logo
سيد الشموع: الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"

سيد الشموع: الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"

الجزيرةمنذ 14 ساعات
عجت أوروبا في عصور النهضة والأنوار وما تلاها بعشرات الفنانين التشكيليين، وعشرات المدارس الفنية التشكيلية، ما بين انطباعية وسريالية ودادية وتكعيبية، وغيرها.
بعض هؤلاء الفنانين حالفهم الحظ ذيوعاً وانتشاراً واشتهاراً في حياتهم، وبعد مماتهم أيضاً، والبعض الآخر عانى من قسوة الحياة، وشظف الظروف، ليفرض سطوته الفنية بعد ذلك في سوق الفن التشكيلي كعبقرية استثنائية، والمثال الصارخ على ذلك هو العبقري التشكيلي الهولندي "فان كوخ".
على أنه في منطقة رمادية تموضع بعض الفنانين التشكيليين؛ فلم يعانوا من إهمال في حياتهم، ولا انعدام تام لشهرتهم، ولكن كذلك أيضاً لم ترَ الدوائر الفنية الأوربية فيهم عبقرية فنية فذة تستحق الإشادة، لذا لم يبرحوا منطقة "العادي" للأسف في حياتهم، ليُعاد بعد ذلك اكتشاف عبقريتهم، بعد ما يزيد عن قرن على رحليهم.
من هؤلاء الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"، الذي يحيط باسمه شحّ معلوماتي في عالمنا العربي.. تعرّفه الموسوعات العربية: بـ"فنان هولندي بلجيكي، مهتم بزوايا الضوء الليلية في الأسواق الأوروبية، وتصوير الحياة العادية، ولد عام 1806 ورحل عام 1870". لكن ما أغفلته هذه المصادر أن "شندل" نفسه صدق أقوال النقاد عنه، بأنه مجرد رسام بورتريهات ملونة، تحاكي لوحاته الصور الفوتغرافية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والتي كانت حتى ذاك الوقت بالأبيض والأسود.
لذا؛ انصرف لمتابعة عمله كمهندس ميكانيكي، وجعل من الفن هواية ثانوية غير متفرغ لها كلياً، كعادة الفنانين في هذا التوقيت، وذلك تحت وطأة النقد التشكيلي القاسي، الذي لم يبذل عناءً في نفيه، كما لم يبذل عناءً في إثبات ذاته فنياً أمام نقاد عصره. أما فرادته الفنية، فقد اكتُشفت بعد ذلك، من ساحرية ضربات فرشاته، واستخدام الضوء في لوحاته بما يجعلها سيمفونية ليلية رومانسية نابضة، تصور الحياة العادية في أسواق أوروبا الليلة، التي لم تكن قد أضيئت بالكهرباء بعد.
صوّر "شندل" حياة الباعة الجائلين والطبقتين الفقيرة والمتوسطة بواقعية ورومانسية؛ تجعلها أشبه بالواقعية السحرية في عالم الكتابة الأدبية.
في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريدياً وسريالياً
في ليل البسطاء حين يصبح الضوء هو بطل الحكاية
لوحة "كشك الدواجن" (الحياة بين عالمين متناقضين)
