
المساعدات الإنسانية بين القانون الدولي وممارسات الاحتلال غزة نموذجًا.. بقلم د. وسيم وني
في مشهد يجسد عمق المأساة التي يعانيها شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، لم تأتِ الكارثة فقط من السماء، بل امتدت إلى الأرض، حيث تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى مصائد للموت ، فقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية شهادات صادمة لجنود الاحتلال، أقرّوا خلالها بتنفيذ أوامر مباشرة بإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين أثناء انتظارهم للحصول على الغذاء في شمال القطاع.
تُشكّل هذه الشهادات المروعة، والتي وُصفت بأنها 'إدانة ذاتية غير مسبوقة'، تطورًا بالغ الأهمية والخطورة، ليس فقط على المستوى الإنساني، بل على المستوى السياسي والقانوني أيضًا، إذ لم تعد الصورة قابلة للتأويل أو الغموض نحن الآن أمام سياسة مكتملة الأركان، تستخدم التجويع كوسيلة حرب، وتحوّل نقاط الإغاثة إلى ساحات إعدام جماعي بأبشع صور الإجرام على مر العصور.
'أُمرنا بإطلاق النار'… عندما يصبح الجوع هدفًا عسكريًا'
أُمرنا بإطلاق النار على كل من يقترب من الشاحنات'، هذه العبارة التي وردت على لسان أحد الجنود لا تحتمل اللبس فيها فهي تشكل اعتراف علني بالمجزرة وفق ما نقلته الصحيفة، لم يكن إطلاق النار ردًا على خطر، بل تنفيذًا لتوجيهات عسكرية مسبقة، ما يكشف أن ما جرى لم يكن 'تجاوزًا فرديًا'، بل سلوكًا مؤسسيًا ينبع من رأس الهرم العسكري الاسرائيلي الذي يمارس الإبادة الجماعية في غزة .
المدنيون الجوعى الذين أنهكتهم آلة القتل اندفعوا صوب شاحنات الإغاثة بحثًا عن كسرة خبز وُوجهوا بالرصاص الحي والرشاشات الثقيلة وقذائف الهاون ولم تفرق آلة القتل بين كبير أو صغير وحتى بين رجل أوإمرأة ، هذه الوقائع إذا ما تمت مقارنتها بالمعايير القانونية الدولية، تصنّف دون تردد على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تُمارس ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل.
المنظور القانوني: الإدانة واضحة
وفق القانون الدولي:⦁ يُعد القتل العمد للمدنيين جريمة حرب بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي.⦁ تعتبر اتفاقية جنيف الرابعة في مادتها (147) أن القتل المتعمد انتهاك جسيم يستوجب الملاحقة.
⦁ كما تحظر المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول استخدام التجويع كسلاح.
كل ما نراه اليوم في غزة هو تجسيد لهذه الجرائم مجتمعة، فالمساعدات، التي من المفترض أن تكون طوق نجاة لأبناء شعبنا الفلسطيني، أصبحت تستخدم كشرك قاتل، وتحوّل المدني الجائع إلى 'هدف مشروع' في عُرف وعقيدة جيش الاحتلال.
'غزة خارج القانون': اعتراف عنصري بنظام فصل دموي
إحدى الشهادات التي نشرتها الصحيفة نُقلت عن جندي يقول: 'غزة مكان بقواعد مختلفة، لا تطبّق فيها قوانين الحرب'. هذا التصريح لا يمكن عزله عن السياق العام لعقيدة وممارسات الاحتلال، الذي يُمارس فصلًا عنصريًا ممنهجًا، ويُجرد شعبنا الفلسطيني من أي حماية قانونية، في خرق فاضح للمادة (7) من نظام روما الأساسي.
كما أن وصف المدنيين بأنهم 'قوة مهاجمة' يُذكّر بممارسات مرعبة من تاريخ الإبادة الجماعية في البوسنة ورواندا، حيث كان الضحايا يُجرّدون من إنسانيتهم أولًا، ثم يُستباح دمهم باسم 'الردع' و'الأمن'.
