
كيف تسلل الموساد لمفاصل الدولة في إيران؟
نديم شنر
كاتب وصحفي تركي
في 31 يناير/ كانون الثاني 2018، كشف الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي 'الموساد'، يوسي كوهين، كيف تمكّنوا من الاستيلاء على الأرشيف النووي العسكري الإيراني في طهران باستخدام عشرين عميلًا إيرانيًا. قال حينها:
'قبل أكثر من عامين من تنفيذ العملية، تلقّى الموساد معلومات استخبارية حول المكان الذي يُخفى فيه الأرشيف النووي، وبدأنا في البحث عنه. وحين عثرنا عليه، حصلنا على خرائط كشفت عن بنية المبنى الداخلية. وبناءً على ذلك، شُيّد في إحدى الدول الصديقة مبنى مطابق تمامًا للبناء الذي تُخزن فيه الوثائق.
هناك، أجرينا تدريبات على اقتحام المبنى وإفراغ محتوى الخزائن بصمت. تم توظيف عشرين عميلًا مختارًا، لا يحملون الجنسية الإسرائيلية.
وخلال تنفيذ العملية، كان العملاء يرسلون بثًا مباشرًا لما يرونه، ويقدمون شروحًا باللغة الفارسية، ويرسلون صورًا. وعندما رأينا ما تحتويه تلك الخزائن الضخمة، أدركنا أننا عثرنا على ضالتنا. لقد أدركنا حينها أننا استولينا على البرنامج النووي العسكري الإيراني'.
في تلك الأيام، اعتُبرت تصريحاته ضربًا من المبالغة، واستخفّت بها إيران قائلة إن 'الوثائق المسروقة مزيفة'. لكن الهجوم الإسرائيلي الذي وقع ليلة 13 يونيو/ حزيران 2025 كشف أن تلك التصريحات لم تكن خالية من الحقيقة.
فلم يكن القصف الجوي وحده هو الضربة، بل اغتيل عدد من كبار القادة والعلماء النوويين الإيرانيين، ليس فقط عبر طائرات ' إف- 35″ والطائرات المسيرة، والصواريخ التي انطلقت من إسرائيل الواقعة على بعد 1600 كيلومتر، بل أيضًا عبر شبكة عملاء الموساد التي نُسجت داخل إيران على مدى سنوات كشبكة العنكبوت.
ولفهم مدى فاعلية شبكة العملاء هذه، يكفي النظر إلى هوية من سقطوا قتلى في الهجوم. فخلال الغارات، قُتل كل من رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد حسين باقري، وقائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، وقائد مقر خاتم الأنبياء المركزي علي رشيد، وقائد أنظمة الدفاع الجوي للحرس الثوري داود شيحيان، وقائد القوات الجوية بالحرس الثوري أمير علي حاجي زاده، وقائد الطوارئ بالحرس الثوري علي شادماني.
وقد شاركت الولايات المتحدة في الهجوم عبر تقديم دعم استخباري، وطائرات التزود بالوقود، والأسلحة، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام الأميركية التي أوضحت: 'قبل أن تُغير طائرات ' إف-35″ على الأهداف النووية والعسكرية، مهّد الموساد الطريق بعملية سرية. تم تهريب قطع طائرات مسيرة إلى داخل إيران، ونُفذت الهجمات من الداخل'.
على مدار شهور، هرّب الموساد أجزاء من طائرات رباعية المراوح محمّلة بالمتفجرات، وذخائر تُطلق عن بعد، بواسطة حقائب سفر، وشاحنات، وحاويات شحن إلى داخل إيران. ثم قامت فرق صغيرة وسرية بتركيب هذه الطائرات قرب مواقع الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي. وعندما بدأت الضربات الجوية، حيّدت هذه الفرق الأنظمة الحرجة، واستهدفت منصات الإطلاق الخارجة من المخابئ.
استهدفت فرق الطائرات المسيّرة قوافل الصواريخ والمخازن، وتم تدمير عشرات الشاحنات المخصصة للإطلاق، وهو ما أدى إلى تأخير الرد الإيراني.
هذه الشبكة السرية التي جرى إعدادها على مدى سنوات، تأسست من عملاء دُرِّبوا في الخارج، وتسللوا إلى خطوط الإمداد، وحددوا الأهداف بدقة.
أما إيران، التي لطالما قللت من شأن تغلغل الموساد داخلها، فقد بدأت عمليات مضادة متأخرة. وتمكنت من اعتقال العشرات من عملاء الموساد الذين كانوا يجمعون المعلومات من الميدان، وشاركوا في الهجمات. وتم إعدام بعضهم.
لكن ذلك لا يعني أن تهديد الموساد داخل إيران قد انتهى. إذ إن الشبكة لم تتغلغل فقط بين الناس العاديين، بل وصلت إلى أعلى هرم السلطة، بحسب ما صرح به مسؤولون إيرانيون.
ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بعد عامين من استيلاء الموساد على الأرشيف النووي، قُتل أبرز علماء إيران النوويين محسن فخري زاده، عبر سلاح رشاش يتحكم به عن بُعد، باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وبعد الاغتيال، صرّح وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي بأن الشخص الذي سهّل اغتيال فخري زاده هو أحد عناصر الحرس الثوري نفسه، دون أن يُكشف عن هوية ذلك العميل للموساد داخل الاستخبارات الإيرانية.
الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أكد عام 2021 أن أحد كبار المسؤولين الأمنيين المكلّفين بالتصدي لعمليات الموساد، كان نفسه عميلًا لدى الموساد. وقال: 'إسرائيل تنفذ عمليات معقدة داخل إيران، وتحصل على معلومات حساسة بسهولة تامة. وأجهزة الدولة لا تزال صامتة. الشخص المسؤول عن مقاومة إسرائيل كان عميلًا لها'.
وواضح أن الموساد امتلك في إيران شبكة تجسس عملاقة، جعلته قادرًا على تنفيذ اغتيالات كيفما شاء.
وفي 2022، صرح علي يونسي، مستشار الرئيس السابق حسن روحاني ووزير الاستخبارات السابق، قائلًا: 'الموساد تسلل خلال السنوات العشر الأخيرة إلى جميع مفاصل الدولة الإيرانية، لدرجة باتت معها أرواح كل المسؤولين في خطر. لقد أصبحوا يهددون المسؤولين علنًا. وبصفتي ممن عمل سابقًا في وزارة الاستخبارات، فإن هذا الوضع يؤلمني بعمق'.
وفي 31 يوليو/ تموز 2024، وبعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث طائرة غامض، حضر الموساد حفل تنصيب خليفته مسعود بزشكيان، لينفّذ بعده عملية اغتيال دقيقة استهدفت قائد حركة حماس إسماعيل هنية، في دار ضيافة محصنة تابعة للحرس الثوري.
وبحسب صحيفة 'تلغراف' البريطانية، استخدم الموساد عملاء له داخل الحرس الثوري لتنفيذ اغتيال هنية.
ومع استمرار إسرائيل في ارتكاب المجازر في غزة، اتجهت نحو لبنان، مستهدفة حزب الله قبل شن عملية برية. وقد أظهرت مدى اختراقها حزب الله وإيران عبر عمليات اغتيال فردية وجماعية.
ففي عملية نوعية، فجّرت في وقت واحد أجهزة النداء التي يستخدمها الحزب للتواصل، فطالت 3000 من قادته وأفراده دفعة واحدة. وقد نُفذت العملية من جناحين؛ أحدهما في إسرائيل، والآخر في إيران. تم توفير الأجهزة من داخل إيران، في حين تولّى الموساد تحويلها إلى عبوات ناسفة.
ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل استهدفت قيادات حزب الله واحدًا تلو الآخر، حيث اغتالت في 16 يونيو/ حزيران، قائد وحدة 'ناصر' سامي طالب عبدالله، وفي 3 يوليو/ تموز، قائد وحدة 'عزيز' محمد نعمة ناصر، ثم القائد الأعلى العسكري للحزب فؤاد شُكر، وفي 20 سبتمبر/ أيلول، قائد وحدة 'الرضوان' إبراهيم عقيل، وفي 24 سبتمبر/ أيلول، القائد البارز إبراهيم محمد قبسي، وفي 26 سبتمبر/ أيلول، قائد الوحدة الجوية محمد حسين سرور، وأخيرًا، في 27 سبتمبر/ أيلول، زعيم حزب الله نفسه، حسن نصر الله.
واللافت أنه قبل أيام من اغتياله، وتحديدًا في 24 سبتمبر/ أيلول، وجّه له الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان، محمد علي الحسيني، عبر إحدى القنوات، تحذيرًا قائلًا: 'لو كنت تعلم ما تقوله إيران عنك، لانقلبت المعادلة. اكتب وصيتك، فقد خدعتك أحلامك في دخول القدس، وخذلك شركاؤك'.
وبحسب ما نقلته صحيفة 'لو باريزيان' الفرنسية عن مصدر أمني لبناني، فإن عميلًا إيرانيًا هو من قدّم لإسرائيل معلومة مفادها أن نصر الله يخطط لزيارة مقر حزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية يوم الجمعة. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا العميل 'من داخل النظام الإيراني نفسه'.
وعقب عملية الاغتيال، صرّح الحسيني: 'إيران باعت نصر الله مقابل الحلم النووي. الإحداثيات جاءت من طهران. أُقسم أن كل من سيخلف نصر الله سيُقتل. لقد سرّبت إيران معلومات الجميع'.
