
سوريا على أعتاب سياسة نقدية جديدة*د.عدلي قندح
في تطور لافت يحمل دلالات سياسية واقتصادية، أعلن محافظ البنك المركزي السوري، الدكتور عبد القادر الحصرية، ملامح سياسة نقدية جديدة تتضمن رفض ربط الليرة السورية بأي عملة أجنبية، والامتناع عن اللجوء إلى أدوات الدين الخارجي. هذا التوجه، الذي جاء خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة CNBC عربية، يطرح تحولات عميقة في فلسفة إدارة النقد في سوريا، ويضع البلاد على عتبة نموذج نقدي جديد، يُبنى على التعويم المُدار، ويُحاط بجملة من التحديات المرتبطة بالبيئة الاقتصادية الهشة.
في قلب هذه السياسة يقف قرار التخلي عن تثبيت سعر الصرف وربطه بالدولار، والتوجه بدلاً من ذلك نحو تحرير سعر العملة المحلية وفق قوى السوق، مع احتفاظ البنك المركزي بحق التدخل عند الضرورة.
اقتصاديًا، يندرج هذا النهج ضمن نظام «التعويم المُدار» Managed Floating Exchange Rate Regime الذي يعتبره خبراء الاقتصاد خيارًا واقعيًا للدول ذات الاقتصاديات المرنة ولكن غير المستقرة، كونه يوازن بين المرونة والسيطرة. ويمنح هذا النظام صانع السياسة النقدية قدرة على امتصاص الصدمات الخارجية دون التفريط الكامل في أدوات التدخل، لا سيما في أسواق تعاني من ضعف السيولة وتشوهات هيكلية.
هذه الخطوة تذكّر بتجربة الأردن في أوائل التسعينيات، عندما اضطر البنك المركزي إلى التخلي عن الربط الصارم للدينار بعد أزمة مالية ونقدية، وتبنى نظام تعويم مُدار ساعد لاحقًا في ترسيخ الاستقرار النقدي واستعادة الثقة. ومع ذلك، فإن نجاح مثل هذا النظام لا يُبنى على مرونة سعر الصرف فقط، بل يتطلب احتياطات نقد أجنبي كافية، مؤسسات مالية شفافة، وبيئة اقتصادية قادرة على التكيف.
من جهة أخرى، يرفض البنك المركزي السوري بوضوح أي لجوء إلى الاقتراض الخارجي، سواء من المؤسسات الدولية أو الأسواق العالمية. هذا الموقف، وإن عُرض في إطار الحفاظ على السيادة الوطنية، يفتح تساؤلات حول مصادر التمويل المتاحة لاقتصاد يعاني من فجوة في الموارد واحتياجات هائلة لإعادة الإعمار.
في ظل هذا الرفض، قد يجد صناع القرار أنفسهم مضطرين للاعتماد على التمويل بالعجز، مما يرفع احتمالات التوسع النقدي غير المدعوم بالإنتاج، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم، وربما زعزعة الاستقرار النقدي الناشئ.
للتعويض، تعوّل السياسة النقدية الجديدة على التحويلات المالية من الخارج، خصوصًا تلك القادمة من المغتربين السوريين. رغم أن هذه التحويلات تمثل مصدرًا مهمًا للعملات الأجنبية وتغذية السوق، إلا أن الاعتماد المفرط عليها دون توظيفها في مشاريع تنموية منتجة قد يكرّس نموذجًا هشًا شبيهًا بما حدث في لبنان. التحويلات، في حال إدارتها ضمن إطار استثماري وتنموي، يمكن أن تتحول إلى مورد استراتيجي حقيقي، لا مجرد وسيلة إسعافية لتسكين الأزمة.
إضافة إلى ذلك، يبرز رهان صناع القرار على تنشيط الإنتاج المحلي لتقليص فاتورة الاستيراد وتخفيف الضغط على العملة الصعبة.
هذا التوجه يعكس رؤية واقعية تقوم على بناء قاعدة إنتاجية داخلية كشرط للاستقلال النقدي. ومع ذلك، فإن تحفيز الصناعة والزراعة يتطلب أكثر من حماية جمركية أو تسهيلات ائتمانية، بل بيئة استثمارية آمنة، سياسات صناعية نشطة، وقدرة على المنافسة محليًا وخارجيًا.
