
لماذا ينتحر الجنود في جيش إسرائيل؟
أولهم من لواء "ناحال"، قاتل في غزة عامًا كاملًا، وانتحر بعد نقله إلى هضبة الجولان السورية، والثاني من لواء "غولاني"، أطلق النار على نفسه في قاعدة "سدي تيمان" بصحراء النقب، بعد خضوعه لتحقيق ترتب عليه سحب سلاحه منه. أما الثالث، فشكا لزملائه من معاناته الطويلة من الويلات والفظائع التي شاهدها أثناء الحرب، ثم أطلق النار على نفسه.
تحوّل الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي إلى ظاهرة، وصار السبب الثاني لفقدان الحياة أثناء المعركة، في وقت يتعرض فيه جنوده لخسائر فادحة إثر الكمائن والفخاخ التي تنصبها المقاومة الفلسطينية، التي تخوض "حرب عصابات" فعالة ضد قوات الاحتلال. فيما يرفض عدد من الجنود العودة للقتال في غزة، وقد زجّت السلطات ببعضهم في السجن لقاء تمردهم هذا.
يشكو جنود إسرائيليون كثيرون من اعتلال نفسي؛ بسبب خوفهم على حياتهم من جهة، وما ترتكبه أيديهم من قتل ودمار في غزة من جهة أخرى، خاصة من بين المحاربين القدامى الذين احتاج 75% منهم إلى دعم نفسي، إلى جانب آلاف يعالجون نفسيًا من آثار اضطراب "ما بعد الصدمة"، ما اضطر الجيش الإسرائيلي إلى توفير نحو ثمانمئة أخصائي نفسي لعلاجهم.
وتتحدث صحف إسرائيلية عن عجز الحكومة عن الإحاطة بالحالة المعنوية للجنود، وعدم قدرتها على تلبية طلبات كبيرة للدعم النفسي، وهي مسألة لفتت انتباه منظمة "كسر الصمت" للمحاربين القدامى، التي اتهمت الجيش بأنه يتكتّم على التجارب النفسية القاسية للجنود والضباط.
فيما اتهمت صحيفة "هآرتس" القيادة العسكرية بأنها سجّلت كثيرًا من المنتحرين على أنهم "مصابو حوادث"، ووصف البعض على مواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل المعتلين نفسيًا من أثر الحرب بأنهم "ضحايا 7 أكتوبر/ تشرين الأول الصامتون".
وفي تقرير لموقع "إنسانيد أوفر" الإيطالي، تحدّث الجندي الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي دانيئيل إدري عن صور الأجساد المتفحمة التي كانت تطارده في صحوه ومنامه، قبل أن يضرم النار في جسده قرب مدينة صفد أثناء مشاركته في الحرب بغزة ولبنان، معبرًا عن هذا في رسالة إلى أحد رفاقه قال فيها: "أخي، عقلي ينهار. لقد أصبحت خطرًا، قنبلة جاهزة للانفجار".
واعترفت والدته بأن ابنها كان "يتعرض لعذاب داخلي ينهش روحه، بسبب ذكريات أليمة سكنت رأسه من ساحات الحرب، وعجزه عن التحرر من رائحة اللحم المحترق وصور القتلى والمصابين، ما أفقده القدرة على النوم، لا سيما أنه خسر صديقين له في الحرب، وكانت مهمته نقل جثث رفاقه القتلى، ما ضاعف معاناته".
وشاركتها الرأي والدة الجندي الاحتياطي المنتحر إليران مزراحي، الذي خدم في غزة ثمانية وسبعين يومًا فقط، حين قالت عن ابنها: "لقد خرج من غزة، لكن غزة لم تخرج منه أبدًا".
لم يقتصر الأمر على انتحار جنود، بل طال ضباطًا أيضًا، ومنهم ضابط في الخدمة الدائمة أطلق النار على رأسه بعد أسبوعين من انطلاق حرب "طوفان الأقصى"، وثانٍ برتبة مقدم، وثالث برتبة رائد، ورابع كان يعمل طبيبًا في قوات الاحتياط، وطالما شكا من عدم قدرته على مواصلة رؤية الأجساد المتفحمة والدماء.
