logo
الجفاف الحاد يؤثر على مياه الأنهار والينابيع في لبنان

الجفاف الحاد يؤثر على مياه الأنهار والينابيع في لبنان

الجزيرةمنذ 4 أيام
في ظاهرة غير مسبوقة خلال فصل الصيف الحالي، شهدت عدة ينابيع في لبنان جفافا حادا يعد الأسوأ منذ 65 عاما، ما ينذر بأزمة مائية غير معهودة تخلف تداعيات إنسانية وبيئية خطيرة في البلاد.
ومن أبرز هذه الينابيع، نبع البياضة بمدينة بعلبك شرق لبنان، أحد أقدم ينابيع المنطقة الذي تحول إلى أرض قاحلة بعد آلاف السنين من تدفق المياه العذبة منه. ووفق اللبنانيين فإن بعلبك هي هبة نبع البياضة، الذي شكّل على مر العصور مصدرا أساسيا للمياه والزراعة ومهدا للحضارات التاريخية.
وحسب المصادر التاريخية، فإن نبع البياضة كان الدافع الأساسي وراء اختيار الإمبراطورية الرومانية (31 قبل الميلاد – 476 ميلادي) في القرنين 6 و5 قبل الميلاد مدينة بعلبك مركزا لبناء معابدهم المتمثلة حاليا بهياكل بعلبك.
وباعتباره مصدرا أساسيا للمياه في تلك الحقبة، جرى إنشاء قناة لجر المياه إلى داخل المعابد التاريخية، وبات النبع مرتبطا أيضا بهياكل بعلبك الأثرية حتى اليوم. وعلى ضفافه تشكّل أكبر متنزه سياحي طبيعي في لبنان، فضلا عن كونه مصدرا حيويا لري البساتين الزراعية وتأمين المياه للمنازل.
ومع الانحسار السريع لمياهه وصولا للجفاف، انقلب المشهد الحيوي هذا والمزدهر بالحياة رأسا على عقب، حيث تحول النبع إضافة إلى بركة البياضة ونهر رأس العين اللذين يتغذيان منه إلى أرض قاحلة.
ونتيجة لذلك انعدمت الحياة البرية في البركة والنهر حيث اختفت الأسماك وطيور الإوز والبط. وبحسب تقارير محلية، فإن بعلبك تشكو من انقطاع المياه عن المنازل لأسابيع في بعض الأوقات، ومن غياب العدالة بتوزيع المياه، ما يدفع بالكثيرين إلى شراء المياه من أماكن غير آمنة.
أزمة الجفاف
ويُرجع مراقبون جفاف الينابيع إلى حالة الجفاف العامة التي يعاني منها لبنان جراء تراجع كميات هطول الأمطار والثلوج، فضلا عن غياب الخطط المائية المستدامة، والاستهلاك العشوائي للمياه الجوفية، إضافة إلى آثار التغير المناخي.
وفي مقابلة مع الأناضول، قال المهندس الجيولوجي محمود الجمّال إن هذا النبع كان السبب الرئيسي الذي شجع الرومان لبناء هياكل بعلبك، ووصف جفاف النبع بأنه كارثة، نظرا لما يشكله من حرمان للمدينة من أهم مورد مائي فيها، على مرّ التاريخ.
وللإشارة إلى أهميته، لفت الجمال إلى أن الرحالة الشهير ابن بطوطة (1304م – 1378م) زار بعلبك، وقال إن المدينة ببساتينها ونبع رأس العين، لا يضاهيها في المنطقة، إلا غوطة الشام في سوريا.
وأضاف أن قلعة بعلبك ورأس العين توأمان لا ينفصلان عن بعضهما، فلولا رأس العين لما وجدت هياكل بعلبك. وأكد خلال حديثه أن عددا آخر من الينابيع في المنطقة تعرض للجفاف منها نبع الشيليش، وعين وردة.
من جانبه، قال رئيس بلدية بعلبك أحمد الطفيلي إن نبع البياضة ورأس العين شكّلا معلما سياحيا وأثريا في بعلبك (..) فكما مصر هي هبة النيل، فإن بعلبك هي هبة البياضة ورأس العين.
