
سماء مُقيّدة بسلاسل الأرض.. لماذا لا تستخدم الصين قوتها الجوية؟
ومنذ تلك اللحظة، لم تختبر الصين قدراتها الجوية في أي نزاع مباشر، وظلّت حريصة على تجنّب الانخراط في حروب خارج حدودها. في المقابل، خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها سلسلة طويلة من العمليات العسكرية، امتدت من الخليج إلى البلقان، وصولًا إلى أفغانستان، وكان سلاح الجو خلالها في صميم المعركة وأداة الحسم الأساسية.
وعلى الرغم من أن الصين أصبحت اليوم تمتلك واحدا من أضخم وأكثر أساطيل الطيران تطورا في العالم، يضمّ نحو أربعة آلاف طائرة، تُشكّل المقاتلات منها أكثر من 50%، مما يضعها في المرتبة الثالثة عالميا من حيث الحجم، فإن هذه القوة الهائلة لم تُختبر بعد في ساحات القتال.
وهو ما يفتح بابًا واسعًا للتساؤلات حول مدى جاهزيتها الفعلية، إذ تظلّ المناورات والتدريبات -مهما بلغت دقتها- محكومة بسيناريوهات منضبطة ومحددة سلفا، تختلف كليا عن فوضى المعركة الحقيقية وما تكتنفه من مفاجآت وغموض لا يمكن التنبؤ به.
في النهاية، لا شيء يوازي اختبار الحرب.
ومع تقاعد الجيل الأخير من الطيارين الصينيين الذين خاضوا مواجهات فعلية في منتصف القرن الماضي، لم يعد سلاح الجو الصيني يملك خبرة قتالية حقيقية. وقد عبّرت وسائل الإعلام العسكرية الصينية ذاتها عن هذه الهواجس، حين انتقدت الصحيفة الرسمية للجيش الصيني في عام 2018 ما وصفته بـ"داء السلام"، في إشارة إلى التآكل التدريجي في الكفاءة والانضباط الذي تخلّفه فترات السلم الطويلة، خاصة في مؤسسة عسكرية لم تُختبر بالنار.
إعلان
في المقابل، يرى بعض المسؤولين الصينيين أن الغياب عن ميادين القتال لا ينبغي أن يُعد مؤشرًا على الضعف بالضرورة، ويستشهدون بجيوش كبرى لم تخض حروبا متكررة، لكنها أثبتت كفاءتها حين اندلعت المواجهة.
ومع ذلك، يبقى السؤال معلّقا: هل بوسع هذه القوة الجوية الضخمة أن تُحقق تفوقا حقيقيا إذا اندلع نزاع واسع النطاق؟ أم أنها، رغم مظهرها المهيب، مجرد أداة ردع رمزية قد تنكشف عند أول اختبار عن عملاق من ورق؟
سماء مُقيّدة بسلاسل الأرض!
لفهم إستراتيجية سلاح الجو الصيني في صورتها المعاصرة، لا بد من العودة إلى الجذور الفكرية التي شكّلت عقيدة الصين العسكرية، وفي مقدمتها مبدأ "الدفاع النشط"، الذي تعود أصوله إلى عهد ماو تسي تونغ.
ففي عام 1928، قدّم ماو صياغته الشهيرة لتكتيكات حرب العصابات: "عندما يتقدم العدو؛ نتراجع. عندما يعسكر؛ نُزعجه. عندما يتعب؛ نهاجمه. وعندما يتراجع؛ نلاحقه". كانت تلك المقولة تجسيدًا واضحًا لرؤية عسكرية تمزج بين "الكُمُون الإستراتيجي" و"الهجوم المضاد المرن"، بهدف الحفاظ على زمام المبادرة في مواجهة خصم يتفوق عددا وعتادا.
وقد تمثّل التطبيق العملي الأبرز لهذا النهج في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، من خلال تبنّي سياسة "استدراج العدو إلى العمق"، وهي إستراتيجية تقوم على انسحاب منظّم نحو قواعد خلفية، يهدف إلى إنهاك العدو تدريجيًّا، قبل مباغتته بهجوم مضاد حاسم يُكسَر به الحصار وتُدمَّر أجزاء من قوته. بهذا الشكل، تحوّل هذا الأسلوب من مجرد تكتيك ميداني إلى قاعدة مركزية لعقيدة "الدفاع النشط" بوصفها رؤية إستراتيجية متكاملة.
