
الرهان النووي لبوركينا فاسو: هل تنكسر هيمنة الغرب من بوابة الطاقة؟إدريس آيات
الرهان النووي لبوركينا فاسو: هل تنكسر هيمنة الغرب من بوابة الطاقة؟
إدريس آيات
في زمن التشظي الجيوسياسي وإعادة ترتيب الأوراق على المسرح العالمي، لم يكن مستغربًا أن تتحول بوركينا فاسو، تلك الدولة الحبيسة التي طالما نظر إليها الغرب كظلّ استعماري لا أكثر، إلى لاعب إقليمي جريء يعيد تعريف تحالفاته ومصالحه بمعزل عن الإملاءات الغربية. التوقيع الأخير على اتفاقية التعاون النووي السلمي بين بوركينا فاسو وروسيا، هو خطوة استراتيجية ذات أبعاد جيوسياسية واقتصادية وأمنية عميقة تعكس انقلابًا في فلسفة الحكم، وميلاد جيل جديد من القادة الأفارقة الذين لم يعودوا يرون أنفسهم بوصفهم توابع، بل صانعي قرار.
في الثاني عشر من يونيو 2025، أعلنت بوركينا فاسو رسمياً دخول اتفاقها مع مؤسسة 'روساتوم' الروسية حيّز التنفيذ، بهدف إنشاء مفاعل نووي مصغر لتوليد الكهرباء، في وقت لا تتجاوز فيه نسبة السكان المرتبطين بالشبكة الوطنية 19%، بينما يُعد العجز في الكهرباء من أبرز معوقات التنمية الصناعية. هذا الاتفاق لم يأتِ في فراغ، بل هو امتداد لخطاب رئيسها إبراهيم تراوري في قمة روسيا-أفريقيا في يوليو 2023، حيث أعلن بوضوح: 'نحن لا نغادر مستعمَرًا إلى آخر، إنّما نناقش شراكات وفق مصالحنا.' هكذا تكشف القيادة البوركينية الجديدة عن عقلية غير تقليدية ترفض التموضعات الكولونيالية وتتبنى خيارات واقعية تتماشى مع تحديات الداخل لا وصايا الخارج.
فوفق بيانات البنك الدولي لعام 2022، يبلغ متوسط تكلفة الكيلوواط/ساعة في دول غرب أفريقيا بين 0.25 و0.30 دولار أمريكي، وهي من أعلى الأسعار في العالم، مقارنة بمتوسط عالمي يراوح بين 0.12 و0.15 دولار. وفي حال دخول المفاعل النووي الروسي الصغير للخدمة، تشير تقديرات أولية إلى انخفاض سعر الكهرباء في بوركينا فاسو بنسبة 60% على الأقل خلال العقد الأول، مع إمكانية الوصول إلى تكلفة إنتاجية تنافسية في حدود 0.05 دولار للكيلوواط/ساعة، وهو رقم يضع الدولة في صدارة جاذبية الاستثمار الصناعي غرب أفريقيا.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه التقنية النووية ليست مرهونة بحجم الإنتاج فحسب، بل بنموذج 'المفاعلات المصغرة' (SMR – Small Modular Reactors) التي باتت توجّهًا عالميًا للتحول السلس نحو الطاقة النظيفة في الدول منخفضة الدخل. وهي مفاعلات لا تحتاج إلى بنى تحتية ضخمة ولا ميزانيات خيالية، بل توفّر حلًا عمليًا لبلدان مثل بوركينا فاسو ومالي، التي وقعت بدورها اتفاقًا مماثلاً مع روسيا في يونيو 2025. وقد استثمرت روساتوم مليارات الدولارات خلال العقد الماضي في تطوير هذا النموذج، مستفيدة من إرثها السوفيتي وتقدمها التقني الذي جعلها الرائدة عالميًا في إعادة تدوير الوقود النووي واستخدام النفايات كمصدر طاقة جديد.