وحذّر الطفيلي من آثار سلبية على قطاعي السياحة والزراعة جراء جفاف نبع البياضة، وطالب بتحرك سريع من أجل استعادة مياه هذا النبع، لافتا إلى صعوبة هذا الأمر الذي يحتاج إلى مشاريع وتمويل.
عجز مائي
بحسب التقرير السنوي لعام 2025 الصادر عن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني (أكبر نهر في لبنان) التابعة لوزارة الطاقة، فإن العجز المائي في البلاد يتفاقم سنويا بسبب غياب مشاريع تطوير الموارد والمحافظة على النوعية.
ووفقا للمصلحة ذاتها، فإن سوء إدارة الموارد المائية والتلوث يخفضان الكمية القابلة للاستخدام إلى أقل من ربع المتاح. وأفادت المصلحة بأن لبنان يعاني من الاستنزاف العشوائي والمفرط للمياه الجوفية، فضلا عن غياب الإدارة المتكاملة للموارد المائية.
وفي مشهد مقلق، انخفضت مياه بحيرة القرعون -الأكبر في لبنان- إلى أدنى مستوى لها منذ إنشاء سد القرعون عام 1959، حيث أظهرت المشاهد تراجع مخزون المياه في البحيرة إلى مستويات غير مسبوقة، بحسب تقرير المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
ووفق التقرير، فإن كمية المياه الوافدة من نهر الليطاني إلى بحيرة القرعون تدنت خلال عام 2025 وبلغت 43 مليون متر مكعب، في حين الحد الأدنى بلغ سابقا 63 مليون متر مكعب، أما المعدل العام فيبلغ 233 في السنوات المطرية.
هذا التراجع الحاد في كمية المياه، تسبب بتوقف محطة عبد العال لتوليد الكهرباء التابعة لوزارة الطاقة اللبنانية والتي تعمل على الطاقة الكهرومائية بواسطة المياه الوافدة من بحيرة القرعون، وفق ما أعلنت عنه الوزارة في بيان سابق.
وتعليقا على ذلك، أصدرت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بيانا في 16 يونيو/حزيران الماضي أرجعت فيه الانخفاض الحاد في منسوب المياه إلى شحّ الأمطار، والاستخدام المفرط وغير المنظم لمياه الري والصناعة، وغياب السياسات المستدامة لإدارة الموارد المائية.
إجهاد مائي
وفي مشهد يعكس تفاقم الأزمة المائية التي تتعرض لها البلاد، شهد نبع عنجر في قضاء زحلة بمحافظة البقاع شرق لبنان، جفافا أرجعته مصادر رسمية إلى عدة أسباب أبرزها شح الأمطار.
وكان هذا النبع يشكل مصدرا أساسيا لتغذية المياه الجوفية والسطحية في تلك المنطقة القريبة من الحدود السورية. وفي 20 يونيو/حزيران، قالت مصلحة الليطاني إن الجفاف سببه شح الأمطار، إضافة إلى الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، وغياب الإدارة المتكاملة للموارد المائية.
وحذرت المصلحة من أنّ هذا الواقع يُهدد الأمن المائي والبيئي والزراعي في المنطقة، ويؤشّر إلى خطورة الوضع الهيدرولوجي (الموارد المائية) الذي بدأ يطال الينابيع الأساسية التي كانت تاريخيا تُعرف بغزارتها.
ويعاني لبنان هذا العام 2025 أسوأ أزمة جفاف حاد منذ أكثر من 65 عاما، وفق بيان لمصلحة الليطاني صدر في مارس/آذار، وسط تخوفات من تداعيات سلبية تنعكس على القطاعات الحيوية، وأبرزها الزراعة والصحة والغذاء والطاقة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الجفاف يتصاعد في لبنان.. هل دخل زمن شحّ المياه الدائم؟
الجفاف يتصاعد في لبنان.. هل دخل زمن شحّ المياه الدائم؟