غياب التناسب وتعميم القتل
تؤكد الشهادات استخدام أسلحة ثقيلة ضد المدنيين المتجمهرين، في انتهاك واضح لمبدأ التناسب الذي يشكّل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني. لا يمكن لعاقل أن يقبل بأن إطلاق النار العشوائي على الجوعى يمكن تبريره تحت أي مسمى، وهو ما يجعل هذه الوقائع جرائم لا تسقط بالتقادم.
من الإفلات إلى المطالبة بالمحاسبة
الخطير في هذه الاعترافات، كما نشرت الصحيفة، أن الجنود لم يواجهوا أي مساءلة داخلية، ما يعكس موافقة ضمنية وربما دعمًا علنيًا من قياداتهم ، هذه الثقافة المتجذرة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تشكّل بيئة خصبة لاستمرار الجرائم، في ظل صمت دولي يُعبّرعن انهيار أخلاقي وسياسي لنظام العدالة الدولي وخاصة عندما يتعلق الأمر بشعبنا الفلسطيني.
دعوة مفتوحة للمحكمة الجنائية الدولية
أمام هذه الأدلة الصريحة، لم يعد هناك مجال للتأجيل أو التردد فالمطلوب اليوم من المحكمة الجنائية الدولية:⦁ فتح تحقيق فوري وشامل استنادًا إلى الشهادات المنشورة.⦁ إصدار مذكرات توقيف دولية بحق المسؤولين عن السياسات العسكرية في غزة.⦁ تفعيل الولاية القضائية العالمية في الدول التي تتيح ذلك.⦁ ورفض ازدواجية المعايير في التعامل مع جرائم الحرب.
إن عدم محاسبة الجناة في غزة لا يعني فقط تواطؤًا دوليًا، بل إنه يشكّل تهديدًا وجوديًا لفكرة العدالة كما عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية.
حين يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري
في غزة اليوم، تُسلّح إسرائيل الطعام، وتُجرّم الحياة، وإن لم يتحرك العالم الآن، فلن تكون غزة آخر الأماكن التي تتحوّل فيها المساعدات إلى مقابر مفتوحة.
وأختتم مادتي بأن ما ورد في الشهادات الصادرة عن جنود من جيش الاحتلال لا يُعد مجرد روايات شخصية أو سلوكيات معزولة، بل يمثل اعترافًا موثقًا بسلوك ممنهج ينطوي على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني ، هذه الأفعال من استهداف المدنيين العزّل خلال تسلّم المساعدات، إلى استخدام القوة المفرطة، إلى سياسات التجويع الممنهج تشكّل عناصر مكتملة الأركان لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي واتفاقيات جنيف.
أمام هذا الواقع، لا يجوز أن يبقى المجتمع الدولي في موقع المتفرج. فالصمت لا يبرر فقط استمرار الانتهاكات، بل يمنحها شرعية ضمنية، وعلى المحكمة الجنائية الدولية، ومعها مؤسسات العدالة الدولية، أن تمارس اختصاصها دون تردد، وأن تعيد الاعتبار لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، الذي يُعد حجر الزاوية في النظام القانوني الدولي.
ومن هذا المنبر نناشد المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، وكافة الهيئات القضائية المختصة، بضرورة فتح تحقيق دولي مستقل وعاجل في هذه الجرائم الموثقة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمساءلة المسؤولين عنها سواء من أصدروا الأوامر أو من نفذوها وفقًا لأحكام القانون الدولي.
كما وندعو الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي إلى تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، وعدم التذرع بالاعتبارات السياسية على حساب العدالة الإنسانية.
إن غزة، اليوم، لا تطالب فقط بالنجدة الإنسانية، بل بالمحاسبة القانونية على الإبادة الجماعية بحق شعبنا الفلسطيني فالتاريخ لا يُكتَب بالبيانات، بل بالأحكام القضائية العادلة التي تُنصف الضحايا وتُرسي معايير الردع وتوقف جرائم الاحتلال. – د. وسيم وني – عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين .

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 3 ساعات
- معا الاخبارية
هل يوجد لدى السلطة الفلسطينية الحق في إصدار عملة ورقية أو معدنية خاصة بها.؟
تزايدت الأصوات التي تُنادي وتقترح على السلطة الفلسطينية اصدار عملة نقدية خاصة بها في ظل ما يُعانيه القطاع المالي والقطاع الاقتصادي من أزمات تتزايد يومًا بعد يوم وأهمها: 1- أزمة تكدس الشيكل وعدم موافقة إسرائيل على نقله للبنك المركزي لديها، أظهرت تقديرات سلطة النقد بشهر 5/2025 بوجود 3.8 مليار شيكل في مخازن البنوك الفلسطينية. 2- أزمة عدم تمديد الضمان القانوني الذي يحمي البنوك الإسرائيلية عند تعاملها مع البنوك الفلسطينية. "الضمان القانوني": يعني إعفاء البنوك الإسرائيلية من المسؤولية القانونية في حال تعاملها مع البنوك الفلسطينية. ومن هذه التعاملات التحويلات المالية، المقاصة البنكية، وتسوية المعاملات المالية. منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، بقي الحلم بإصدار عملة وطنية فلسطينية يراوح مكانه، ليس بسبب نقص الإرادة فقط، بل بسبب قيود قانونية فرضها بروتوكول باريس الاقتصادي الذي يُعد الإطار المرجعي للعلاقات المالية بين فلسطين وإسرائيل. فكيف حكم هذا البروتوكول على السيادة النقدية الفلسطينية بالإعدام؟ القيد الأكبر: المادة 4(10) من بروتوكول باريس الاقتصادي ينص الملحق الرابع للبروتوكول (المتعلق بالشؤون النقدية) في المادة 4(10): ونصها " لا يحق للسلطة الفلسطينية إصدار عملة ورقية أو معدنية كعملة قانونية" (الترجمة العربية الرسمية للبروتوكول). النص الأصلي باللغة الإنجليزية. "The Palestinian Authority will not have the power to issue bank notes or coin currency as legal tender." 1. (المادة 4(1)) العملات المتداولة: يُسمح للسلطة الفلسطينية باستخدام عدة عملات كعملة قانونية للتداول في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي: o الشيكل الجديد الإسرائيلي (NIS): وهو العملة السائدة والأساسية. o الدينار الأردني (JD). o العملات المعدنية الإسرائيلية والأردنية والفلسطينية المتداولة قانوناً في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل تاريخ توقيع هذا البروتوكول. هذا يشير إلى العملات المعدنية الأردنية القديمة والإسرائيلية، وليس إلى أي عملة فلسطينية جديدة. 2. النظام النقدي الحالي: لدى السلطة الفلسطينية سلطة نقدية محدودة جداً، تركز بشكل أساسي على تنظيم القطاع المصرفي تحت إشراف سلطة النقد الفلسطينية، لكن دون القدرة على إصدار عملة ذات سيادة أو تحديد سياسة نقدية مستقلة (مثل أسعار الفائدة). رغم القيود، توجد محاولات لتقويض هيمنة البروتوكول والذي يحدث كل 5 سنوات واخر تحديث له كان عام (2018). لكن العقبة الأكبر تبقى السياسية: إسرائيل تُشترط موافقتها لأي تعديل، وهو ما يُعد مستحيلاً تحت موازين القوى الحالية. رغم كل الدعوات والمقترحات الرامية إلى كسر التبعية النقدية لإسرائيل وفك الارتباط الاقتصادي في وضع تهيمن فيه عملة الشيكل بما نسبته 87% من التداول في السوق المحلي حسب بيانات سلطة النقد لعام 2024 