في مقابل هذه التوجهات، تحمل السياسة النقدية الجديدة بعض عناصر القوة التي تستحق الإشارة. أولًا، استعادة قدر من الاستقلالية النقدية، عبر تقليص التبعية للدولار أو الدين الخارجي، ما يسمح بإدارة السياسات بما يتوافق مع الأولويات الوطنية. ثانيًا، توفير مرونة أكبر في إدارة سعر الصرف تعزز قدرة الاقتصاد على التكيف مع الصدمات. وثالثًا، إمكانية تحفيز الصادرات عبر تحسين القدرة التنافسية، لا سيما في قطاعات مثل الزراعة والسياحة والخدمات التقنية.
لكن مقابل هذه الفرص، تقف تحديات لا يمكن إنكارها. فضعف الاحتياطيات الأجنبية يحد من قدرة البنك المركزي على التدخل عند الحاجة، وهو ما يضعف الثقة بسعر الصرف. كما أن غياب أدوات نقدية متقدمة، مثل سوق سندات نشط أو أدوات مالية مشتقة، يحد من مرونة السياسة النقدية.
أمام هذا المشهد، تبدو الحاجة ماسة إلى حزمة إجراءات داعمة تضمن انتقالًا سلسًا وآمنًا نحو السياسة النقدية الجديدة. يمكن أن يشمل ذلك إنشاء مجلس مستقل للسياسة النقدية، يتضمن خبراء من داخل البلاد وخارجها لضمان صياغة قرارات مبنية على أسس علمية. كما ينبغي تطوير أدوات الدين المحلي لتوفير مصادر تمويل دون اللجوء إلى طباعة النقود. ويجب على البنك المركزي إطلاق سياسة تواصل نشطة وشفافة تعزز ثقة الأسواق، إلى جانب إصلاح القطاع المصرفي لتمكينه من أداء وظيفته التخصيصية بكفاءة في بيئة تتسم بالحذر والمخاطر العالية.
وفي نهاية المطاف، فإن نجاح السياسة النقدية السورية لن يُقاس فقط بثبات سعر الصرف، بل بقدرتها على خلق مناخ نقدي مستقر يحرّك عجلة الإنتاج، يدعم الاستثمارات، ويستعيد ثقة المواطن السوري بالعملة الوطنية. وما بين الطموح المشروع والواقع القاسي، تبقى الرؤية المتكاملة، والحوكمة الرشيدة، والسياسات المبنية على أدلة هي الضمانة الوحيدة لنجاح أي مسار نقدي جديد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبرني
منذ 20 ساعات
- خبرني
البرازيل: إقامة دولة فلسطينية أساس حل الصراع بالشرق الأوسط
خبرني - دافع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الأحد، عن إقامة دولة فلسطينية كحل للصراع في الشرق الأوسط. جاء ذلك في كلمة له أمام الجلسة العامة لقمة بريكس والتي حملت عنوان «السلام والأمن وإصلاح الحوكمة العالمية». وقال دا سيلفا: «لن يكون حل هذا الصراع ممكنا إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة ذات سيادة.. دولة فلسطينية، ضمن حدود عام 1967». وحمّل إسرائيل مسؤولية ما اعتبره "إبادة جماعية" في غزة، مشددا على أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967. وفيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، أعاد لولا دا سيلفا تأكيد التزام بلاده بالسلام والحوار، مشيرا إلى الجهود المشتركة مع الصين في إطار مجموعة "أصدقاء السلام". كما دعا إلى 'احترام سيادة إيران'. ويعقد قادة مجموعة الدول الناشئة الكبرى الـ11، ومن بينها البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا، اجتماعهم السنوي الذي يستمر يومين وسط إجراءات أمنية مشددة في خليج غوانابارا، في ظل الحرب التجارية التي باشرها ترامب على وقع رسوم جمركية مشددة. وتعتبر الدول الـ11 بحسب النص الذي ما زال من الممكن تعديله خلال القمة، أن هذه التدابير تهدد بـ"الحد أكثر من التجارة العالمية" و"تؤثر على آفاق التنمية الاقتصادية في العالم". وبذلك، فإن الدول