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

الجفاف يتصاعد في لبنان.. هل دخل زمن شحّ المياه الدائم؟

البقاع- بخطى بطيئة تمر "أم علي" قرب بحيرة البياضة بمنطقة رأس العين في بعلبك (شرقي لبنان) التي جفت مياهها وتشققت أرضها، تتأمل المشهد بصمت قبل أن تقول للجزيرة نت: رحم الله تلك الأيام.. كانت البحيرة عامرة بالماء والبط، لا تجفّ ولا تهدأ، كنّا نأتي للاستمتاع بجمالها، كانت معلما سياحيا وأقرب إلى القلب، ولنا فيها ذكريات لا تُنسى. لكنها اليوم لم تعد سوى أطلال ذكريات". وغير بعيد، يجلس أبو حسين على مقعد إسمنتي يطل على البحيرة الغائبة، وبين تنهيدة وأخرى، يسترجع مشاهد الطفولة والشباب "كنا نجتمع هنا، فالمكان كان مجهزا بمقاعد وأشجار وارفة، ومراجيح للأطفال. كنا نرتاح تحت ظلّها، ونستمتع ببرودة المياه في عزّ الصيف". ويتابع حديثه للجزيرة نت "لم نخسر فقط مَعلما جميلا في بلدتنا، بل إن شحّ المياه أثّر على حياتنا اليومية، بتنا نشتري المياه بعدما كانت البحيرة مصدر فخر وارتواء". يؤكد رئيس بلدية بعلبك أحمد الطفيلي -في حديث للجزيرة نت- أن "جفاف بحيرة البياضة" يعد مؤشرا خطيرا على تفاقم الأزمة المناخية بالمنطقة، في ظلّ تراجع كميات المتساقطات. وقال إن توقف تدفق مياه البحيرة أدى إلى انقطاع نهر رأس العين الذي يُعد الشريان الحيوي لري بساتين بعلبك، مما يهدد الموسم الزراعي، ويزيد من أعباء المزارعين. وحذر من أن تداعيات الجفاف تتجاوز القطاع الزراعي، لتطال الاستخدامات اليومية للمياه، مشيرا إلى أن السكان مهددون بالعطش خلال أسابيع إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، خاصة في ظل صيف قاس يلوح في الأفق. وأكد الطفيلي ضرورة التحرك العاجل لحفر آبار جديدة وتوفير مصادر بديلة، داعياً إلى تدخل الوزارات المعنية -خصوصا مؤسسة مياه البقاع ووزارتي الطاقة والزراعة- إلى جانب الجهات الدولية المانحة لمواجهة ما سماها "مرحلة شديدة الخطورة". كما كشف أن المواطنين باتوا يشترون المياه من مصادر بعيدة، مما يضاعف أعباءهم المعيشية في ظل أوضاع اقتصادية خانقة، داعيا الأهالي إلى ترشيد استهلاك المياه والابتعاد عن الهدر. وختم الطفيلي بتوجيه رسالة إلى الجهات الرسمية والدولية، محذرا من أن جفاف البحيرة لا يهدد فقط معلما أثريا وسياحيا له رمزية خاصة في وجدان أبناء بعلبك، بل يمسّ حياة الناس وكرامتهم بشكل مباشر. مناخ يتغيّر من جانبه، يحذر رئيس حزب البيئة العالمي والخبير البيئي دوميط كامل من أن لبنان يقف اليوم على حافة تحول مناخي وبيئي خطير، ينذر بمستقبل مائي وزراعي قاتم، وسط غياب سياسات فاعلة وتخطيط مستدام. وفي حديثه للجزيرة نت، قال كامل "ما نعيشه اليوم ليس أزمة مفاجئة، بل نتيجة مسار بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي، والخوف الأكبر أن الأسوأ لم يأتِ بعد". ويربط كامل بين الاحترار العالمي واختلال التوازن المناخي، مشيرا إلى أن تراكم الحرارة