يجعل هذا الظاهرةَ في الجيش الإسرائيلي تأخذ بُعدًا أكثر عمقًا من أي وقت خاضت فيه إسرائيل حروبها من قبل، ما يفتح بابًا للتساؤل عن فقدان كثيرين من جنوده وضباطه تدريجيًا للسمات التي يجب أن تتوافر في شخصية المقاتل، ومنها الثقة بالنفس، والشجاعة والإقدام، والإيمان بعدالة القضية التي يحارب من أجلها.
كما تفتح هذه الظاهرة قوسًا لمضاهاة ما يجري للجنود الإسرائيليين بما دفع، عبر تاريخ الحروب، أمثالهم إلى الانتحار، لأسباب مستقرة تقريبًا، ومنها الشعور بالهزيمة، أو عدم القدرة على تحقيق النصر، أو عدم جدوى الحرب، والخوف على الحياة، أو الخوف من الوقوع في الأسر، أو الإحساس بانفصال القيادة العسكرية عن ظروف الميدان، أو تلقي الجنود أوامر بارتكاب جرائم حرب، أو أفعال غير إنسانية، أو طول أمد الحرب دون ظهور أي أفق لنهاية الوجود في ميدان المعركة.
وهي أسباب سبق أن دفعت مئات الجنود الألمان إلى الانتحار في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومئات الجنود الأميركيين في العراق، إلى درجة أن وزارة الدفاع الأميركية (US Department of Defense) أصدرت مذكرة اعترفت فيها بأن انتحار الجنود هو أعقد المشكلات التي تواجه الجيش. وتكرر الأمر في صفوف جنود أميركيين عادوا من الحرب في أفغانستان.
في العموم، تعزو دراسات وتقارير حول أسباب الانتحار في صفوف الجيوش إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، وتعاطي الكحول، والتعرض للسخرية أو التنمر والتحرش الجنسي، إلى جانب القلق والتاريخ المرضي لبعض الجنود الذين يستعذبون إيذاء النفس، فضلًا عن الشعور بتأنيب الضمير.
وهي مسألة صورها بعمق الشاعر الأميركي من أصل صربي تشارلز سيميك في سيرته الذاتية المعنونة بـ "ذبابة في الحساء" (A Fly in the Soup)، حين تساءل عما كان يشعر به الطيارون في الحرب العالمية الثانية، وهم يضغطون على أزرار فتسقط القنابل على رؤوس المباني والناس وتحرق الأخضر واليابس.
وهناك أسباب أخرى تخص الحالة الإسرائيلية، منها البيروقراطية العسكرية التي زادت صرامتها في الحرب الأخيرة، والإهمال الشديد للجنود، والاستهتار بحياة الفرد المقاتل، وهي حالة جديدة على المجتمع الإسرائيلي، لا سيما في ظل شعور الجنود بأن الحكومة ليست معنية بحياة الأسرى، بعد أن أعلنت تطبيق بروتوكول "هانيبال" منذ بداية الحرب.
وهناك أيضًا الضغوط المتواصلة التي يمارسها ضباط ميدانيون على جنودهم كي لا يبوحوا بأوجاعهم النفسية حتى لا يتسرب الإحباط إلى المقاتلين، ومن خالف منهم هذه الأوامر تم تحويله إلى المحاكمة العسكرية، وفُرضت غرامات على البعض، وهُدد آخرون بالسجن.
وهناك سبب جديد يخص الجيش الإسرائيلي، يتحدث عنه بعض العسكريين هناك، وهو أن الجيش يضطر إلى تجنيد أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية، فضغط الحرب لا يمنحه وقتًا للتدقيق، وهناك خوف من أن يقود الفحص إلى استبعاد كثيرين، ما يجعل الجيش، وبشكل تدريجي، بلا مقاتلين تقريبًا.
ولذا يتصرف قادة الجيش الآن وفق قاعدة تقول: "نقاتل بمن يتوافر"، لا سيما أن 15% من الجنود النظاميين الذين حاربوا في غزة وعُولجوا نفسيًا رفضوا العودة إلى القتال. لكن قيادة الجيش أعادت من يعانون من إعاقة نفسية تزيد على 50% إلى الحرب، وهو موقف عبّر عنه أحد الضباط قائلًا: "نحن بحاجة إلى أكبر عدد من البنادق. سنتعامل مع العواقب لاحقًا".
ويفاقم كل هذا الوضع النفسي والمعنوي في صفوف الجيش، وهي مسألة يتوقع معها أخصائيون أن تعاني إسرائيل من علاج خمسين ألفًا على الأقل من جنودها نفسيًا خلال السنوات التي تعقب توقف الحرب، وهذا معناه ببساطة تزايد عدد المنتحرين، سواء أثناء القتال أو بعده.