من الناحية الجيوسياسية، فإن دخول روسيا بهذا الثقل في الحلبة النووية الأفريقية، وتحديدًا في مستعمرات فرنسية سابقة مثل بوركينا فاسو ومالي، يضع باريس في مأزق استراتيجي مزدوج: فهي من جهة تخسر آخر أدوات النفوذ الطاقي في منطقة تُعد من أهم مصادر اليورانيوم عالميًا، ومن جهة أخرى تواجه تراجعًا في الهيمنة الثقافية والسياسية أمام صعود تحالفات بديلة ترفض الرضوخ للفرنكوفونية بوصفها امتدادًا للاستعمار الناعم.
والسؤال المؤلم الذي لا يزال يلاحق باريس: كيف لدولة مثل النيجر، التي تُنتج قرابة 7% من يورانيوم العالم (بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، أن تعاني من عجز كهربائي يصل إلى 90% من السكان، وتستورد الطاقة من نيجيريا؟ ولماذا لم تبادر فرنسا -خلال ستين عامًا من الهيمنة على البلاد- إلى تقديم صفقة نووية شبيهة بما فعلته روسيا مع بوركينا فاسو؟ الجواب ببساطة يكمن في طبيعة العلاقة: علاقة استنزاف، لا شراكة. علاقة لا ترى في النيجر سوى مخزون خام لا يحق له التصنيع أو السيادة التقنية.
إبراهيم تراوري، أصغر رئيس شارك في قمة سان بطرسبورغ، لم يكن نجمًا إعلاميًا فقط، بل قائدًا يُعيد رسم مسار بلاده بإرادة جذرية. لقد أدرك مبكرًا أن المعركة الحقيقية لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالسيادة على المعرفة والتكنولوجيا والطاقة. ولهذا اختار روسيا، ليس كبديل عن الغرب، بل كشريك لا يشترط الولاء السياسي ولا يفرض أجندات أيديولوجية، بل يعرض تكنولوجيا ومصلحة متبادلة في عالم تتغير فيه مراكز القوة.
وبينما يتحدث البعض عن 'الاستعمار الجديد'، فإن الوقائع الميدانية تعري هذا الخطاب الذي غالبًا ما يُردّد من دوائر غربية متحاملة، أو نخب أفريقية مُنقطعة عن نبض الشعوب. فروسيا لم تبنِ قواعد عسكرية استعمارية في أفريقيا، ولم تفرض لغتها الرسمية، ولم تدعم انقلابًا لتنصيب دمية على رأس السلطة، بل دخلت من بوابة التعاون في المجالات التقنية، وخاصة الطاقة، والبنى التحتية والأمن. وحتى 'فاغنر'، التي يُروّج لها كرمز للنفوذ الروسي، لم تُسجَّل ضدها أدلة دامغة على احتكار مناجم الذهب أو نهب الثروات، كما فعلت شركات فرنسية كـ'أريفا' في النيجر لعقود دون حسيب أو رقيب.
ومن المهم هنا التذكير بأن فرنسا لم تترك في مستعمراتها السابقة بنية علمية نووية واحدة، رغم أنها كانت تستخرج ما يصل إلى 3,000 طن من اليورانيوم سنويًا من النيجر وحدها. أما روسيا، فتدخل إلى مالي وبوركينا فاسو بمختبرات بحثية، ومراكز تدريب، ونقل تقنية، واتفاقات لإعادة تدوير النفايات النووية محليًا أو شحنها آمنًا إلى منشآت روسية. وفي هذا السياق، تستحق روساتوم أن تُدرَس كحالة منفردة؛ فهي الشركة الوحيدة التي تزوّد المفاعلات الأمريكية والفرنسية بوقود معاد التدوير، حتى في زمن العقوبات والحصار مع الحرب الأوكرانية، ما يعكس مكانتها كحجر زاوية في أمن الطاقة العالمي.
وفي ضوء هذه التطورات، فإن التحوّل الجاري في الساحل الأفريقي لا يُمكن فصله عن تحولات أعمق في المشهد الدولي. فنحن أمام تفكك فعلي لأحادية الغرب، وصعود قوى بديلة قادرة على تقديم نماذج غير استعمارية للتعاون. ولهذا فإن وصف الشراكات الجديدة بأنها 'نقل من سيد إلى سيد' هو اختزال ساذج، بل يحمل عنصرية مبطنة ترى الأفارقة كأتباع لا يحق لهم اختيار شركائهم.