ألقت هذه المرحلة التاريخية بظلالها العميقة على بنية الجيش الصيني، بما في ذلك سلاح الجو. فكما يوضح شياو مينغ تشانغ، الأستاذ المشارك في قسم القيادة والإستراتيجية بكلية الحرب الجوية التابعة لسلاح الجو الأميركي، فإن التفكير الدفاعي الذي طبع العقيدة العسكرية الصينية دفع بكين إلى تشكيل قوة جوية ترتكز أساسا على عدد كبير من المقاتلات، لا القاذفات. ذلك أن المقاتلات تتماشى مع طبيعة العمليات الدفاعية، بينما تُستخدم القاذفات غالبا في ضرب العمق المعادي، وهو ما لم يكن متّسقا مع التوجّه الإستراتيجي الصيني في تلك المرحلة.
كذلك، نُظر إلى سلاح الجو بوصفه امتدادا تكتيكيا للقوات البرية، ينبغي بناؤه وفق متطلبات ساحة المعركة الأرضية، انطلاقا من اقتناع راسخ بأن الصين دولة برية في جوهرها. ومن هذا المنطلق، لم يُعامل سلاح الجو بوصفه قوة إستراتيجية مستقلة، بل أداة دعم للعمليات البرية، ويُقاس نجاحه بمدى فاعليته في إسناد القوات البرية، لا بقدرته على تحقيق أهداف جوية مستقلة.
وانعكس ذلك في العقيدة العسكرية، التي اعتبرت أن أي انتصار تحققه القوات البرية يُحتسب تلقائيا إنجازا يُسجّل لسلاح الجو أيضا، وهو ما كرّس تبعيته الهيكلية والوظيفية للجيش البري.
بيد أن الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، مثّلت أول اختبار خارجي فعلي لجدوى هذا التصور، وحينها أدرك القادة الصينيون مدى تفوّق القوات الجوية الأميركية.
لكنهم رغم ذلك، لم يعيدوا النظر في البنية الإستراتيجية لسلاحهم الجوي بشكل جذري، بل ظلّ الرهان منصبّا على العنصر البشري، تأثرا بإرث حرب العصابات، وهو ما عزّز مكانة سلاح الجو داخل المؤسسة العسكرية، دون أن يمنحه استقلالًا إستراتيجيا حقيقيا، بل أبقاه في موقع القوة التكميلية التابعة للجيش البري.
التحوّل البطيء..الدفاع وحده لا يكفي
غير أن المحطة الأبرز في تحوّل نظرة الصين إلى دور سلاح الجو جاءت في تسعينيات القرن الماضي، كما يشير سكوت تانر، محلل الأمن الصيني وخبير الشؤون الآسيوية. فقد دفعت الدروس القاسية المستفادة من هزيمة العراق في حرب الخليج بكين إلى إجراء مراجعة عميقة لعقيدتها العسكرية، انتهت إلى اقتناع مفاده أن "القوة الأضعف التي تكتفي بالدفاع ستبقى حبيسة موقع المتلقي للضربات"، وأن المبادرة لا تُنتزع إلا "بشنّ عمليات هجومية نشطة".
تزامن هذا التحوّل مع إدراك متزايد للحاجة إلى حماية المصالح القومية الصينية، ليس فقط على امتداد حدودها، بل أيضا خارجها، خاصة مع تنامي احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية حول تايوان.
ومن هنا، بدأت الصين بإعادة تعريف سلاحها الجوي بوصفه عنصرا أساسيا في خوض الحروب الحديثة. ومنذ عام 1993، اعتمدت بكين إستراتيجية عسكرية جديدة تقوم على الاستعداد لكسب "حروب محلية تحت ظروف تقنية عالية"، وهو ما فرض متطلبات نوعية جديدة على القوات الجوية.
وقد عبّر الرئيس الصيني السابق، جيانغ تسه مين ، عن هذا التحوّل بوضوح في مارس/آذار 1999، حين أكّد أن الهدف الإستراتيجي لسلاح الجو الصيني هو "التحول التدريجي من قوة دفاعية إلى قوة تجمع بين الدفاع والهجوم".