الناشئة التي تمثل نحو نصف سكان العالم و40% من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، تستهدف بصورة واضحة الرئيس الأميركي وسلسلة الرسوم الجمركية المشددة التي أقرها. غير أنها تتفادى ذكر ترامب تحديدا في وقت تخوض دول عديدة من بينها الصين، القوة الأكبر في مجموعة بريكس، مفاوضات مع واشنطن بهذا الصدد. وفي آخر تطورات هذا الملف الطويل، أعلن الرئيس الجمهوري الجمعة أنه وقع رسائل سيبعثها الأسبوع المقبل إلى شركاء الولايات المتحدة التجاريين، تتعلق بتطبيق الرسوم المشددة. ودافع الرئيس البرازيلي اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا السبت عن النهج التعددي معلنا أنه "بمواجهة عودة الحمائية، يعود للأمم الناشئة أن تدافع عن النظام التجاري التعددي وأن تصلح البناء المالي الدولي". وتوسعت مجموعة بريكس التي أنشئت عام 2009 لتكون قوة مقابلة للغرب تعيد موازنة النظام العالمي لصالح "الجنوب العالمي"، إذ انضمت إليها منذ عام 2023 السعودية ومصر والإمارات وإثيوبيا وإيران، ثم إندونيسيا. وإلى المسائل الجيوسياسية، تسعى الكتلة لتأكيد وزنها الاقتصادي. وفي هذا السياق، تطرح منذ عدة سنوات إمكانية إيجاد بديل للدولار للمعاملات التجارية داخل المجموعة.


Amman Xchange
منذ يوم واحد
- Amman Xchange
تقرير صندوق النقد*سلامة الدرعاوي
الغد يأتي تقرير صندوق النقد الدولي الأخير ليؤكد من جديد أن الاقتصاد الأردني يسير في المسار الصحيح، وضمن إطار سياسات وقائية ومدروسة، لا تلك التي تُفرض بفعل الأزمات أو كردّات فعل مؤقتة، فهذا التقرير، الذي تضمن استكمال المراجعة الثالثة لبرنامج تسهيل الصندوق الموسّع (EFF) والموافقة على برنامج جديد تحت مرفق المرونة والاستدامة (RSF) بقيمة تصل إلى 700 مليون دولار، يمثل شهادة دولية رفيعة تعكس صلابة التوجهات الاقتصادية الأردنية في بيئة إقليمية مضطربة وغير مستقرة. أبرز ما يميز هذا التقييم هو تأكيد صندوق النقد على التزام الأردن بسياسات مالية ونقدية متماسكة، عززت من الاستقرار الكلي للاقتصاد، رغم استمرار التحديات الخارجية مثل تصاعد النزاعات الإقليمية والتقلبات في الأسواق العالمية، فقد أثبتت السياسات الأردنية، وفي مقدمتها الإصلاح المالي وتعزيز كفاءة الإنفاق وزيادة الإيرادات المحلية، أنها قادرة على المحافظة على التوازن المالي دون إحداث اختلالات اجتماعية كبيرة، حيث يتم تأمين الحماية للشرائح الأكثر هشاشة، والاستمرار في الإنفاق على البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية. نمو الناتج المحلي الإجمالي في الأردن للربع الأول من عام 2025 إلى 2.7 بالمائة بالأسعار الثابتة، مقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي والتي بلغت فيها نسبة النمو 2.2 بالمائة فقط، وتوقعات التعافي التدريجي خلال السنوات المقبلة، يشيران بوضوح إلى أن البرنامج الإصلاحي الأردني لم يكن مجرد استجابة ظرفية، بل جزء من رؤية اقتصادية متكاملة، والأهم أن هذا النمو تحقق بالتوازي مع بقاء معدلات التضخم منخفضة ومستقرة، بفضل السياسة النقدية الحصيفة التي ينتهجها البنك المركزي، والتزامه التام بالحفاظ على سعر صرف الدينار، مما ساهم في تعزيز الثقة بالاقتصاد الوطني. من النقاط الجوهرية التي توقف عندها التقرير، الارتفاع الملحوظ في احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية، والتي تجاوزت حاجز 22 مليار دولار حتى