ومن الواضح أن المقصود بـ'إيران' في هذا السياق هم عملاء الموساد المزروعون داخل مفاصل الدولة. فكما في الهجوم الأخير، لا يمكن أن تُعرف أماكن تواجد هؤلاء القادة بدقة إلا من قبل مسؤولين في مواقع مماثلة أو جواسيس يعملون داخل الاستخبارات الإيرانية لصالح الموساد.
بل إن القصف الذي استهدف المنطقة التي يقيم فيها المرشد الأعلى آية الله خامنئي، يثبت أن الموساد يمتلك معلومات داخلية دقيقة.
لكن نشاط الموساد لا يقتصر على إيران. فهذه الأحداث تُظهر أن إسرائيل قادرة على شن عمليات دقيقة ليس فقط في إيران، بل في مختلف دول الشرق الأوسط: لبنان، وسوريا، والعراق، من خلال شبكة التجسس التي نسجتها طوال سنوات.
وهذا الجهاز السري الإسرائيلي بات اليوم يشكّل تهديدًا حقيقيًا على وجود واستقرار دول المنطقة كافة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 2 أيام
- الشروق
محامية أسترالية معرضة لفقدان البصر بسبب دعهما لغزة
تواجه محامية أسترالية خطر فقدان بصرها في إحدى عينيها بعد أن اعتقلتها الشرطة بعنف خلال احتجاج سلمي ضد توريد معدات حربية للكيان الصهيوني. وكشفت الصور المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي تعرض هانا توماس لإصابات خطيرة في الوجه، بما في ذلك احتمال فقدان البصر في العين اليمنى بعد احتجازها خلال احتجاج خارج شركة في سيدني. وذكرت التقارير أن الاحتجاج، الذي نُظم لدعم فلسلطين استقطب ما بين 50 و60 متظاهرا، ووفقا للناشطين، فإن الشركة التي تم الاحتجاج أمامها تقدم خدمات الطلاء الكهربائي لمختلف الصناعات، بما في ذلك الفضاء والدفاع، وترتبط بإنتاج مكونات طائرات إف-35 المقاتلة التي يستخدمها جيش الاحتلال. ووجهت هذه الاحتجاجات السلمية بالعنف والاعتقال، ومن بين المعتقلين السياسيين الأسترالية هانا توماس، البالغة من العمر 35 عاما، والتي سبق أن ترشحت ضد رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز في المقعد الفيدرالي في غريندلر. وتُظهر صورٌ مُتداولة على الإنترنت عينها اليمنى مُتورمة ومُصابة بكدمات، وقد أعرب أصدقاؤها وعائلتها عن قلقهم من احتمال فقدانها البصر في تلك العين. Australia 🇦🇺 NSW police have blinded politician Hannah Thomas lawfully protesting the genocide of Gaza and weapons company on public land. — Syrian Girl (@Partisangirl) June 28, 2025 وقالت توماس، متحدثة من المستشفى، إنها كانت 'مُشاركة في احتجاج سلمي' عندما هاجمتها الشرطة. وأضافت أن 'هذا التفاعل' 'أدى إلى فقدان البصر في عيني اليمنى بشكل دائم'. وانتقدت 'القوانين الصارمة' المُستخدمة لقمع الاحتجاجات المُؤيدة للفلسطينيين، قائلة إنها 'شجعت الشرطة على استخدام العنف والوحشية المُفرطين في القمع'. Hannah Thomas, a former political candidate from the Australian Greens says she may permanently lose vision in her right eye after her 'interactions with police' at a peaceful pro-Palestine protest in Sydney last week. — Quds News Network (@QudsNen) June 30, 2025 وأكدت هانا أن تجربتها 'لا تُقارن بما يمر به سكان غزة بسبب الاحتلال'، وتعهدت 'بمواصلة الاحتجاج'. ووفقا لصحيفة الغارديان، أدانت السيناتور مهرين فاروقي، عضو مجلس الشيوخ عن حزب الخضر، رد فعل الشرطة، واصفة الإجراءات بـ'الفظيعة'. بالإضافة إلى ذلك، وصفت سو هيغينسون، عضو المجلس التشريعي عن حزب الخضر في نيو ساوث ويلز، الاحتجاج بأنه سلمي، ووصفت رد فعل الشرطة بأنه 'وحشي' و'مفرط'.، وفقا لموقع palestinechronicle


إيطاليا تلغراف
٢٣-٠٦-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
كيف تسلل الموساد لمفاصل الدولة في إيران؟