ورغم أن الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي ليس جديدًا، حيث انتحر نحو 1230 جنديًا منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لأسباب نفسية، فإن حرب "طوفان الأقصى" شهدت اختلافًا واضحًا في هذا الشأن.
فمن قبل، كان الجنود ينتحرون بعد أن تضع الحرب أوزارها، أما اليوم فإنهم ينتحرون أثناء جريان المعارك، وهي مسألة لفتت انتباه يوسي تيفي بلز، رئيس "مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي"، فقال: "هذا الأمر كان مفاجئًا جدًا، فقد وقعت حالات الانتحار خلال أول أيام القتال، وليس بعد المعارك كما جرت العادة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 43 دقائق
- الجزيرة
صمود الفلسطيني على أرضه خيار وحيد.. صمود غزة نموذجًا
صمود وثبات الشعب الفلسطيني فوق أرضه في كافة أماكن تواجده لا يبدو غريبًا ولا حالة حديثة؛ فهو امتداد لثبات وتجذر في الأرض منذ عشرات السنين، رغم كل ما يُحاك من مؤامرات، ويُنفذ على الأرض من مخططات واعتداءات وسياسات، هدفها الأول تهجير الفلسطيني من أرضه. فمنذ النكبة عام 1948، يواجه الفلسطينيون سياسة ممنهجة لطمس هويتهم وتهجيرهم من أرضهم. ولو تحدثنا بلغة الأرقام، فجيش الاحتلال في سبيل تحقيقه أهدافه ما يزال منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يشن حرب إبادة في غزة، أدت إلى استشهاد وفقدان أكثر من 60 ألف فلسطيني، يُضاف إليهم 90 ألف جريح، ودمار ما يزيد عن 70% من القطاع، مع الاستخدام الممنهج للتجويع من أجل دفع السكان في مرحلة ما لترك بلادهم والهجرة منها. أما في القدس والضفة الغربية، فالإجراءات الإسرائيلية ليست بعيدة عن حال غزة، فغول الاستيطان يتصاعد بشكل يومي، حيث وصل عدد المستوطنين إلى ما نسبته 25% من سكان الضفة، إضافة لعمليات القتل والاعتقال اليومي، إلى جانب عمليات الهدم في القدس والملاحقة والإبعاد عن الأقصى، ومحاولات تهويد أحياء المدينة المقدسة، مثل سلوان والشيخ جراح، بمشاريع استيطانية لا تتوقف لحظة. إفشال مخططات في غزة، كان لصمود السكان شمالي قطاع غزة منذ بداية الحرب، رغم القتل والتجويع، الدور الأكبر والأهم في إفشال عدة مخططات كان ينوي الاحتلال تنفيذها، لعل أبرزها مخطط تهجير السكان من بيوتهم وإقامة مستوطنات في غزة عبر خطة الجنرالات، التي قامت على مبدأ دفع الناس للهجرة من خلال القصف والقتل والتدمير، إضافة لإفشال مخطط فصل الشمال عن وسط وجنوبي القطاع. ومع عودة الاحتلال للحرب في غزة، ما يزال يسعى لتهجير السكان عبر مخططات عديدة، إضافة لمحاولة تثبيت عمل المؤسسة الأميركية للمساعدات بشكل يشمل إذلال السكان، واعتبارها بديلًا عن المؤسسات الدولية، وهو ما يرفضه الفلسطينيون، ويعملون بكل جهد وقوة لإفشاله عبر الصمود في الميدان وعلى طاولة المفاوضات، رغم صعوبة المعارك في الجانبين. ليست هذه المرة الأولى، ولا غزة الحالة الوحيدة، فقد سبقتها الضفة الغربية والقدس في إفشال عشرات المخططات، خاصة التي تستهدف المسجد الأقصى، ومن أبرز ما حدث إفشال مخطط البوابات الإلكترونية للدخول إلى المسجد الأقصى. ففي يوليو/ تموز 2017 ثبت الاحتلال بوابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى ومنع الدخول إلا من خلالها بعد