ولتنفيذ هذه الرؤية، أطلقت بكين برنامجا ضخما لتحديث سلاحها الجوي، تضمن اقتناء مقاتلات متقدمة من روسيا مثل "سوخوي 30″، إلى جانب تطوير نماذج محلية رائدة مثل "جيه-10″، وتوسيع أسطولها من طائرات الإنذار المبكر والنقل والتزود بالوقود. كما دخلت الصين نادي الدول المصنعة للطائرات الشبحية عبر طراز "جيه-20″، وشرعت في العمل على نماذج مستقبلية لمقاتلات الجيل السادس، في إشارة واضحة إلى طموحها لقيادة سباق التفوق الجوي في آسيا.
ومع ذلك، فإن التحوّل الكمّي والنوعي في مستوى العتاد لم يرافقه تغيير جذري موازٍ في العقيدة التشغيلية. فحتى بعد تحديث ترسانتها الجوية، حافظت الصين على خط إستراتيجي واضح بعدم المبادرة بالاشتباك الجوي المباشر، ما لم تفرض الظروف القصوى ذلك. ورغم ما تبنّته بكين من إصلاحات عسكرية واسعة النطاق، تحت قيادة الرئيس الحالي، شي جين بينغ ، فإن سلاح الجو لا يزال يُنظر إليه باعتباره أداة للردع الإستراتيجي أكثر من كونه وسيلة لتحقيق الهيمنة الهجومية.
وبينما قد يُنظر إلى بعض التغييرات، مثل التخلي عن المبدأ التقليدي "لا تطلق النار أولا"، أو تقليص أعداد القوات البرية لصالح تعزيز ميزانية القوات الجوية ونفوذها، كمؤشرات على تحوّل جذري في النهج العسكري، فإن هذه الخطوات تعبّر في جوهرها عن سعي لتعزيز جاهزية الردع الوقائي، أكثر مما تعكس تحوّلا نحو عقيدة هجومية شاملة.
لقد انتقلت الصين من نموذج "الدفاع الجامد" إلى "الدفاع المرن"، الذي يتيح تنفيذ ضربات استباقية محسوبة في حال تهديد المصالح الحيوية، وهو ما يُعرف بمفهوم "الهجوم الدفاعي"، الذي صاغته بكين ليكون وسيلةً للردع لا للتوسع أو العدوان.
ويتناغم هذا التوجّه مع الفلسفة الصينية العريقة المستمدة من فكر "صن تزو"، التي تجسّدها مقولته الشهيرة: "أفضل الانتصارات هي التي تتحقق دون قتال". وعلى هذا الأساس، يختلف مفهوم الردع الصيني جوهريًّا عن نظيره الغربي؛ ففي حين يرتكز الردع في المفهوم الغربي على التهديد العلني والمباشر بمعاقبة الخصم لثنيه عن سلوك معين، تصوغه الصين ضمن سياقها الثقافي الخاص، الذي يمزج بين استعراض القوة العسكرية، والحرب النفسية، والإشارات الضمنية.
ومن هذا الفارق المفاهيمي، تقدّم العقيدة الجوية الصينية نموذجا مغايرا في علاقات القوة. فهي تسوّق نفسها على أنها قوة عظمى "مسؤولة"، تحجم عن استخدام القوة العسكرية المباشرة، بخلاف ما تصفه بالسجل الدموي للغرب.
وقد منحها هذا الخطاب قبولا في كثير من دول الجنوب العالمي، التي تقارن بين التدخلات العسكرية الأميركية المتكررة في الشرق الأوسط، وبين إحجام الصين عن خوض مغامرات مشابهة. وهكذا، يصبح ضبط النفس العسكري الصيني عنصرا داعما لقوتها الناعمة، ومُفسحا المجال لتوسيع نفوذها عبر أدوات الاقتصاد والدبلوماسية.
إستراتيجية منع الوصول.. جدار الصين الصاروخي
تتجسّد النزعة الدفاعية في العقيدة العسكرية الصينية المعاصرة من خلال تبنّيها لإستراتيجية "منع الوصول/تحريم دخول المنطقة" (A2/AD)، التي أصبحت إحدى ركائز تصورها للأمن القومي. فبدلًا من إرسال قوات جوية لضرب الخصوم في عمق أراضيهم، تُركز بكين جهودها على بناء منظومات صاروخية متقدمة تجعل من الاقتراب من نطاقها الجغرافي مخاطرة جسيمة.
يتمثل جوهر هذه الإستراتيجية في نشر طبقات دفاعية متعددة من الصواريخ المضادة للسفن والطائرات، مثل الصاروخ الباليستي "دونغ فينغ–26″، المعروف بلقب "قاتل حاملات الطائرات"، القادر على إصابة أهداف بحرية متحركة على مسافة تصل إلى أربعة آلاف كيلومتر. إلى جانب ذلك، تعتمد الصين على صواريخ كروز جوالة، ومنظومات دفاع جوي متطورة مثل "إس-400″ الروسية و"إتش كيو-9" المحلية الصنع.
