
ما التحديات التي تواجه الاستخبارات الإيرانية لتفكيك شبكات الموساد؟
وأعقب تلك الهجمات ببضعة أيام تصفية قائد استخبارات الحرس الثوري العميد محمد كاظمي وعدد من مساعديه.
بمرور الوقت تتكشف تفاصيل إضافية لما حدث خلال الحرب، حيث كشفت وكالة أنباء "فارس" الرسمية، في 13 يوليو/تموز الجاري، عن أن إسرائيل استهدفت في اليوم الرابع للحرب اجتماعا رفيع المستوى للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، حضره رؤساء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث هوجمت مداخل ومخارج قاعة الاجتماع في الطابق السفلي لمبنى محصن غرب طهران بقنابل ثقيلة بهدف شل حركة الخروج وقطع تدفق الهواء، على غرار ما رشح من معلومات في عملية اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
تمكّن المجتمعون من النجاة عبر فتحة طوارئ، لكنّ عددا منهم، وبينهم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أُصيبوا بجروح طفيفة. وتُجري السلطات تحقيقا في احتمال وجود اختراق بشري مباشر مَكّن تل أبيب من معرفة توقيت الاجتماع وموقعه.
عكَسَ هذا التطور لحظة انكشاف إضافية لأعلى مستوى في منظومة القرار السيادي الإيراني. فلم تكن الضربات مجرد تصعيد عسكري في الحرب التي اندلعت فجأة، بل كانت إعلانا فجًّا عن نصر استخباراتي إسرائيلي بُنِي على مدى عقدين من التغلغل والاختراق، وأصبح السؤال الرئيسي عن حجم الشبكات الاستخبارية التي مَكّنت إسرائيل من تنفيذ تلك العمليات النوعية في قلب طهران.
الملمح الأساسي في تلك الضربات هو طبيعة أهدافها ودقة تنفيذها وتنوّع أدواتها، فبعضها تم بطائرات مسيّرة، والبعض الآخر بعبوات ناسفة داخل مركبات، وبعضها بفرق اغتيال فضلا عن القصف الجوي. هذا التنوع في أساليب التنفيذ كشف وجود طبقات متعددة من العملاء داخل المؤسسات الإيرانية ذاتها، وجعل من الصعب التنبؤ بنمط الضربات أو منع تكرارها.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الموساد لم يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على شبكات بشرية مزروعة في محيط القيادات، وفي دوائر لوجستية سهّلت مراقبة التحركات وتوفير معلومات حساسة عن الاجتماعات والمواكب والسيارات المستخدمة وحتى المنازل ومقرات القيادة الآمنة والبديلة.
التراكم الاستخباراتي الإسرائيلي
ما جرى في يونيو/حزيران 2025 لم يكن سوى تتويج لمسار طويل من حرب الظل. فمنذ أكثر من عقد، كثّف جهاز الموساد من أنشطته داخل إيران، مستهدِفا العلماء النوويين، ومنشآت التخصيب، وكوادر في الحرس الثوري.
ونفّذ عمليات اغتيال لعلماء نوويين مثل مسعود محمدي وداريوش رضائي ومصطفى روشن مطلع العقد الماضي، ثم سرق نصف طن من وثائق الأرشيف النووي عام 2018، واغتال العالِم البارز محسن فخري زاده في 2020، ثم اغتال العقيد في فيلق القدس حسن صياد خدائي برصاص مسلحين قرب منزله في طهران عام 2022 بذريعة إشرافه على محاولات تنفيذ عمليات اختطاف واغتيالات لإسرائيليين في قبرص ودول أخرى، وأخيرا اغتيال قائد حركة حماس إسماعيل هنية في غرفته بمجمع تابع للحرس الثوري في طهران عام 2024.
أشارت تلك الهجمات إلى مراكمة ممنهجة لقدرة إسرائيل على ضرب إيران من الداخل، وأن الموساد نقل الصراع من ميدان المواجهة العسكرية إلى شوارع طهران، وهو ما كان من المفترض أن يدفع إلى عملية مراجعة عميقة وإعادة هيكلة لأجهزة الأمن الإيرانية لتحديد الخروقات وعلاجها.