في هذه اللوحة لعب "فان شندل" بالضوء لصنع تباين بين عالمين مختلفين؛ البائعة التي يوحي مظهرها بالفقر، والتي يبدو أنها لم تبع شيئاً طوال الليل، من خلال الضوء الممتقع على وجهها، وفي المقابل إحدى المشترِيات التي عكس الضوء نضارة بشرتها، ليوحي بأنها على درجة من اليسر، ومع ذلك تفاصل البائعة المسكينة في صفقة، يتبين من خلال لغة الجسد بينهما أنها لن تتم.
الخلفية الداكنة توحي بالليل الأوروبي الشتائي الداكن المبتهج، بفعل ظلال قمرية تُطل من بين السحب، وتشيع جواً من السرور، على العكس مما هو متوقع من التوتر المشاع في فضاء اللوحة، وكأنه تبشير بآتٍ أفضل.
وهي على النقيض من اللوحة الأولى.. يجري "شندل" زوايا الضوء في اللوحة، التي استخدم ظلال الشموع فيها لتعكس حدة ملامح البائع، وثقته في نفسه، كما أن وضعية جسده الممتد خلال اللوحة بأريحية توحي بأنه على يقين من إتمام صفقته بالسعر الذي يريده، فيما بدت الفتاة الواقفة بملامح باهتة، والتي ترتدي ملابس الخادمات، بأنها على وشك الاقتناع للشراء، رغم يقينها بعدم جودة السلعة.
في لوحته "الطريق إلى الكنيسة" تبدو الظلال قاتمة، ففي أحد أرجاء اللوحة سيدة تخاطب رجلاً جالساً على الدرج، وكأنها تسأله عن الطريق إلى شيء مجهول، فيما يتضح من خلال التكوين الفني في النظرة المتأملة لوجه المرأة ووقفتها، والطفل الممسك بيدها، وكأنها السيدة العذراء وابنها (الصورة الأيقونية الأوروبية للمسيح وأمه).
تسأل السيدة الرجل الجالس على الدرج عن شيء، وكأنها متوجسة من مصير مأساوي متوقع، في استلهام للمقدس، لكن بتوظيف دنيوي، متحرر من أيقونات الرسم الكنسي، التي مارسها معظم فناني أوروبا في عصورها المختلفة.
لماذا لم يشتهر بيتر فان شندل في عصره؟
في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريدياً وسريالياً، وعلى هذا الأساس سارت معظم المدارس الأوربية في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، والتي نظرت لـ"شندل" وغيره كمجرد رسامين لصور فوتوغرافية بالألوان الطبيعية ليس أكثر، متناسيين أن الفن لا إطار عام يحكمه، ولا قواعد صارمة له سوى ما يشاع في فضاء اللوحة نفسها، أو العمل الفني عموماً.
لذا استعادت الدوائر الأوروبية "بيتر شندل" ورسوماته كساحر تشكيلي، يتلاعب بكتلة الضوء لإظهار تباين أدق المشاعر الإنسانية، وتمازجها مع الطبيعة الليلية في لوحاته، ليصنع رؤية تشبه الرؤى السينمائية لاحقاً في استخدام الإضاءة، وإذا كان شندل لم يحظ بالتقدير اللائق في حياته، فإن عبقريته قد استعادها بعد عشرات السنوات من رحيله، ما يؤكد أن البقاء للمواهب الحقيقية، وإن تقادم الزمن.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مهرجان أفينيون المسرحي الفرنسي يحتفي بالعربية ويتضامن مع فلسطين
مهرجان أفينيون المسرحي الفرنسي يحتفي بالعربية ويتضامن مع فلسطين

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

مهرجان أفينيون المسرحي الفرنسي يحتفي بالعربية ويتضامن مع فلسطين

انطلقت مساء السبت فعاليات الدورة 79 من مهرجان أفينيون المسرحي في جنوب فرنسا، أحد أبرز الأحداث المسرحية الدولية، بعرض راقص هزلي أثار تباينًا في ردود فعل الجمهور، تزامنًا مع إعلان المهرجان تضامنه مع الشعب الفلسطيني واحتفائه هذا العام بالثقافة العربية كضيف شرف. وافتتح المهرجان في قاعة الشرف بقصر الباباوات بعرض "نوت" لمصممة الرقصات مارلين مونتيرو فريتاس من الرأس الأخضر، بمشاركة 8 راقصين وموسيقيين. وارتدى الفنانون أقنعة بعيون واسعة، وفساتين سوداء ومآزر بيضاء، محاكين بحركاتهم دمى آلية ومهرجين صغارا في عرض وصفه بعض النقاد بأنه مستلهم من أجواء "ألف ليلة وليلة"، بينما رآه آخرون استعادة لمناخات الرأس الأخضر الكرنفالية. تفاعل الجمهور مع العرض كان متفاوتًا؛ فبينما غادر بعض الحضور القاعة مبكرًا، أطلق آخرون صيحات استهجان، في حين بادر عدد من المتابعين إلى التصفيق تعبيرًا عن إعجابهم. تضامن فلسطيني ورسائل سياسية تزامن انطلاق المهرجان مع بيان تضامني مع الشعب الفلسطيني وقعه 26 فنانًا ومدير المهرجان تياغو رودريغيز، نُشر في مجلة "تيليراما" الفرنسية. وجاء في البيان: "نطالب بإنهاء المذبحة الجماعية المستمرة التي أودت بعدد هائل من الأطفال، وندين السياسات التدميرية لدولة إسرائيل". وحظي البيان بدعم عدد من مديري المسارح الفرنسية البارزين، مثل إيمانويل دومارسي-موتا، وكارولين غويلا نغوين، وجوليان غوسلان. ونشر رودريغيز على حسابه في إنستغرام منشورًا بعنوان: "مهرجان أفينيون يبدأ بينما تستمر المجزرة في غزة"، وعبّر فيه عن إدانته للحكومة الإسرائيلية وجرائمها في غزة، داعيًا إلى عالم يمكن أن تُقام فيه المهرجانات من جديد في غزة بسلام وحرية. العربية في قلب الدورة الـ79 اختار منظمو المهرجان اللغة العربية ضيف شرف الدورة الحالية، بعد التركيز في الدورات السابقة على اللغتين الإنجليزية (2023) والإسبانية (2024). ويشارك هذا العام نحو 15 فنانًا، معظمهم من مصممي الرقص والموسيقيين العرب، في فعاليات تسلط الضوء على غنى التراث العربي وتنوع إبداعه المعاصر. ودعا رودريغيز الجمهور إلى "الاستمتاع بالجمال والفرح والشعر، وفتح الأعين على المظالم وعدم المساواة في العالم". ضمن أبرز فعاليات هذا العام، تُقام في 18 يوليو/تموز أمسية مسرحية تستعرض تفاصيل محاكمة "اغتصابات مازان" التي شغلت الرأي العام الفرنسي بعد كشف قضية المرأة الفرنسية جيزيل بيليكو التي خدرها زوجها لسنوات وسلمها لرجال غرباء لاغتصابها. كما سيُخصَّص يوم 9 يوليو/تموز لقراءة نصوص الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال الذي يقضي حكمًا بالسجن مدته 5 سنوات بتهمة "المساس بوحدة الوطن". ووصف رودريغيز اعتقال صنصال بأنه "غير مقبول"، مضيفًا أن الكاتب "مسجون فقط بسبب أفكاره". جدل سياسي واحتجاجات فنية تُقام فعاليات أفينيون هذا العام في ظل أزمة ثقافية متصاعدة في فرنسا، وسط احتجاجات على تخفيضات الميزانية المخصصة للثقافة. ورفع فنانون مشاركون في المهرجان لافتات كُتب عليها "ثقافات في صراع"، مطالبين "باستقالة وزيرة الثقافة رشيدة داتي"، وفق اتحاد CGT للفنون المسرحية. وقال نائب الأمين العام للاتحاد ماكسيم سيشو خلال وقفة احتجاجية أمام بلدية المدينة: "إذ إنها تحرمنا من الثقافة، فلنحرمها من كل شيء". ورغم أن الوزيرة لم تُعلن عن نية زيارتها لأفينيون خلال جولتها في المنطقة، فإن النقابة دعت الفنانين إلى رفض المشاركة في أي عروض رسمية بحضورها أو بحضور أي من أعضاء حكومة فرانسوا بايرو. أُسّس مهرجان أفينيون عام 1947 على يد جان فيلار، ويُعد اليوم من أهم المهرجانات المسرحية العالمية إلى جانب مهرجان إدنبره. ويحول المهرجان مدينة أفينيون إلى مسرح مفتوح خلال يوليو/تموز من كل عام، بمشاركة مئات العروض والفرق الفنية. وإلى جانب مهرجان "إن" In الرسمي، تنطلق بالتوازي فعاليات مهرجان "أوف" Off الذي يُعد أكبر سوق للفنون المسرحية في فرنسا، ويستقطب سنويا أكثر من 1700 عرض مستقل. ورغم التحديات، يبقى المهرجان فضاء للاحتفاء بالإبداع، ومنصة للتعبير الحر والانفتاح الثقافي في قلب أوروبا.

هجوم برتغالي على رونالدو لتخلفه عن جنازة جوتا وهذا هو سر غيابه
هجوم برتغالي على رونالدو لتخلفه عن جنازة جوتا وهذا هو سر غيابه