تهدف هذه الترسانة، مجتمعة، إلى ردع، أو على الأقل تأخير، أي تدخل عسكري معادٍ، وخاصة من قبل الولايات المتحدة، في المناطق التي تعتبرها الصين ذات أهمية إستراتيجية قصوى، مثل مضيق تايوان وبحر جنوب الصين.
وتُسهم هذه الرؤية، جزئيًّا، في تفسير إحجام الصين عن نشر مقاتلاتها الجوية على نطاق واسع، إذ تراهن بكين على قدرتها الصاروخية لحسم المواجهة الجوية منذ بدايتها، عبر استهداف منصات العدو الهجومية -كمطارات الإقلاع وحاملات الطائرات- بدل الانخراط في معارك جوية مباشرة مرهقة وطويلة.
وتعزز هذا التوجّه جملة من المؤشرات الأخرى؛ فالصين لا تسعى إلى فرض هيمنة جوية عالمية على غرار الإستراتيجية الأميركية، بل تركز أساسًا على تأمين أمنها القومي، وحماية مصالحها الإقليمية الآخذة في التمدد. ومن ثم، ترتكز إستراتيجية سلاح الجو الصيني على بناء قوة قادرة على بسط السيطرة في "مسارح العمليات ذات الأولوية"، وتقديم الدعم العملياتي واللوجستي للقوات البرية والبحرية، فضلًا عن أداء دور ردعي ذي طابع إستراتيجي.
وعلى الصعيد العملياتي، يواجه سلاح الجو الصيني تحديًا جوهريًّا يتمثل في النقص الحاد في طائرات التزود بالوقود جوًّا، مما يقيد قدراته على تنفيذ ضربات بعيدة المدى، أو استعراض قوته الجوية على نطاق عابر للقارات.
فوفقًا لأحدث البيانات، تمتلك الولايات المتحدة أكثر من 400 طائرة تزوّد بالوقود جوًّا، مقابل ثلاث فقط لدى الصين، وهو فارق شاسع يعوق أي طموح صيني حالي لنشر القوة الجوية خارج المحيط الإقليمي، ويؤكد الاتجاه العام نحو حصر الاستخدام الجوي في نطاقات محسوبة بعناية ضمن المسارح القتالية ذات الأولوية.
سلاح الغموض.. على العالم أن يخشى جيشا لم يُجرَّب بعد!
من ناحية أخرى، فإن امتلاك الصين لقوة جوية هائلة دون استخدامها فعليًّا يثير حالة من عدم اليقين في أذهان خصومها، فغياب الخبرة القتالية يترك قدرة الصين الحقيقية على خوض حرب حديثة موضع تخمين أكثر منها موضع يقين.
فمن جهة، يرى البعض أن هذا الغياب الميداني يجعل من الجيش الصيني "نمرًا من ورق"، تنقصه التجربة الفعلية تحت ضغط النيران. ومن جهة أخرى، يُحذّر آخرون من خطورة هذا الاستنتاج، معتبرين أن الصين عوّضت غياب الحروب بتدريب صارم وتحديث تقني متواصل، قد يجعلان منها خصمًا شرسًا عند أول اختبار حقيقي.
وهكذا، يتحول الغموض نفسه إلى ورقة لصالح بكين. فخصومها لا يعرفون بدقة مدى جاهزية قواتها الجوية، وحلفاؤها لا يستطيعون الجزم بكيفية تصرفها في حال اندلاع نزاع. والنتيجة أن الجميع يبني حساباته على أسوأ السيناريوهات: الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة يتعاملون مع فرضية أن الصين ستكون خصما خطيرا إذا قررت الدخول في حرب، بينما تسعى الصين إلى طمأنة جيرانها بأنها لا تعتزم خوض مغامرات عسكرية في الوقت الراهن، حتى لا تدفعهم إلى الاصطفاف ضدها.
ويتعزز هذا الحذر من خلال التقارير المتزايدة التي ترصد النمو المطّرد في قطاع الصناعات العسكرية الصينية، وخصوصا في مجال الطيران العسكري، ومدى انعكاس ذلك على المستوى العملياتي في بؤر التوتر حول العالم.
