معنى أن تكون شيعيّاً بعد الحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة
لأوّل مرّة، لا يُسأل فقط عن نتائج المواجهة بمنطق الربح والخسارة، بل تُطرح أسئلة كبرى بشأن مستقبل المشروع العقائدي نفسه، وطبيعته الأصليّة، وبشأن مستقبله ووجوده كفاعل اجتماعي وسياسيّ في الإقليم.
أصابت الضربات الإسرائيلية، ثمّ الأميركية، صلب المشروع الإيراني، بمنشآته النوويّة، وبنيته العسكرية والأمنيّة والعلميّة، لكن أيضاً أصابت البنية الثورية والعقائدية والتاريخية لمشروع 'ولاية الفقيه'، بوصفه مشروع سلطة عابرة للحدود، متجاوزة للدول وناطقة باسم 'حقّ إلهيّ' في السياسة.
تشابه جزئيّ
لا يخطئ من يقارن بين حزيران 2025 وحزيران 1967، أو بين مآلات الخمينيّة والناصريّة بعد الاصطدام المباشر لكلّ منهما مع إسرائيل. بيد أنّ ما يخطر لي أنّ ما حصل بين إسرائيل وإيران، يتشابه جزئيّاً، في نتائجه التغييريّة، ومن حيث عمق وتاريخيّة الأسئلة التي يطرحها، مع ما واجهته الكنيسة الكاثوليكية عام 1870 حين دخلت قوّات جوزيبي غاريبالدي إلى روما، وأعلنت ضمّ ما بقي من 'الدولة البابوية' إلى مملكة إيطاليا الموحّدة، منهيةً السلطة الزمنية للكنيسة الكاثوليكية وفارضة ما يشبه الحصار على البابا في الفاتيكان.
توّجت حملة غاريبالدي مساراً انحداريّاً طويلاً كانت مهّدت له، قبل ثمانين عاماً الثورة الفرنسية، التي صادرت أملاك الكنيسة، وألغت امتيازاتها، وفرضت عليها الولاء للجمهورية بدلاً من الولاء للبابا، عبر 'الدستور المدني لرجال الدين'، الذي أقرّته الجمعية الوطنية الفرنسية في عام 1790.
فتح هذا النزع للقداسة عن سلطة الكنيسة الباب أمام تحوّلات عميقة وفلسفيّة جرت في صلب فكرتَي المواطنة والدولة. وما لبث أن استكمل نابوليون هذا التحوّل، حين أجبر البابا بيوس السابع في عام 1801، على توقيع وثيقة 'الكونكوردات' التي أخضعت الكنيسة لشروط الدولة الفرنسية الحديثة، ثمّ قام لاحقاً باعتقاله ونفيه، في لحظة انتصار معنويّ ألغى صيغة الشراكة في الحكم بين الاثنين.
يحصل شيء من هذه الخلخلة لسلطة ولاية الفقيه الزمنيّة بوصفها 'كنيسة التشييع الولائيّ'. فالجمهورية الإسلامية في إيران تقدّم نفسها كسلطة سياسية تعمل على تهيئة الظروف لظهور الإمام المهدي، الغائب في العقيدة الشيعية الاثني عشريّة. وفق هذا التصوّر، تدير ولاية الفقيه مرحلة الغيبة، وتمتلك شرعيّة 'الوصاية المؤقّتة' باسم الإمام.
والحال، لا تُدار إيران-الخمينيّة كدولة وطنية، بل بوصفها حالة انتقالية في مشروع إلهي أكبر، يبرّر تدخّلها في دول الجوار، عبر 'الحزب'، وبعض فصائل الحشد الشعبي، والحوثيّين، ولفيف عريض من الميليشيات من أفغانستان وباكستان ودول إفريقيّة، وآخرين! وتوظّف تسويقها للصراع مع إسرائيل وداعش والغرب والنظام العربي الرسمي كجزء من هذا 'التمهيد'، وتنقل 'المهدويّة' من عقيدة روحيّة إلى أيديولوجية سياسية توسّعية.