إيطاليا تلغراف نديم شنر كاتب وصحفي تركي في 31 يناير/ كانون الثاني 2018، كشف الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي 'الموساد'، يوسي كوهين، كيف تمكّنوا من الاستيلاء على الأرشيف النووي العسكري الإيراني في طهران باستخدام عشرين عميلًا إيرانيًا. قال حينها: 'قبل أكثر من عامين من تنفيذ العملية، تلقّى الموساد معلومات استخبارية حول المكان الذي يُخفى فيه الأرشيف النووي، وبدأنا في البحث عنه. وحين عثرنا عليه، حصلنا على خرائط كشفت عن بنية المبنى الداخلية. وبناءً على ذلك، شُيّد في إحدى الدول الصديقة مبنى مطابق تمامًا للبناء الذي تُخزن فيه الوثائق. هناك، أجرينا تدريبات على اقتحام المبنى وإفراغ محتوى الخزائن بصمت. تم توظيف عشرين عميلًا مختارًا، لا يحملون الجنسية الإسرائيلية. وخلال تنفيذ العملية، كان العملاء يرسلون بثًا مباشرًا لما يرونه، ويقدمون شروحًا باللغة الفارسية، ويرسلون صورًا. وعندما رأينا ما تحتويه تلك الخزائن الضخمة، أدركنا أننا عثرنا على ضالتنا. لقد أدركنا حينها أننا استولينا على البرنامج النووي العسكري الإيراني'. في تلك الأيام، اعتُبرت تصريحاته ضربًا من المبالغة، واستخفّت بها إيران قائلة إن 'الوثائق المسروقة مزيفة'. لكن الهجوم الإسرائيلي الذي وقع ليلة 13 يونيو/ حزيران 2025 كشف أن تلك التصريحات لم تكن خالية من الحقيقة. فلم يكن القصف الجوي وحده هو الضربة، بل اغتيل عدد من كبار القادة والعلماء النوويين الإيرانيين، ليس فقط عبر طائرات ' إف- 35″ والطائرات المسيرة، والصواريخ التي انطلقت من إسرائيل الواقعة على بعد 1600 كيلومتر، بل أيضًا عبر شبكة عملاء الموساد التي نُسجت داخل إيران على مدى سنوات كشبكة العنكبوت. ولفهم مدى فاعلية شبكة العملاء هذه، يكفي النظر إلى هوية من سقطوا قتلى في الهجوم. فخلال الغارات، قُتل كل من رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد حسين باقري، وقائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، وقائد مقر خاتم الأنبياء المركزي علي رشيد، وقائد أنظمة الدفاع الجوي للحرس الثوري داود شيحيان، وقائد القوات الجوية بالحرس الثوري أمير علي حاجي زاده، وقائد الطوارئ بالحرس الثوري علي شادماني. وقد شاركت الولايات المتحدة في الهجوم عبر تقديم دعم استخباري، وطائرات التزود بالوقود، والأسلحة، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام الأميركية التي أوضحت: 'قبل أن تُغير طائرات ' إف-35″ على الأهداف النووية والعسكرية، مهّد الموساد الطريق بعملية سرية. تم تهريب قطع طائرات مسيرة إلى داخل إيران، ونُفذت الهجمات من الداخل'. على مدار شهور، هرّب الموساد أجزاء من طائرات رباعية المراوح محمّلة بالمتفجرات، وذخائر تُطلق عن بعد، بواسطة حقائب سفر، وشاحنات، وحاويات شحن إلى داخل إيران. ثم قامت فرق صغيرة وسرية بتركيب هذه الطائرات قرب مواقع الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي. وعندما بدأت الضربات الجوية، حيّدت هذه الفرق الأنظمة الحرجة، واستهدفت منصات الإطلاق الخارجة من المخابئ. استهدفت فرق الطائرات المسيّرة قوافل الصواريخ والمخازن، وتم تدمير عشرات الشاحنات المخصصة للإطلاق، وهو ما أدى إلى تأخير الرد الإيراني. هذه الشبكة السرية التي جرى إعدادها على مدى سنوات، تأسست من عملاء دُرِّبوا في الخارج، وتسللوا إلى خطوط الإمداد، وحددوا الأهداف بدقة. أما إيران، التي لطالما قللت من شأن تغلغل الموساد داخلها، فقد بدأت عمليات مضادة متأخرة. وتمكنت من اعتقال العشرات من عملاء الموساد الذين كانوا يجمعون المعلومات من الميدان، وشاركوا في الهجمات. وتم إعدام بعضهم. لكن ذلك لا يعني أن تهديد الموساد داخل إيران قد انتهى. إذ إن الشبكة لم تتغلغل فقط بين الناس العاديين، بل وصلت إلى أعلى هرم السلطة، بحسب ما صرح به مسؤولون إيرانيون. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بعد عامين من استيلاء الموساد على الأرشيف النووي، قُتل أبرز علماء إيران النوويين محسن فخري زاده، عبر سلاح رشاش يتحكم به عن بُعد، باستخدام الذكاء الاصطناعي. وبعد الاغتيال، صرّح وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي بأن الشخص الذي سهّل اغتيال فخري زاده هو أحد عناصر الحرس الثوري نفسه، دون أن يُكشف عن هوية ذلك العميل للموساد داخل الاستخبارات الإيرانية. الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أكد عام 2021 أن أحد كبار المسؤولين الأمنيين المكلّفين بالتصدي لعمليات الموساد، كان نفسه عميلًا لدى الموساد. وقال: 'إسرائيل تنفذ عمليات معقدة داخل إيران، وتحصل على معلومات حساسة بسهولة تامة. وأجهزة الدولة لا تزال صامتة. الشخص المسؤول عن مقاومة إسرائيل كان عميلًا لها'. وواضح أن الموساد امتلك في إيران شبكة تجسس عملاقة، جعلته قادرًا على تنفيذ اغتيالات كيفما شاء. وفي 2022، صرح علي يونسي، مستشار الرئيس السابق حسن روحاني ووزير الاستخبارات السابق، قائلًا: 'الموساد تسلل خلال السنوات العشر الأخيرة إلى جميع مفاصل الدولة الإيرانية، لدرجة باتت معها أرواح كل المسؤولين في خطر. لقد أصبحوا يهددون المسؤولين علنًا. وبصفتي ممن عمل سابقًا في وزارة الاستخبارات، فإن هذا الوضع يؤلمني بعمق'. وفي 31 يوليو/ تموز 2024، وبعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث طائرة غامض، حضر الموساد حفل تنصيب خليفته مسعود بزشكيان، لينفّذ بعده عملية اغتيال دقيقة استهدفت قائد حركة حماس إسماعيل هنية، في دار ضيافة محصنة تابعة للحرس الثوري. وبحسب صحيفة 'تلغراف' البريطانية، استخدم الموساد عملاء له داخل الحرس الثوري لتنفيذ اغتيال هنية. ومع استمرار إسرائيل في ارتكاب المجازر في غزة، اتجهت نحو لبنان، مستهدفة حزب الله قبل شن عملية برية. وقد أظهرت مدى اختراقها حزب الله وإيران عبر عمليات اغتيال فردية وجماعية. ففي عملية نوعية، فجّرت في وقت واحد أجهزة النداء التي يستخدمها الحزب للتواصل، فطالت 3000 من قادته وأفراده دفعة واحدة. وقد نُفذت العملية من جناحين؛ أحدهما في إسرائيل، والآخر في إيران. تم توفير الأجهزة من داخل إيران، في حين تولّى الموساد تحويلها إلى عبوات ناسفة. ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل استهدفت قيادات حزب الله واحدًا تلو الآخر، حيث اغتالت في 16 يونيو/ حزيران، قائد وحدة 'ناصر' سامي طالب عبدالله، وفي 3 يوليو/ تموز، قائد وحدة 'عزيز' محمد نعمة ناصر، ثم القائد الأعلى العسكري للحزب فؤاد شُكر، وفي 20 سبتمبر/ أيلول، قائد وحدة 'الرضوان' إبراهيم عقيل، وفي 24 سبتمبر/ أيلول، القائد البارز إبراهيم محمد قبسي، وفي 26 سبتمبر/ أيلول، قائد الوحدة الجوية محمد حسين سرور، وأخيرًا، في 27 سبتمبر/ أيلول، زعيم حزب الله نفسه، حسن نصر الله. واللافت أنه قبل أيام من اغتياله، وتحديدًا في 24 سبتمبر/ أيلول، وجّه له الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان، محمد علي الحسيني، عبر إحدى القنوات، تحذيرًا قائلًا: 'لو كنت تعلم ما تقوله إيران عنك، لانقلبت المعادلة. اكتب وصيتك، فقد خدعتك أحلامك في دخول القدس، وخذلك شركاؤك'. وبحسب ما نقلته صحيفة 'لو باريزيان' الفرنسية عن مصدر أمني لبناني، فإن عميلًا إيرانيًا هو من قدّم لإسرائيل معلومة مفادها أن نصر الله يخطط لزيارة مقر حزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية يوم الجمعة. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا العميل 'من داخل النظام الإيراني نفسه'. وعقب عملية الاغتيال، صرّح الحسيني: 'إيران باعت نصر الله مقابل الحلم النووي. الإحداثيات جاءت من طهران. أُقسم أن كل من سيخلف نصر الله سيُقتل. لقد سرّبت إيران معلومات الجميع'. ومن الواضح أن المقصود بـ'إيران' في هذا السياق هم عملاء الموساد المزروعون داخل مفاصل الدولة. فكما في الهجوم الأخير، لا يمكن أن تُعرف أماكن تواجد هؤلاء القادة بدقة إلا من قبل مسؤولين في مواقع مماثلة أو جواسيس يعملون داخل الاستخبارات الإيرانية لصالح الموساد. بل إن القصف الذي استهدف المنطقة التي يقيم فيها المرشد الأعلى آية الله خامنئي، يثبت أن الموساد يمتلك معلومات داخلية دقيقة. لكن نشاط الموساد لا يقتصر على إيران. فهذه الأحداث تُظهر أن إسرائيل قادرة على شن عمليات دقيقة ليس فقط في إيران، بل في مختلف دول الشرق الأوسط: لبنان، وسوريا، والعراق، من خلال شبكة التجسس التي نسجتها طوال سنوات. وهذا الجهاز السري الإسرائيلي بات اليوم يشكّل تهديدًا حقيقيًا على وجود واستقرار دول المنطقة كافة.