يظل الحق القانوني لإصدار عملة فلسطينية ورقية أو معدنية مُصادَرًا بموجب المادة 4(10) من بروتوكول باريس. هذه ليست مجرد قيود تقنية، بل ضربة لصميم السيادة الفلسطينية. الأزمتان الراهنتان – تكدس 3.8 مليار شيكل وانتهاء الضمان القانوني للتعاملات المصرفية مع إسرائيل – ليستا سوى نتائج اقتصاد مُكبَّل بقيود اتفاقٍ لم يُعد يعكس واقعًا تغيرَ على الأرض، خاصة بعد الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة كاملة العضوية. المخرج لا يكمن في انتظار تعديل البروتوكول (الذي تشترط إسرائيل موافقتَها عليه)، بل في اختراقه عبر آليات ذكية منها: • تطوير عملة رقمية سيادية لتجاوز حظر الإصدار الورقي. • تفعيل نظام مقاصة بديل مع الأردن والدول العربية. • تحويل أزمة التكدس إلى فرصة لإنشاء صندوق سيادي لإدارة الفائض النقدي. "غياب العملة الوطنية ليس عجزًا ماليًّا فحسب، بل علامة على استمرار الاحتلال بثوبه الاقتصادي. التحدي اليوم ليس في الجدوى الفنية – فهي ممكنة – بل في تحويل الإرادة السياسية إلى فعل ملموس على ارض الواقع.


معا الاخبارية
منذ 11 ساعات
- معا الاخبارية
بن غفير وسموتريتش يقودان تحركا لافشال صفقة التبادل ووقف إطلاق النار
بيت لحم معا- تحدث رئيس حزب "عوتسما يهوديت" الوزير إيتمار بن جفير اليوم (الأربعاء) إلى رئيس الحزب الصهيوني الديني الوزير بتسلئيل سموتريتش ودعاه إلى الانضمام إليه ومعارضة اتفاق إطلاق سراح الاسرى الذي يتضمن وقف إطلاق النار. وبحسب التقرير الذي بثته القناة 12، فإن هذا المقترح يأتي بعد أن قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الليلة، إن إسرائيل أعطت الضوء الأخضر لخطة وقف إطلاق النار لمدة 60 يوما يتم خلالها إطلاق سراح الرهائن. وبحسب التقرير، قال مصدر مقرب من سموتريتش: "لم نتلقَّ اتصالاً من بن غفير، ولم يُحدَّد موعدٌ للقاءٍ معه اليوم. إن قضية النصر في غزة بالغة الأهمية، وحياة الرهائن ثمينةٌ للغاية، ولا مجالَ للخوض في لعبةِ الإحاطات الإعلامية". وبحسب صحيفة هآرتس فإن نتنياهو أخبر مؤخرًا أنه إذا عارض بن غفير وسموتريتش الاتفاق، "فهو لا يحتاج إليهما، لأن لديه هامشًا واسعًا من الأصوات". وهاجم وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر اليوم (الأربعاء) الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن جفير، بعد تقارير عن قيام بن جفير بممارسة ضغوط على سموتريتش للعمل معًا لإحباط صفقة الرهائن ووقف إطلاق النار التي يروج لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. قال ساعر: "هناك أغلبية كبيرة في الحكومة والشعب يؤيد خطة إطلاق سراح الرهائن. إذا أتيحت فرصة لذلك، فلا ينبغي تفويتها!" في الوقت نفسه، وجّه زعيم المعارضة يائير لابيد نداءً إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قائلاً إنه سيدعم صفقة الرهائن بدلًا من وزراء الصهيونية الدينية وحزب "عوتسما يهوديت". وقال: "نتنياهو، مقارنةً بأصابع بن غفير وسموتريتس الثلاثة عشر، لديك ثلاثة وعشرون إصبعًا مني كشبكة أمان لصفقة الرهائن. علينا إعادة الجميع إلى ديارهم الآن".