الفحص، وهو ما قوبل برفض شعبي ومواجهات واعتصامات، ما أجبر الاحتلال على إزالة البوابات وكافة العراقيل التي وضعتها. هذه النماذج جزء من صبر وتحدي وجلَد الفلسطيني أمام ما يواجهه من تضحيات جسيمة، ويتجلى الآن في قطاع غزة، الذي يتعرض لإبادة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفي الضفة الغربية التي تعاني القتل اليومي والتهجير والاستيطان وطرد الناس من بيوتهم وأراضيهم، وكذلك في القدس. أما في الخارج فلا يبدو الفلسطينيون أحسن حالًا، فهم الذين شُردوا من بيوتهم وأراضيهم، لكن حلم العودة لا يفارقهم لحظة واحدة، وتتنوع معاناتهم لتشمل التحديات الاقتصادية، والقيود المفروضة على الحركة، وفقدان الهوية، وصعوبة الحصول على الخدمات الأساسية، والصراعات السياسية. لا تبدو التحولات السياسية العربية مؤثرًا فارقًا في المعادلة، فلو كانت كذلك لما استمرت الإبادة في غزة لقرابة عامين، كان فيها الحراك الدولي -المتواضع أيضًا- أفضل بكل الأحوال من الحراك العربي والإسلامي الرسمي والمؤسساتي والشعبي. فأقل المطلوب عربيًا هو قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي، ووقف موجات التطبيع السابقة والجديدة، والضغط الحقيقي لفتح المعابر، وإرسال مساعدات عاجلة لغزة، والضغط الدبلوماسي في الأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال والإبادة، وتقديم الدعم الحقيقي والفاعل لإعمار غزة دون شروط سياسية أو ربط الأمر بأي ملفات أخرى، فذلك من أشد سبل إفشال مخطط التهجير، وتثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه، ومساندته بشكل حقيقي وفاعل في وجه الاحتلال الإسرائيلي. انهيار الصورة النمطية على المستوى الدولي، انهارت الصورة النمطية لإسرائيل، وفضحت جرائم الحرب في غزة زيف "الدولة الديمقراطية" و"الجيش الأخلاقي"، وأصبح هناك "تحول في السياسات الغربية" حيث الحركات الشعبية الضخمة في أوروبا وأميركا، في الجامعات والمؤسسات، والتي تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف الدعم العسكري لها. فمئات الجامعات الغربية، خاصة في أميركا وأوروبا، شهدت اعتصامات ومخيمات تضامن امتدت لشهور. فيما تضاعف نشاط حركات المقاطعة (BDS)، وفرضت ضغوطًا حقيقية على شركات متواطئة مع الاحتلال. ويبقى الأمل معقودًا بعد الله- سبحانه وتعالى- في أن تتعاظم دعوات الدول العربية والإسلامية والدولية تجاه القضية الفلسطينية، وأن تُتخذ إجراءات وخطوات رسمية معزَّزة بدعم وحراك شعبيين أكثر توافقية، بما يفشل المخططات الصهيونية العالمية لفرض حالة "شرق أوسط جديد"، تكون السيادة واليد العليا فيه لقوى الاحتلال الجديدة المُتجددة بوجه إسرائيلي، متخفية خلف دعم صهيوني عالمي، وهو ما لا تتمناه دول المنطقة. فصمود الفلسطيني على أرضه ليس خيارًا يختاره من بين خيارات عديدة، بل هو خيار وحيد، لا يمكن أن يتبدل أو يتغير، فمن هُجّر رغمًا عنه، وأُجبر على العيش منذ عشرات السنين خارج بلاده، لا يتخلى عن حق عودته لبلده، ويتمسك بأرضه، فما بالكم في من عاش على أرضها وتحمل كل تلك المعاناة لأجلها، هل يمكن أن يفرط فيها؟! لو كان الأمر خيارًا في حسابات الفلسطينيين، لما صمدوا وثبتوا لعامين تحت المذبحة والمقتلة والإبادة التي لم تحدث في تاريخ البشرية!