وفي حين لم تختبر الصين قوتها الجوية مباشرة في حروبها الخاصة منذ عقود، فإن مقاتلاتها وتقنياتها القتالية تجد طريقها إلى ساحات قتال فعلية من خلال جيوش حليفة، وهو ما يمنح بكين تجربة ميدانية غير مباشرة تعزّز من مصداقيتها العسكرية.
وتُعدّ باكستان أبرز الأمثلة على ذلك؛ إذ تُعدّ أكبر مستخدم خارجي للطائرات الصينية، خاصة مقاتلات "جيه إف-17 ثاندر"، التي طُوّرت بالتعاون مع بكين، وأثبتت فعاليتها في مهام الاعتراض والدوريات الجوية ضد الهند. بل إن بعض التقارير تشير إلى أن هذه المقاتلات شاركت في الاشتباك الجوي الشهير بين الهند وباكستان عام 2019، الذي أسفر عن إسقاط طائرة "ميغ-21" هندية وأسر طيارها.
وفي اشتباكات أبريل/نيسان الأخيرة بين البلدين، أكدت مصادر باكستانية أن قواتها الجوية أسقطت خمس طائرات هندية، بينها ثلاث طائرات "رافال" فرنسية الصنع، باستخدام مقاتلات صينية من طراز "جيه-10 سي". وتُرجّح التقارير أن تلك المقاتلات كانت مزوّدة بصواريخ "بي إل-15" جو–جو، التي تُعدّ من أحدث الأسلحة الصينية البعيدة المدى.
ويتميّز هذا الصاروخ برادار نشط يعمل بتقنية مصفوفة المسح الإلكتروني، مما يمنحه قدرة عالية على مقاومة التشويش، ويُقدّر مدى النسخة التصديرية منه بأكثر من 150 كيلومترًا، وهو ما يتيح للطائرات الاشتباك مع أهداف خارج نطاق الرؤية المباشرة.
أما في القارة الأفريقية، فتبرز نيجيريا مثالا آخر على الاختبار الميداني للتكنولوجيا الصينية، حيث أشاد المسؤولون العسكريون هناك بأداء مقاتلات "جيه إف-17 ثاندر" في العمليات ضد المتمردين بشمال البلاد. ففي أبريل/نيسان 2022، أعرب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة النيجيرية، الجنرال لاكي إيرابور، عن "رضاه التام" عن أداء هذه المقاتلات، مؤكدًا أنها تلبي المتطلبات الأمنية الحالية والمستقبلية بفضل قدراتها القتالية المتقدمة.
توفر هذه الحروب "بالوكالة" فرصة قيّمة للصين لاختبار معداتها في بيئات قتال حقيقية، مما يساعدها على رصد الثغرات التقنية وتطوير منتجاتها الدفاعية. كما تضيف بعدًا من المصداقية إلى صناعاتها العسكرية، وتعزّز هيبة القوة الجوية الصينية بوصفها "العملاق غير المقاتل".
لكن في نهاية المطاف، تظل هذه الاختبارات محدودة الأثر؛ فهي لا تمنح سلاح الجو الصيني نفسه الخبرة القتالية المباشرة، التي تظل عنصرا لا يمكن اكتسابه بالتدريب أو استعارته من تجارب الآخرين.
سد الفجوة.. بين المحاكاة والمسيرات
تحاول الصين سدّ الفجوة الناتجة عن غياب الخبرة القتالية المباشرة، عبر الاستثمار المكثف في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل المحاكاة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والطائرات غير المأهولة.
ففي ميدان التدريب، أنشأت بكين منظومات محاكاة متطورة تُحاكي سيناريوهات الحرب الجوية باستخدام تكتيكات لخصوم مفترضين، كما أدخلت مفهوم "الخصم الافتراضي" ضمن مناوراتها العسكرية، بما يُمكّن الطيارين من اختبار سيناريوهات اشتباك متنوعة ومعقّدة. وفي خطوة لافتة لسدّ الفجوة المعرفية، سعت الصين إلى استقطاب طيارين غربيين سابقين، لتدريب طياريها على آليات التفكير وعقيدة القتال الجوي في الجيوش الغربية.
وفي موازاة ذلك، تركز بكين على دمج الذكاء الاصطناعي في إدارة القتال الجوي، بما يتيح له تقديم توصيات آنية حول المناورات المثلى والردود الأنسب على التهديدات، إلى جانب تحليل بيانات الطلعات التدريبية لتشخيص مكامن القوة والضعف بدقة عالية.