شبكة أنباء شفا
منذ يوم واحد
- شبكة أنباء شفا
المساعدات الإنسانية بين القانون الدولي وممارسات الاحتلال غزة نموذجًا.. بقلم د. وسيم وني
المساعدات الإنسانية بين القانون الدولي وممارسات الاحتلال غزة نموذجًا.. بقلم د. وسيم وني في مشهد يجسد عمق المأساة التي يعانيها شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، لم تأتِ الكارثة فقط من السماء، بل امتدت إلى الأرض، حيث تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى مصائد للموت ، فقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية شهادات صادمة لجنود الاحتلال، أقرّوا خلالها بتنفيذ أوامر مباشرة بإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين أثناء انتظارهم للحصول على الغذاء في شمال القطاع. تُشكّل هذه الشهادات المروعة، والتي وُصفت بأنها 'إدانة ذاتية غير مسبوقة'، تطورًا بالغ الأهمية والخطورة، ليس فقط على المستوى الإنساني، بل على المستوى السياسي والقانوني أيضًا، إذ لم تعد الصورة قابلة للتأويل أو الغموض نحن الآن أمام سياسة مكتملة الأركان، تستخدم التجويع كوسيلة حرب، وتحوّل نقاط الإغاثة إلى ساحات إعدام جماعي بأبشع صور الإجرام على مر العصور. 'أُمرنا بإطلاق النار'… عندما يصبح الجوع هدفًا عسكريًا' أُمرنا بإطلاق النار على كل من يقترب من الشاحنات'، هذه العبارة التي وردت على لسان أحد الجنود لا تحتمل اللبس فيها فهي تشكل اعتراف علني بالمجزرة وفق ما نقلته الصحيفة، لم يكن إطلاق النار ردًا على خطر، بل تنفيذًا لتوجيهات عسكرية مسبقة، ما يكشف أن ما جرى لم يكن 'تجاوزًا فرديًا'، بل سلوكًا مؤسسيًا ينبع من رأس الهرم العسكري الاسرائيلي الذي يمارس الإبادة الجماعية في غزة . المدنيون الجوعى الذين أنهكتهم آلة القتل اندفعوا صوب شاحنات الإغاثة بحثًا عن كسرة خبز وُوجهوا بالرصاص الحي والرشاشات الثقيلة وقذائف الهاون ولم تفرق آلة القتل بين كبير أو صغير وحتى بين رجل أوإمرأة ، هذه الوقائع إذا ما تمت مقارنتها بالمعايير القانونية الدولية، تصنّف دون تردد على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تُمارس ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل. المنظور القانوني: الإدانة واضحة وفق القانون الدولي:⦁ يُعد القتل العمد للمدنيين جريمة حرب بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي.⦁ تعتبر اتفاقية جنيف الرابعة في مادتها (147) أن القتل المتعمد انتهاك جسيم يستوجب الملاحقة. ⦁ كما تحظر المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول استخدام التجويع كسلاح. كل ما نراه اليوم في غزة هو تجسيد لهذه الجرائم مجتمعة، فالمساعدات، التي من المفترض أن تكون طوق نجاة لأبناء شعبنا الفلسطيني، أصبحت تستخدم كشرك قاتل، وتحوّل المدني الجائع إلى 'هدف مشروع' في عُرف وعقيدة جيش الاحتلال. 'غزة خارج القانون': اعتراف عنصري بنظام فصل دموي إحدى الشهادات التي نشرتها الصحيفة نُقلت عن جندي يقول: 'غزة مكان بقواعد مختلفة، لا تطبّق فيها قوانين الحرب'. هذا التصريح لا يمكن عزله عن السياق العام لعقيدة وممارسات الاحتلال، الذي يُمارس فصلًا عنصريًا ممنهجًا، ويُجرد شعبنا الفلسطيني من أي حماية قانونية، في خرق فاضح للمادة (7) من نظام روما الأساسي. كما أن وصف المدنيين بأنهم 'قوة مهاجمة' يُذكّر بممارسات مرعبة من تاريخ الإبادة الجماعية في البوسنة ورواندا، حيث كان الضحايا يُجرّدون من إنسانيتهم أولًا، ثم يُستباح دمهم باسم 'الردع' و'الأمن'. غياب التناسب وتعميم القتل تؤكد الشهادات استخدام