الجزيرة
منذ 43 دقائق
- الجزيرة
"المدينة الإنسانية" في غزة: ما الهدف من إنشائها؟
في ظل تصاعد الضغوط لإدخال المزيد من المساعدات إلى غزة، يستفيق الفلسطينيون في القطاع على كابوس جديد يحمل اسمًا مضللًا "المدينة الإنسانية". فمنذ إعلان كاتس عن خطته، اتضحت طبيعتها والهدف "الإسرائيلي" منها، إذ إن من يدخل إلى هذه المدينة لن يخرج منها إلى القطاع، إنما إلى خارج حدوده، وهو ما يعني ترحيلًا مباشرًا وخنقًا لما تبقى من الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، ضمن إستراتيجية ممنهجة تستهدف التصفية الصامتة. في هذا السياق، كشف موقع "كاونتر بانش" عن تقرير صادم يسلط الضوء على خطة "إسرائيلية" وُصفت بأنها "الأكثر وقاحة" في مسار الإبادة الجماعية الحديثة، وتقضي بإنشاء ما يسمى "مدينة إنسانية" جنوب قطاع غزة، ولكن خلف هذا الاسم الخادع، تكمن نوايا مرعبة بترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين قسرًا إلى معسكر اعتقال مقنع، لا يهدف إلى النجاة، بل إلى التمهيد لتطهير عرقي شامل. ونقل التقرير، استنادًا إلى صحيفة "هآرتس"، أن وزير حرب كيان الاحتلال، كاتس، يقترح تهجير نحو 600 ألف فلسطيني إلى منطقة محاطة بالأسوار تُقام على أنقاض مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وتُصنف هذه المدينة بأنها "إنسانية". لكن الخطة تتضمن فرزًا لسكان غزة، وفصل مَن يُشتبه بانتمائهم لحركة المقاومةالإسلامية "حماس"، تمهيدًا لترحيل المدنيين قسرًا إلى خارج القطاع، والاستيلاء على المناطق، ونزع السلاح من قطاع غزة، وتنفيذ خطة التهجتر التي سبق أن عرضها دونالد ترمب. ووفقًا لكاتس أيضًا، يقود نتنياهو محاولات للبحث عن دول تستوعب الغزيين، ومع ذلك، كشف مصدر "إسرائيلي" أن تداعيات الخطة السياسية والقضائية والاقتصادية تجعل تنفيذها صعبًا، وذلك في رأي أكثر من مسؤول مطلع عليها. وأوضح المصدر نفسه أن متخذي قرار هذه الخطة أدركوا أن صعوبتها الرئيسية تكمن في عدم استعداد أي دولة من الدول التي توجهت إليها "إسرائيل" لاستيعاب سكان من غزة. ويحذر "كاونتر بانش" من أن الهدف ليس إعادة توطين السكان، بل محو وجودهم تمامًا من الجغرافيا الفلسطينية، وهو ما يمثل امتدادًا مباشرًا لفكر صهيوني لطالما حلم بالسيطرة الكاملة على غزة دون فلسطينيين، أما من يُحشرون في تلك "المدينة"، فلن يُسمح لهم بمغادرتها ولا بالعودة إلى منازلهم المدمرة، وسيظلون محاصرين في منطقة عسكرية مغلقة تحت التهديد المستمر، إلى حين ترتيب خروجهم النهائي. وتشير الخطة إلى انتهاك صارخ للقانون الدولي، فالترحيل القسري لسكان أرض محتلة يُعد جريمة حرب وتطهيرًا عرقيًا وفقًا لمواثيق الأمم المتحدة، ومع ذلك، يبدو أن كاتس، مدفوعًا بهوس "الحل النهائي"، لا ينوي التراجع، بل أعلن عن بدء البناء خلال فترة وقف إطلاق النار المتوقعة، في إشارة إلى تسريع محموم لفرض واقع جديد قبل أي تسوية محتملة. في العالم العربي، الوضع أشدّ مأساوية، فالأنظمة تمضي قُدمًا نحو التطبيع وعقد الصفقات، بينما يُترك الفلسطينيون فريسة للجوع والموت والتهجير. ويتساءل موقع "كاونتر بانش": أين الخطوط الحمراء التي لطالما لوّحت بها العواصم الرسمية؟ يوجه التقرير اتهامًا مباشرًا إلى المجتمع الدولي، الذي لم يكتفِ بالصمت بل شارك بفاعلية في المذبحة الجارية منذ 20 شهرًا، من خلال الدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي. فقد سقط أكثر من 55 ألف شهيد فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، تحت نيران القصف "الإسرائيلي" الذي استهدف المستشفيات والمخابز والمساجد والمدارس ومخيمات اللاجئين. لم يكتفِ الاحتلال بالتدمير، بل استخدم التجويع كسلاح، فمنع وصول المساعدات، وهاجم القوافل الإغاثية، وأنشأ نقاط توزيع للمساعدات سرعان ما تحولت إلى كمائن مميتة، واستكمالًا لهذه الصورة القاتمة، أُنشئت "مؤسسة غزة الإنسانية" بدعم أميركي، تهدف إلى تحويل الإغاثة إلى أداة للضغط والسيطرة، بعيدًا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات المستقلة، ويتساءل التقرير بمرارة: كيف لحكومة قامت على أنقاض المحرقة أن تنشئ اليوم معسكر اعتقال جماعي؟ وكيف تستمر واشنطن في تزويدها بالسلاح، ومنع المساءلة في الأمم المتحدة، ومعاقبة كل من يجرؤ على قول الحقيقة، مثل المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي؟ أما في العالم العربي، فالوضع أشدّ مأساوية، فالأنظمة تمضي قُدمًا نحو التطبيع وعقد الصفقات، بينما يُترك الفلسطينيون فريسة للجوع والموت والتهجير. ويتساءل موقع "كاونتر بانش": أين الغضب العربي؟ وأين الخطوط الحمراء التي لطالما لوّحت بها العواصم الرسمية؟ إذا لم تنهض الأمة العربية والإسلامية والعالم الآن، فلن يكونوا مجرد متفرجين على الإبادة، بل شركاء فيها، فلا وقت للتردد، ولا مكان للحياد على الرغم من الصورة القاتمة، يضيء التقرير بارقة أمل تتمثل في الاجتماع طارئ الذي عقدته "مجموعة لاهاي" يومي 15 و16 يوليو/ تموز في كولومبيا. وهدف هذا الاجتماع إلى دعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية. ويدعو الموقع جميع الدول التي تدّعي التزامها بالعدالة إلى الانضمام الفوري لهذه الدعوى، وممارسة ضغط حقيقي لوقف مخطط الاحتلال الكارثي. كما يطالب الموقع أعضاء الكونغرس الأميركي بإعلان موقف واضح وفوري، والكف عن الخطابات المزدوجة وتمويل القنابل التي تهدم المدارس على رؤوس الأطفال والنساء، والتوقف عن الصمت إزاء ارتكاب أبشع المجازر على مرأى ومسمع من العالم. فإذا لم تنهض الأمة العربية والإسلامية والعالم الآن، فلن يكونوا مجرد متفرجين على الإبادة، بل شركاء فيها، فلا وقت للتردد، ولا مكان للحياد.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
مكتب غزة الحكومي: جيش الاحتلال دمر 88% من القطاع
كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الجمعة، أن نحو 88% من مساحة القطاع دمرت، وأن إسرائيل ألقت عليه 125 ألف طن متفجرات، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقال -في بيان- إن جيش الاحتلال "سيطر على 77% من مساحة غزة، وهجر نحو مليوني مدني، مخلفا خسائر تتجاوز 62 مليار دولار". وأوضح المكتب الحكومي أن إسرائيل دمرت 38 مستشفى و96 مركز رعاية، إضافة إلى استهداف 144 سيارة إسعاف. ووفق البيان، شمل التدمير 156 مؤسسة تعليمية كليا و382 جزئيا، و833 مسجدا و3 كنائس و40 مقبرة، مبينا أن 288 ألف أسرة باتت بلا مأوى بعد تدمير نحو 223 ألف وحدة سكنية كليا، وأكثر من 130 ألفاً بدرجة جعلتها غير صالحة للسكن، كما استُهدف 261 مركزا للإيواء. وذكر المكتب الإعلامي أن قطاع الزراعة خسر 2.2 مليار دولار بعد تدمير 92% من أراضي القطاع الفلسطيني، في وقت تعرضت فيه المياه والكهرباء والصرف الصحي والبنى الأثرية لتدمير واسع النطاق. وكانت هآرتس الإسرائيلية ذكرت -أمس الأول- أن حجم الدمار في قطاع غزة أكبر مما كان يعتقد سابقا، مبينة أن تدمير المباني أصبح يتم بواسطة مقاولين إسرائيليين خاصين يعملون تحت إشراف الوحدات القتالية بجيش الاحتلال الإسرائيلي. ونبّهت الصحيفة إلى أن المقاولين الإسرائيليين يتقاضون قرابة 5 آلاف شيكل (نحو 1500 دولار أميركي) مقابل كل مبنى يدمرونه. ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية على قطاع غزة -بدعم أميركي- أسفرت عن استشهاد وإصابة أكثر من 196 ألف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض، وسط دمار شامل للبنية التحتية ومجاعة حصدت أرواح العديد من المدنيين.