في الطبقات الجوية بات يتجاوز قدرة المحيطات والكتل الهوائية والغطاء الحرجي على امتصاصها، مما أثّر مباشرة على حركة الغيوم ونسبة المتساقطات. ويضيف أن "لبنان ودول الجوار شهدت تراجعا مقلقا في معدل الأمطار وصل إلى الثلث، في حين باتت الثلوج شبه غائبة عن المناطق التي تقلّ عن 1400 متر، بعدما كانت تغطي ارتفاعات لا تتجاوز 200 متر مطلع القرن الحالي". ويكشف الخبير البيئي عن معطى أكثر خطورة، إذ تظهر الدراسات دخول حشرات استوائية إلى لبنان، في مؤشر واضح على انتقال المناخ من نمط "معتدل بارد" إلى "معتدل حار" يقترب تدريجيا من النمط الصحراوي. وقد انعكس هذا التحول المناخي مباشرة على المزارعين، حيث يشير كامل إلى أن محاصيل أساسية مثل المشمش والكرمة واللوز لم تعد قادرة على النمو تحت ارتفاع 800 متر، في حين بدأت النباتات البرية تذبل وتختفي تدريجيا بسبب موجات الحر الشديد. ويؤكد أن لبنان سجل العام الماضي أكثر من 225 يوما من الجفاف التام، مقارنة بأقصى حد تاريخي لم يكن يتجاوز 70 يوما، في حين تقلص الموسم المطري الذي كان يمتد من أكتوبر/تشرين الأول حتى يونيو/حزيران إلى أمطار خفيفة ومتقطعة انتهت كليا مع مطلع مايو/أيار. وفي قراءة قاتمة لواقع المياه، يشير كامل إلى أن معظم الأنهار اللبنانية تشهد تراجعا حادا، من بينها نهر الإبراهيم في جبل لبنان قضاء جبيل، والذي كان يغذّي محطات الطاقة الكهرومائية بأكثر من 560 مليون متر مكعب سنويا، لكنه جفّ هذا العام بشكل شبه تام. ويضيف "لطالما حذرنا من تحويل الأنهار إلى مصبات للصرف الصحي، لكن الدولة لم تتحرك، واليوم نرى نهر بيروت وقد تحول إلى مجرور مفتوح يمر أمام وزارة الطاقة، من دون أي معالجة تُذكر". تحذير من انهيار ويحذر كامل من انهيار شامل في المنظومة البيئية والمائية في لبنان، مشددا على أن البلاد تواجه "خطرا وجوديا" في ظل تواطؤ السلطات مع واقع التلوث والانهيار البيئي. ويقول "أزمة المياه لم تعد نقصا في الموارد، بل تحولت إلى تهديد مباشر لصحة الإنسان والحياة الزراعية بسبب الاستخدام العشوائي للمياه الملوثة وغياب أي رقابة". ويكشف أن نحو 130 ألف بئر ارتوازية تُستخدم للتخلص من مياه الصرف الصحي، إلى جانب أكثر من 7 آلاف مصدر تلوث تصبّ في نهر الليطاني وحده، وهو النهر الأطول والأكبر في لبنان، وينبع من غرب بعلبك في سهل البقاع ويصب في البحر المتوسط شمال مدينة صور. وحمّل كامل الدولة مسؤولية التلوث المباشر للمجاري المائية، مضيفا "نحن أمام كارثة صحية مكتملة الأركان، معظم المزروعات في لبنان تروى بمياه المجارير، الخضار التي تصل إلى موائد اللبنانيين، من خس وبقدونس وجزر وبطاطا، تُسقى من مصادر ملوثة، وتشكل خطرا حقيقيا على الصحة العامة". ويختم حديثه بانتقاد حاد للقيادات السياسية، واصفا إياها بـ"الجاهلة" ويقول "الناس تأكل خضارا من المجارير دون أن تدري، والقيادات نفسها تأكل من هذه المزروعات، وتُقتل ببطء، من دون وعي أو مساءلة".