الجزيرة

timeمنذ 8 ساعات

  • الجزيرة

هجوم برتغالي على رونالدو لتخلفه عن جنازة جوتا وهذا هو سر غيابه

أثار غياب النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو عن جنازة مواطنه ديوغو جوتا وشقيقه أندريه سيلفا جدلا حادا في البرتغال، تحول لهجوم وانتقادات لقائد المنتخب. ولم يحضر مهاجم النصر، الذي زامله جوتا لسنوات في المنتخب البرتغالي، المراسم التي أقيمت في جوندومار، مما أثار انتقادات عديدة، زاعمين أنه كان ينبغي أن يحضر، على الأقل بصفته قائدا للمنتخب. لكن المقربين من رونالدو برروا قراره بعدم الحضور بأنه يتجنب حضور الجنازات منذ سنوات لأسباب شخصية، ولتجنب تشتيت الانتباه عن صاحب الجنازة بحضوره. وكشفت صحيفة "ريكورد" البرتغالية أن رونالدو يعاني من صدمة نفسية مرتبطة بهذا النوع من المناسبات العامة منذ عام 2005، عقب وفاة والده، خوسيه دينيس أفيرو. منذ ذلك الحين، فضّل اللاعب البقاء بعيدا عن الأضواء الإعلامية خلال فترة الحداد. ووفقا لهذا التقرير، أراد كريستيانو نفسه تجنّب حضوره، محوّلا الوداع إلى مناسبة تتمحور حوله. أخت رونالدو تدافع عنه وردت كاتيا أفيرو شقيقة رونالدو بقوة على الهجوم والانتقادات التي نالت من شقيقها، وذلك عبر حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي قائلة "لدينا جميعا عائلات. إنه لأمر مخزٍ للغاية أن نرى كيف تركز القنوات التلفزيونية والمعلقون ووسائل التواصل الاجتماعي على الغياب بدلا من تكريم ألم عائلة مكلومة، دمرها خسارة شقيقين. أشعر بالخجل حتى من مشاهدة (الانتقادات). إنه لأمر مؤسف". وأضافت "عندما توفي والدي، بالإضافة إلى ألم الخسارة، كان علينا التعامل مع سيل من الكاميرات والمتفرجين الفضوليين في المقبرة وأينما ذهبنا". ورغم غيابه عن العزاء في كنيسة لابا في بورتو، وجّه رونالدو نعيا لجوتا عبر حساباته الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، كتب فيها "هذا غير منطقي، كنا معا في المنتخب الوطني، وأنت تزوجت للتو". وأضاف "إلى عائلتك وزوجتك وأولادك، أتقدم بأحر التعازي وأتمنى لهم كل القوة.. أعلم أنك ستكون معهم دائما، رحمكما الله، ديوغو وأندريه، سنفتقدكما جميعا". حضر الجنازة أيضا أعضاء آخرون من المنتخب البرتغالي، مثل: برونو فرنانديز، وبرناردو سيلفا، وروبن دياز، وروبن نيفيز، بالإضافة إلى زملاء سابقين في ليفربول مثل فان دايك. وحمل نيفيز النعش رغم مشاركته في مباراة مع فريقه الهلال السعودي قبل ساعات قليلة. وتُوفي جوتا وشقيقه بعد أن انحرفت سيارة لامبورغيني كانا يستقلانها عن الطريق في شمال غرب إسبانيا، واشتعلت فيها النيران في الساعات الأولى من صباح الخميس الماضي.

سيد الشموع: الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"
سيد الشموع: الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"

الجزيرة

timeمنذ 14 ساعات

  • الجزيرة

سيد الشموع: الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"