لقد حان الوقت لإعادة تعريف مفردات العلاقات الدولية. فالشراكة مع روسيا أو الصين ليست استعمارًا جديدًا، بل محاولة لتوسيع هامش السيادة الوطنية بعد عقود من التبعية المقنّعة. وإذا نجحت بوركينا فاسو في تشغيل أول محطة نووية في غرب أفريقيا، فإنها لن تُضيء فقط مصابيح المدن، بل ستنير طريقًا جديدًا للقارة بأكملها نحو السيادة الصناعية.
ختامًا، إن بوركينا فاسو اليوم ليست فقط على أعتاب الاستقلال الطاقي، بل على أعتاب استقلال القرار. إنّها لحظة وعي سياسي نادر، لحظة تكسر فيها دولة صغيرة معادلةً كُتبت بالحبر الفرنسي منذ 1960، وتكتب بمفاعلات روسية مصغّرة مستقبلًا كبيرًا. ويبقى السؤال: من التالي؟ وهل تكون النيجر، التي أهدرت عشرات آلاف الأطنان من اليورانيوم مقابل كهرباء مستوردة، قادرة على اللحاق بركب المستقبل؟ أم تظل رهينة في سجنٍ يُضاء فقط من باريس؟ فمن المعلوم أن الطاقة لم تعد فقط مورداً اقتصادياً، بل أصبحت مؤشراً سياديًا. ومن فهم هذه المعادلة، لن يُساق مجددًا تحت قبة أي استعمار، مهما تغيرت أسماؤه أو ألوان أعلامه.
2025-06-28
The post الرهان النووي لبوركينا فاسو: هل تنكسر هيمنة الغرب من بوابة الطاقة؟إدريس آيات first appeared on ساحة التحرير.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ ساعة واحدة
- شفق نيوز
العراق يتذيل دول الشرق الاوسط في جذب تمويلات الشركات الناشئة
شفق نيوز - بغداد تذيل العراق قائمة الدول الأكثر جذباً لتمويلات الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال شهر أيار/مايو الماضي، بحسب بيانات صادرة عن "ومضة" للأبحاث. واطلعت وكالة شفق نيوز، على تلك البيانات التي أظهرت أن إجمالي التمويلات التي جمعتها الشركات الناشئة في المنطقة بلغ 289 مليون دولار من خلال 44 صفقة استثمارية، مسجلاً زيادة بنسبة 25% مقارنة بشهر أبريل/ نيسان الماضي، ونمواً بنسبة 2% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. وتصدرت مصر القائمة بتمويلات بلغت 125 مليون دولار، تلتها الإمارات بقيمة 86.7 مليون دولار، ثم السعودية في المرتبة الثالثة بـ68.8 مليون دولار. وجاءت قطر وتونس في المركز الخامس بتمويلات قدرها مليون دولار لكل منهما، ثم سلطنة عمان بـ250 ألف دولار، فيما حل العراق في المرتبة الأخيرة بتمويلات لم تتجاوز 100 ألف دولار فقط. ويرى متخصصون أن تمويل الشركات الناشئة هو مقياس مهم لقياس دعم الاقتصاد للمشاريع الجديدة. ويُعد ضعف هذا التمويل في العراق مؤشراً على بيئة غير مشجعة للاستثمار، مقارنة بدول أخرى في المنطقة مثل مصر والإمارات التي تشهد نشاطاً أوسع في هذا المجال.