موسم في مهبّ الريح.. مزارعو البقاع اللبناني يواجهون قسوة المناخ وتخلّي الدولة
موسم في مهبّ الريح.. مزارعو البقاع اللبناني يواجهون قسوة المناخ وتخلّي الدولة

الجزيرة

timeمنذ 9 ساعات

  • الجزيرة

موسم في مهبّ الريح.. مزارعو البقاع اللبناني يواجهون قسوة المناخ وتخلّي الدولة

البقاع- على امتداد سهل البقاع، حيث كانت خضرة الأرض تحاكي زرقة السماء، يقف المزارع اللبناني اليوم في مواجهة أقسى موسم زراعي في تاريخه الحديث، وسط أزمة مناخية واقتصادية خانقة. ولم تعد الأمطار تغيث الأرض، ولا الدولة تمدّ يد العون. وفي ظل هذا الفراغ، جاءت ضريبة المازوت لتقصم ظهر الفلاح، وترفع كلفة الإنتاج إلى مستويات لم يعهدها من قبل. في الماضي، كانت السماء تمنح الأرض ماءها، أما اليوم فيرويها المزارع من عرقه، بعدما تضاعفت تكلفة الري لتشكل نحو 30% من إجمالي النفقات، مقارنة بـ10% فقط في السنوات السابقة. هذا الواقع دفع كثيرين إلى تقليص المساحات المزروعة، بل التخلي عنها تماما في بعض الحالات. ومن ضجيج القذائف إلى صمت الحقول، ومن أرض كانت تزهر إلى أرض تتشقّق من العطش، يعيش الفلاح البقاعي تحت حصار متعدد الأوجه: مناخي، واقتصادي، وسياسي، يهدد ليس فقط موسمه الحالي، بل مصير الزراعة برمّتها في لبنان. وفي حديث خاص للجزيرة نت، وصف رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم الترشيشي، واقع القطاع الزراعي بـ"السلسلة المتشابكة من الأزمات التي وضعت الموسم بأكمله في مهبّ الريح"، مؤكدا أن حجم الإنتاج تراجع بشكل مقلق هذا العام، في ظل انسداد الأفق وغياب أي دعم فعلي من الدولة. وأوضح الترشيشي أن الموسم الزراعي بدأ هذا العام تحت القصف، إذ عاش المزارعون 66 يوما في ظل الحرب، وما إن انتهى رعب القذائف حتى حلّ شبح الجفاف، الذي خيّم على المنطقة وجعل الأمل في محصول جيد يتلاشى. أمطار شحيحة وأشار الترشيشي إلى أن معدلات الأمطار سجّلت تراجعا غير مسبوق هذا العام، موضحا أن المعدل السنوي الطبيعي للأمطار في البقاع يتراوح بين 600 و625 ملم، بينما لم يتجاوز هذا العام 230 ملم فقط، أي ما يقارب 35% من المعدل المعتاد. هذا النقص الحاد في الهطول تسبّب في خسائر متفاوتة بين المزارعين، نحو 15% منهم فقدوا محاصيلهم بالكامل، في حين لم يحصد نصفهم سوى نصف الكمية المعتادة، رغم أنهم تحمّلوا تكاليف الإنتاج نفسها. أما الباقون، فقد اضطروا إلى رفع كلفة الري إلى 4 أضعاف. وأضاف الترشيشي: "في السابق، كانت كلفة الري تشكّل نحو 7% من إجمالي تكاليف الإنتاج، أما اليوم فقد تجاوزت 30%، وهو ما يثقل كاهل الفلاحين بشكل خطير". وأكد أن محصول القمح كان الأكثر تضررا من غياب الأمطار، مشيرا إلى أن بعض المزارعين راهنوا على شتاء متأخر، لكن الشهور من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان مضت دون أن تحمل غيثا يُرتجى، مما أسفر عن تراجع كبير في إنتاج الأشجار المثمرة أيضا. وحذّر الترشيشي من أن بساتين يعود عمرها لعشرات السنين باتت مهددة بالموت، وهو ما يصعب تعويضه بأي شكل من الأشكال. ونوّه إلى أن تقلص المساحات المزروعة سيؤدي حتما إلى انخفاض الإنتاج وارتفاع الأسعار، مشدّدا على أن "الغلاء ليس نتاج جشع، بل نتيجة لندرة المعروض وارتفاع كلفة الزراعة"، وضرب مثالا بسعر الكرز الذي وصل إلى 20 دولارا للكيلوغرام، نتيجة تأثر الإنتاج الشديد بالتقلّبات المناخية. التصدير في مأزق وفي ما يتعلّق بتسويق المحاصيل، أشار الترشيشي إلى أن الطريق البري إلى الدول العربية -الذي يُعد شريانا حيويا للقطاع- لا يزال مغلقا منذ أكثر من 3 سنوات ونصف سنة. وقال: "نحتاج سنويا إلى تصدير نحو 200 ألف طن من البطاطا، لكن الطريق البري ما زال مقفلا". وكشف عن اقتراح قدمه المزارعون إلى الدولة اللبنانية يقضي بنقل البضائع إلى الحدود السعودية أو الأردنية، ثم إعادة تحميلها على غرار ما يقوم به السوريون، لكن حتى اليوم لم يصدر أي رد رسمي على هذا المقترح. أما خيار التصدير البحري، فقد ضاعف كلفة الشحن من 1800 دولار إلى أكثر من 5500 دولار للحاوية، وهو ما يجعل من المستحيل منافسة دول مثل مصر وسوريا وباكستان. غياب الدولة في ختام حديثه، حمّل الترشيشي الدولة اللبنانية مسؤولية التقاعس في مواجهة الجفاف، قائلا: "صحيح أن المناخ ليس بيد أحد، لكن الدولة مسؤولة عن بناء السدود وتخزين مياه الشتاء، وهذه المشاريع لا تزال غائبة بالكامل". وأضاف بأسى: "عندما تفيض السيول نصرخ، بينما كان يفترض أن نكون قد خزّناها قبل أن تضيع. نحتاج إلى تفعيل الدعم الزراعي فعليا، وليس بمسميات فقط. مؤسسة إيدال كانت توفّر دعما حقيقيا، أما اليوم فيُحسب على سعر صرف 1500 ليرة (للدولار)، بينما تجاوز الدولار 60 ألفا". القطاع المنكوب من جهته، أكد المزارع حمزة الموسوي أن الموسم الحالي هو "الأسوأ منذ سنوات"، مشيرا إلى أن آبار الري قد جفّت بالكامل، وأنهم باتوا يعتمدون على مضخات تعمل بالمازوت بكلفة باهظة، ازدادت بعد فرض ضرائب إضافية على المحروقات. وحذّر الموسوي من أن نسبة كبيرة من المزارعين ستتوقف عن الزراعة هذا الصيف، متوقعا أن تصل نسبة الأراضي غير المزروعة إلى 70%، وهو ما يشكّل تهديدا مباشرا للأمن الغذائي في لبنان. وأشار إلى أن أسعار المحاصيل تتراجع في الأسواق رغم ارتفاع كلفة الإنتاج، مما يعكس أزمة حادّة في التسويق وغياب قنوات البيع الفاعلة. وختم حديثه بحسرة: "لا نشعر بوجود الدولة. لا توجد خطة إنقاذ، ولا دعم حقيقي، المزارع يستيقظ كل يوم على كارثة جديدة دون أن يجد من يصغي إليه". نداء المزارعين وسط هذه الظروف القاسية، وجّه المزارع حسن نداء مباشرا إلى الدولة اللبنانية، داعيا إلى التفاتة عاجلة تجاه المزارعين الذين يعانون من غلاء فاحش في الأسعار والتكاليف، خصوصا في ظل موجة الجفاف القاسية التي ضربت البلاد. وطالب برفع سعر البطاطا قليلا، في محاولة لتعويض الارتفاع الحاد في تكاليف الإنتاج، مؤكّدا أن القطاع الزراعي يشكّل "ركيزة أساسية في اقتصاد لبنان، بل قد يكون أهم من القطاع الصناعي في بعض المناطق، لأنه يوفر فرص عمل كثيرة ولا ينبغي تركه يتهاوى".

