
دجاج الخور.. رجعناها إلى الوراء
صباح يوم الأحد 29 من يونيو 2025، صباح مُميّز ويبعث بالحياة، ليس لأنه وافق إجازة رأس السنة الهجرية بالسلطنة فقط؛ بل لما أصبحنا عليه من شاعرية، حيث وجدنا أنفسنا فيه تحت قُبّة كثيفة من سحب الخريف، حلّ ركبها سريعًا علينا واحتضنت الشريط الساحلي للمحافظة، وقد غشيت بالفعل منذ أيّام سلسلة جبال ظفار كعادتها من ضلكوت غربًا إلى مرباط شرقًا؛ إلّا أنّنا لم نتوقّع بأنّها ستغمرنا في السهل والمدن بعطفها وتأتينا على عجل محمّلة بخيراتها.
طراء الأرض تحت أقدامنا يُشبع الروح العطشى ويرويها إلى حدّ الثمالة. رائحة الثرى توحي بأنّه ارتوى تمامًا. على ما يبدو أنّها بالأمس والكلّ نيام أكرمته بسخاء، وتراشق رذاذها يهدي الأرض مياها في رقصة حياة وانبعاث. ولتبهج كلّ من عليها، تاركة آثار حلولها رسميًا، مخلّفة أحواض مياه هنا وهناك، نتوقّع بأنّ عروسنا ستزدان بوشاحها الأخضر وحليّها الزمرّدي قريبًا؛ فسيبدأ الغطاء الأخضر للأرض يتمدّد على كلّ السهول والمدن وحتّى على الشواطئ خلال أسبوع ابتداءً من اليوم بإذن الله.
وبذلك ستكلّل صلالة بتاجها الأخضر وتزدان بلونها الفردوسي قبل عشرة أيام من التاريخ المحدّد لانطلاق فعاليات الموسم السياحي في 15 يوليو من هذا العام.
شكرًا لله الذي جعل من سحب سمائنا الكثيفة في الخريف مظلّة تحجب عنّا حرارة الشمس الحارقة في هذا الوقت من كل عام، والعالم كله حوالينا يعاني منه؛ فوداعًا يا شمسنا، وإلى اللقاء، عهدنا معك بعد شهرين. الاشتياق يُعزّز الحبّ؛ فقد كنتِ تتمنّعين وتغازليننا لسويعات قليلة؛ بين ظهور واختفاء، وكأنك تُشوّقيننا إلى قدوم الخريف كما فعلتِ طيلة الأيام الماضية، وبها تهيّئيننا لفراقك.
الحقيقة أنّ بتاريخ 29 يونيو، قد مضت 8 أيام من بدء موسم الخريف فلكيًا، وكان ذلك تحديدًا في 21 يونيو، جاء هذا العام على الموعد إذن في حلّه المعتاد، وعسى أن يُطيل إقامته ويمكث بيننا فترة أطول، كرمًا من ضيف نحمد الله ونشكره على أنّه يرسله إلينا كلّ عام.
وعنوان المقال أعلاه هو شطر من بيت شعري رجزًا كان يردّده في الماضي مجموعة من الشباب الذاهبين مشيًا لإنجاز عمل أو مهمة أُوكلت إليهم في منطقة تكون بعيدة عن منطقة انطلاقهم لبث الحماس في أنفسهم وتحمل المشقة، وكانوا أثناء رجزهم هذا يضربون الأرض بأقدامهم بقوة، فيُصدرون بذلك أصوات قرقعة كبيرة، ولكنها متناغمة يتردّد صداها؛ فتُبثّ فيهم الحماس للوصول بأسرع ما يمكن لمبتغاهم وإنجاز مهامهم، التي قد يكون من ضمنها نجدة ملهوف وإغاثته أو صد عدو ودحره أو خلافه.
هذا البيت الشعري باللهجة الظفارية الدارجة يقول:
دجيج الخور رجعناها لاورا
نحن نوبان بانلعب الطنبره
دجيج الخور
أي دجاج الخور، وهي نوع من الدجاج البري أصغر حجمًا قليلًا من دجاجنا البلدي، لكنه غير أليف ويعيش في الأخوار المنتشرة على امتداد شواطئ البحر بمحافظة ظفار والتي تكوّنت مع السنين من نزول الأودية والسيول.
تذكّرتُ هذا البيت من الشعر وأنا أجلس صباح هذا اليوم الخريفي بامتياز على ضفة خور الدهاريز أراقب دجاج الخور الجميلة شكلًا، والماهرة سباحة، والبطيئة مشيًا، والقصيرة طيرانًا، واستغربت من مدى تدجُّن هذا الطائر الجميل الذي كان، بمجرد أن يرى أو يحس حركة إنسان ولو من بعد عشرات الأمتار، يقفز في الماء وينزلق فيه كالدلفين ليختفي بين قصب وتحت أشجار ضفاف الخور، لكنه اليوم أصبح لا يخاف البشر ويمضي في النقر بمنقاره الصغير في طحالب الأرض بحثًا عن الغذاء حتى يكاد يصل بقربك تمامًا لمسافة مترين وأقل؛ سبحان مغير الأحوال!
هذه الأخوار الجميلة، والتي أصبح معظمها محميات طبيعية وملاجئ للطيور المهاجرة من شتى بقاع الأرض ومختلف الأنواع، تدب فيها الحياة أكثر في فصل الخريف، ومجرد النظر إليها يسرّ الناظرين، خصوصًا في مشيتها المميزة الهادئة التي كلها خيلاء تضاهي الطاووس، وتزداد بهاء مع السباحة في الماء، خصوصًا وسط الضباب ومع تساقط الرذاذ.
هذه الأخوار الرائعة تنتشر على الشريط الساحلي للمحافظة بمحاذاة البحر، ويتركز معظمها في المنطقة الواقعة من المغسيل غربًا إلى طاقة شرقًا، وأهمها: خور القرم الصغير وخور القرم الكبير، واللذان أُعلِن مؤخرًا عن عروض استثمار سياحي لهما شريطة أن تتم في هذه المشاريع مراعاة الخصوصية البيئية لهما، ونأمل أن نراها مستقبلًا مشاريع سياحية مزدهرة ترفد السياحة في المحافظة مع موسمي الخريف والشتاء السياحيين سنويًا بامتياز، ثم خور عوقد وخور صلالة وخور البليد، وهو أكبرها وبعمق يتجاوز 20 قدمًا، وكان قديمًا لا شك أعمق مما هو عليه الآن؛ حيث كانت سفن البضائع الخشبية التي تصل من الهند والصين واليمن وأفريقيا إلى مدينة البليد التاريخية تعبره لتستقر على رصيفه المحاذي لحصنه الشهير الذي لا زالت أطلاله شامخة إلى اليوم تحكي ماضيًا عريقًا.
يلي البليد خور الدهاريز وخور صيع وخور جنيف وخور (صولي) الشهير، الذي أتعبت الروحة والجيّة إليه شاعر الغناء الظفاري الكبير جمعان ديوان -رحمة الله عليه- في مشاوير زياراته التي تكررت مشيًا على الأقدام من صلالة إلى طاقة، لمجرد زيارة جدران ديار محبوبته؛ وكأنه كان يُقبّل ذا الجدار وذا الجدار، كما فعل ابن الملوّح في زيارات ديار ليلى.
كانت أقدام الشاعر المُحب في هذه المشاوير أقدام مطيّة، وعيونه عيون الموتر (السيارة) كما وصف حاله. رحم الله شاعر الغناء الظفاري الجميل الشجي الراحل جمعان ديوان.
وأخيرًا وليس بآخر،
خور روري
، الذي تغذّيه مياه شلالات دربات كل عام، غنيٌّ عن التعريف؛ حيث تصل شهرته كميناء لتصدير اللبان الظفاري، وأهم سلعة تميزت واشتهرت بها ظفار لآلاف السنين على مر العصور.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 25 دقائق
- جريدة الرؤية
حين تتزاحم الدعوات وتصعد الأرواح نحو الرجاء
نورة الدرعية اليوم، كنتُ أراقب السماء، وبدا لي المشهد أوسع من مجرد سحاب متحرك أو لون أزرق يتغير. تخيلتُ الدعوات وهي تصعد من صدور عباد الله… فوق المليار مسلم، ولكل منهم أكثر من دعوة، أكثر من أمنية، أكثر من ألمٍ يختبئ خلف 'يا رب' واحدة! تصورتُ هذا الزحام الخفي، هذا الطوفان الصامت من الرغبات المتجهة نحو الله. وكلما زاد عددها، زاد يقيني بأن الله – سبحانه – وحده القادر على استيعابها كلها، دون أن تختلط أو تُنسى أو تُهمَل. هو القادر على سماع الجميع، وعلى إجابة كل قلب نبض بالدعاء. بعيدًا عن علمنا بقدرته، وإيماننا بأنَّه لا يرد يدًا رُفعت إليه، فإنَّ مجرد تخيل أن كل هذه الدعوات تحتشد في لحظات مُعينة، في أيامٍ محددة، وتُرسل إلى رب واحد، يزرع في القلب شعورًا بالأمل، بأننا لسنا وحدنا في هذه الحياة، ولسنا بلا ملجأ. الله أمرنا بالدعاء، وهو العليم بنا قبل أن ننطق، يعرف عدد الدعوات، ويعلم ما لم نقوَ على صياغته، ما خاننا فيه التعبير، وما اكتفينا من كثرة وجعه بقول 'يا رب' فقط… تلك الكلمة الصغيرة التي تحمل في جوفها كل ما لم نستطع أن نقوله. الحياةُ في حقيقتها سلسلة لا تنتهي من التعافي والألم. لا أحد منا نجا دون ندبة. كلنا أتلفتنا تجربة، وأسقطتنا خيبة، وأوجعتنا خسارة. كلنا نجر خطواتنا الثقيلة نحو شيء اسمه الشفاء. قد نعاني من أخطاء ارتكبناها، أو من غدرٍ طعننا، أو ظلمٍ أنهكنا، أو من حظٍ عاثر طاردنا في اختياراتنا، أو من سقطة مؤلمة لم نتوقعها في منتصف الطريق. كلنا نحمل خيبات، بعضها يراه الناس وبعضها فضلنا أن ندفنه في قلوبنا. ومع ذلك، لا مفر من المحاولة. لا بُد أن نجد لأنفسنا طريقة ما لنتجاوز، لنتعافى، لنعيد ترتيب أنفسنا من جديد، ولنخوض التجربة مرة أخرى، بشجاعةٍ أكثر، ولو بضعفٍ ظاهر. مع كل غصة تتركها خسارة، وكل كآبة يخلفها ألم، وكل شك تزرعه الخيبات في نفوسنا، وكل يأس يأكل فينا من الداخل… هناك شعور آخر، شعور بالنجاة. ذاك الإحساس الدافئ بأننا رغم كل شيء لا زلنا هنا، ولا زالت هناك فرصة، وأن الغد لا زال يملك إمكانية أن يكون أجمل. أحدهم مرَّ من هنا، وكان على حافة الانهيار… ونجا. وأحدهم انهزم أكثر من مرة، ثم نهض. والعِوض لا بد أن يأتي، حين يشاء الله، في الوقت الذي يناسبنا لا الذي نريده. كل مأساة لا تقتلك، هي إعلان عن بداية أخرى، عن احتمال جديد، عن غدٍ مختلف. فامضِ، ولو بخطواتك الثقيلة، نحو شفائك. كُن رفيقًا بنفسك، رؤوفًا بها، ولا تبخل عليها بمحاولة جديدة للحياة.


جريدة الرؤية
منذ ساعة واحدة
- جريدة الرؤية
أسرتك وحقهم في وقتك
خليفة بن عبيد المشايخي khalifaalmashayiki@ يجدر بك أيها القارئ الكريم وأنت جزء من ملايين البشر أن تؤثر وتتأثر، ويكون لك ردة فعل على كل شيء، فطبيعي جدا كل شيء ممكن أن يؤثر فيك، كالمرض والجوع والشبع والرضا والحب والكره والحزن والوحدة والاختلاط، إلى آخر هذا الكلام. وإذا ما كنت مقتدرًا على تخطي ما أعياك وما أثقلك وأحزنك، فإنك ستنتهي لا محالة وستكون فارغًا مُفلسًا من الطاقة الإيجابية ومن الحياة برمتها، ولهذا فإن الوحدة والابتعاد عن متاعب الحياة والناس، يكون في مرحلة من المراحل مطلب لتستريح ولتتجدد. ففي وحدتك ستعيش الهدوء وسترتب أوراقك وستستعيد قواك وستنعم بالخلوة مع الله والانفراد به، في وحدتك ستبتعد عن الضوضاء والشحناء والسلبيين والساخطين والكارهين، وستستمتع بكل شيء. ستستمتع بكتابك وقهوتك وقراءتك وشربك وهوائك ونفسك، ولكنك لن تستغني عن روحك ومهجتك وكيانك الذين هم أسرتك وزوجتك وعيالك، وأستغرب من ذاك الذي عنده أطفال صغار يتركهم وأمهم ويسافر بنفسه عنهم مع أصحابه وأصدقائه. لم يكن الأبناء والذرية يوما قدرا سيئا إذا رزقنا بهم، ولم يكونوا نقمة إذا وهبنا إياهم من لدن ربِّ العزة والجلال، لذلك علينا أن نحمد الله على نعمه. الضغوط التي نمر بها ليست مدعاة أن نترك أسرنا في البيت مع الأم ونحزم أمتعتنا عنهم مسافرين إلى أرض الله الواسعة؛ حيث يكثر هذه الأيام السفر والابتعاد عن البيت بقصد الترويح عن النفس، فالذي يسكن محافظة مسقط يمكنه مثلا بعد انتهاء الدراسة وتعطلها لأشهر وظهور النتائج، أن يذهب إلى البلد حيث القرية أو المدينة مع الجدين والأعمام والأخوال والأقارب، وفي هذه المدة يقترب الأطفال من جدهم وجدتهم ومحارمهم وأقاربهم وبقية أهلهم، ويكونون معهم وبجانبهم. والأطفال في القرية يذهبون لزيارة الوادي والأفلاج والمزارع، ويستمتعون برؤية تلك البساتين والحقول والمحاصيل الزراعية، فيبتهجون ويستريحون، وتتكون لديهم صور مختلفة عن التلاحم والتعاضد وحب العائلة وأهمية اجتماعها، ويكبرون وهم واصلون لكل الناس والأهل.


جريدة الرؤية
منذ يوم واحد
- جريدة الرؤية
هجرة الحق
نعيمة السعدية ها قد أقبلت سنة هجرية جديدة في حلة دينية مباركة تذكرنا بشخصية عظيمة قدمت حياتها فداءً لنشر الدين الإسلامي، وكان لها الأثر في بناء الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين.. شخصية لها صولات وجولات في ميدان الدعوة الإسلامية التي استمرت طويلًا على مدار عقدين ونيف من الزمن؛ فقد تحمل رسولنا الكريم أقسى أنواع العذاب من قِبل قومه وأشدها في بدايتها. وكان اشتداد هذا العذاب من أهم الأسباب التي دفعته إلى الهجرة إلى يثرب التي سميت بالمدينة المنورة بعد ذلك؛ فلما اشتد العذاب على المسلمين في مكة بعد البيعة الثانية أذِن النبي لأصحابه بالهجرة إلى المدينة واللحاق بإخوانهم الأنصار. وتعد الهجرة النبوية حدثًا تاريخيًا وذكرى عند المسلمين، وقد اتُخذت بداية للتقويم الهجري. كما كانت خطوة مهمة نحو تأسيس دولة إسلامية في المدينة المنورة قادرة على توسيع نطاق الدعوة الإسلامية وحماية المسلمين الذين فروا لاجئين من أجل المحافظة على دينهم الإسلامي، كما مثلت نقطة تحول في حياة الدولة الإسلامية؛ فقد ساعدت على ترسيخ قواعد الأمة الإسلامية في العالم، وذلك بنشر الإسلام في أرجاء العالم من ذلك قوله تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " (الأنبياء: 107). إن حادثة الهجرة النبوية غيرت مجرى التاريخ تغييرًا عظيمًا كان له أثر قوي في حياة البشرية جمعاء؛ فالمتأمل في أحداثها يجد العديد من الدروس المستفادة والعِبر التي ينبغي للمسلم الاستلهام منها لواقع حياته؛ فقد جسَّدت الهجرة النبوية أصولًا إيمانية في نفوس المسلمين الذين اضطهدوا في مكة منها: التوكل على الله، والصبر على مواجهة الصعاب، والتحديات العنيفة التي تعرضوا لها بمعية رسول الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام، والتضحية وهي من أعظم الدروس، فقد ضحَّى النبي لنُصرة دينه وترك داره وبلده التي ترعرع فيها وأهله وعشيرته، كما إن المسلمين قدموا تضحيات كثيرة جبارة في سبيل الله تعالى من أجل نشر الدعوة الإسلامية؛ فقد تركوا أموالهم وديارهم في مكة مهاجرين إلى مكان يأويهم ويكون آمنًا لهم من الأذى الشديد الذي واجهوه من قومهم آنذاك مساندةً لرسول الأمة الأعظم وحبًا له. يقول الحق تبارك وتعالى: " إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (التوبة: 40). صدق الله العظيم.