موقع كتابات
منذ 2 ساعات
- موقع كتابات
ردًا على خامنئي .. ترمب يتوعد طهران مجددًا 'عودوا للنظام العالمي أو استعدوا للأسوأ'
وكالات- كتابات: جدّد الرئيس الأميركي؛ 'دونالد ترمب'، اليوم السبت، انتقاده لتصريحات المرشد الإيراني الأعلى؛ 'علي خامنئي'، بشأن الحرب مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، مشككًا في صحتها. ونقلت وكالة (رويترز) عن 'ترمب'؛ قوله: 'لماذا يقول خامنئي إنه انتصر في الحرب مع إسرائيل، وهو يعلم أن تصريحاته كذبة، والأمر ليس كذلك'، زاعمًا أنه كان على دراية تامة بمكان تواجد 'خامنئي'، لكنه لم يسمح للقوات المسلحة الأميركية أو لـ'إسرائيل' بالقضاء عليه. وأضاف 'ترمب': 'في المرحلة الأخيرة من الحرب؛ طالبت إسرائيل بإعادة مجموعة كبيرة من الطائرات كانت متجهة إلى طهران'، مدعيًا أنه كان يعمل في الأيام الماضية على إمكانية رفع العقوبات عن 'إيران' وخطوات أخرى كان من شأنها أن تمنحها فرصة للتعافي. ودعا 'ترمب'؛ 'إيران'، إلى العودة للنظام العالمي، محذرًا من أن الأوضاع ستزداد سوءًا بالنسبة لها إذا لم تفعل ذلك. كما نفى 'ترمب' بشكلٍ قاطع الأنباء التي تناولت نيته منح 'إيران': (30) مليار دولار لبناء منشآت نووية مدنية، واصفًا تلك الادعاءات بأنها: 'خدعة' من وسائل إعلام كاذبة تهدف إلى التشّويه. وكانت شبكة (سي. إن. إن) وشبكة (إن. بي. سي نيوز)؛ قد ذكرتا يومي الخميس والجمعة على التوالي، أن إدارة 'ترمب' ناقشت في الأيام القليلة الماضية إمكانية تقديم حوافز اقتصادية لـ'إيران' مقابل وقف حكومتها تخصيّب (اليورانيوم). ونقلت (سي. إن. إن) عن مسؤولين قولهم؛ إنه تم طرح عدة مقترحات، لكنها كانت أولية. وكتب 'ترمب' في منشور على منصة (تروث سوشيال): 'من هو الكاذب في إعلام الأخبار الزائفة الذي يقول إن الرئيس ترمب يُريد أن يُعطي إيران (30) مليار دولار لبناء منشآت نووية غير عسكرية. لم أسمع يومًا عن هذه الفكرة السخيفة'، واصفًا التقارير بأنها: 'خدعة'. يُشار إلى أن 'ترمب' كان قد صرّح، أمس الجمعة، زاعمًا بأنه أنقذ حياة المرشد الإيراني؛ 'علي خامنئي'، من ما وصفه: 'موت بشع'، قائلًا إن على الأخير أن: 'يشكره'، في إشارة إلى ما يزعمه وتروج له الآلة الدعائية الأميركية وتوابعها الغربية والعربية من قرار سابق بعدم استهدافه خلال 'حرب الـ 12 يوميًا' مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.


شفق نيوز
منذ 2 ساعات
- شفق نيوز
استيرادات العراق تتجاوز 21 مليار دولار للربع الأول من العام 2025
شفق نيوز- بغداد أعلن البنك المركزي العراقي، اليوم السبت، أن استيرادات العراق للربع الأول من العام 2025 بلغت أكثر من 21 مليار دولار. وقال البنك في احصائية له اطلعت عليها وكالة شفق نيوز ان "استيرادات العراق بلغت 21 ملياراً و363 مليون دولار"، مبينا ان "الاستيرادات شملت القطاع الحكومي القطاع الخاص". واضاف ان "استيرادات القطاع الحكومي بلغت ملياراً و 377 مليون دولار، فيما بلغت استيراد القطاع الخاص 19 ملياراً و 985 مليون دولار". وأشارت البنك إلى أن "استيرادات الحكومية شملت الاستيرادات الاستهلاكية و استيرادات الرأسمالية و استيرادات المنتجات النفطية واستيرادات الحكومية الاخرى وطبع العملة"، فيما شملت "استيرادات القطاع الخاص على الاستيرادات الاستهلاكية و الاستيرادات الرأسمالية".