أما على مستوى الميدان، فقد أثبتت الصين تقدما ملحوظا في مجال الطائرات المسيّرة، التي أصبحت عنصرا أساسيا في الدوريات الجوية حول تايوان، حيث تُستخدم لاختراق الدفاعات الجوية دون تعريض الطيارين للخطر. وتُطوّر الصين حاليا أسرابا من المسيّرات الذاتية التشغيل، إضافة إلى الذخائر الجوالة الانتحارية، القادرة على ضرب أهداف عالية القيمة دون الحاجة إلى مواجهة جوية تقليدية.
ويأتي ذلك بالتوازي مع تصعيد غير مسبوق في وتيرة الطلعات الجوية الصينية في محيط تايوان، التي تجاوز عددها في عام 2024 ثلاثة آلاف طلعة. وفي بعض الأيام، كانت عشرات الطائرات تحلق قرب الجزيرة بشكل متزامن، في استعراض واضح للقدرة الجوية، يحقق لبكين جملة من الأهداف: فهو من جهة، يُسهم في تدريب القوات الجوية على التموضع والاقتراب القتالي، ومن جهة أخرى، يختبر فعالية الدفاعات التايوانية، ويرسل رسالة ضغط نفسي وعسكري دائم إلى تايبيه.
ولكن؛ رغم هذا التقدم التكنولوجي والتنظيمي، تبقى هناك فجوة لا يمكن تجاوزها بسهولة: غياب الخبرة القتالية الفعلية. فقد أثبت ميدان الحرب أن التكنولوجيا وحدها لا تصنع النصر، ما لم تُرفد بمهارة المقاتل وتمرُّسِه في بيئة الاشتباك الحقيقي. ومهما بلغ التدريب من واقعية أو تعقيد، فلن يُغني عن تراكم التجربة في قلب المعركة. فكما أن ماء البركة لا يعلّم السباحة، كذلك لا تمنح المحاكاة وطلعات الاستعراض الطيارين تلك اللحظة الحاسمة من الاختبار تحت الضغط الفعلي للحرب.
وإذا كانت هذه الإستراتيجية قد خدمت الصين خلال سنوات صعودها السلمي، فإن اقترابها من لحظة الصدام الفعلي مع خصومها قد يدفع هذا العملاق الهادئ إلى التحوّل قسريا إلى عملاق مقاتل، يُجرّب للمرة الأولى قدراته في ميدان الحرب.. حيث لا مكان للتجريب!

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 36 دقائق
- الجزيرة
استطلاع جديد: 57% من الدانماركيين يعارضون حرب غزة
كشف استطلاع جديد للرأي، أجرته شركة "إبينون" لصالح القناة الدانماركية الأولى في يوليو/تموز الجاري، أن 57% من الدانماركيين يرون أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة "غير مناسبة"، مقارنة بـ45% في استطلاع مماثل أجري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأظهر الاستطلاع أن نسبة من يفضلون عدم إبداء رأيهم تراجعت من 13% قبل 9 أشهر إلى 6% فقط اليوم، مما يشير إلى ارتفاع واضح في مناهضة الحرب واستعداد أكبر للتعبير عن هذا الموقف. في المقابل، بقيت نسبة الذين يرون أن العمليات العسكرية الإسرائيلية "مناسبة" أو "قليلة التدخل" مستقرة تقريبا عند نحو 12.9%. وفيما يتعلق باتفاق الشراكة التجارية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، الذي أُبرم عام 2000 ويتضمن بندا يتعلق باحترام حقوق الإنسان، أعرب نحو نصف المستطلَعين (49%) عن تأييدهم لتعليق الاتفاق، فيما عارضه 22%، وأجاب 26% بـ"لا أدري"، وامتنع 2% عن الإجابة. وقد شهدت البلاد خلال الأشهر الماضية مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، في وقت بدأ فيه وزراء طرح قضايا في البرلمان من أجل إيقاف الحرب على غزة. كما سبق أن نظمت الكوادر الطبية في كوبنهاغن وقفات احتجاجية للتنديد باستهداف الاحتلال الإسرائيلي للأطباء في غزة مرددين هتافات دعما لغزة. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل -بدعم أميركي- حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، أسفرت حتى الآن عن استشهاد وإصابة أكثر من 192 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 11 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