وفي هذا السياق، يُذكّرنا جيمس أولسون، الرئيس السابق لقسم مكافحة التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ، بطبيعة هذا النوع من الصراعات الاستخبارية، حيث شدّد في كتابه "كيف تقبض على جاسوس؟" على أن أفضل أساليب مكافحة التجسس هي اختراق أجهزة الاستخبارات المُعادية، وتجنيد الضباط المسؤولين عن شبكات الاختراق، وهي مقاربة تؤكد أن الردع الاستخباري لا يُبنى على الدفاع وحده، بل على المبادرة الهجومية.
تعدد الأجهزة وتشظي القرار الأمني
تُعاني إيران من مأزق يتجلى في تعدد مؤسساتها الأمنية وتضارب صلاحياتها. فبدلا من وجود جهاز استخبارات مركزي موحد، تتوزع المهام بين وزارة الاستخبارات (إطلاعات) واستخبارات الحرس الثوري، إضافة إلى أجهزة استخبارات تابعة للشرطة، والقضاء، والباسيج، والجيش.
ورغم أن وزارة الاستخبارات أُنشئت عام 1984 بهدف دمج الأجهزة الأمنية المتناحرة بعد الثورة، فضلا عن تخويلها "بالحصول على معلومات الاستخبارات الأجنبية ومعالجتها، وإجراء عمليات مكافحة التجسس لمنع المؤامرات الداخلية والخارجية ضد الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية الإيرانية"، حسب ما ورد في قانون تأسيس الوزارة، فإنها فشلت في احتواء هذا التشظي.
ومع صعود الحرس الثوري في العقدين الأخيرين، تحولت وزارة الاستخبارات التي يشترط قانون تأسيسها أن يكون الوزير شخصا حاصلا على درجة الاجتهاد الديني وفق المذهب الشيعي، إلى جهة بيروقراطية تخضع لإشراف السلطة التنفيذية، وتتقاسم النفوذ مع جهاز استخبارات الحرس الذي تأسس بعد احتجاجات 2009.
وبينما يُفترض أن تتكامل المؤسستان، فإن العلاقة بينهما ظلت على الدوام مشوبة بالتنافس.
لقد علَّق قائد الحرس الثوري السابق وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي على حادث التخريب في مفاعل نطنز واغتيال العالم النووي فخري زاده بالدعوة إلى تطهير مجتمع الاستخبارات، فيما ألقى وزير الاستخبارات السابق محمود علوي (2013-2021) باللوم على الحرس الثوري في اغتيال زاده لمسؤوليته عن أمن كبار المسؤولين والشخصيات البارزة، كما اتهم استخبارات الحرس الثوري بتعرضها للاختراق من طرف الموساد.
فيما ألقى علي يونسي، وزير الاستخبارات الأسبق (1999-2005) في عهد خاتمي، باللوم في إخفاقات مكافحة التجسس على إنشاء منظمات موازية، والتنافس بين الأجهزة الأمنية، وتسييس الأمن عبر التركيز المفرط على المعارضين بدلا من حماية البلاد من التهديدات الخارجية.
هذا التشظي الهيكلي حال دون بناء منظومة استخبارات مضادة متماسكة، وجعل الأمن الإيراني مشلولا، حيث تسعى كل جهة إلى توسيع نفوذها، حتى لو أدى ذلك إلى فوضى في توزيع المسؤوليات، وإلى ثغرات يستغلها الموساد بنجاح، مما سمح له بالتحرك في الفراغات الناتجة عن صراع النفوذ بين المؤسستين بحسب تحليلات عدد من المختصين الإيرانيين
ولذا لم يكن غريبا أن تتكرّر عمليات تسلل العملاء أو أن يتنقل عناصر يُشتبه بتخابرهم بين المؤسسات دون كشفهم.