أنتج هذا المسار تحويل قطاعات واسعة من الشيعة في العالم، لا سيما في لبنان والعراق واليمن، من جماعات دينية أو مكوّنات وطنيّة إلى 'طائفة وظيفيّة' مقاتلة تعمل ضمن مشروع إقليمي ذي طابع عقائدي-سياسي، لا وطني. رُبط ولاء الشيعة، ثقافيّاً وتنظيميّاً وأمنيّاً، بمركز القرار في قُم وطهران، وليس بعواصمهم الأصليّة، كممثّلين لعقيدة لا تعترف بحدود الدولة الثابتة، بل بحدود الثورة المتحرّكة.
إعادة بناء الهويّة
وعليه، لا شكّ في أنّ خلخلة ولاية الفقيه وتراجع هيمنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية يواجهان 'التشيّع' بتحدّيات معقّدة تهدّد مسارات اللحظة المفصليّة المُعاشة. يبدأ ذلك من خطر التشتّت الناجم عن غياب مرجعيّة موحّدة وسط تنافس بين التيّارات التقليدية والإصلاحية، مروراً بالفراغ السياسي الذي قد يعرّض المجتمعات الشيعيّة في العراق ولبنان لصراعات داخلية أو ضغوط خارجية، وصولاً إلى استفحال الأزمات الاقتصادية، والضغوط الدولية، المغرية بالتطرّف والعناد. تعقّد هذه العناصر إعادة بناء هويّة شيعيّة منفتحة على فضاءات وطنيّة أرحب.
وإذ يعتري القلق الوجوديّ الكثير من الشيعة في العالم، بعد معاينة نتائج الحرب، وجب التنبّه إلى أنّ الإيمان الكاثوليكي، لم يختفِ، حين بدأت الكنيسة تفقد سيادتها الزمنيّة في القرن الثامن عشر، بل أُعيد توطينه داخل المجال الروحيّ، بعيداً عن السلطة السياسية.
على الرغم من التحدّيات، الفرصة ماثلة اليوم في الفضاء الشيعي لينتهي الالتباس بين المذهب والدولة، ولتنتصر المواطنة على العقيدة، والعقل السياسي على اللاهوت. إنّها لحظة نادرة يُعاد فيها طرح سؤال: ما معنى أن تكون شيعيّاً في زمن ما بعد مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران؟
ثمّة بدايات واعدة لوعي مدنيّ قائم على الحقوق والمساواة والمواطنة، تمثّلها احتجاجات 'تشرين' في العراق وتظاهرات 'المرأة، الحياة، الحرّية' في إيران، والانخراط الأوسع للشيعة في الحراك المدني العامّ المتجدّد في لبنان. أكثر من أيّ وقت مضى يفصح الاجتماع الشيعي، عن استعداد لفكّ الارتباط القسريّ بين التشيّع والدولة الثيوقراطيّة، وإعادة تأطيره كمنظومة روحيّة وأخلاقيّة، لا كمشروع أيديولوجيّ أو جهاز خارجيّ فوق الدولة.
لم تنتهِ أدوات الهيمنة الخمينيّة داخل المجتمعات الشيعيّة، كالميليشيات وشبكات الولاء والإعلام، لكنّها تعيش لحظة انكشاف تاريخي بعد الحرب، تُضعف قدرتها على ادّعاء أنّها الهويّة البديلة للشيعة، بالشكل العابر للدول والحدود.
وهي لحظة، كما بعد الثورة الفرنسية وما تلاها، إن أُحسن التقاطها، قد تُفضي إلى ولادة تشيّع جديد: مدنيّ، وطنيّ، تعدّدي، وغير وظيفيّ.
نديم قطيش - اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الجزائرية
منذ يوم واحد
- الشرق الجزائرية
معنى أن تكون شيعيّاً بعد الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة
«أساس ميديا» تتجاوز حرب الأيّام الـ12 بين إيران وإسرائيل كونها فصلاً جديداً في مسلسل الصراع بين الطرفين فحسب، بل إنّها نقطة تحوُّل فرضت نفسها على البنية العقائدية والسياسية للتشيّع السياسي في الشرق الأوسط. لأوّل مرّة، لا يُسأل فقط عن نتائج المواجهة بمنطق الربح والخسارة، بل تُطرح أسئلة كبرى بشأن مستقبل المشروع العقائدي نفسه، وطبيعته الأصليّة، وبشأن مستقبله ووجوده كفاعل اجتماعي وسياسيّ في الإقليم. أصابت الضربات الإسرائيلية، ثمّ الأميركية، صلب المشروع الإيراني، بمنشآته النوويّة، وبنيته العسكرية والأمنيّة والعلميّة، لكن أيضاً أصابت البنية الثورية والعقائدية والتاريخية لمشروع 'ولاية الفقيه'، بوصفه مشروع سلطة عابرة للحدود، متجاوزة للدول وناطقة باسم 'حقّ إلهيّ' في السياسة. تشابه جزئيّ لا يخطئ من يقارن بين حزيران 2025 وحزيران 1967، أو بين مآلات الخمينيّة والناصريّة بعد الاصطدام المباشر لكلّ منهما مع إسرائيل. بيد أنّ ما يخطر لي أنّ ما حصل بين إسرائيل وإيران، يتشابه جزئيّاً، في نتائجه التغييريّة، ومن حيث عمق وتاريخيّة الأسئلة التي يطرحها، مع ما واجهته الكنيسة الكاثوليكية عام 1870 حين دخلت قوّات جوزيبي غاريبالدي إلى روما، وأعلنت ضمّ ما بقي من 'الدولة البابوية' إلى مملكة إيطاليا الموحّدة، منهيةً السلطة الزمنية للكنيسة الكاثوليكية وفارضة ما يشبه الحصار على البابا في الفاتيكان. توّجت حملة غاريبالدي مساراً انحداريّاً طويلاً كانت مهّدت له، قبل ثمانين عاماً الثورة الفرنسية، التي صادرت أملاك الكنيسة، وألغت امتيازاتها، وفرضت عليها الولاء للجمهورية بدلاً من الولاء للبابا، عبر 'الدستور المدني لرجال الدين'، الذي أقرّته الجمعية الوطنية الفرنسية في عام 1790. فتح هذا النزع للقداسة عن سلطة الكنيسة الباب أمام تحوّلات عميقة وفلسفيّة جرت في صلب فكرتَي المواطنة والدولة. وما لبث أن استكمل نابوليون هذا التحوّل، حين أجبر البابا بيوس السابع في عام 1801، على توقيع وثيقة 'الكونكوردات' التي أخضعت الكنيسة لشروط الدولة الفرنسية الحديثة، ثمّ قام لاحقاً باعتقاله ونفيه، في لحظة انتصار معنويّ ألغى صيغة الشراكة في الحكم بين الاثنين. يحصل شيء من هذه الخلخلة لسلطة ولاية الفقيه الزمنيّة بوصفها 'كنيسة التشييع الولائيّ'. فالجمهورية الإسلامية في إيران تقدّم نفسها كسلطة سياسية تعمل على تهيئة الظروف لظهور الإمام المهدي، الغائب في العقيدة الشيعية الاثني عشريّة. وفق هذا التصوّر، تدير ولاية الفقيه مرحلة الغيبة، وتمتلك شرعيّة 'الوصاية المؤقّتة' باسم الإمام. والحال، لا تُدار إيران-الخمينيّة كدولة وطنية، بل بوصفها حالة انتقالية في مشروع إلهي أكبر، يبرّر تدخّلها في دول الجوار، عبر 'الحزب'، وبعض فصائل الحشد الشعبي، والحوثيّين، ولفيف عريض من الميليشيات من أفغانستان وباكستان ودول إفريقيّة، وآخرين! وتوظّف تسويقها للصراع مع إسرائيل وداعش والغرب والنظام العربي الرسمي كجزء من هذا 'التمهيد'، وتنقل 'المهدويّة' من عقيدة روحيّة إلى أيديولوجية سياسية توسّعية. أنتج هذا المسار تحويل قطاعات واسعة من الشيعة في العالم، لا سيما في لبنان والعراق واليمن، من جماعات دينية أو مكوّنات وطنيّة إلى 'طائفة وظيفيّة' مقاتلة تعمل ضمن مشروع إقليمي ذي طابع عقائدي-سياسي، لا وطني. رُبط ولاء الشيعة، ثقافيّاً وتنظيميّاً وأمنيّاً، بمركز القرار في قُم وطهران، وليس بعواصمهم الأصليّة، كممثّلين لعقيدة لا تعترف بحدود الدولة الثابتة، بل بحدود الثورة المتحرّكة. إعادة بناء الهويّة وعليه، لا شكّ في أنّ خلخلة ولاية الفقيه وتراجع هيمنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية يواجهان 'التشيّع' بتحدّيات معقّدة تهدّد مسارات اللحظة المفصليّة المُعاشة. يبدأ ذلك من خطر التشتّت الناجم عن غياب مرجعيّة موحّدة وسط تنافس بين التيّارات التقليدية والإصلاحية، مروراً بالفراغ السياسي الذي قد يعرّض المجتمعات الشيعيّة في العراق ولبنان لصراعات داخلية أو ضغوط خارجية، وصولاً إلى استفحال الأزمات الاقتصادية، والضغوط الدولية، المغرية بالتطرّف والعناد. تعقّد هذه العناصر إعادة بناء هويّة شيعيّة منفتحة على فضاءات وطنيّة أرحب. وإذ يعتري القلق الوجوديّ الكثير من الشيعة في العالم، بعد معاينة نتائج الحرب، وجب التنبّه إلى أنّ الإيمان الكاثوليكي، لم يختفِ، حين بدأت الكنيسة تفقد سيادتها الزمنيّة في القرن الثامن عشر، بل أُعيد توطينه داخل المجال الروحيّ، بعيداً عن السلطة السياسية. على الرغم من التحدّيات، الفرصة ماثلة اليوم في الفضاء الشيعي لينتهي الالتباس بين المذهب والدولة، ولتنتصر المواطنة على العقيدة، والعقل السياسي على اللاهوت. إنّها لحظة نادرة يُعاد فيها طرح سؤال: ما معنى أن تكون شيعيّاً في زمن ما بعد مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران؟ ثمّة بدايات واعدة لوعي مدنيّ قائم على الحقوق والمساواة والمواطنة، تمثّلها احتجاجات 'تشرين' في العراق وتظاهرات 'المرأة، الحياة، الحرّية' في إيران، والانخراط الأوسع للشيعة في الحراك المدني العامّ المتجدّد في لبنان. أكثر من أيّ وقت مضى يفصح الاجتماع الشيعي، عن استعداد لفكّ الارتباط القسريّ بين التشيّع والدولة الثيوقراطيّة، وإعادة تأطيره كمنظومة روحيّة وأخلاقيّة، لا كمشروع أيديولوجيّ أو جهاز خارجيّ فوق الدولة. لم تنتهِ أدوات الهيمنة الخمينيّة داخل المجتمعات الشيعيّة، كالميليشيات وشبكات الولاء والإعلام، لكنّها تعيش لحظة انكشاف تاريخي بعد الحرب، تُضعف قدرتها على ادّعاء أنّها الهويّة البديلة للشيعة، بالشكل العابر للدول والحدود. وهي لحظة، كما بعد الثورة الفرنسية وما تلاها، إن أُحسن التقاطها، قد تُفضي إلى ولادة تشيّع جديد: مدنيّ، وطنيّ، تعدّدي، وغير وظيفيّ.