رحلة التعب والمشقة.. نساء يُجدن لغة الصبر والإرادة
رحلة التعب والمشقة.. نساء يُجدن لغة الصبر والإرادة

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

رحلة التعب والمشقة.. نساء يُجدن لغة الصبر والإرادة

الساعة الرابعة فجراً بتوقيت فلسطين، بدأ صوت المؤذن عالياً وواضحاً.. تستيقظ في الصباحات لكي ترتشف كوباً من الشاي مع كسرة خبز يابسة، قضمتان أو ثلاثة، تستعد حتى تقلها السيارة إلى وجهتها الجديدة للعمل في الأراضي الزراعية. فور وصولها إلى عملها ترتدي القفازات وتمسك المنجل بيمينها، وتبدأ بقص الزعتر المروي من سهول قريتها، قرية النصارية، شمال شرق مدينة نابلس. ألم من نوع آخر شهد جسد المرأة الخمسينية وخزات الشوك بأنواعة، والقفازات لم تحمِ يديها مرة من لدغة أفعى كانت تتربص تحت العشب الجاف، ولا من لسعة النحل في موعد إزهار المحاصيل، وهي لا تجد الحماية من ضربات الشمس الساطعة، التي تضرم في العقل جنوناً من نوع آخر، فتوقع بذاك الجسد المترامي ألماً من نوع آخر. وكي لا ننسى، هناك برد الشتاء الذي يتسلل إلى أطراف الأقدام، حيث العمل في ساعات النهار الباردة الباكرة؛ فيحبس الدم في مقدمة الأصابع تاركاً علامات التصبغ ظاهرة للعيان، وكأنك اضطررت لتسلق مكان عالٍ، والفرق هنا أن العمل أمر مجبولة عليه تلك الخمسينية، حيث لا حل آخر، وأن التسلق للأعالي هواية لا اضطرار. رغم ذلك، لا يكفي أن تعمل الشهر كله دون انقطاع، بل إنها تجد نفسها ملزمة للعمل في مناطق أخرى، حتى تتمكن من تلبية كافة الالتزامات المفروضة عليها. وعلى الرغم من أنها لا تحمل شهادة إتمام الثانوية العامة فإنها كانت مواظبة على تعليم أبنائها في المدارس، وبعد انتهاء دوام المدارس تقوم بجمع الحقائب المدرسية لتضع الماء والطعام.. بعد أن كانت الحقائب المدرسية أداة توضع في داخلها الكتب المدرسية، أضحت وسيلة لحفظ الكرامات، ووسيلة لكسب الرزق الممزوج بالتعب والمشقة. في الأغوار، تعمل الغالبية العظمى من السكان في الأراضي الزراعية؛ ما يجعلهم في عزلة عن العالم الخارجي وعن مجريات الأحداث، فهم مطالبون بالعمل في الخضراوات؛ حتى يتم توزيعها على مدن الضفة الغربية. الانعزال داخل المزارع جعلهم بعيدين كل البعد عن الانخراط في العمل السياسي، ولعل ساعات العمل المتواصلة تحرمهم من التمتع بالحياة اليومية. لا إجازات في عملها، تعمل في أجور متدنية لا تكفي الشهر بأكمله؛ والتغيب ليوم واحد يحرمها من الأجرة اليومية، انحناء الظهر يعطيها عمراً يتجاوز بكثير عمرها الحقيقي، وكل واحد من خطوط الوجه يحكي قصة ومعاناة، ولعل الخطوط ازدادت بعد وفاه زوجها، وفرض مسؤولية مضاعفة عليها. تقول الحاجة: "لا انتهاء من هذا العمل إلا بانتهاء العمر، لا قوانين واضحة تفرض حماية للنساء الأرامل، ونشاط الجمعيات الخيرية ضعيف وغير كافٍ، لا توجد حلول جذرية مفروضة على الأرض، تشعر بالتعب، مريض… عليك العمل". الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات عدو من نوع آخر بينما الحرب مستمرة منذ ما يقارب العامين، يواصل الاحتلال الإسرائيلي توسعه في أراضي الضفة الغربية على حساب السكان، لا يكفي أن تكون ظروف العمل صعبة على حاجة في الخمسين من عمرها.. الاحتلال يضيق الخناق والرزق على السكان؛ فمنذ بداية الحرب يستولي المستوطنون على أراضي السكان، ويحرمونهم من العمل في أراضيهم أو استصلاحها. مع كل صباح، على الحاجة الخمسينية أن تلتفت للإنارة القريبة من المزرعة خلسة، وأن تُبعد أحفادها حتى لا يعبروا إلى الطرف الآخر من الشارع، كي لا يعتدي عليهم المستوطنون، ممن استولوا على أراضي القرية عنوة، وحرموا السكان من حصاد محصول القمح في تلك الأراضي الوعرة، التي يصعب الوصول إليها. الحاجة الخمسينية هي مثال لعشرات النساء اللواتي يعملن وقت السلم والحرب -وفي جميع الظروف- دون أن يجدن سنداً، في ظل غياب نظام تأمين قادر على توفير كافة الاحتياجات، أولئك اللواتي يسطرن عنوان الصمود والتحدي، ولا يأبهن أكتب عنهن أم لا؛ فكل ما يعرفن العمل، وهنَّ يُجدن لغة الصبر والإرادة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store