أبرز مثال على ذلك هو علي رضا أكبري، نائب وزير الدفاع الذي أُعدم لاحقا عام 2023 بتهمة التجسس، بعدما شغل مناصب رفيعة رغم وجود إشارات أمنية تحذيرية، مما كشف أن مَن يجاهرون بولائهم الكامل للنظام أصبحوا هم الحلقة الأضعف أمنيا، كونهم أقل خضوعا للرقابة، وأقرب إلى مواقع النفوذ.
إشكالية الاستمرارية الطويلة في القيادة الاستخباراتية: حالة حسين طائب
يُظهر بقاء حسين طائب على رأس جهاز استخبارات الحرس الثوري منذ تأسيسه في عام 2009 حتى عام 2022 نموذجا لمشكلة أعمق في بنية القيادة الأمنية الإيرانية، وهي غياب التداول المؤسسي في المواقع الحساسة كما
فعلى مدار أكثر من عقد، ارتبطت السياسات الاستخباراتية لطائب بمرحلة حساسة من التحديات الخارجية، لا سيما مع تصاعد أنشطة الموساد داخل إيران.
ورغم أن الاستمرارية قد توفّر أحيانا نوعا من الثبات والاستقرار، فإن بقاء القادة في مواقعهم لفترات مطوّلة دون تجديد في المناهج يفتح الباب أمام تكرار الأنماط، ويُقلل من قدرة الجهاز الأمني على التكيف مع طبيعة التهديدات المتغيرة.
كما أن طول بقاء المسؤول في منصبه يُنتج بالضرورة شبكات نفوذ داخل الجهاز نفسه، ما قد يُضعف الرقابة الداخلية والتقييم المهني لمجريات الأمور.
هذا النمط من الجمود القيادي لا يُسهّل الاختراقات الخارجية فقط، بل يعوق أيضا التطوير التكنولوجي وتحديث العقيدة الأمنية، خاصة في مواجهة خصم يُراكم أدواته ويُجدد آلياته باستمرار كما هو حال الموساد.
الرد الأمني الإيراني
ردًّا على التصعيد الإسرائيلي داخل العمق الإيراني، أطلقت الأجهزة الأمنية حملة موسعة لتأمين الجبهة الداخلية بطريقة أقرب إلى إعلان الطوارئ الأمنية الشاملة.
فنُشرت آلاف العناصر الأمنية في شوارع طهران والمدن الكبرى، وأُقيمت نقاط تفتيش دائمة في مداخل الأحياء والطرقات الرئيسية، وصودرت الأجهزة المحمولة من المواطنين بحثا عن إشارات اتصال مشبوهة أو محتوى سياسي، وأُعلن عن تفكيك شبكات متعاونة مع الموساد، وملاحقة الأنشطة الرقمية التي قد تُستغل لاختراق المنظومات الدفاعية، كما أُعدم 5 أشخاص على الأقل سبق إدانتهم بالتعاون مع الموساد.
وضمن هذا السياق، أعلنت وزارة الاستخبارات واستخبارات الحرس الثوري ضبط نحو 10 آلاف طائرة مسيرة صغيرة في طهران وحدها، وضبط ورشة في أصفهان لتصنيع الطائرات بدون طيار والمتفجرات، واعتقال 18 شخصا إثر ضبط مصنع للطائرات المسيرة الهجومية والتجسسية في مدينة مشهد، وضبط ورشة سرية كبيرة في مدينة "ري" لتصنيع طائرات مسيرة صغيرة وقنابل موقوتة، واعتقال عملاء أطلقوا مسيرات صغيرة من الجبال الشمالية الغربية المُطلة على طهران، واعتقال 50 شخصا في سيستان وبلوشستان بتهم التجسس والإرهاب.
وقد وثّق تقرير لموقع "هرانا" الحقوقي اعتقال أكثر من 1500 شخص خلال أسبوعين، بينهم مئات اتُّهموا بالإخلال بالأمن القومي أو دعم إسرائيل عبر منصات التواصل، وتنوّعت التهم بين "نشر محتوى مضلل"، و"إعادة نشر صور للهجمات"، و"التجسس"، و"توجيه طائرات مسيرة".
كما شملت الحملة اعتقالات في أوساط المواطنين الإيرانيين اليهود والبهائيين، بدعوى التواصل مع جهات أجنبية، إضافة إلى مداهمات ومصادرة هواتف مهاجرين أفغان بزعم احتمال استغلالهم في جمع المعلومات.
وقد أفادت وزارة الداخلية الإيرانية بعودة 772 ألف أفغاني إلى بلادهم خلال العام الجاري، وهو ما تصاعد إثر حملات ترحيل قسرية بحجة ضلوع بعض اللاجئين الأفغان في عمليات التجسس.
تُقدَّم هذه الإجراءات باعتبارها جزءا من تحصين الأمن الداخلي في لحظة اشتباك استخباراتي عنيف، لكن هذه الحملات، على اتساعها، لم تُفضِ بعد إلى تفكيك الشبكات التي نفّذت الاغتيالات أو وفّرت معلومات دقيقة عن مواقع الاجتماعات القيادية، ما يثير شكوكا حول قدرتها الفعلية على معالجة منابع الاختراق لا أعراضه.
وفي المجال التشريعي، حاول البرلمان الإيراني تمرير قانون يغلظ عقوبة "التعاون مع الدول المعادية"، ويصنفه ضمن تهم "الإفساد في الأرض" التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
غير أن مجلس صيانة الدستور تحفّظ على المشروع، مشيرا إلى غموض مفاهيمه، وعدم تحديد الجهة التي تُعرّف "العدو". كما لجأت الحكومة إلى فرض قيود رقمية واسعة، فحجبت بعض التطبيقات الأجنبية، وقنَّنت سرعة الإنترنت، وراقبت شركات الاتصالات حركة الرسائل والمكالمات، بما في ذلك الرسائل النصية التقليدية.
الخاتمة.. حلول محتملة
كشفت المواجهات الأخيرة بين إيران وإسرائيل أن التحدي الذي تواجهه الأجهزة الإيرانية لا يقتصر على صدّ اختراق أمني هنا أو هناك، بل يتمثل في إعادة تعريف العقيدة الأمنية ذاتها، وتطوير أدواتها لتتلاءم مع طبيعة التهديد المتغير الذي يستخدم التكنولوجيا والشبكات البشرية والنفوذ الرقمي بوصفها وسائل رئيسية للتأثير والاختراق.
فما حدث من عمليات اغتيال دقيقة، واستهداف لاجتماعات سيادية، يعكس وجود فجوة عميقة في آليات الكشف والردع، فجوة لا يُمكن معالجتها بإجراءات ظرفية أو بحملات أمنية داخلية موسعة فقط. فبينما نجحت الأجهزة في توقيف عدد من الأفراد المشتبه بتورطهم أو تعاونهم مع جهات أجنبية، بقيت الأسئلة قائمة حول هوية الفاعلين الحقيقيين ومسارات الاختراق النوعية.
وفي المقابل، لا يُمكن إنكار أن طبيعة المواجهة غير متكافئة في كثير من أوجهها، فإسرائيل تحظى بدعم أجهزة الاستخبارات الغربية بشكل كبير، ولديها أحدث التقنيات، بينما طهران لا تحظى بدعم مثيل من دول أخرى، ورغم ذلك فالواقع يفرض عليها تطوير منظومتها الأمنية بعقلانية بعيدا عن منطق المعالجات الانفعالية.
إن المرحلة المقبلة تضع إيران أمام استحقاق مزدوج: الحفاظ على الأمن والسيادة من جهة، وتعزيز ثقة المجتمع بمؤسساته من جهة أخرى. ولن يتحقق هذا التوازن إلا إذا استندت السياسات الأمنية إلى رؤية إستراتيجية طويلة المدى تُبنى على دراسة الأخطاء السابقة، والاعتماد على أصحاب الكفاءة، وتخصيص الموارد اللازمة لبناء منظومة مكافحة تجسس فعالة.
في النهاية، لا تُقاس السيادة فقط بمدى السيطرة على الأرض، بل أيضا بقدرة الدولة على حماية نُخَبها ومواطنيها من الاختراق، وعلى التكيّف مع أنماط التهديد الجديدة، دون أن تُفرط في أمنها أو تُقوّض نسيجها الداخلي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
طاهر سليم.. قصة أسير فلسطيني خرج إلى وطن منكوب وبلا عناق
غزة – في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2011، خرج طاهر مصطفى سليم من منزله في غزة إلى وجهة لم يكن يدري أنها ستقوده إلى غياب دام 14 عاما خلف قضبان الاحتلال. في ذلك اليوم، غادر بيته تاركا زوجته نور إسليم، الحامل بطفلهما الثالث، وولديه الصغيرين محمد ومعتز، على أمل أن يتصل بها خلال أيام، لكنها لم تسمع صوته مرة أخرى إلا من خلال خبر الاعتقال الذي وصلها بعد 8 أيام، في ليلة صامتة جاء فيها إخوتها وأبناء عمومتها ليخففوا وقع الخبر عنها. نور كانت في عامها الثالث في الجامعة، بين أمومتها المبكرة وكتبها الثقيلة، وحين اعتُقل طاهر كانت في منزل أهلها، تستعد لتقديم امتحاناتها، وتحاول أن تصدّق أن زوجها لن يعود قريبًا. بعد عام صدر الحكم "17 سنة، خلف الأسوار". مرت السنوات ببطء ثقيل، لم تكن الزيارة سوى لحظة كل شهرين، محفوفة بالتفتيش والإهانات، لكنها كانت كفيلة بأن تعيد لروح نور شيئًا من الحياة، وحين منعت سلطات الاحتلال الزيارات عن أسرى غزة عام 2013، لم يتبقَ لها سوى رسائل الصليب الأحمر المتأخرة، تصل بعد أشهر من إرسالها، كأنها أخبار من زمن آخر. كبر الأبناء، ومعاذ وُلد دون أن يؤذن له والده في أذنه. غاب الأب عن لحظات النجاح، عن حفلات التكريم، عن أول يوم مدرسة، عن بناء البيت، عن تخرج نور من الجامعة ومن الماجستير. وذات يوم، أصيب محمد، طفلها البكر، بمرض مزمن خطير في الدم، واحتاج لعلاج شهري في رام الله، ثم ساءت حالته واضطرت نور للسفر به إلى مصر خلال الحرب. حرية منقوصة في السجن، كان الأسرى يسمعون عن الحرب في غزة، لكن ما تخيله طاهر خلف القضبان لم يكن يُقارن بما رآه حين تحرر في يوليو/تموز 2025، ضمن الدفعة الخامسة من صفقة "". وصل طاهر إلى غزة فوجدها منكوبة، مدينته التي كانت تعني الحياة صارت مدينة رماد، وحرية الخروج لم تكن سوى عبور إلى سجن أكبر. لكن أكثر ما آلمه في تلك اللحظة، أن زوجته نور وأطفاله لم يكونوا في استقباله، فقد كانوا في القاهرة ، حيث يرقد محمد على سرير العناية المركزة. يقول طاهر "تحررت من الجدران، لكنني دخلت سجن الحرب وسجن الغياب وسجن الأسئلة". ويضيف "كان أول من خطر بباله حين خرجت أريد أن أحتضن عائلتي"، لكنه لم يحتضنهم فقد كان اللقاء من خلف شاشة الهتاف الجوال، صوت نور ودموعها كانا عزاءه الوحيد، ووجودها البعيد منح لحظته المنقوصة قليلًا من المعنى. أما الزوجة نور سليم، التي انتظرت هذه اللحظة لسنوات، وكانت تحلم بأن تلبس الثوب الأبيض الفلسطيني، وأن تزغرد في الحارة، أن يركض الأولاد ويحتضنوا والدهم عند باب البيت، لكنها عوضًا عن ذلك، جلست خلف شاشة هاتف، تراقب الباصات التي تقل المحررين، تنتظر صورة، أو فيديو. وانهارت حين وصلها أول مقطع لطاهر، بصوته وضحكته التي تعرفها، لكنها لم تكن هناك. في الغربة، كانت تعيش كل لحظة بوجع