الصين تعارض استخدام أميركا الرسوم الجمركية أداة للضغط على الآخرين
جددت الخارجية الصينية -اليوم الاثنين التأكيد- على معارضة البلاد لاستخدام الرسوم الجمركية أداة لفرض السياسات على الآخرين، وذلك بعد أن هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية بـ10% على الدول التي تتبنى سياسات مجموعة بريكس للدول النامية. وقالت ماو نينغ المتحدثة باسم الوزارة -في مؤتمر صحفي دوري- إن استغلال الرسوم الجمركية لا يخدم أحدا. وحذر الرئيس الأميركي أمس من أن الدول التي تنحاز إلى "السياسات المعادية للولايات المتحدة" لدول مجموعة بريكس ستفرض عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 10%. وقال في منشور على موقع تروث سوشيال إن "أي دولة تنحاز إلى السياسات المعادية للولايات المتحدة لمجموعة بريكس ستُفرض عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 10%". وأضاف "لن يكون هناك أي استثناءات لهذه السياسة. شكرا لكم على اهتمامكم بهذا الأمر". وجاءت تصريحات ترامب في وقت انتقد فيه قادة دول مجموعة بريكس -في قمتهم بريو دي جانيرو الأحد- الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على شركاء بلاده التجاريين. وجمعت بريكس -في قمتها الأولى عام 2009- قادة البرازيل وروسيا والهند والصين. وضمت لاحقا جنوب أفريقيا، كما ضمت بعد ذلك لعضويتها كلا من مصر وإثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات. وقبل أيام، قالت خه يونغ تشيان متحدثة باسم وزارة التجارة الصينية إن فرض واشنطن ما يسمى "التعريفات المتبادلة" على شركائها التجاريين يُعد عملا نموذجيا للتنمر أحادي الجانب، وهو ما تعارضه بكين باستمرار. وأضافت المتحدثة أن الصين تدعم الجهود التي تبذلها الدول الأخرى لحل الخلافات التجارية مع الولايات المتحدة من خلال المشاورات على قدم المساواة، لكنها تعارض بشدة توصل أي دولة إلى صفقة على حساب مصالح بكين.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
اللوبي الصهيوني في عهد ترامب: بين الارتباك وتآكل السردية
منذ بدء التصعيد المتبادل بين إيران وإسرائيل في ربيع وصيف 2025، بدا أن المعركة تتجاوز حدود الجغرافيا، لتصل إلى عمق السرديات، ومفاصل النفوذ، وبُنية الخطاب. وفي قلب هذا المشهد المشتعل، يُثير الصمت غير المعتاد للّوبي الصهيوني الأميركي أسئلة ثقيلة: أين أدوات الضغط؟ لماذا لا تصرخ مراكز النفوذ الصهيونية كما اعتادت كلما احترق جدار في تل أبيب؟ وماذا يعني أن تُضرب إسرائيل بشكل مباشر من طهران، دون أن يتحول ذلك إلى عاصفة إعلامية سياسية في واشنطن؟ اللوبي، الذي طالما تماهى مع فكرة "الدفاع عن إسرائيل في كل المحافل"، يبدو اليوم كمن يدير الأزمة من وراء ستار، دون ضجيج، دون تحشيد تقليدي، ودون تصعيد على طريقة ما بعد 11 سبتمبر، أو حتى ما بعد حرب 2006! أهذا فقدان للسيطرة، أم إعادة تموضع إستراتيجي في عهد سياسي جديد يمثله دونالد ترامب؟ بعد عدوان 2023 على غزة، سقط القناع الأخلاقي؛ فقد وثّقت كبرى وسائل الإعلام الغربية، ومنصات الجامعات، ومنظمات حقوق الإنسان، صور المجازر، وشهادات الناجين، وأرقام القتلى من الأطفال والنساء ترامب واللوبي.. علاقة مضطربة رغم التحالف الظاهري عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2025 كانت أشبه بزلزال سياسي أصاب مؤسسات الدولة العميقة، وضمنها اللوبيات التقليدية. ورغم الدعم القوي الذي حصل عليه ترامب من جهات يمينية موالية لإسرائيل، فإن العلاقة ليست بتلك البساطة. فترامب لا يتحرك بناء على أجندات ناعمة أو توازنات طويلة المدى؛ إنه رجل صفقات، ويفكر في المصالح المباشرة. هو لا يريد حربًا شاملة في الخليج، ولا يضمن أن أي دعم مفتوح لإسرائيل سيكسبه دعم الداخل الأميركي المنقسم. ولذلك، فإن اللوبي الصهيوني بات مضطرًا لإعادة صياغة إستراتيجياته مع رئيس لا يمكن توقع ردوده، ولا يرغب أن يُملَى عليه من أحد. انهيار السردية الأخلاقية بعد غزة قبل عام فقط، كان اللوبي الصهيوني يملك سلاحًا أساسيًّا: الرواية الأخلاقية. إسرائيل كانت تُقدَّم كواحة ديمقراطية وسط صحراء استبدادية، وكضحية دائمة لهجمات الإرهاب. لكن بعد عدوان 2023 على غزة، سقط القناع الأخلاقي؛ فقد وثّقت كبرى وسائل الإعلام الغربية، ومنصات الجامعات، ومنظمات حقوق الإنسان، صور المجازر، وشهادات الناجين، وأرقام القتلى من الأطفال والنساء. إعلان النتيجة: سحبٌ تدريجي للبساط من تحت اللوبي في الجامعات، وفي الإعلام، وحتى في الحزب الديمقراطي. وبالتالي، فإن أي تحشيد صاخب الآن ضد إيران قد يعيد إشعال ملف غزة من جديد، ويُذكّر الجمهور الأميركي بأن إسرائيل هي التي بدأت الاغتيالات، وأنها ليست الضحية الوحيدة. إسرائيل لم تدفع اللوبي إلى التحرك، فهي تدير المواجهة بأسلوب "الرد الجزئي" و"الضربة المحدودة"، لإبقاء التصعيد تحت السيطرة، والرسالة التي وصلت إلى اللوبي كانت واضحة: لا نريد تدويل المعركة الآن مأزق الجبهات المفتوحة يدرك اللوبي الصهيوني أن فتح جبهة إعلامية ضد إيران اليوم يحمل مخاطرتين: كشف هشاشة الردع الإسرائيلي، خصوصًا بعد اختراق الصواريخ الإيرانية للقبة الحديدية. جرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة لا تريدها. إن صمت اللوبي ليس دليل عجز، بل هو اعتراف ضمني بأن معركة اليوم لا تُكسب بالصراخ، بل بإعادة التموضع، وشراء الوقت، وانتظار لحظة مناسبة للاستثمار السياسي. من الردع إلى امتصاص الضربة المفارقة أن إسرائيل نفسها لم تدفع اللوبي إلى التحرك، فهي تدير المواجهة بأسلوب "الرد الجزئي" و"الضربة المحدودة"، لإبقاء التصعيد تحت السيطرة، والرسالة التي وصلت إلى اللوبي كانت واضحة: لا نريد تدويل المعركة الآن. هذا ما يفسر تقارير عديدة تشير إلى أن قادة اللوبي تلقّوا توجيهات من تل أبيب بتجميد الحملات الإعلامية الكبرى، وتجنب المطالبة العلنية بتدخل أميركي مباشر. كل ذلك يشير إلى أن اللعبة أدقّ مما تبدو عليه، وأننا أمام عقلانية باردة، لا أمام هزيمة خطابية. استشراف ما بعد الصمت الصمت لن يدوم.. اللوبي الصهيوني يعيد ترتيب أوراقه استعدادًا للمرحلة القادمة، والتي قد تشمل: دفع الكونغرس لإقرار مساعدات استثنائية لإسرائيل تحت بند "الردع الإقليمي".تفعيل خطاب الربط بين إيران و"الإرهاب العالمي" لإعادة تعبئة الرأي العام.محاولة إحياء صورة إسرائيل كحليف غربي متقدم في مواجهة محور الشر، خصوصًا إذا ما دخلت روسيا أو ما تبقى من حزب الله على الخط. لكن الأهم، هو أن هذا الصمت يعكس لحظة انكشاف.. لحظة تآكل السردية، واضطراب الحلفاء، وعودة القوة إلى المشهد دون وسطاء. ولأول مرة منذ عقود، تبدو إسرائيل وحدها، يتردد صدى صراخها في الفراغ، دون أن يتحول إلى قرار في واشنطن. وهنا، ربما يكمن جوهر اللحظة: أن اللوبي الصهيوني لم يصمت لأنه فقد أدواته، بل لأنه أدرك أن الصراخ في الفراغ لا يُثمر، وأن زمن "أوامر اللوبي" في واشنطن بدأ يتآكل، بصمت.