إيطاليا تلغراف
٢٢-٠٦-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
هل يستطيع نتنياهو إنهاء الحرب على إيران؟
حسن نافعة نشر في 21 يونيو 2025 الساعة 21 و 50 دقيقة إيطاليا تلغراف حسن نافعة كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة قبل أن يبزغ فجر يوم الجمعة (13/6/2025)، كانت عشرات الطائرات الحربية الإسرائيلية من أحدث الطرازات الأميركية، بما فيها إف 35، تصطفّ استعداداً للانطلاق صوب إيران، وكانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قد تمكّنت، في الوقت نفسه، من إدخال مجموعة عرباتٍ كثيرة إلى أراضٍ إيرانية، وملأتها بمسيّرات انتحارية، وبأطقم فنّية قادرة على تركيبها وإطلاقها في اللحظة نفسها التي كانت فيها الطائرات الحربية المقبلة من فلسطين المحتلة تلقي بحممها على المواقع الإيرانية المستهدفة. وحين فرغ الجميع من أداء المهام الموكلة إليه، أُعلن رسمياً شنّ إسرائيل حرباً شاملةً على إيران، أمسكت فيها بزمام المبادرة. لم تشكّل هذه الخطوة في حدّ ذاتها مفاجأةً، فكلّ المتابعين لمسار العلاقات الإسرائيلية الإيرانية يدركون أن إسرائيل تخطّط لشنّ حرب على إيران، وتستعدّ لها، منذ أكثر من عقد، لكن المفاجأة في التوقيت. فقبل يوم من اندلاع هذه الحرب، أعلن وزير الخارجية العُماني أن الجولة السادسة من المفاوضات الأميركية الإيرانية ستعقد في مسقط الأحد (15 يونيو/ حزيران الجاري)، وصدرت تصريحات أميركية عديدة، بعضها من الرئيس ترامب نفسه، تتسم بالتفاؤل، وتؤكّد أن المفاوضات تمضي في الاتجاه الصحيح، وتتوقّع التوصّل إلى اتفاق جديد حول برنامج إيران النووي خلال فترة وجيزة. ولأن أولى النتائج المترتّبة على الاندلاع المفاجئ للحرب كانت توقّف هذه المفاوضات، فقد ثارت تساؤلات كثيرة بشأن حقيقة ما يجري وراء الكواليس، وحول ما إذا كان الغرض من الحرب قطع الطريق على اتفاق وشيك لا يلبّي مطالب ترامب، أم إن المفاوضات نفسها، وأجواء التفاؤل التي أحيطت بها، كانت جزءاً من خطّة 'خداع استراتيجي'، اتفق عليها مسبقاً بين ترامب ونتنياهو؟ رفض طهران شروط ترامب – نتنياهو في المفاوضات النووية، أدى إلى قناعة بأن تحقيقها غير ممكن مع استمرار النظام الإيراني ترجّح المعلومات المتاحة كفّة نظرية المؤامرة، فمنذ اللحظة الأولى لدخول ترامب البيت الأبيض، في بداية ولايته الثانية، بدا واضحاً أن السياسة التي ينوي انتهاجها نحو إيران تكاد تكون نسخةً من سياسة نتنياهو، خصوصاً في ما يتعلّق بالأهداف والغايات النهائية، وأن كلّ ما يقال عن تباينهما في بعض التفاصيل كان إمّا بشأن وسائل تحقيق الأهداف المتّفق عليها، وإما أنه يجري في سياق لعبة متّفق عليها للتضليل وممارسة الخداع، فلو أن الهدف الحقيقي انحصر في منع إيران من تصنيع سلاح نووي، كما تدّعي إدارة ترامب، لأمكن التوصّل بسهولة إلى اتفاق يمنع إيران من تصنيع سلاح نووي، ويحفظ لها، في الوقت نفسه، حقوقها في استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية، في إطار برنامجٍ تشرف عليه الوكالة الدولية، حتى لو تطلّب الأمر الاستعانة بمفتّشين أميركيين. غير أن أهداف نتنياهو كانت أكثر من ذلك بكثير، وتتضمّن مطالبة إيران بالتخلّص من برنامجها النووي بالكامل، بما في ذلك منع التخصيب في أراضيها (النموذج الليبي)، وبتدمير برنامجها الصاروخي، والالتزام بقطع العلاقة مع الفصائل التي تناصب إسرائيل العداء. ولأنها أهداف غير قابلة للتحقّق في ظلّ استمرار النظام الإيراني الحالي، فمن الطبيعي أن يؤدّي الإصرار عليها إلى انكشاف حقيقة أن إسقاط النظام الإيراني هو الهدف