مضاعف فزوجها المحرر مهدد تحت القصف، وطفلها يصارع المرض، وهي تحاول أن تكون الأم والممرضة والمعيلة. تقول "كل يوم كان معركة، اشتغلت أكثر من وظيفة، وصارت الأعباء جزءًا من يومي. ما كان في خيار غير أني أتحمل وأكمل". وتضيف "هو اليوم حر، لكني في كل لحظة أخاف أن أفقده، أخاف عليه من القصف، من الغياب، من انقطاع الاتصال، وأحيانًا أتمنى أنه يظل في السجن، لكنه يظل عايش". أما طاهر، فكلما تذكر نور، شعر أن الحريّة من دونها لا تكتمل. يقول "نور مش بس زوجتي، هي كانت امتدادي وأنا في السجن. ربت عني، صمدت عني، كملت الطريق لوحدها، واليوم لما بشوفها عم تشتغل، تكتب، وتقاوم بالغربة، بعرف إنه أنا ما كنت لحالي في السجن.. هي كمان كانت مقاوِمة خلف قضبان الحياة". ورغم الحب العميق الذي لم تنل منه المسافة، يقول كلاهما إن "الحرية ناقصة، فالعائلة لم تجتمع بعد. هما في مكانين مختلفين، بلا بيت واحد، بلا حضن، بلا عناق حقيقي. ووسط الحرب، والغربة، والمرض، والانتظار، لا تزال الأحلام مؤجلة".


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
مراسل الجزيرة: قصف إسرائيلي يستهدف مقر هيئة الأركان السورية بدمشق
عاجل | مراسل الجزيرة: انفجار عنيف يهز العاصمة السورية دمشق عاجل | مراسل الجزيرة: تحليق لطائرات مسيرة في سماء دمشق عاجل | القناة 12 الإسرائيلية عن مصدر أمني: الجيش شن هجوما على دمشق عاجل | مراسل الجزيرة: قصف إسرائيلي يستهدف مقر هيئة الأركان السورية بدمشق عاجل | هيئة البث الإسرائيلية عن مصدر أمني: الجيش هاجم دمشق وهذه رسالة موجهة للشرع بشأن أحداث السويداء عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: الهجوم على دمشق هجوم تحذيري استهدف محيط القاعدة الرئيسية للجيش السوري في دمشق عاجل | الجيش الإسرائيلي: سلاح الجو أغار على مدخل مقر الأركان العامة التابع للنظام السوري في دمشق


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
لماذا ينتحر الجنود في جيش إسرائيل؟
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، انتحر أربعة وأربعون جنديًا، وتسارعت الوتيرة في الأيام العشرة الأخيرة، حيث وضع ثلاثة جنود حدًا لحياتهم. أولهم من لواء "ناحال"، قاتل في غزة عامًا كاملًا، وانتحر بعد نقله إلى هضبة الجولان السورية، والثاني من لواء "غولاني"، أطلق النار على نفسه في قاعدة "سدي تيمان" بصحراء النقب، بعد خضوعه لتحقيق ترتب عليه سحب سلاحه منه. أما الثالث، فشكا لزملائه من معاناته الطويلة من الويلات والفظائع التي شاهدها أثناء الحرب، ثم أطلق النار على نفسه. تحوّل الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي إلى ظاهرة، وصار السبب الثاني لفقدان الحياة أثناء المعركة، في وقت يتعرض فيه جنوده لخسائر فادحة إثر الكمائن والفخاخ التي تنصبها المقاومة الفلسطينية، التي تخوض "حرب عصابات" فعالة ضد قوات الاحتلال. فيما يرفض عدد من الجنود العودة للقتال في غزة، وقد زجّت السلطات ببعضهم في السجن لقاء تمردهم هذا. يشكو جنود إسرائيليون كثيرون من اعتلال نفسي؛ بسبب خوفهم على حياتهم من جهة، وما ترتكبه أيديهم من قتل ودمار في غزة من جهة أخرى، خاصة من بين المحاربين القدامى الذين احتاج 75% منهم إلى دعم نفسي، إلى جانب آلاف يعالجون نفسيًا من آثار اضطراب "ما بعد الصدمة"، ما اضطر الجيش الإسرائيلي إلى توفير نحو ثمانمئة أخصائي نفسي لعلاجهم. وتتحدث صحف إسرائيلية عن عجز الحكومة عن الإحاطة بالحالة المعنوية للجنود، وعدم قدرتها على تلبية طلبات كبيرة للدعم النفسي، وهي مسألة لفتت انتباه منظمة "كسر الصمت" للمحاربين القدامى، التي اتهمت الجيش بأنه يتكتّم على التجارب النفسية القاسية للجنود والضباط. فيما اتهمت صحيفة "هآرتس" القيادة العسكرية بأنها سجّلت كثيرًا من المنتحرين على أنهم "مصابو حوادث"، ووصف البعض على مواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل المعتلين نفسيًا من أثر الحرب بأنهم "ضحايا 7 أكتوبر/ تشرين الأول الصامتون". وفي تقرير لموقع "إنسانيد أوفر" الإيطالي، تحدّث الجندي الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي دانيئيل إدري عن صور الأجساد المتفحمة التي كانت تطارده في صحوه ومنامه، قبل أن يضرم النار في جسده قرب مدينة صفد أثناء مشاركته في الحرب بغزة ولبنان، معبرًا عن هذا في رسالة إلى أحد رفاقه قال فيها: "أخي، عقلي ينهار. لقد أصبحت خطرًا، قنبلة جاهزة للانفجار". واعترفت والدته بأن ابنها كان "يتعرض لعذاب داخلي ينهش روحه، بسبب ذكريات أليمة سكنت رأسه من ساحات الحرب، وعجزه عن التحرر من رائحة اللحم المحترق وصور القتلى والمصابين، ما أفقده القدرة على النوم، لا سيما أنه خسر صديقين له في الحرب، وكانت مهمته نقل جثث رفاقه القتلى، ما ضاعف معاناته". وشاركتها الرأي والدة الجندي الاحتياطي المنتحر إليران مزراحي، الذي خدم في غزة ثمانية وسبعين يومًا فقط، حين قالت عن ابنها: "لقد خرج من غزة، لكن غزة لم تخرج منه أبدًا". لم يقتصر الأمر على انتحار جنود، بل طال ضباطًا أيضًا، ومنهم ضابط في الخدمة الدائمة أطلق النار على رأسه بعد أسبوعين من انطلاق حرب "طوفان الأقصى"، وثانٍ برتبة مقدم، وثالث برتبة رائد، ورابع كان يعمل طبيبًا في قوات الاحتياط، وطالما شكا من عدم قدرته على مواصلة رؤية الأجساد المتفحمة والدماء. يجعل هذا الظاهرةَ في الجيش الإسرائيلي تأخذ بُعدًا أكثر عمقًا من أي وقت خاضت فيه إسرائيل حروبها من قبل، ما يفتح بابًا للتساؤل عن فقدان كثيرين من جنوده وضباطه تدريجيًا للسمات التي يجب أن تتوافر في شخصية المقاتل، ومنها الثقة بالنفس، والشجاعة والإقدام، والإيمان بعدالة القضية التي يحارب من أجلها. كما تفتح هذه الظاهرة قوسًا لمضاهاة ما يجري للجنود الإسرائيليين بما دفع، عبر تاريخ الحروب، أمثالهم إلى الانتحار، لأسباب مستقرة تقريبًا، ومنها الشعور بالهزيمة، أو عدم القدرة على تحقيق النصر، أو عدم جدوى الحرب، والخوف على الحياة، أو الخوف من الوقوع في الأسر، أو الإحساس بانفصال القيادة العسكرية عن ظروف الميدان، أو تلقي الجنود أوامر بارتكاب جرائم حرب، أو أفعال غير إنسانية، أو طول أمد الحرب دون ظهور أي أفق لنهاية الوجود في ميدان المعركة. وهي أسباب سبق أن دفعت مئات الجنود الألمان إلى الانتحار في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومئات الجنود الأميركيين في العراق، إلى درجة أن وزارة الدفاع الأميركية (US Department