شخصًا وإصابة 4870 آخرين داخل الأراضي الإيرانية. المآخذ القانونية على العمليات العسكرية الإيرانية: الضرورة والتناسب: من حيث المبدأ، تملك إيران حقًا أصيلًا في الدفاع عن نفسها بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بعد تعرّضها لهجوم إسرائيلي واسع النطاق دون مبرر قانوني ظاهر. بيدَ أن هذا الحق ليس مطلقًا، بل يخضع لشرطَي الضرورة والتناسب، ويُشترط أن يهدف الرد إلى صد العدوان ومنع تكراره، لا إلى العقاب أو الانتقام. أطلقت إيران صواريخ ومسيّرات أصابت مناطق في تل أبيب وحيفا، وأوقعت قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، إضافة إلى أضرار مادية. ورغم تداول الإعلام وقوع خسائر مدنية، يصعب الجزم قانونًا بطبيعة المواقع المستهدفة، نظرًا لامتناع إسرائيل عن نشر معلومات حول ما إذا كانت تلك المناطق تضم منشآت عسكرية. في حال تبيّن لاحقًا أن الأهداف كانت عسكرية ضمن مناطق حضرية، تتحمل إسرائيل جانبًا من المسؤولية لاستخدامها الغطاء المدني. أما إذا ثبت أنها أهداف مدنية صِرفة، فإن الرد الإيراني قد يُعد خرقًا لمبدأ التمييز وعملًا انتقاميًا غير مشروع. وبالنظر إلى غياب الوضوح، كان بإمكان إيران أن تعزّز موقفها القانوني بإثبات أن الضربات اقتصرت على مواقع عسكرية محددة، مثل القواعد الجوية أو منصات الإطلاق، ما كان ليؤكّد مشروعية دفاعها ويجنبها تهمة تجاوز حدود القانون الدولي. حظر الأعمال الانتقامية (في ضوء الدفاع المشروع) يمنح القانون الدولي إيران حق الدفاع عن النفس ردًا على الهجوم الإسرائيلي، بشرط أن يكون الردّ ضروريًا ومتناسبًا. ويمكن لإيران أن تُبرّر ضرباتها بأنها جزء من ردّ دفاعي مستمر في ظل استمرار التهديد، وليست عملًا انتقاميًا محظورًا. كما يمكنها الادعاء أن الأهداف كانت مواقع عسكرية ضمن مناطق مدنية، وهو ما تتحمّل إسرائيل مسؤوليته إن ثبت استخدامها الغطاء المدني. وعليه، فإن مشروعية الرد الإيراني تتوقف على إثبات الصلة المباشرة بالأعمال العدائية، وغياب نية العقاب أو الردع العشوائي، مع الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني. رابعًا: الإطار القانوني لتوقف الحرب بين إسرائيل وإيران لم يأتِ توقّف العمليات العسكرية بين إسرائيل وإيران نتيجة اتفاق سلام شامل أو معاهدة مُلزمة، بل جاء في إطار تفاهم مؤقت لوقف إطلاق النار تم التوصل إليه بوساطة غير معلنة، على ما يبدو بين عدة أطراف إقليمية ودولية، من بينها سلطنة عُمان وسويسرا وقطر، وبتنسيق غير مباشر مع الأمم المتحدة. من الناحية القانونية، لا يُعدّ هذا التفاهم وقفًا رسميًا للحرب بموجب القانون الدولي، لكونه لم يُوثَّق باتفاق مكتوب يُودَع لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، ولم يصدر بشأنه قرار ملزم عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع. وبالتالي، يبقى هذا التفاهم أقرب إلى 'هدنة غير رسمية' أو 'وقف إطلاق نار ميداني' هشّ، لا يتمتّع بضمانات قانونية كافية. ورغم انعقاد جلستين طارئتين لمجلس الأمن، لم يصدر عنهما أي قرار يفرض وقف الأعمال العدائية، نتيجة الانقسام بين الدول الدائمة العضوية. كما لم تُفعّل الأمم المتحدة أي آلية رقابية ميدانية لتثبيت الهدنة، ما يجعل وقف العمليات رهنًا بحسابات الردع المتبادل، وليس التزامًا قانونيًا محصّنًا. وعليه، فإن غياب إطار