النهائي المتّفق عليه بين ترامب ونتنياهو، فالضربة التي وُجِّهت إلى إيران فجر الجمعة لا تشي أبداً بأن هدفها كان مجرّد الضغط على النظام الإيراني لدفعه إلى تقديم مزيد من التنازلات، وإنما إضعاف قبضته على مؤسّسات الدولة بما يكفي لإسقاطه. فقد استخدمت فيها إسرائيل كلّ ثقلها العسكري والاستخباراتي، ما مكّنها من التخلّص من عدد كبير من أبرز القيادات والرموز السياسية والعسكرية والعلمية. ولأن النظام الإيراني بدا في مرآة هذه الضربة المفاجئة والساحقة مخترقاً حتى النخاع، توقّعت إسرائيل أن يؤدّي الاستمرار في الحرب بعض الوقت، مع تتالي الضربات، إلى تفكّك النظام وانهياره، وهو ما لم يحدُث. صحيح أنه ظهر عقب الضربة مباشرة في حالة ارتباكٍ لا تسمح له بردّ سريع أو متكافئ، لكنّه سرعان ما أظهر قدراً لا بأس به من التماسك، قبل أن يتمكّن (بمرور الوقت) من استعادة توازنه ليصبح تدريجياً في وضعٍ يسمح له باستيعاب الضربة، وربّما بخوض حرباً طويلة المدى، يصعب أن يهزم فيها بالضربة القاضية أو حتى بالنقاط. حتى في حالة عجز إيران عن تسديد ضربات موجعة للقواعد الأميركية في المنطقة، تملك أوراقاً أخرى كثيرة، ربّما أهمها إغلاق مضيق هرمز سبق لكثيرين أن ناقشوا أفكاراً تتعلّق بمدى قدرة إسرائيل على احتمال حرب طويلة المدى، ونجاحها الدائم في نقل كلّ حروبها خارج أراضيها. وحين صمدت في حرب 'طوفان الأقصى' منذ ما يقارب عامَين، وتمكّنت من نقلها إلى خارج أراضيها، رغم خوضها في جبهات متعدّدة، بدأ بعضهم في مراجعة مواقفه السابقة، وراح يروّج أن إسرائيل تغيّرت، وأصبحت قادرةً، ليس على الصمود في حرب طويلة المدى فحسب، وإنما على تحقيق النصر فيها أيضاً، وبالتالي يتوقّع ألا تتأثر كثيراً بامتداد الحرب الحالية إلى الساحة الإيرانية. غير أن وجهة النظر هذه تتغافل عن عوامل كثيرة ينبغي أخذها في الاعتبار، فالحرب التي تخوضها إسرائيل منذ 'طوفان الأقصى' كانت حتى يوم 13 يونيو/ حزيران الحالي في مواجهة فاعلين غير دوليّين. ومع ذلك، لم تتمكّن من تحقيق انتصار حاسم فيها، فحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى ما تزال تقاتل، رغم ما لحق بقطاع غزّة من دمار شامل، وحزب الله لم يُهزم رغم خروجه مؤقّتاً من الميدان، حرصاً على تماسك الوضع الداخلي، وجماعة أنصار الله اليمنية ما تزال تواصل إطلاق صواريخها ومسيّراتها على أماكن حيوية في إسرائيل. وحتى بافتراض أن الأخيرة حقّقت بالفعل إنجازاتٍ يعتدّ بها في حروبها السابقة كافّة، إلا أن الوضع يبدو مختلفاً هذه المرّة. تجدر الإشارة هنا إلى أن إسرائيل لم تدخل حرباً نظاميةً مع أي دولة منذ 1973، كما لم يكن بمقدورها حسم أيّ من الحروب التي خاضتها مع الدول العربية المجاورة إلا عبر عمليات اجتياح برّي واسع، وهو ما يستحيل عليها القيام به في حربها الحالية مع إيران، بالنظر إلى بعد المسافة بينهما. فإذا أضفنا إلى هذا أن إيران تبدو حالياً الدولة الوحيدة التي نجحت بالفعل في نقل المعركة إلى قلب إسرائيل، لتبيّن لنا بوضوح أن الوقت لم يعد يعمل لصالح إسرائيل، وأن الفرصة باتت متاحةً أمام إيران لمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها في حربها الراهنة، إن لم يكن إلحاق الهزيمة بها، فموازين القوى الشاملة بين البلدَين تميل بشكل حاسم لصالح إيران، خصوصاً إذا أدخلنا في الاعتبار المعطيات المتعلّقة بالمساحة وتعداد السكّان وحجم ونوعية الموارد الطبيعية المتاحة للبلدَين، ما يرجّح كفّة إيران في حال تمكّنها من تحويل الحرب الراهنة حربَ استنزاف طويلة المدى. صحيح أن إسرائيل تتمتّع بتفوّق تكنولوجي كبير