of Defense) أصدرت مذكرة اعترفت فيها بأن انتحار الجنود هو أعقد المشكلات التي تواجه الجيش. وتكرر الأمر في صفوف جنود أميركيين عادوا من الحرب في أفغانستان. في العموم، تعزو دراسات وتقارير حول أسباب الانتحار في صفوف الجيوش إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، وتعاطي الكحول، والتعرض للسخرية أو التنمر والتحرش الجنسي، إلى جانب القلق والتاريخ المرضي لبعض الجنود الذين يستعذبون إيذاء النفس، فضلًا عن الشعور بتأنيب الضمير. وهي مسألة صورها بعمق الشاعر الأميركي من أصل صربي تشارلز سيميك في سيرته الذاتية المعنونة بـ "ذبابة في الحساء" (A Fly in the Soup)، حين تساءل عما كان يشعر به الطيارون في الحرب العالمية الثانية، وهم يضغطون على أزرار فتسقط القنابل على رؤوس المباني والناس وتحرق الأخضر واليابس. وهناك أسباب أخرى تخص الحالة الإسرائيلية، منها البيروقراطية العسكرية التي زادت صرامتها في الحرب الأخيرة، والإهمال الشديد للجنود، والاستهتار بحياة الفرد المقاتل، وهي حالة جديدة على المجتمع الإسرائيلي، لا سيما في ظل شعور الجنود بأن الحكومة ليست معنية بحياة الأسرى، بعد أن أعلنت تطبيق بروتوكول "هانيبال" منذ بداية الحرب. وهناك أيضًا الضغوط المتواصلة التي يمارسها ضباط ميدانيون على جنودهم كي لا يبوحوا بأوجاعهم النفسية حتى لا يتسرب الإحباط إلى المقاتلين، ومن خالف منهم هذه الأوامر تم تحويله إلى المحاكمة العسكرية، وفُرضت غرامات على البعض، وهُدد آخرون بالسجن. وهناك سبب جديد يخص الجيش الإسرائيلي، يتحدث عنه بعض العسكريين هناك، وهو أن الجيش يضطر إلى تجنيد أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية، فضغط الحرب لا يمنحه وقتًا للتدقيق، وهناك خوف من أن يقود الفحص إلى استبعاد كثيرين، ما يجعل الجيش، وبشكل تدريجي، بلا مقاتلين تقريبًا. ولذا يتصرف قادة الجيش الآن وفق قاعدة تقول: "نقاتل بمن يتوافر"، لا سيما أن 15% من الجنود النظاميين الذين حاربوا في غزة وعُولجوا نفسيًا رفضوا العودة إلى القتال. لكن قيادة الجيش أعادت من يعانون من إعاقة نفسية تزيد على 50% إلى الحرب، وهو موقف عبّر عنه أحد الضباط قائلًا: "نحن بحاجة إلى أكبر عدد من البنادق. سنتعامل مع العواقب لاحقًا". ويفاقم كل هذا الوضع النفسي والمعنوي في صفوف الجيش، وهي مسألة يتوقع معها أخصائيون أن تعاني إسرائيل من علاج خمسين ألفًا على الأقل من جنودها نفسيًا خلال السنوات التي تعقب توقف الحرب، وهذا معناه ببساطة تزايد عدد المنتحرين، سواء أثناء القتال أو بعده. ورغم أن الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي ليس جديدًا، حيث انتحر نحو 1230 جنديًا منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لأسباب نفسية، فإن حرب "طوفان الأقصى" شهدت اختلافًا واضحًا في هذا الشأن. فمن قبل، كان الجنود ينتحرون بعد أن تضع الحرب أوزارها، أما اليوم فإنهم ينتحرون أثناء جريان المعارك، وهي مسألة لفتت انتباه يوسي تيفي بلز، رئيس "مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي"، فقال: "هذا الأمر كان مفاجئًا جدًا، فقد وقعت حالات الانتحار خلال أول أيام القتال، وليس بعد المعارك كما جرت العادة".