عجت أوروبا في عصور النهضة والأنوار وما تلاها بعشرات الفنانين التشكيليين، وعشرات المدارس الفنية التشكيلية، ما بين انطباعية وسريالية ودادية وتكعيبية، وغيرها. بعض هؤلاء الفنانين حالفهم الحظ ذيوعاً وانتشاراً واشتهاراً في حياتهم، وبعد مماتهم أيضاً، والبعض الآخر عانى من قسوة الحياة، وشظف الظروف، ليفرض سطوته الفنية بعد ذلك في سوق الفن التشكيلي كعبقرية استثنائية، والمثال الصارخ على ذلك هو العبقري التشكيلي الهولندي "فان كوخ". على أنه في منطقة رمادية تموضع بعض الفنانين التشكيليين؛ فلم يعانوا من إهمال في حياتهم، ولا انعدام تام لشهرتهم، ولكن كذلك أيضاً لم ترَ الدوائر الفنية الأوربية فيهم عبقرية فنية فذة تستحق الإشادة، لذا لم يبرحوا منطقة "العادي" للأسف في حياتهم، ليُعاد بعد ذلك اكتشاف عبقريتهم، بعد ما يزيد عن قرن على رحليهم. من هؤلاء الفنان التشكيلي "بتروس فان شندل"، الذي يحيط باسمه شحّ معلوماتي في عالمنا العربي.. تعرّفه الموسوعات العربية: بـ"فنان هولندي بلجيكي، مهتم بزوايا الضوء الليلية في الأسواق الأوروبية، وتصوير الحياة العادية، ولد عام 1806 ورحل عام 1870". لكن ما أغفلته هذه المصادر أن "شندل" نفسه صدق أقوال النقاد عنه، بأنه مجرد رسام بورتريهات ملونة، تحاكي لوحاته الصور الفوتغرافية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والتي كانت حتى ذاك الوقت بالأبيض والأسود. لذا؛ انصرف لمتابعة عمله كمهندس ميكانيكي، وجعل من الفن هواية ثانوية غير متفرغ لها كلياً، كعادة الفنانين في هذا التوقيت، وذلك تحت وطأة النقد التشكيلي القاسي، الذي لم يبذل عناءً في نفيه، كما لم يبذل عناءً في إثبات ذاته فنياً أمام نقاد عصره. أما فرادته الفنية، فقد اكتُشفت بعد ذلك، من ساحرية ضربات فرشاته، واستخدام الضوء في لوحاته بما يجعلها سيمفونية ليلية رومانسية نابضة، تصور الحياة العادية في أسواق أوروبا الليلة، التي لم تكن قد أضيئت بالكهرباء بعد. صوّر "شندل" حياة الباعة الجائلين والطبقتين الفقيرة والمتوسطة بواقعية ورومانسية؛ تجعلها أشبه بالواقعية السحرية في عالم الكتابة الأدبية. في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريدياً وسريالياً في ليل البسطاء حين يصبح الضوء هو بطل الحكاية لوحة "كشك الدواجن" (الحياة بين عالمين متناقضين) في هذه اللوحة لعب "فان شندل" بالضوء لصنع تباين بين عالمين مختلفين؛ البائعة التي يوحي مظهرها بالفقر، والتي يبدو أنها لم تبع شيئاً طوال الليل، من خلال الضوء الممتقع على وجهها، وفي المقابل إحدى المشترِيات التي عكس الضوء نضارة بشرتها، ليوحي بأنها على درجة من اليسر، ومع ذلك تفاصل البائعة المسكينة في صفقة، يتبين من خلال لغة الجسد بينهما أنها لن تتم. الخلفية الداكنة توحي بالليل الأوروبي الشتائي الداكن المبتهج، بفعل ظلال قمرية تُطل من بين السحب، وتشيع جواً من السرور، على العكس مما هو متوقع من التوتر المشاع في فضاء اللوحة، وكأنه تبشير بآتٍ أفضل. وهي على النقيض من اللوحة الأولى.. يجري "شندل" زوايا الضوء في اللوحة، التي استخدم ظلال الشموع فيها لتعكس حدة ملامح البائع، وثقته في نفسه، كما أن وضعية جسده الممتد خلال اللوحة بأريحية توحي بأنه على يقين من إتمام صفقته بالسعر الذي يريده، فيما بدت الفتاة الواقفة بملامح باهتة، والتي ترتدي ملابس الخادمات، بأنها على وشك الاقتناع للشراء، رغم يقينها بعدم جودة السلعة. في لوحته "الطريق إلى الكنيسة" تبدو الظلال قاتمة، ففي أحد أرجاء اللوحة سيدة تخاطب رجلاً جالساً على الدرج، وكأنها تسأله عن الطريق إلى شيء مجهول، فيما يتضح من خلال التكوين الفني في النظرة المتأملة لوجه المرأة ووقفتها، والطفل الممسك بيدها، وكأنها السيدة العذراء وابنها (الصورة الأيقونية الأوروبية للمسيح وأمه). تسأل السيدة الرجل الجالس على الدرج عن شيء، وكأنها متوجسة من مصير مأساوي متوقع، في استلهام للمقدس، لكن بتوظيف دنيوي، متحرر من أيقونات الرسم الكنسي، التي مارسها معظم فناني أوروبا في عصورها المختلفة. لماذا لم يشتهر بيتر فان شندل في عصره؟ في تلك الفترة من تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، كانت ذروة الثورية والتمرد على المدارس التشكيلية التي تبنت الشكل التقليدي للوحة، والتي رأت أن مقياس الفن الحقيقي ليس في تجسيد حرفي للواقع، بقدر ما هو محاكاة لهذا الواقع تجريدياً وسريالياً، وعلى هذا الأساس سارت معظم المدارس الأوربية في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، والتي نظرت لـ"شندل" وغيره كمجرد رسامين لصور فوتوغرافية بالألوان الطبيعية ليس أكثر، متناسيين أن الفن لا إطار عام يحكمه، ولا قواعد صارمة له سوى ما يشاع في فضاء اللوحة نفسها، أو العمل الفني عموماً. لذا استعادت الدوائر الأوروبية "بيتر شندل" ورسوماته كساحر تشكيلي، يتلاعب بكتلة الضوء لإظهار تباين أدق المشاعر الإنسانية، وتمازجها مع الطبيعة الليلية في لوحاته، ليصنع رؤية تشبه الرؤى السينمائية لاحقاً في استخدام الإضاءة، وإذا كان شندل لم يحظ بالتقدير اللائق في حياته، فإن عبقريته قد استعادها بعد عشرات السنوات من رحيله، ما يؤكد أن البقاء للمواهب الحقيقية، وإن تقادم الزمن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store