logo
نغوغي واثيونغو.. تحرر يبدأ من اللسان

نغوغي واثيونغو.. تحرر يبدأ من اللسان

العربي الجديد٠٣-٠٦-٢٠٢٥
كان الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي المارتينيكي المتعاطف مع الثورة الجزائرية فرانز فانون في مسعاه إلى دراسة المركزية الغربية
الاستعمارية
ونقدها، يسمّي عملية إحلال خصوصيات حضارية طارئة ووافدة مكان خصوصيات أخرى متجذّرة ومتراكمة بـ"العصارة الإمبريالية".
التقط الروائي والقاصّ والمسرحي و
الأكاديمي الكيني
نغوغي واثيونغو الذي رحل عن عالمنا الأربعاء الفائت، هذه الإشارة مبكراً، فأعلن انسلاخه عن التبعية للمركزية البريطانية التي ظلّت بلاده تابعة لها، في إطار الكومنولث، حتى بعد استقلالها عام 1963، بدءاً بتغيير اسمه "جيمس" إلى اسم محلّي هو "نغوغي"، الذي يعني "المتمسّك بالحق"، ووصولاً إلى الاستغناء عن الإنكليزية لغةً ل
لكتابة
، إذ كان قد نشر بها روايتين وضعته في الواجهة، هما: "لا تبكِ أيها الطفل" و"حبّة حنطة"، وشرع في الكتابة بلغته المحليّة المعروفة بـ"الكيكويو".
لقد فهم واثيونغو أن موجة التحرّر التي اجتاحت أفريقيا خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته ستظلّ شكلانية إذا لم تتحرّر الألسنة الأفريقية من التبعية اللغوية للغرب الإمبريالي، باعتبار "اللغة مأوى الوجود".
وفهمت المركزية البريطانية خطورة هذه الدعوة الوليدة، على امتداداتها الثقافية الخادمة لمصالحها السياسية والاقتصادية، فكانت هي من هندس مؤتمر الكتّاب الأفارقة باللغة الإنكليزية عام 1962، فحاصرته من خلال استبعاده من منابرها الثقافية والإعلامية، ومن خلال حلفائها في السلطة الكينية التي سجنته عام 1977، فما كان منه إلا أن رجمها بروايته "شيطان على الصليب" التي وصفتها السلطة النائبة عن الاستعمار باسم الديانة المسيحية.
استعمل مصطلح "القنبلة الثقافية" للتعبير عن آثار تبعية أفريقيا
غير أنَّ كتاب "تصفية استعمار العقل"، الذي صدرت ترجمته العربية عن "دار التكوين" عام 2011، بقلم الشاعر العراقي سعدي يوسف، يظلّ "بيانه" الفكري والفلسفي الذي يلخّص نظرته إلى الاستعمار الغربي، ليس فقط بوصفه قوة عسكرية، بل أيضاً –وهذا هو الأهم– بوصفه نظام علامات حضارية وثقافية وجمالية وفكرية وفلسفية يقوم على الهيمنة على الآخر وطمس علاماته.
مواجهة الذات
يقول واثيونغو إنَّ النقاشات الفكرية التي كان يجريها مع طلبة جامعة نيروبي وأساتذتها، خلال النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، خاصةً "مؤتمر تعليم الأدب الأفريقي"، هي ما أسهم في انقلابه على قناعاته السابقة، ووضعه أمام أسئلة حارقة لا تقبل التهرب الذي ظلّ يهيمن على مواقف قطاع واسع من النخب الأفريقية.
وبرغم اعترافه بأنّ مقالات الكتاب تحمل نغماً شخصياً مباهياً، يؤكّد أنَّ الإشكالات الراهنة لأفريقيا لم تأتِ من اختيار شخصي، بل من وضع تاريخي خاص، "كما أن الحلول أيضاً ليست مسألة قرار شخصي، بقدر ما هي نتاج تحوّل أساسي في بنى مجتمعاتنا، يبدأ بقطيعة حقيقية مع الاستعمار، وحلفائه من الحكّام المحليين".
ويوضّح: "أنا أنتقد الخيار الأفرو–أوروبي لممارساتنا اللغوية، ولا أنتقص أبداً من مواهب وعبقرية الذين كتبوا بالإنكليزية والفرنسية والبرتغالية. إنني أرثي وضعاً نيوكولونيالياً جعل البرجوازية الأوروبية تسرق مواهبنا وعبقرياتنا، بعد أن سرقت اقتصادنا في القرنين الأخيرين".
تحرير اللسان والقلم
نقرأ منذ بدايات الكتاب أنه سيكون آخر ما سيكتبه واثيونغو بالإنكليزية، فهي في حكم وداع أخير لها، إذ سيتفرّغ للكتابة بلغة "الكيكويو" و"الكي-سواحلية"، مع تمنّيه أن تعمل الترجمة على "متابعة الحوار مع الجميع"، وهو بهذا يدعو إلى القطيعة لا المقاطعة.
غيّر اسمه الغربي بآخر أفريقي، واستبدل لغة المستعمر بلغته الأفريقية
إنه موقف أملاه عليه نظره إلى ما أسماه "الحقائق الأفريقية" كما هي، وفق ثنائية التراث الاستعماري الطامس والتراث المحلي المقاوِم، حيث يحظى الأول بحماية ورعاية البرجوازية العالمية بشركاتها متعددة الجنسيات، والطبقات الحاكمة الملوّحة بالعلم الوطني، لترسيخ "ثقافة قردية وببغاوية تُفرض على شعب متململ بجزمات الشرطة ورجال الدين ومثقفي السلطة والقضاة ذوي العباءات".