أسلحة ثقيلة ضد المدنيين المتجمهرين، في انتهاك واضح لمبدأ التناسب الذي يشكّل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني. لا يمكن لعاقل أن يقبل بأن إطلاق النار العشوائي على الجوعى يمكن تبريره تحت أي مسمى، وهو ما يجعل هذه الوقائع جرائم لا تسقط بالتقادم. من الإفلات إلى المطالبة بالمحاسبة الخطير في هذه الاعترافات، كما نشرت الصحيفة، أن الجنود لم يواجهوا أي مساءلة داخلية، ما يعكس موافقة ضمنية وربما دعمًا علنيًا من قياداتهم ، هذه الثقافة المتجذرة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تشكّل بيئة خصبة لاستمرار الجرائم، في ظل صمت دولي يُعبّرعن انهيار أخلاقي وسياسي لنظام العدالة الدولي وخاصة عندما يتعلق الأمر بشعبنا الفلسطيني. دعوة مفتوحة للمحكمة الجنائية الدولية أمام هذه الأدلة الصريحة، لم يعد هناك مجال للتأجيل أو التردد فالمطلوب اليوم من المحكمة الجنائية الدولية:⦁ فتح تحقيق فوري وشامل استنادًا إلى الشهادات المنشورة.⦁ إصدار مذكرات توقيف دولية بحق المسؤولين عن السياسات العسكرية في غزة.⦁ تفعيل الولاية القضائية العالمية في الدول التي تتيح ذلك.⦁ ورفض ازدواجية المعايير في التعامل مع جرائم الحرب. إن عدم محاسبة الجناة في غزة لا يعني فقط تواطؤًا دوليًا، بل إنه يشكّل تهديدًا وجوديًا لفكرة العدالة كما عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية. حين يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري في غزة اليوم، تُسلّح إسرائيل الطعام، وتُجرّم الحياة، وإن لم يتحرك العالم الآن، فلن تكون غزة آخر الأماكن التي تتحوّل فيها المساعدات إلى مقابر مفتوحة. وأختتم مادتي بأن ما ورد في الشهادات الصادرة عن جنود من جيش الاحتلال لا يُعد مجرد روايات شخصية أو سلوكيات معزولة، بل يمثل اعترافًا موثقًا بسلوك ممنهج ينطوي على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني ، هذه الأفعال من استهداف المدنيين العزّل خلال تسلّم المساعدات، إلى استخدام القوة المفرطة، إلى سياسات التجويع الممنهج تشكّل عناصر مكتملة الأركان لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي واتفاقيات جنيف. أمام هذا الواقع، لا يجوز أن يبقى المجتمع الدولي في موقع المتفرج. فالصمت لا يبرر فقط استمرار الانتهاكات، بل يمنحها شرعية ضمنية، وعلى المحكمة الجنائية الدولية، ومعها مؤسسات العدالة الدولية، أن تمارس اختصاصها دون تردد، وأن تعيد الاعتبار لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، الذي يُعد حجر الزاوية في النظام القانوني الدولي. ومن هذا المنبر نناشد المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، وكافة الهيئات القضائية المختصة، بضرورة فتح تحقيق دولي مستقل وعاجل في هذه الجرائم الموثقة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمساءلة المسؤولين عنها سواء من أصدروا الأوامر أو من نفذوها وفقًا لأحكام القانون الدولي. كما وندعو الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي إلى تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، وعدم التذرع بالاعتبارات السياسية على حساب العدالة الإنسانية. إن غزة، اليوم، لا تطالب فقط بالنجدة الإنسانية، بل بالمحاسبة القانونية على الإبادة الجماعية بحق شعبنا الفلسطيني فالتاريخ لا يُكتَب بالبيانات، بل بالأحكام القضائية العادلة التي تُنصف الضحايا وتُرسي معايير الردع وتوقف جرائم الاحتلال. – د. وسيم وني – عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين .