
الجفاف يعصف بألمانيا.. غذاء مهدد واقتصاد في مأزق
ففي مناطق واسعة من البلاد، غابت الأمطار لأيام وأسابيع، وهذا ألحق أضرارا مباشرة بالمحاصيل الزراعية، وأثر على حركة الشحن النهري، وسط تحذيرات متزايدة من تداعيات اقتصادية وخدمية مقلقة.
الزراعة والمياه في مواجهة الخطر
الدكتور يورغ ريشينبيرغ، رئيس قسم المياه والأراضي في الهيئة الاتحادية للبيئة، أوضح في حديثه لموقع "الجزيرة نت" أن تداعيات الجفاف لا تقتصر على تراجع نمو النباتات، بل تمتد إلى فقدان التربة لخصوبتها.
وأضاف: "إذا انخفضت احتياطيات المياه في التربة نتيجة فترات جفاف سابقة، فإن أي نقص جديد في الأمطار يؤدي إلى خسائر فادحة في المحاصيل الزراعية". كما حذر من تعرية التربة بفعل الرياح، والتي تتسبب في فقدان الطبقة العلوية الغنية بالمواد العضوية.
وأشار ريشينبيرغ إلى أن تغير أنماط هطول الأمطار وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يُخلّ بالتوازن بين العرض والطلب على المياه. ونتيجة لذلك، تزداد حدة التنافس بين القطاعات المختلفة مثل الطاقة، الزراعة، الصناعة، وإمدادات مياه الشرب، بالإضافة إلى تأثيرات ذلك على استقرار الأنظمة البيئية.
وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يعني أن الكميات المتاحة لا تكفي لتلبية الحاجات اليومية، وهذا قد يؤدي إلى اضطرابات في توفير المياه للمزارع والمنازل والمصانع، خاصة في أوقات الذروة.
الغابات تحترق.. والقيود تتوسع
تزايد الجفاف جعل الغابات، خصوصا في شرق ألمانيا، أكثر عرضة لخطر الحرائق. وتُعد ولاية براندنبورغ، ذات الغطاء الكثيف من غابات الصنوبر وتربتها الرملية الخفيفة، من أكثر المناطق تهديدا. وفي خطوة احترازية، فرضت السلطات المحلية قيودا صارمة على سحب المياه من الأنهار والبحيرات والآبار في 8 مقاطعات ببراندنبورغ، فضلا عن مناطق أخرى في ولاية ساكسونيا أنهالت.
أندريه بيرغر، المدير العام للرابطة الألمانية للبلديات، شدد على أن هذه الإجراءات ضرورية لتفادي فرض حظر شامل على استخدام المياه، قائلا: "بهذه الطريقة فقط يمكننا منع اتخاذ تدابير أكثر صرامة في المستقبل".
الراين يجف.. وقلق في قلب الصناعة
ويعد نهر الراين شريانا اقتصاديا رئيسيا في ألمانيا، إذ يربط موانئ الشمال بالمراكز الصناعية في الجنوب. ومع تراجع منسوب مياهه إلى مستويات حرجة، تصاعدت المخاوف من انعكاسات اقتصادية جسيمة.
نيلس يانزن، رئيس قسم التحليل الاقتصادي في معهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW)، حذر في تصريحات لصحيفة "هاندلسبلات" من التبعات، قائلا: التجارب السابقة أظهرت أن انخفاض منسوب مياه الراين لفترة طويلة قد يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة تصل إلى 1% شهريا.
في حين اعتبرت وزيرة الاقتصاد في ولاية شمال الراين-وستفاليا، منى نويباور أن الوضع أصبح مقلقا للغاية، مشيرة إلى أن مارس/آذار الماضي كان من أكثر الشهور جفافا منذ بدء تسجيل بيانات المناخ، وفقا لهيئة الأرصاد الألمانية.
خسائر تتكرر.. وشركات تتألم
ولا تزال تجربة عام 2018 حاضرة في الذاكرة الاقتصادية، عندما أدى انخفاض منسوب الراين إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الألماني بنسبة 0.4%. كما تكبدت شركات كبرى مثل "باسف" للصناعات الكيميائية خسائر كبيرة نتيجة تعطل سلاسل الإمداد.
وفي عام 2022، ارتفعت أسعار الوقود بشكل ملحوظ في جنوب البلاد بسبب تعطل حركة الشحن النهري، إذ لم تتمكن السفن من نقل الوقود من موانئ الشمال إلى مناطق الجنوب.
وتشير بيانات القياس في مدينة كاوب إلى أن بقاء منسوب المياه تحت مستوى 78 سنتيمترا لأكثر من 30 يوما يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1%.
وهو ما يعني أن النهر يصبح غير صالح للملاحة الكاملة عندما ينخفض منسوب المياه إلى أقل من هذا الحد، وهذا يعيق مرور السفن التجارية التي تحمل البضائع الثقيلة.
وقال الخبير الاقتصادي جوزيف لابشوتس في حديثه لموقع "الجزيرة نت": "إذا استمر انخفاض منسوب المياه، فستعاني المصانع من نقص في المواد الخام، وقد تضطر إلى خفض الإنتاج أو حتى إيقافه مؤقتا". داعيا الحكومة الألمانية إلى تحرك عاجل لمعالجة هذا التهديد المتفاقم.
حلول مؤجلة.. المال وحده لا يكفي
شركات مثل "باسف" بدأت بالفعل بالبحث عن حلول بديلة، من بينها شراء سفن ذات تصميم خاص للإبحار في المياه الضحلة. إلا أن هذه الإجراءات تبقى حلولا مؤقتة، إذ إن الموقع الصناعي الرئيسي للشركة في لودفيغسهافن يستقبل يوميا حوالي 15 سفينة، وهي كميات لا يمكن تعويضها بسهولة عبر الشحن البري أو السكك الحديدية.
ورغم أن الحكومة الألمانية السابقة وضعت خطة لتعميق مجرى نهر الراين بنحو 20 سنتيمترا في مناطق ضيقة تمتد لمسافة 50 كيلومترا، فإن المشروع لا يزال متعثرا بسبب التعقيدات البيروقراطية. وعلّق وزير النقل السابق فولكر فيسينغ بالقول: "المال وحده لا يكفي لحل مشاكل البنية التحتية، بل نحتاج إلى سرعة في التنفيذ".
الوقاية أولا.. رؤية إستراتيجية مفقودة
ويرى الخبير في مواجهة الكوارث المناخية، جوزيف لابشوتس أن ما يجري اليوم هو إدارة لأعراض الأزمة، وليس معالجة لأسبابها الجذرية.
ويضيف: "على مدى السنوات الماضية، تم اتخاذ العديد من الإجراءات على المستويات الأوروبية والألمانية، وتم تعزيز التعاون الأوروبي من خلال برامج مثل "كوبرنيكوس" التي تقدم الدعم للدول عندما تعجز عن المواجهة منفردة".
ويشدد لابشوتس على أن الوقاية طويلة الأمد هي الأساس في التصدي لهذه الكوارث المتكررة. ويقول: "يجب إعادة تشجير الغابات وتغيير أنماط إدارتها، واستخدام تقنيات حديثة مثل أجهزة الاستشعار لمراقبة الغطاء النباتي، إلى جانب أنظمة إنذار مبكر، والمراقبة عبر الأقمار الصناعية".
ويختم بالقول: "لا بد أن تكون هذه الجهود شاملة وعادلة اجتماعيا. تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ضرورة لا يمكن التخلي عنها، وهي مسؤولية جماعية تقع على عاتق الحكومات، والشركات، والمجتمع المدني".
أزمة متشابكة تنتظر إرادة سياسية
الجفاف في ألمانيا لم يعد ظاهرة عابرة، بل تحول إلى أزمة مركبة تمس الأمن الغذائي، واستقرار الاقتصاد، وسلامة النظم البيئية.
وبينما تتخذ السلطات تدابير مؤقتة لاحتواء الآثار، تظل المعالجة الجذرية معلقة بين بطء التنفيذ وضعف الإرادة السياسية. ما يحتاجه الوضع ليس فقط تمويلا أو معدات، بل رؤية متكاملة طويلة الأمد تضع البيئة في قلب السياسات الاقتصادية، وتمنح الاستدامة أولوية تتناسب مع حجم الخطر.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
الجينات تتكلم.. الجزيرة نت تحاور باحثا كشف أسرار البحرين قبل 2500 سنة
بعد نشرها بدورية"سيل جينوميكس"، تستمر دراسة الحمض النووي القديم التي أُجريت على رفات بشر من البحرين في إثارة اهتمام الباحث روي مارتينيانو من كلية العلوم البيولوجية والبيئية بجامعة ليفربول. وليس فقط لأنها كشفت عن أسرار ظلت حبيسة في عظام دفنتها الرمال الساخنة منذ قرون، بل لأنها شكلت انتصارا علميا حقيقيا، إذ تمكن الفريق من استخلاص الحمض النووي رغم الظروف المناخية القاسية التي طالما أعاقت محاولات مماثلة في الجزيرة العربية. وفي مقابلة خاصة مع "الجزيرة نت"، استعاد مارتينيانو تفاصيل التجربة بشغف واضح، متحدثا عن نجاحه، مع زملائه في الفريق البحثي الذي ضم بيير لومبارد، رئيس البعثة الأثرية الفرنسية في البحرين، وسلمان المحاري من هيئة البحرين للثقافة والآثار، في تحقيق ما أخفقت فيه فرق بحثية سابقة، كما كشف عما توصلوا إليه من تفاصيل غير مسبوقة تتعلق بالتنوع الوراثي في البحرين قبيل ظهور الإسلام، وتأثير الزراعة على الصحة، بالإضافة إلى خططهم الطموحة لتوسيع نطاق البحث مستقبلا. بدأ الحوار بسؤاله عن التحديات التي واجهتهم في تحليل الحمض النووي من رفات بشر يعود إلى 3 مواقع بحرينية، فاعترف أن أشعة الشمس الحارقة ودرجات الحرارة المرتفعة، المصحوبة أحيانا برطوبة عالية، تتلف الحمض النووي بسرعة كبيرة، كما أن التربة الغنية بالبكتيريا تغزو العظام بمرور الوقت، مما يؤدي إلى تلوث العينات، لذلك فإنه من بين كل 100 جزيء حمض نووي استُخرج من العظام، كان فقط جزيء واحد ينتمي للإنسان، والباقي بكتيري. ولمواجهة هذه التحديات، استخدم الفريق البحثي تقنية تعتمد على نقع مسحوق العظام في محلول مبيض مخفف لفترة قصيرة وبطريقة لطيفة، بهدف إزالة التلوث السطحي من البكتيريا مع الحفاظ على الحمض النووي البشري الموجود في الطبقات الداخلية من العظام. ووفقا لمارتينيانو، فقد أدت هذه الطريقة إلى زيادة كمية الحمض النووي البشري المستخرج بمقدار 15 ضعفا مقارنة بالطرق التقليدية، مما مكنهم من إتمام عملية التحليل بنجاح. تنوع وراثي لافت ومن بين 4 عينات نجح الفريق في استخلاصها وتعود إلى فترة تايلوس (نحو 300 قبل الميلاد حتى 600 ميلادي)، اكتشف الفريق تنوعا وراثيا لافتا، إذ أظهرت التحليلات الجينية وجود أصول متعددة تعود إلى مناطق مثل الأناضول وبلاد الشام والإمبراطورية الفارسية، مما يشير إلى أن سكان البحرين في تلك الفترة شهدوا بالفعل موجات متعاقبة من الهجرة والاختلاط السكاني عبر فترات زمنية طويلة. ويضيف مارتينيانو: "هذا التنوع يشير إلى أن البحرين كانت موطنا لمجموعات بشرية ذات أصول مختلفة تعايشت بسلام خلال حقبة تايلوس، لكن من المحتمل أن تكون تلك الأصول قد وصلت إلى البحرين قبل حقبة تايلوس عبر حضارة دلمون (حوالي 3000-2000 قبل الميلاد)، التي كانت وفقا للسجلات المسمارية (أقدم نظام كتابة معروف في بلاد الرافدين حوالي 3400 قبل الميلاد) متصلة بمناطق مثل بلاد الرافدين والشام وعُمان". ومن خلال التحليل الدقيق للعينات الأربع، توصل الفريق إلى عدد من السمات الوراثية اللافتة، التي رسمت صورة أوضح لسكان البحرين في تلك الفترة، فقد أظهرت إحدى العينات دليلا واضحا على زواج أبناء العمومة، مما يشير إلى أن هذه الممارسة الاجتماعية كانت قائمة في المنطقة. وفيما يتعلق بالكروموسومات، تبين أن الذكور الذين شملتهم الدراسة ينتمون إلى سلالات وراثية نادرة، لم تُرصد في سكان الخليج المعاصرين، لكنها ظهرت في مناطق مثل تركيا والقوقاز، أما السلالات الأمومية فقد أظهرت روابط جينية مع العراق والهند والقوقاز وحتى أوروبا، في دليل على الهجرات واسعة النطاق عبر العصور. مقارنة مع جينات اليوم أما من حيث السمات الشكلية، فيرجح أن الأفراد الأربعة كانت أعينهم بنية، وشعرهم أسود أو بني، مع تباين في لون البشرة، إذ تمتع اثنان منهم ببشرة داكنة، بينما كان الآخران أفتح قليلا، في نمط لا يختلف كثيرا عن سمات سكان الشرق الأوسط المعاصرين. ويرجح أن موجات الهجرة والتداخل السكاني، خاصة عبر طرق التجارة، لعبت دورا محوريا في تشكيل الخريطة الجينية الحالية والمستقرة، في الجزيرة العربية ككل، والتي تجمعت من خطوط مختلفة لتتوحد بعد ظهور الإسلام. لكن إحدى المفاجآت اللافتة في النتائج الجينية كانت في الصحة، إذ كشفت التحليلات عن وجود طفرة جينية تُعرف باسم "جي-سيكس-بي-دي" لدى أحد الأفراد، وهي طفرة تمنح حامليها حماية جزئية من الملاريا، وقد قاد هذا الاكتشاف الفريق إلى فرضية مثيرة ترتبط بتاريخ الزراعة في شرق الجزيرة العربية. ويشرح مارتينيانو: "عندما بدأت الزراعة في المنطقة قبل نحو 5 آلاف عام، وفرت البيئات الزراعية، المعتمدة على مصادر مياه دائمة، مناخا مثاليا لتكاثر البعوض، وبالتالي لانتشار الملاريا. وفي هذه البيئة، كان الأفراد الذين يحملون الطفرة الوراثية (جي-سيكس-بي-دي) يتمتعون بميزة تكيفية، لأنها تقلل من احتمالات الإصابة بأعراض الملاريا الحادة، مما يزيد من فرص نجاتهم وبقائهم على قيد الحياة". ويضيف: "بمرور الأجيال، ساهم هذا في ارتفاع معدلات انتشار الطفرة في المجتمعات المحلية، وهو ما يُفسر استمرار وجودها اليوم بين سكان شرق الجزيرة العربية، كأثر بيولوجي طويل الأمد لظهور الزراعة وانتشار المرض في البيئة القديمة". وعن خطواته المقبلة في مشروع دراسة الجينات القديمة بالجزيرة العربية، قال مارتينيانو إن فريقه يعمل حاليا على توسيع نطاق البحث ليشمل عينات من مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية، بالتعاون مع علماء آثار محليين. وأضاف أن "المنطقة تزخر بتاريخ غني ومهم، لكنه لا يزال غير مدروس بالشكل الكافي، وتطور تقنيات تحليل الحمض النووي سيُحدث طفرة في فهمنا لماضي الجزيرة العربية".


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
إضاءة على أدب "اليوتوبيا".. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا
عند الحديث عن أدب اليوتوبيا، نجد أنها تنقسم إلى نوعين رئيسيين: اليوتوبيا المثالية، التي تصور الإنسان في أكمل صورة وتثق بخيره وطبيعته المعطاءة، وتقيم فردوسها الأرضي على أساس من المثل الأخلاقية والروحانية. واليوتوبيا العلمية، التي تقوم على أساس علمي وتقيم سعادتها المنشودة على ركائز تكنولوجية تبشر بمزيد من الإنجازات العلمية المسخرة لتوفير رفاهية الإنسان وهنائه المعاصر. وبين اليوتوبيا المثالية، المتخوفة على مصير الإنسان الحيوي، واليوتوبيا العلمية، المتبنية للمذهب الميكانيكي في الإنسان والآلة على حد سواء، انقسم العلماء والمفكرون والكتاب. وظهر في المجتمع الصناعي المتقدم تيار بارز لليوتوبيا المثالية، وقف في وجه الفلسفة المادية الميكانيكية التي تحلم بتوفير السعادة لبني الإنسان. واليوتوبيا المثالية تيار فلسفي قديم ممتد عبر تاريخ البشرية، من أرسطو والفارابي إلى شوبنهاور وهنري برغسون ولويد مورغان. غير أن الإمعان في التكنولوجيا، الذي أفرزته الثورة الصناعية ، والمبالغة في تطويرها والتدليل على قدرتها على توفير السعادة الدنيوية، انطوى على محاذير وأخطار وتخوفات. وقد دفعت هذه التوجهات دعاة اليوتوبيا المثالية إلى الوقوف في وجه المغالاة التكنولوجية، التي رفعت الإنسان إلى قلب "غابة إلكترونية موحشة"، حولت الآلة الصناعية إلى سلطان يسيطر على هذه الغابة ويتحكم بمصيرها. ولعل الكاتب المسرحي التشيكي كارل تشابيك يقف في طليعة الكتاب الرواد الذين تصدوا لظاهرة اليوتوبيا العلمية، المبشرة بسعادة الإنسان والمهددة لحاضره ومستقبله في آن واحد. وتعد مسرحيته "الإنسان الآلي" نموذجا حيا لهذا الاتجاه الفكري المناهض لحركة اليوتوبيا العلمية المتغطرسة. اليوتوبيا والكارثة الآلية في هذه المسرحية، التي تدور حول "إنسان روسوم الآلي"، يتصدى "تشابيك" للحلم التكنولوجي القائم على تطوير ميكانيكية الآلة الصناعية، ويكشف بأسلوب درامي ما يمكن أن ينطوي عليه هذا الحلم من كوابيس وأخطار. ولكي يدير الكاتب المسرحي دفة الصراع، يضعنا أمام فريقين متضادين في الموقف والاتجاه: الفريق الأول: هو فريق حالم، متحمس لفكرة تطوير الإنسان الآلي بروح صوفية تأملية، تصل به إلى وضع كمالي من أجل توفير الرفاهية الاقتصادية في عالم الإنسان، ورفع مستوى المعيشة، وتوفير الراحة من خلال خفض ساعات العمل وتجنيب العامل الكدح والشقاء. ويمثل هذا الفريق في المسرحية السيد هاري دومين، المدير العام لمصانع روسوم للإنسان الآلي العالمي، إذ نجده في الفصل الأول يتحدث بحماس وتفاؤل إلى السيد "الكويست"، مدير التوريدات، قائلا: "خلال 10 سنوات، سيقوم إنسان روسوم الآلي بإنتاج الكثير من القمح والقماش، وسيحصل كل فرد على ما يريد، وبهذا لن يكون هناك فقر… والأشياء ستصبح من دون ثمن". أما الفريق الثاني: فهو فريق متشكك في نتائج الحلم التكنولوجي، ومتخوف من وقوع الإنسان في عبودية الآلة الإلكترونية، ومتمسك بحيوية العمل الإنساني. ويمثل هذا الفريق السيد "الكويست" نفسه، إذ يقول لدومين: "لقد كان في العمل لذة جميلة يا دومين… كان العمل شيئا عظيما في الإنسانية… آه! لقد كان هناك نوع من الفضيلة في الكدح والتعب". وببراعة في نسيج الحوار وعرض الحدث المسرحي، يخص الكاتب كارل تشابيك الفصل الأول من المسرحية بالكشف عن محاولات العلماء لتحقيق الفردوس الآلي، ويتماشى بحيادية مع حلمهم اليوتوبي الجميل الذي يراود عقولهم. لدرجة أننا نرى آنسة مندفعة تدعى "هيلينا جلوري"، يدفعها إعجابها بالإنسان الآلي إلى إنشاء جمعية خيرية للرفق به. وتزور مصنع روسوم من أجل هذا الغرض، لكنها تصطدم بواقع تكوين هؤلاء "الناس الآليين" القابلين للتفكيك والتركيب، والمجردين من العاطفة والإحساس. وسرعان ما تفزع الآنسة هيلينا مما تكتشف، ولا تخفي اشمئزازها من هذه الظاهرة التي كانت غائبة عن بالها. الوجه القبيح للمشروع اليوتوبي ينقل الكاتب المصنع الآلي برمته إلى خشبة المسرح، وبعد أن يعرض حلم العلماء في الطبيعة، يبدأ بالتدريج في الانفصال عن حلمهم، ليبرز الوجه القبيح والشاذ لمشروعهم اليوتوبي. ولا يخلو الحوار من التهكم على طريقة تفكير هؤلاء العلماء، وعلى أسلوب علاقاتهم الإنسانية؛ فمثلا، يعرض السيد "دومين" الزواج على الآنسة "هيلينا جلوري" بطريقة آلية مثيرة للضحك، فيقول وهو ينظر إلى ساعته: "لثلاث دقائق أخرى… إذا لم تتزوجيني، فعليك أن تتزوجي واحدا من الخمسة الآخرين!". ورغم موافقة هيلينا على الزواج من دومين، فإن الفصول الثلاثة التالية تكشف عن موقف المؤلف الصارم والمنحاز إلى أدب اليوتوبيا المضادة. ففي الفصل الثاني، تقرأ أنباء من الصحف العالمية تقول: "حرب آلية في البلقان… الجنود الآليون لا يرحمون أحدا… الآليون يذبحون أكثر من 700 ألف مواطن!". وحقيقة ما يحدث، أن فريق العلماء المتحمسين، وعلى رأسه الدكتور جول، رئيس قسم الفسيولوجيا بمصانع روسوم، يتمكن من تخليق "إنسان روسوم العالي" الذي يصبح في وسعه صناعة الناس الآليين والإشراف عليهم. وسرعان ما يتمرد هذا الإنسان الجديد على العلماء، وينفصل عن المصنع، ويأخذ في صناعة الناس الآليين وقيادتهم باستقلالية وعدوانية غريبة تجاه الإنسان البشري أينما كان. وهنا يبلغ الصراع المسرحي ذروته، إذ يظهر فريق ثالث من الناس الآليين، يمثل الخطر الحقيقي. هذا الفريق المتغطرس يضع الفريقين البشريين المتصارعين على جبهة دفاعية واحدة. ويتجسد في هذا الفريق الثالث الخطر الآلي الحقيقي على إنسان هذا العصر. ويبقى الصراع الدرامي ماثلا في الذروة، حين ينزل العقاب من السماء: فلا تسجل حالة ولادة بشرية واحدة، ويتوقف التناسل البشري. فهذه الخادمة "إما" تصرخ في هلع شديد: "إن الناس ما عادوا يولدون… هذا هو العقاب!". أما ريست، رائد الفريق المتحفظ منذ البداية، فنراه يصلي ضد التقدم العلمي، ويطلب من الله أن يهدي دومين وكل من ضلوا السبيل. إلا أن الواقعة تكون قد وقعت فعلا، بعد أن تمردت "الناس الآلية" على سادتها الحالمين من البشر، من دون إحساس أو وازع من ضمير. وتظل المشكلة الحضارية تتفاقم، إلى أن يجد علماء المصنع أنفسهم محاصرين من القوى الآلية التي صنعوها وطوروها، ومهددين بالحرق والتدمير. أما الفصلان الثالث والرابع من هذه المسرحية التعبيرية الرائعة، فينطويان على فجيعة حضارية مأساوية تنبأ بها المؤلف لإنسان هذا العصر، المتغطرس في اعتداده بقدراته العلمية. إذ تنتهي المسرحية بتدمير مصنع روسوم الآلي على رؤوس علمائه ومهندسيه، بقيادة زعيم الجنود الآليين "راديوس"، وذلك بعد أن تكون الجيوش الآلية قد قضت على بني البشر جميعا. يهمنا في نهاية هذه الدراسة الطائرة لأطرف وأعمق عمل درامي وضعه المؤلف التشيكي "كارل تشابيك"، أن نشير إلى سمتين بارزتين تميزت بهما فكرة المسرحية. السمة الأولى: هي التعبير عن الإيمان القوي بالخالق، وهو التعبير الذي يمثله "الكويست"، مدير التوريدات، الذي يكفر بنظرة "دومين" العلمية المغرورة، تلك النظرة التي تتخلى عن الجانب الروحاني في حياة الإنسان. ولهذا السبب، أبقى المؤلف "الكويست" حيا عند تدمير المصنع، دون بقية شخوص المسرحية، ليسارع إلى التفتيش عن الإنجيل في درج المكتب، ويفتحه ليقرأ: "ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جدا". السمة الثانية: هي سعة الخيال العلمي، الذي حلق فيه الكاتب، وجعله يتجلى في تنبؤاته المستقبلية المبنية على واقع التقدم الآلي. إن هذه المسرحية العالمية تظل تشكل النموذج الحي لمسرح اليوتوبيا المثالية، الذي تصدى -وما يزال- لمخاطر صراع الإنسان المعاصر مع الآلة، في بحثه عن الفردوس الأرضي.


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
الجفاف يعصف بألمانيا.. غذاء مهدد واقتصاد في مأزق
لم تعد تأثيرات تغير المناخ في ألمانيا مجرد تحذيرات نظرية، بل تحولت إلى واقع ملموس تتجلى آثاره في تراجع الأمطار، وتصحر الحقول، وتدهور الغابات. ففي مناطق واسعة من البلاد، غابت الأمطار لأيام وأسابيع، وهذا ألحق أضرارا مباشرة بالمحاصيل الزراعية، وأثر على حركة الشحن النهري، وسط تحذيرات متزايدة من تداعيات اقتصادية وخدمية مقلقة. الزراعة والمياه في مواجهة الخطر الدكتور يورغ ريشينبيرغ، رئيس قسم المياه والأراضي في الهيئة الاتحادية للبيئة، أوضح في حديثه لموقع "الجزيرة نت" أن تداعيات الجفاف لا تقتصر على تراجع نمو النباتات، بل تمتد إلى فقدان التربة لخصوبتها. وأضاف: "إذا انخفضت احتياطيات المياه في التربة نتيجة فترات جفاف سابقة، فإن أي نقص جديد في الأمطار يؤدي إلى خسائر فادحة في المحاصيل الزراعية". كما حذر من تعرية التربة بفعل الرياح، والتي تتسبب في فقدان الطبقة العلوية الغنية بالمواد العضوية. وأشار ريشينبيرغ إلى أن تغير أنماط هطول الأمطار وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يُخلّ بالتوازن بين العرض والطلب على المياه. ونتيجة لذلك، تزداد حدة التنافس بين القطاعات المختلفة مثل الطاقة، الزراعة، الصناعة، وإمدادات مياه الشرب، بالإضافة إلى تأثيرات ذلك على استقرار الأنظمة البيئية. وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يعني أن الكميات المتاحة لا تكفي لتلبية الحاجات اليومية، وهذا قد يؤدي إلى اضطرابات في توفير المياه للمزارع والمنازل والمصانع، خاصة في أوقات الذروة. الغابات تحترق.. والقيود تتوسع تزايد الجفاف جعل الغابات، خصوصا في شرق ألمانيا، أكثر عرضة لخطر الحرائق. وتُعد ولاية براندنبورغ، ذات الغطاء الكثيف من غابات الصنوبر وتربتها الرملية الخفيفة، من أكثر المناطق تهديدا. وفي خطوة احترازية، فرضت السلطات المحلية قيودا صارمة على سحب المياه من الأنهار والبحيرات والآبار في 8 مقاطعات ببراندنبورغ، فضلا عن مناطق أخرى في ولاية ساكسونيا أنهالت. أندريه بيرغر، المدير العام للرابطة الألمانية للبلديات، شدد على أن هذه الإجراءات ضرورية لتفادي فرض حظر شامل على استخدام المياه، قائلا: "بهذه الطريقة فقط يمكننا منع اتخاذ تدابير أكثر صرامة في المستقبل". الراين يجف.. وقلق في قلب الصناعة ويعد نهر الراين شريانا اقتصاديا رئيسيا في ألمانيا، إذ يربط موانئ الشمال بالمراكز الصناعية في الجنوب. ومع تراجع منسوب مياهه إلى مستويات حرجة، تصاعدت المخاوف من انعكاسات اقتصادية جسيمة. نيلس يانزن، رئيس قسم التحليل الاقتصادي في معهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW)، حذر في تصريحات لصحيفة "هاندلسبلات" من التبعات، قائلا: التجارب السابقة أظهرت أن انخفاض منسوب مياه الراين لفترة طويلة قد يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة تصل إلى 1% شهريا. في حين اعتبرت وزيرة الاقتصاد في ولاية شمال الراين-وستفاليا، منى نويباور أن الوضع أصبح مقلقا للغاية، مشيرة إلى أن مارس/آذار الماضي كان من أكثر الشهور جفافا منذ بدء تسجيل بيانات المناخ، وفقا لهيئة الأرصاد الألمانية. خسائر تتكرر.. وشركات تتألم ولا تزال تجربة عام 2018 حاضرة في الذاكرة الاقتصادية، عندما أدى انخفاض منسوب الراين إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الألماني بنسبة 0.4%. كما تكبدت شركات كبرى مثل "باسف" للصناعات الكيميائية خسائر كبيرة نتيجة تعطل سلاسل الإمداد. وفي عام 2022، ارتفعت أسعار الوقود بشكل ملحوظ في جنوب البلاد بسبب تعطل حركة الشحن النهري، إذ لم تتمكن السفن من نقل الوقود من موانئ الشمال إلى مناطق الجنوب. وتشير بيانات القياس في مدينة كاوب إلى أن بقاء منسوب المياه تحت مستوى 78 سنتيمترا لأكثر من 30 يوما يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1%. وهو ما يعني أن النهر يصبح غير صالح للملاحة الكاملة عندما ينخفض منسوب المياه إلى أقل من هذا الحد، وهذا يعيق مرور السفن التجارية التي تحمل البضائع الثقيلة. وقال الخبير الاقتصادي جوزيف لابشوتس في حديثه لموقع "الجزيرة نت": "إذا استمر انخفاض منسوب المياه، فستعاني المصانع من نقص في المواد الخام، وقد تضطر إلى خفض الإنتاج أو حتى إيقافه مؤقتا". داعيا الحكومة الألمانية إلى تحرك عاجل لمعالجة هذا التهديد المتفاقم. حلول مؤجلة.. المال وحده لا يكفي شركات مثل "باسف" بدأت بالفعل بالبحث عن حلول بديلة، من بينها شراء سفن ذات تصميم خاص للإبحار في المياه الضحلة. إلا أن هذه الإجراءات تبقى حلولا مؤقتة، إذ إن الموقع الصناعي الرئيسي للشركة في لودفيغسهافن يستقبل يوميا حوالي 15 سفينة، وهي كميات لا يمكن تعويضها بسهولة عبر الشحن البري أو السكك الحديدية. ورغم أن الحكومة الألمانية السابقة وضعت خطة لتعميق مجرى نهر الراين بنحو 20 سنتيمترا في مناطق ضيقة تمتد لمسافة 50 كيلومترا، فإن المشروع لا يزال متعثرا بسبب التعقيدات البيروقراطية. وعلّق وزير النقل السابق فولكر فيسينغ بالقول: "المال وحده لا يكفي لحل مشاكل البنية التحتية، بل نحتاج إلى سرعة في التنفيذ". الوقاية أولا.. رؤية إستراتيجية مفقودة ويرى الخبير في مواجهة الكوارث المناخية، جوزيف لابشوتس أن ما يجري اليوم هو إدارة لأعراض الأزمة، وليس معالجة لأسبابها الجذرية. ويضيف: "على مدى السنوات الماضية، تم اتخاذ العديد من الإجراءات على المستويات الأوروبية والألمانية، وتم تعزيز التعاون الأوروبي من خلال برامج مثل "كوبرنيكوس" التي تقدم الدعم للدول عندما تعجز عن المواجهة منفردة". ويشدد لابشوتس على أن الوقاية طويلة الأمد هي الأساس في التصدي لهذه الكوارث المتكررة. ويقول: "يجب إعادة تشجير الغابات وتغيير أنماط إدارتها، واستخدام تقنيات حديثة مثل أجهزة الاستشعار لمراقبة الغطاء النباتي، إلى جانب أنظمة إنذار مبكر، والمراقبة عبر الأقمار الصناعية". ويختم بالقول: "لا بد أن تكون هذه الجهود شاملة وعادلة اجتماعيا. تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ضرورة لا يمكن التخلي عنها، وهي مسؤولية جماعية تقع على عاتق الحكومات، والشركات، والمجتمع المدني". أزمة متشابكة تنتظر إرادة سياسية الجفاف في ألمانيا لم يعد ظاهرة عابرة، بل تحول إلى أزمة مركبة تمس الأمن الغذائي، واستقرار الاقتصاد، وسلامة النظم البيئية. وبينما تتخذ السلطات تدابير مؤقتة لاحتواء الآثار، تظل المعالجة الجذرية معلقة بين بطء التنفيذ وضعف الإرادة السياسية. ما يحتاجه الوضع ليس فقط تمويلا أو معدات، بل رؤية متكاملة طويلة الأمد تضع البيئة في قلب السياسات الاقتصادية، وتمنح الاستدامة أولوية تتناسب مع حجم الخطر.