المركزية
منذ يوم واحد
- المركزية
"الكاثوليكي للاعلام" ينظم لقاءً إعلامياً في دير الأحمر
المركزية - نظّم المركز الكاثوليكي للإعلام، بحسب بيان، لقاءً إعلامياً في دير الأحمر بعنوان "يوبيل الإعلاميين: الرجاء الذي لا يُخيّب"، في المركز الرسولي الأبرشي – دير الأحمر، برعاية راعي أبرشية بعلبك - دير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة، شارك في اللقاء مدير المركز الكاثوليكي للإعلام المونسنيور عبدو أبو كسم، نائبة رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام والرئيسة العامة للراهبات الباسيليات الشويريات الأم ندى طانيوس، إلى جانب عدد من الكهنة والرهبان والإعلاميين. وشكّل اللقاء محطة للتأمل في رسالة الإعلام كأداة لنشر الرجاء والحقيقة، والتأكيد على أهمية التمسك بالقيم الإنسانية والمهنية، خصوصاً في ظل التحديات التي يواجهها الإعلام من تفشي الأخبار الكاذبة والانقسامات. من جهته، شدّد المطران رحمة على أنّ "الرسالة الإعلامية الحقيقية تقوم على السلام، المحبة، والألفة، لا على الكراهية والانقسامات"، مشيراً إلى أنّ "البابا فرنسيس يركز على الحوار بدل التصادم، وعلى نشر الحقيقة التي تحرّرنا وتوحدنا"، وتوجه بتحية إلى الإعلاميين في البقاع الشمالي. كما لفت إلى أنّ "غالبيتهم من الإخوة المسلمين، خصوصاً من الطائفة الشيعية، لكننا لم نتعامل يومًا على أساس طائفي أو مذهبي، بل كنّا دائماً جسداً واحدًا وروحًا واحدة في تغطية الأحداث". أضاف: "الإعلام النزيه هو الذي ينقل الحقيقة كما هي، من دون تحريف أو مبالغة، لأن التحريف يُفقد الوسيلة الإعلامية صدقيتها، فيما الحقيقة ترفع من شأنها وتمنحها ثقة الناس". وختم قائلًا: "نحن نثق بإعلاميينا، ونراهن على وطنيتهم وأخلاقهم واحترافيتهم، ونشكرهم على مساهمتهم في إيصال فكر البابا النَيِّر، الذي يخدم الحقيقة والسلام". بدورها، توقّفت الأم طانيوس، عند كلمة المطران رحمة معتبرةً أن "الحق هو جوهر الرسالة الإعلامية". وأضافت: "في زمن كانت تُعرف فيه الصحافة بأنها السلطة الرابعة، نشهد اليوم تحوّلاً يجعلها أقرب إلى السلطة الأولى، لما لها من قدرة على التأثير وصناعة الرأي العام"، مشددة على أن "هذا التحوّل يُحمّل الصحافيين مسؤولية كبرى، ليس فقط في نقل الأحداث، بل في نقل صورة وطن جامع، وحقيقة غير مجتزأة، بعيدًا عن التشويه والانحياز". في كلمته، دعا الأب أبو كسم إلى استعادة جوهر الرسالة الإعلامية، مستشهداً بوصية البابا فرنسيس للإعلاميين، قائلاً: "قال لنا البابا في لقائه الأخير معنا في 29 كانون الثاني: انزعوا سلاح الإعلام. هذه حكمة عظيمة، فالإعلام لا يجب أن يكون أداة تحريض أو عداوة، بل وسيلة لبناء السلام والحقيقة". وتابع قائلاً: "طلب البابا من كل الإعلاميين، خصوصًا المسيحيين، أن يواجهوا خصومهم بالفرح لا بالهجوم، وأن يتحلوا باللطف في الرد على أي تحريض. الإعلامي مدعو ليكون جسراً للتلاقي لا أداة للفتنة. استعملوا المنصات التي بين أيديكم لبث الفرح والرجاء، لا لنشر الانقسام". كما شدّد أبو كسم على البعد الإيماني لممارسة الإعلام، قائلاً: "قال البابا: قبل أن تبدأوا بكتابة خبر أو تقديم تقرير، استلهموا الروح القدس. الإعلامي المسيحي لا يكتب فقط بعقله، بل بقلب مستنير بروح الله". وأشار إلى أنّ هذه الرسالة لا تقتصر على الإعلاميين فقط، بل تشمل الكهنة والرهبان والراهبات الذين يحملون بدورهم رسالة إعلامية روحية، تمامًا كما كان بولس الرسول "الإعلامي الأول" في الكنيسة الأولى. وختم أبو كسم: "نحن كإعلاميين مسيحيين، ومعنا إعلاميون من إخوتنا المسلمين، مدعوون جميعًا لاستخدام الإعلام لبناء الوطن والإنسان، ونشر الحقيقة والرجاء، بدل الخوف،في زمن كثر فيه الضجيج وتراجعت فيه الثقة، ويعيد الثقة في مهنة فقدت بوصلة الحقيقة في زحمة السبق والإعلانات". وتخلّل اللقاء تكريم إعلاميين من منطقة بعلبك الهرمل، تقديراً لدورهم في خدمة الكلمة الحرة ونقل الحقيقة. كما قدّم هدية تذكارية للمكرَّمين، عبارة عن قطع فنية من صناعة الأب جوزف كيروز نُحتت من حجارة سيدة بشوات، تحمل رسومات رمزية تشمل صورة العذراء مريم، وقلعة بعلبك، ودير مار مارون، في دلالة وجدانية على تلاقي الإيمان، التاريخ، والجذور.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 2 أيام
- القناة الثالثة والعشرون
معنى أن تكون شيعيّاً بعد الحرب الإيرانيّة الإسرائيليّة
تتجاوز حرب الأيّام الـ12 بين إيران وإسرائيل كونها فصلاً جديداً في مسلسل الصراع بين الطرفين فحسب، بل إنّها نقطة تحوُّل فرضت نفسها على البنية العقائدية والسياسية للتشيّع السياسي في الشرق الأوسط. لأوّل مرّة، لا يُسأل فقط عن نتائج المواجهة بمنطق الربح والخسارة، بل تُطرح أسئلة كبرى بشأن مستقبل المشروع العقائدي نفسه، وطبيعته الأصليّة، وبشأن مستقبله ووجوده كفاعل اجتماعي وسياسيّ في الإقليم. أصابت الضربات الإسرائيلية، ثمّ الأميركية، صلب المشروع الإيراني، بمنشآته النوويّة، وبنيته العسكرية والأمنيّة والعلميّة، لكن أيضاً أصابت البنية الثورية والعقائدية والتاريخية لمشروع 'ولاية الفقيه'، بوصفه مشروع سلطة عابرة للحدود، متجاوزة للدول وناطقة باسم 'حقّ إلهيّ' في السياسة. تشابه جزئيّ لا يخطئ من يقارن بين حزيران 2025 وحزيران 1967، أو بين مآلات الخمينيّة والناصريّة بعد الاصطدام المباشر لكلّ منهما مع إسرائيل. بيد أنّ ما يخطر لي أنّ ما حصل بين إسرائيل وإيران، يتشابه جزئيّاً، في نتائجه التغييريّة، ومن حيث عمق وتاريخيّة الأسئلة التي يطرحها، مع ما واجهته الكنيسة الكاثوليكية عام 1870 حين دخلت قوّات جوزيبي غاريبالدي إلى روما، وأعلنت ضمّ ما بقي من 'الدولة البابوية' إلى مملكة إيطاليا الموحّدة، منهيةً السلطة الزمنية للكنيسة الكاثوليكية وفارضة ما يشبه الحصار على البابا في الفاتيكان. توّجت حملة غاريبالدي مساراً انحداريّاً طويلاً كانت مهّدت له، قبل ثمانين عاماً الثورة الفرنسية، التي صادرت أملاك الكنيسة، وألغت امتيازاتها، وفرضت عليها الولاء للجمهورية بدلاً من الولاء للبابا، عبر 'الدستور المدني لرجال الدين'، الذي أقرّته الجمعية الوطنية الفرنسية في عام 1790. فتح هذا النزع للقداسة عن سلطة الكنيسة الباب أمام تحوّلات عميقة وفلسفيّة جرت في صلب فكرتَي المواطنة والدولة. وما لبث أن استكمل نابوليون هذا التحوّل، حين أجبر البابا بيوس السابع في عام 1801، على توقيع وثيقة 'الكونكوردات' التي أخضعت الكنيسة لشروط الدولة الفرنسية الحديثة، ثمّ قام لاحقاً باعتقاله ونفيه، في لحظة انتصار معنويّ ألغى صيغة الشراكة في الحكم بين الاثنين. يحصل شيء من هذه الخلخلة لسلطة ولاية الفقيه الزمنيّة بوصفها 'كنيسة التشييع الولائيّ'. فالجمهورية الإسلامية في إيران تقدّم نفسها كسلطة سياسية تعمل على تهيئة الظروف لظهور الإمام المهدي، الغائب في العقيدة الشيعية الاثني عشريّة. وفق هذا التصوّر، تدير ولاية الفقيه مرحلة الغيبة، وتمتلك شرعيّة 'الوصاية المؤقّتة' باسم الإمام. والحال، لا تُدار إيران-الخمينيّة كدولة وطنية، بل بوصفها حالة انتقالية في مشروع إلهي أكبر، يبرّر تدخّلها في دول الجوار، عبر 'الحزب'، وبعض فصائل الحشد الشعبي، والحوثيّين، ولفيف عريض من الميليشيات من أفغانستان وباكستان ودول إفريقيّة، وآخرين! وتوظّف تسويقها للصراع مع إسرائيل وداعش والغرب والنظام العربي الرسمي كجزء من هذا 'التمهيد'، وتنقل 'المهدويّة' من عقيدة روحيّة إلى أيديولوجية سياسية توسّعية. أنتج هذا المسار تحويل قطاعات واسعة من الشيعة في العالم، لا سيما في لبنان والعراق واليمن، من جماعات دينية أو مكوّنات وطنيّة إلى 'طائفة وظيفيّة' مقاتلة تعمل ضمن مشروع إقليمي ذي طابع عقائدي-سياسي، لا وطني. رُبط ولاء الشيعة، ثقافيّاً وتنظيميّاً وأمنيّاً، بمركز القرار في قُم وطهران، وليس بعواصمهم الأصليّة، كممثّلين لعقيدة لا تعترف بحدود الدولة الثابتة، بل بحدود الثورة المتحرّكة. إعادة بناء الهويّة وعليه، لا شكّ في أنّ خلخلة ولاية الفقيه وتراجع هيمنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية يواجهان 'التشيّع' بتحدّيات معقّدة تهدّد مسارات اللحظة المفصليّة المُعاشة. يبدأ ذلك من خطر التشتّت الناجم عن غياب مرجعيّة موحّدة وسط تنافس بين التيّارات التقليدية والإصلاحية، مروراً بالفراغ السياسي الذي قد يعرّض المجتمعات الشيعيّة في العراق ولبنان لصراعات داخلية أو ضغوط خارجية، وصولاً إلى استفحال الأزمات الاقتصادية، والضغوط الدولية، المغرية بالتطرّف والعناد. تعقّد هذه العناصر إعادة بناء هويّة شيعيّة منفتحة على فضاءات وطنيّة أرحب. وإذ يعتري القلق الوجوديّ الكثير من الشيعة في العالم، بعد معاينة نتائج الحرب، وجب التنبّه إلى أنّ الإيمان الكاثوليكي، لم يختفِ، حين بدأت الكنيسة تفقد سيادتها الزمنيّة في القرن الثامن عشر، بل أُعيد توطينه داخل المجال الروحيّ، بعيداً عن السلطة السياسية. على الرغم من التحدّيات، الفرصة ماثلة اليوم في الفضاء الشيعي لينتهي الالتباس بين المذهب والدولة، ولتنتصر المواطنة على العقيدة، والعقل السياسي على اللاهوت. إنّها لحظة نادرة يُعاد فيها طرح سؤال: ما معنى أن تكون شيعيّاً في زمن ما بعد مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران؟ ثمّة بدايات واعدة لوعي مدنيّ قائم على الحقوق والمساواة والمواطنة، تمثّلها احتجاجات 'تشرين' في العراق وتظاهرات 'المرأة، الحياة، الحرّية' في إيران، والانخراط الأوسع للشيعة في الحراك المدني العامّ المتجدّد في لبنان. أكثر من أيّ وقت مضى يفصح الاجتماع الشيعي، عن استعداد لفكّ الارتباط القسريّ بين التشيّع والدولة الثيوقراطيّة، وإعادة تأطيره كمنظومة روحيّة وأخلاقيّة، لا كمشروع أيديولوجيّ أو جهاز خارجيّ فوق الدولة. لم تنتهِ أدوات الهيمنة الخمينيّة داخل المجتمعات الشيعيّة، كالميليشيات وشبكات الولاء والإعلام، لكنّها تعيش لحظة انكشاف تاريخي بعد الحرب، تُضعف قدرتها على ادّعاء أنّها الهويّة البديلة للشيعة، بالشكل العابر للدول والحدود. وهي لحظة، كما بعد الثورة الفرنسية وما تلاها، إن أُحسن التقاطها، قد تُفضي إلى ولادة تشيّع جديد: مدنيّ، وطنيّ، تعدّدي، وغير وظيفيّ. نديم قطيش - اساس انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News