هنا، يستعمل واثيونغو مصطلح "القنبلة الثقافية" للتعبير عن آثار التبعية الأفريقية للمركزية الغربية، منها إبادة إيمان الشعب بأسمائه ولغاته وبيئته وثقافاته وفنونه وإرثه النضالي، ومن ثم إبادة إيمانه بنفسه.
إننا بصدد مثقف نقدي غيّر اسمه الغربي باسم أفريقي، واستبدل لغة المستعمر الغربي بلغته الأفريقية، حتى يحقق الانسجام المطلوب بين خطابه وسلوكه، ليتفادى جملة التناقضات والارتباكات التي تميز كثيراً من المحسوبين على النخبة المثقفة. وهو ما يحرمهم من القدرة على التأثير والتغيير، "فيتماهون مع كل ما هو منحط ورجعي، ويُحبسون داخل الشك في الصواب الأخلاقي للنضال".
ولأن اللغة هي المحدِّد الهوياتي الحاسم، ظلّت –بحسب واثيونغو– بؤرة الصراع بين القوتين الاجتماعيتين المتنافستين في أفريقيا القرن العشرين.
ويدين الكتاب مؤتمر برلين عام 1884، لأنه منح الحق للأوروبيين في تقسيم الفضاء الأفريقي، على أساس اقتصادي، ولكن أيضاً على أساس لغوي، حيث بات الأفارقة يرون أنفسهم من خلال اللغات الغربية، بما مهّد للمسخ والتشوّه الحضاريين، "ومن سوء الحظ أن نرى الكتّاب الذين كان عليهم أن يرسموا سبل النفاذ من ذلك التّطويق لقارتهم، يُعرّفون أنفسهم داخل الشرط اللغوي الاستعماري".
ويلتقط لنا واثيونغو بعض التصرفات الدالة على التبعية اللغوية في المشهد الكيني، منها أن زميلاً له في المرحلة الإعدادية عام 1954، كان متفوقاً في المواد كلها، لكنه كان ضعيفاً في الإنكليزية، فرسب وأصبح مناوباً في إحدى الحافلات، "بينما أُلحقتُ أنا، المتفوق فيها، بإحدى أهم الثانويات في كينيا الكولونيالية".
ويذهب بعيداً في رثاء المخيال الأفريقي، بالقول إنه من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية، درّسوه النصوص التي تمثل المدونة الأدبية الغربية: ديكنز، إليوت، غرين، غراهام، تويست، في استبعاد واضح للأدب المحلي، حيث لم يلتقِ في تلك النصوص الحيواناتِ التي تشكل خوف الإنسان الأفريقي وشغفه، "من هنا كانت اللغة والأدب يأخذاننا أبعد فأبعد عن أنفسنا نحو نفوس أخرى".
ولأن المسرح كان من أكثر الأدوات الجمالية والفكرية التي استعان بها واثيونغو في تأكيد مشروعه القائم على القطيعة المعرفية، لأنه فنّ يواجه الجمهور مباشرة، حتى يصبح شريكاً في العرض، ختم واثيونغو الذي درّس نظرية الأداء في الجامعات الأميركية، كتابه تصفية استعمار العقل بملحق تضمّن نصه المسرحي نغاهيكا ندندا، التي تروي مكابدات عائلة كيغوندا الفلاحية الفقيرة، من أجل الحفاظ على أرضها وزيادة محصولها.
ويقول إنه كتب هذه المسرحية ليقول إن فهم تاريخ كينيا وأفريقيا لا يتأتّى إلا من خلال فهم مسألة الأرض، حيث تعرّض الشعب للاستحواذ على ترابه بالغزو، والمعاهدات غير المتكافئة، وبإبادة قسم من السكان، فكأنه بصدد مقاربة المسألة الفلسطينية. يصيح أحد شخوص المسرحية: "هل نزرع يا وانغيسي فاكهة البستان؟ إننا نرفض الآن أن نُستبعد في الوطن".
وسام الشجاعة
علينا أن نعود إلى السياق التاريخي والسياسي الذي انبثقت فيه دعوة واثيونغو، حيث اضطرت دول الاحتلال الغربي إلى الخروج عسكرياً من الفضاء الأفريقي، تحت ضغط المدّ التحرّري العام، لتخلفها أنظمة محلية عسكرية تعمل على صيانة المصالح الغربية أكثر مما تصون مصالح شعوبها، لندرك حجم الشجاعة التي تحلّى بها صاحب بتلات الدم، وحجم الضغوط والاضطهادات التي تعرّض لها، إذ ليس سهلاً في ذلك السياق أن تكتب بأعلى صوتك: "إنّ أفريقيا تريد أن تستردّ اقتصادها، سياستها، ثقافتها، لغاتها، كُتّابها الوطنيين جميعاً".
* شاعر وكاتب من الجزائر
فنون
التحديثات الحية
المسرحيون الجزائريون والهاجس النقابي
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مجزرة بحق الجوعى ..  وأكثر من 100 شهيد بغزة منذ فجر الثلاثاء
مجزرة بحق الجوعى ..  وأكثر من 100 شهيد بغزة منذ فجر الثلاثاء