في مجالات مهمة عديدة، لكن إيران ليست دولةً متخلّفةً، وتمكّنت من الاعتماد على نفسها، ومن تحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ في مجالات كثيرة، خصوصاً ما يتعلّق بتصنيع أنظمة التسليح التي أصبحت إيرانية بنسبة تكاد تصل إلى 100%، رغم الحصار والعقوبات المفروضة عليها منذ أكثر من أربعة عقود. ومع ذلك، قد لا يكون احتمال الإبقاء على الحرب محصورة بين إيران وإسرائيل واقعياً. فهل يعقل أن يكون نتنياهو قد قرّر المغامرة بإشعال شرارة حرب على هذا القدر من الخطورة قبل التيقّن من أن ترامب لن يتخلّى عنه تحت أيّ ظرف، خصوصاً إذا عجز عن حسمها لصالحه، ونجحت إيران في تحويلها حربَ استنزاف؟ وهل بمقدور ترامب السماح بأن تلحق بإسرائيل هزيمة كبرى؟ لكن ماذا عساه يفعل إذا فشل نتنياهو في تحقيق الأهداف التي يسعى إليها؟ أدلى ترامب أخيراً بتصريحاتٍ مذهلة، طالب فيها إيران بالتوقيع على صكّ الاستسلام. وتحتمل هذه التصريحات تفسيرَين متناقضَين، الأول أن ترامب يراهن على عجز إيران عن مواصلة الحرب، في ضوء خسائر كبيرة منيت بها خلال الضربة الافتتاحية، ومن ثمّ يرغب في الظهور بمظهر المشارك في صنع نصر على وشك التحقّق، وأن يتطلّع لقطف ثماره، وهو احتمال مُستبعَد، لأن الأوضاع الميدانية لا توحي بتمتّعه بأيّ قدر من المصداقية. والثاني احتمال تلقّي ترامب معلومات أمنية تفيد بأن الأوضاع الميدانية بدأت تميل إلى غير صالح إسرائيل، ما دفعه إلى إدلاء تصريحاتٍ تَصوَّر أنها يمكن أن تفيد في شنّ حرب نفسية تهدف إلى التأثير في الداخل الإيراني، أو في تهيئة الأجواء لتقبّل دخول الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الحرب، وهو احتمال لا ينبغي استبعاده بالمطلق، رغم كلّ ما يحيط به من محاذير. أسهمت الحرب الإسرائيلية على إيران في تماسك الشعب الإيراني والتفافه حول نظامه الحاكم إذ تشير دلائل عديدة إلى أن الحرب، وعلى عكس ما توقّعت إسرائيل، أسهمت في تماسك الشعب الإيراني، وفي التفافه حول نظامه الحاكم، وبالتالي، أسقطت فرضية احتمال أن تفضي الضربة الافتتاحية إلى اندلاع ثورة شعبية تطيح النظام الإيراني. ولأنه نظام ثوري وعقائدي في الوقت نفسه، فإن الرهان على احتمال توقيعه على صكّ استسلام لإنقاذ رقبته يعدّ نوعاً من أضغاث الأحلام. وحتى بافتراض إقدام الولايات المتحدة على تدمير مفاعل فوردو، ونجاحها في اتخاذ التدابير التي تحول دون تمكين إيران من توجيه ضربة قاسية لقواعدها ولمصالحها في المنطقة، فلن يغيّر هذا 'الإنجاز' شيئاً في الواقع، والأرجح أن تضطر لمواصلة الانغماس في الحرب إلى أن تتحقّق جميع أهدافها، ما يفتح الباب واسعاً أمام اضطراباتٍ قد لا تقوى المنطقة على احتمالها، فإيران، حتى في حالة العجز عن تسديد ضربات موجعة للقواعد الأميركية في المنطقة، تملك أوراقاً أخرى كثيرة، ربّما أهمها إغلاق مضيق هرمز، لذا يصعب تصوّر أن تقدم الولايات المتحدة على اتخاذ قرار بالتدخّل العسكري المباشر في الحرب لإنقاذ إسرائيل. والأرجح أن يضطر الجميع للعودة إلى طاولة المفاوضات، ولكن ليس للتمتّع بمشاهدة المرشد الأعلى وهو يوقّع على صكّ الاستسلام، كما يحلم ترامب. ومع ذلك، علينا أن نتذكّر أن التاريخ شاهد على وصول زعماء كثر إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ثمّ أصيبوا بجنون السلطة وشهوتها. فهل يصبح ترامب من هؤلاء؟ كان بمقدور نتنياهو أن يبدأ حرباً غير مبرّرة وغير عادلة على إيران، لكنّ كاتب هذه السطور يظن أنه لن يستطيع أن ينهيها على النحو الذي يريد. السابق أخطاء إيران القاتلة التالي خطاب ترامب عن الحرب والسلام