نهاية شهر نيسان من العام الحالي وهو ما يعكس عمق السياسة الاحترازية في بناء هوامش أمان مالية قادرة على امتصاص الصدمات الخارجية، كما أشار التقرير إلى استقرار العجز الجاري عند نحو 6 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تُدار ضمن معايير مقبولة دوليا خاصة في ظل ارتفاع فاتورة الطاقة والاستيراد. ما يستحق التوقف عنده أيضا هو إقرار الصندوق بقدرة الأردن على المضي قدماً في تنفيذ إصلاحات هيكلية بعيدة المدى، تركز على تشجيع الاستثمار الخاص، وتحسين بيئة الأعمال، وتوفير فرص العمل للشباب والنساء، وهذا ما ينسجم تماما مع رؤية التحديث الاقتصادي التي أطلقتها الحكومة، والتي تؤسس لمرحلة جديدة من النمو المستدام القائم على الابتكار والتنافسية. ولا يمكن إغفال أهمية التمويل الممنوح ضمن مرفق المرونة والاستدامة، والذي سيساهم بشكل جوهري في معالجة مواطن الضعف طويلة الأمد، خصوصا في قطاعات المياه والطاقة، وهي من الملفات التي تشكل عبئا ماليا وهيكليا متراكما منذ سنوات، كما أن إدراج عناصر تتعلق بالجاهزية الصحية والاستجابة للأوبئة يعكس فهمًا عميقًا لمخاطر المستقبل، ويؤكد أن الدولة الأردنية باتت تخطط على أساس الوقاية والاستباق وليس فقط إدارة الأزمات. في المحصلة، ما حمله التقرير هو إشادة فنية وموضوعية بمسار اقتصادي مدروس، نجح في الحفاظ على الاستقرار وتوفير مناخ ملائم للنمو، في ظل ظروف إقليمية صعبة، ويبقى التحدي الأكبر هو تسريع وتيرة الإصلاحات، وتحفيز القطاع الخاص، واستقطاب الاستثمارات النوعية، بما يضمن خلق فرص العمل وتحقيق التنمية الشاملة.


Amman Xchange
منذ يوم واحد
- Amman Xchange
سوريا على أعتاب سياسة نقدية جديدة*د.عدلي قندح
الدستور في تطور لافت يحمل دلالات سياسية واقتصادية، أعلن محافظ البنك المركزي السوري، الدكتور عبد القادر الحصرية، ملامح سياسة نقدية جديدة تتضمن رفض ربط الليرة السورية بأي عملة أجنبية، والامتناع عن اللجوء إلى أدوات الدين الخارجي. هذا التوجه، الذي جاء خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة CNBC عربية، يطرح تحولات عميقة في فلسفة إدارة النقد في سوريا، ويضع البلاد على عتبة نموذج نقدي جديد، يُبنى على التعويم المُدار، ويُحاط بجملة من التحديات المرتبطة بالبيئة الاقتصادية الهشة. في قلب هذه السياسة يقف قرار التخلي عن تثبيت سعر الصرف وربطه بالدولار، والتوجه بدلاً من ذلك نحو تحرير سعر العملة المحلية وفق قوى السوق، مع احتفاظ البنك المركزي بحق التدخل عند الضرورة. اقتصاديًا، يندرج هذا النهج ضمن نظام «التعويم المُدار» Managed Floating Exchange Rate Regime الذي يعتبره خبراء الاقتصاد خيارًا واقعيًا للدول ذات الاقتصاديات المرنة ولكن غير المستقرة، كونه يوازن بين المرونة والسيطرة. ويمنح هذا النظام صانع السياسة النقدية قدرة على امتصاص الصدمات الخارجية دون التفريط الكامل في أدوات التدخل، لا سيما في أسواق تعاني من ضعف السيولة وتشوهات هيكلية. هذه الخطوة تذكّر بتجربة الأردن في أوائل التسعينيات، عندما اضطر البنك المركزي إلى التخلي عن الربط الصارم للدينار بعد أزمة مالية ونقدية، وتبنى نظام تعويم مُدار ساعد لاحقًا في ترسيخ الاستقرار النقدي واستعادة الثقة. ومع ذلك، فإن نجاح مثل هذا النظام لا يُبنى على مرونة سعر الصرف فقط، بل يتطلب احتياطات نقد أجنبي كافية، مؤسسات مالية شفافة، وبيئة اقتصادية قادرة على التكيف. من جهة أخرى، يرفض البنك المركزي السوري بوضوح أي لجوء إلى الاقتراض الخارجي، سواء من المؤسسات الدولية أو الأسواق العالمية. هذا الموقف، وإن عُرض في إطار الحفاظ على السيادة الوطنية، يفتح تساؤلات حول مصادر التمويل المتاحة لاقتصاد يعاني من فجوة في الموارد واحتياجات هائلة لإعادة الإعمار. في ظل هذا الرفض، قد يجد صناع القرار أنفسهم مضطرين للاعتماد على التمويل بالعجز، مما يرفع احتمالات التوسع النقدي غير المدعوم بالإنتاج، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم، وربما زعزعة الاستقرار النقدي الناشئ. للتعويض، تعوّل السياسة النقدية الجديدة على التحويلات المالية من الخارج، خصوصًا تلك القادمة من المغتربين السوريين. رغم أن هذه التحويلات تمثل مصدرًا مهمًا للعملات الأجنبية وتغذية السوق، إلا أن الاعتماد المفرط عليها دون توظيفها في مشاريع تنموية منتجة قد يكرّس نموذجًا هشًا شبيهًا بما حدث في لبنان. التحويلات، في حال إدارتها ضمن إطار استثماري وتنموي، يمكن أن تتحول إلى مورد استراتيجي حقيقي، لا مجرد وسيلة إسعافية لتسكين الأزمة. إضافة إلى ذلك، يبرز رهان صناع القرار على تنشيط الإنتاج المحلي لتقليص فاتورة الاستيراد وتخفيف الضغط على العملة الصعبة. هذا التوجه يعكس رؤية واقعية تقوم على بناء قاعدة إنتاجية داخلية كشرط للاستقلال النقدي. ومع ذلك، فإن تحفيز الصناعة والزراعة يتطلب أكثر من حماية جمركية أو تسهيلات ائتمانية، بل بيئة استثمارية آمنة، سياسات صناعية نشطة، وقدرة على المنافسة محليًا وخارجيًا. في مقابل هذه التوجهات، تحمل السياسة النقدية الجديدة بعض عناصر القوة التي تستحق الإشارة. أولًا، استعادة قدر من الاستقلالية النقدية، عبر تقليص التبعية للدولار أو الدين الخارجي، ما يسمح بإدارة السياسات بما يتوافق مع الأولويات الوطنية. ثانيًا، توفير مرونة أكبر في إدارة سعر الصرف تعزز قدرة الاقتصاد على التكيف مع الصدمات. وثالثًا، إمكانية تحفيز الصادرات عبر تحسين القدرة التنافسية، لا سيما في قطاعات مثل الزراعة والسياحة والخدمات التقنية. لكن مقابل هذه الفرص، تقف تحديات لا يمكن إنكارها. فضعف الاحتياطيات الأجنبية يحد من قدرة البنك المركزي على التدخل عند الحاجة، وهو ما يضعف الثقة بسعر الصرف. كما أن غياب أدوات نقدية متقدمة، مثل سوق سندات نشط أو أدوات مالية مشتقة، يحد من مرونة السياسة النقدية. أمام هذا المشهد، تبدو الحاجة ماسة إلى حزمة إجراءات داعمة تضمن انتقالًا سلسًا وآمنًا نحو السياسة النقدية الجديدة. يمكن أن يشمل ذلك إنشاء مجلس مستقل للسياسة النقدية، يتضمن خبراء من داخل البلاد وخارجها لضمان صياغة قرارات مبنية على أسس علمية. كما ينبغي تطوير أدوات الدين المحلي لتوفير مصادر تمويل دون اللجوء إلى طباعة النقود. ويجب على البنك المركزي إطلاق سياسة تواصل نشطة وشفافة تعزز ثقة الأسواق، إلى جانب إصلاح القطاع المصرفي لتمكينه من أداء وظيفته التخصيصية بكفاءة في بيئة تتسم بالحذر والمخاطر العالية. وفي نهاية المطاف، فإن نجاح السياسة النقدية السورية لن يُقاس فقط بثبات سعر الصرف، بل بقدرتها على خلق مناخ نقدي مستقر يحرّك عجلة الإنتاج، يدعم الاستثمارات، ويستعيد ثقة المواطن السوري بالعملة الوطنية. وما بين الطموح المشروع والواقع القاسي، تبقى الرؤية المتكاملة، والحوكمة الرشيدة، والسياسات المبنية على أدلة هي الضمانة الوحيدة لنجاح أي مسار نقدي جديد.