السوسنة

timeمنذ 16 دقائق

  • السوسنة

مجزرة بحق الجوعى .. وأكثر من 100 شهيد بغزة منذ فجر الثلاثاء

السوسنة في مجزرة جديدة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، استشهد مساء الثلاثاء 11 فلسطينباً على الأقل وأصيب عشرات آخرون. واستهدفت المجزرة منتظري المساعدات عند "مفترق الشهداء" جنوب غرب مدينة غزة، ليرتفع عدد الشهداء في القطاع منذ فجر اليوم إلى 100 شهيد على الأقل، بحسب المصادر الطبية. وأفاد مصدر طبي في مستشفى القدس التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، بوصول جثامين 8 شهداء وأكثر من 65 إصابة، جراء إطلاق الاحتلال نيرانه على منتظري المساعدات في منطقة "مفترق الشهداء"، مشيرا إلى أعداد المصابين مرشحة بالزيادة. كما أعلن مستشفى العودة في النصيرات، وصول جثامين ثلاثة شهداء وعشرات الإصابات جراء إطلاق الاحتلال نيرانه تجاه المواطنين الذين كانوا ينتظرون المساعدات، وسط القطاع. وفي وقت سابق، استشهد 10 فلسطينيين وأصيب آخرون، في مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بقصفه منزلا يعود لعائلة أبو سمرة في شارع كشكو بحي الزيتون شرق مدينة غزة. كما قصف الاحتلال تجمعا في شارع المدهون بالحي، ما أسفر عن وقوع عدد من الشهداء والجرحى. كما قصف الاحتلال منزلا في حي التفاح، وبوابة مدرسة صلاح الدين في حي الدرج، شرق مدينة غزة، ما أسفر عن وقوع عدد من الشهداء والجرحى والمفقودين تحت الأنقاض. وأعلن مصدر طبي في مجمع ناصر الطبي في خان يونس، ارتفاع عدد الشهداء إلى 50 شهيدا في جنوب القطاع منذ فجر اليوم، بينهم 7 شهداء من منتظري المساعدات. واستشهد شخصان وأصيب آخرون في قصف الاحتلال مدرسة تابعة للأونروا تؤوي نازحين في مخيم المغازي وسط القطاع. واستشهد خمسة أشخاص بينهم طفل وطفلة وأصيب آخرون، جراء قصف الاحتلال خياما تؤوي نازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس، جرى نقلهم إلى مستشفى الكويت التخصصي الميداني "شفاء فلسطين". واستشهد شخصان في قصف الاحتلال منزلا في منطقة جورة العقاد شمال مدينة خان يونس.

فرقة "بوب فيلان" ترفض الانتقادات: يتم استهدافنا لحديثنا عن غزة في مهرجان غلاستونبري
فرقة "بوب فيلان" ترفض الانتقادات: يتم استهدافنا لحديثنا عن غزة في مهرجان غلاستونبري

روسيا اليوم

timeمنذ 16 دقائق

  • روسيا اليوم

فرقة "بوب فيلان" ترفض الانتقادات: يتم استهدافنا لحديثنا عن غزة في مهرجان غلاستونبري

وأوضحت الفرقة في بيان أنه "يتم استهدافها بسبب التحدث عن الحرب في غزة". وفي بيان على مواقع التواصل، قالت "بوب فيلان": "نحن لسنا من دعاة موت اليهود أو العرب أو أي عرق أو مجموعة أخرى من الناس. نحن من دعاة تفكيك الآلة العسكرية العنيفة، آلة دمرت الكثير من غزة". وقالت الشرطة البريطانية أمس الاثنين إن العروض الغنائية لفرقتي "بوب فيلان" و"نيكاب" الناطقة باللغة الإيرلندية في مهرجان غلاستونبري سوف تخضع لتحقيق جنائي، وذلك بعد ترديد شعارات "الموت" للجيش الإسرائيلي و"فلسطين حرة". وقالت الشرطة إن العروض، في أكبر مهرجان موسيقي صيفي في بريطانيا "تم تسجيلها على أنها حادثة مرتبطة بالنظام العام". وقاد مغني الراب بوب فيلان الحشود لترديد هتافات "فلسطين حرة، فلسطين حرة" و"الموت.. الموت للجيش الإسرائيلي". وقالت "بي بي سي" إنها تأسف للبث المباشر للمهرجان وإن "المشاعر المعادية للسامية التي عبر عنها بوب فيلان غير مقبولة مطلقا ولا مكان لها على موجاتنا"، مضيفة أنها "تحترم حرية التعبير، لكنها تقف بحزم ضد التحريض على العنف". وأدان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وسياسيون بريطانيون الهتافات، قائلين إنه "لا يوجد مبرر لمثل خطاب الكراهية المروع هذا". في غضون ذلك، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها ألغت تأشيرات دخول فرقة بوب فيلان بعدما تعرضت الفرقة لانتقادات شديدة لترديدها هتافات "الموت" للجيش الإسرائيلي. وقال نائب وزير الخارجية كريستوفر لاندو في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي إن "الأجانب الذين يمجدون العنف والكراهية غير مرحب بهم في بلدنا".المصدر: RT + "أ ب" قالت الشرطة البريطانية إن محققي مكافحة الإرهاب بدأوا تحقيقا بشأن تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها أعضاء فرقة الهيب هوب الإيرلندية Kneecap.

هل دمر الجيشان الإسرائيلي والأمريكي كل قدرات إيران؟
هل دمر الجيشان الإسرائيلي والأمريكي كل قدرات إيران؟

روسيا اليوم

timeمنذ 16 دقائق

  • روسيا اليوم

هل دمر الجيشان الإسرائيلي والأمريكي كل قدرات إيران؟

واستبعد عراقجي استئناف المفوضات قريبا، مشددا على استحالة القضاء على التكنولوجيا والعلوم اللازمة لتخصيب اليورانيوم عبر القصف.. وبينما يزعم ترامب أنه قضى على البرنامج النووي الإيراني، تقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن ايران يمكن أن تستأنف التخصيب خلال أشهر، وتطالب بعودة مفتيشها إلى المواقع النووية الإيرانية.فهل تنذر التصريحات بمواجهة عسكرية جديدة بين الطرفين؟ وهل يتفقان على العودة للتفاوض؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store