قانوني متين وواضح لوقف القتال يُثير مخاوف جدّية من إمكانية تجدّد النزاع في أي لحظة، ويبرز الحاجة إلى اتفاق مكتوب برعاية أممية يتضمّن ضمانات حقيقية لحماية المدنيين، ويحدّد مسؤوليات الطرفين، ويهيّئ الطريق لتسوية قانونية شاملة للنزاع. خامسًا: المنشآت النووية الخاضعة للرقابة الدولية تُعدّ المنشآت النووية المدنية، مثل تلك الواقعة في نطنز وأصفهان، خاضعة لاتفاق الضمانات الشاملة الموقع بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT). وانطلاقًا من كونها مُدرجة ضمن برنامج التفتيش الدولي المنتظم، فإن هذه المنشآت تحظى بحماية قانونية مضاعفة، لا يُسقطها عنها كونها ذات طابع إستراتيجي، كما قد يُروّج في بعض الخطابات السياسية. واستنادًا إلى أحكام القانون الدولي الإنساني، فإن المنشآت التي تحتوي على 'قوى خطيرة'، كالوقود النووي أو المفاعلات، تخضع لحماية خاصة بموجب المادة 56 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977)، التي تحظر استهدافها لما قد يترتّب على ذلك من عواقب إنسانية وبيئية كارثية. كما أن معاهدة الحماية الفيزيائية للمواد النووية (CPPNM) المعدّلة عام 2005، تفرض على الدول التزامات واضحة بمنع الاعتداءات على هذه المنشآت، حتى في أوقات النزاع. وفي هذا السياق، جاء موقف المدير العام للوكالة، رافاييل غروسي، في بيان أصدره بتاريخ 20 يونيو/ حزيران 2025، باهتًا ومثيرًا للجدل. إذ أقرّ بأن الضربات الإسرائيلية تسببت بأضرار داخلية في منشآت نووية حساسة، مثل نطنز وأصفهان، لكنه امتنع عن توجيه إدانة صريحة للهجمات، مكتفيًا بالتحذير من المخاطر البيئية والدعوة إلى احترام اتفاقات الضمانات، دون تحميل أي طرف المسؤولية. ورأت طهران في هذا الموقف على أنه تواطؤ ضمني أو تراجع عن الحياد المؤسسي الذي يُفترض أن تلتزمه الوكالة في مثل هذه الظروف. ومن هنا، فإن قصف إسرائيل مواقع نووية مشمولة برقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون تفويض دولي أو إثبات تهديد وشيك، يُشكّل خرقًا مركبًا لكل من القانون الدولي الإنساني، ومبادئ عدم الانتشار النووي، وميثاق الأمم المتحدة ذاته. كما أن إدراج هذه المنشآت ضمن برنامج الزيارات والتفتيش الدولي يُعزّز قرينة استخدامها السلمي، ويُضعف قانونيًا أي ادعاءات تُقدّم لتبرير استهدافها تحت عنوان 'الضرورة العسكرية' أو 'الدفاع الوقائي'. وردًا على ذلك، أعلنت إيران تعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، معتبرة أن صمت الوكالة حيال الهجمات يُقوّض دورها الرقابي ويُعطي الضوء الأخضر لاستهداف المنشآت النووية في أي نزاع مستقبلي. ورغم أن هذا القرار يُعدّ موقفًا احتجاجيًا مشروعًا من الناحية السياسية، فإنه محفوف بمخاطر قانونية ودبلوماسية كبيرة. فعلى الصعيد القانوني، قد يمنح هذا الانسحاب خصوم إيران ذريعة جديدة للتشكيك في نواياها النووية، ويُضعف قدرتها على إثبات الطابع السلمي لأنشطتها أمام المجتمع الدولي. أما على الصعيد الدبلوماسي، فهو يُربك علاقاتها مع أطراف كانت تُراهن على التزامها بالشفافية مثل الصين والاتحاد الأوروبي. كما أن وقف التعاون يُفقد منشآتها بعض الحصانة القانونية التي توفّرها آليات التفتيش، ويجعلها عرضة لمزيد من التهديدات بذريعة الغموض أو الاشتباه. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store