logo
حين لا يكفي التصنيف.. تفكيك فقه الجماعة هو المعركة الحقيقية

حين لا يكفي التصنيف.. تفكيك فقه الجماعة هو المعركة الحقيقية

قد يُسجَّل تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي ضمن المكاسب الكبرى في الحرب على الإسلام السياسي، لكن أيّ متابع يدرك أن التصنيف ليس نهاية المعركة، بل بدايتها.
فالجماعة لم تنشئ خطرها من خلال العنف فقط، بل عبر منظومة فكرية محكمة، تسلّلت بها إلى العقل المسلم قبل أن تتسلل إلى مفاصل الدولة.
لسنوات طويلة، نجحت الجماعة في التماهي مع الدين ذاته. لم تكن تنظيمًا فقط، بل صيغة بديلة لفهم الإسلام. قدمت نفسها بوصفها "الفرقة الناجية"، بينما الآخرون تيهٌ أو ترف أو ضياع. من المدرسة إلى المسجد، من الكلية إلى النقابة، كانت مفرداتهم تسبق الدولة، وسلوكهم يسبق القانون، وولاؤهم يعلو على الوطن.
ولهذا، فإن المواجهة اليوم لا يجب أن تكون سياسية فقط، بل معرفية–شرعية. لا يمكن دفن مشروع عمره قرن بقرار سياسي، مهما بلغت شرعيته أو دقة توقيته. إن المطلوب الآن هو مشروع أكثر عمقًا، مشروع يُنهي الأساس الفقهي الذي بُني عليه التنظيم، ويكشف للمجتمع أن ما يتعاملون معه لم يكن يومًا دعوة لله، بل دعوة لجماعة تزعم احتكار الفهم.
المهمة تبدأ من تأسيس لجنة علمية–شرعية جريئة، تملك من الحصانة المعرفية والاجتماعية ما يمكنها من تفكيك خطاب الجماعة، لا مجرد الرد عليه. لجنة لا تقف عند حدود الدفاع عن الدولة، بل تعيد تعريف العلاقة بين المسلم ومجتمعه، بين الإيمان والانتماء، بين العقيدة والمواطنة.
هذه اللجنة، في حال تشكّلها، ستكون أول كيان منهجي يُعيد فتح ملف "العقيدة الإخوانية" على طاولة التشريح النقدي. فالجماعة بنت لنفسها دينًا داخل الدين: نسقًا تأويليًا انتقائيًا يتغذى من كتب ابن تيمية وسيد قطب في آن، ويخلط بين فقه الحسبة، وأوهام الحاكمية، ومرويات الغربة، ليقدّم الفرد المسلم لا كمواطن بل كعنصر منتظر في جيش الخلافة.
السؤال الكبير: من يتصدى لتفكيك هذه العقيدة؟
من يجرؤ على الدخول إلى مناطق التابو، حيث "البيعة"، و"التكفير الناعم"، و"التمكين"، و"الولاء والبراء"، و"فقه الغلبة"، و"فقه الاستضعاف"، و"سقوط الشرعية الجاهلية"؟
هنا نحتاج مفكرًا من طينة مختلفة. عالمًا لا يخاف من فتح النص، ولا يتردد في مساءلة الموروث. ليس داعية رسميًا، ولا مهادنًا، بل شخصية متمرّسة في التجديد، تعرف الفرق بين مقاصد الدين وأحلام الجماعة.
هؤلاء موجودون، وبعضهم يحمل في خطابه جرأة تنويرية لم نرها منذ زمن طويل. مهمتهم ليست إعادة شرح الدين، بل إعادة تصفية الفكر الديني من التلوث الإخواني الذي امتد لعقود. إنهم مطالبون بأن يسائلوا حتى مفردات أصبحت عابرة للتفكير: ما معنى الجهاد؟ من يملك سلطة الأمر بالمعروف؟ هل الولاء للإسلام يعني العداء للوطن؟ وهل كل من خالف الجماعة مرتدّ أو متخاذل أو منافق؟
الخطأ الذي تكرر لعقود هو ترك الساحة الدينية للجماعة، ثم محاولة مطاردتها أمنيًا حين تتحوّل للعنف. هذا الفشل التراكمي لا يجب أن يتكرر. المطلوب ليس ملاحقة التنظيم بل هدم البنية العقلية التي أنتجته وأعادت إنتاجه كل مرة. لا يمكن مواجهة الإخوان دون تفكيك فكرهم، ولا يمكن تفكيك فكرهم دون منبر مؤسسي صريح، لا يخشى الاصطدام بجذور الأزمة.
ولن يتأتى هذا إلا بلجنة تجمع بين المعرفة والشجاعة. لجنة تبدأ بتفكيك كتابات حسن البنا، وتعيد قراءة سيد قطب لا من منظور دعوي بل من منظور أمني–فكري. لجنة تُظهر للناس أن ما قُدّم لهم عبر المنابر لم يكن سوى نسخة محرفة من الإسلام، مسيسة حتى النخاع، معدّلة لتخدم تنظيما لا أمة، ومرشدًا لا نبيًا.
هذه اللجنة ستكون بداية معركة استعادة الدين من الجماعة. إنها المعركة التي تؤسس لمصالحة المسلمين مع أوطانهم، وتضع نهاية حاسمة لفكرة الدولة داخل الدولة، والولاء خارج الحدود.
بعض الناس قد يقول: وهل نحتاج لجنة دينية ونحن في زمن الأمن الرقمي والمواجهة الإعلامية؟
والإجابة: نعم، بل نحن في أشد الحاجة إليها. لأن الإخوان ليسوا قضية إعلامية فقط، بل هم شيفرة مشوشة داخل الوعي العام. صراعاتنا معهم لم تكن على الشاشات فقط، بل في الفقه، وفي التربية، وفي تفسير الآيات، وفي تصور الإنسان المسلم عن نفسه ودوره في المجتمع.
العدو الحقيقي ليس من يحمل السلاح اليوم، بل من أقنع آلاف الشباب أن هذا السلاح هو جهاد، وأن الدولة كفر، وأن المجتمع في جاهلية، وأن طريق الجنة يمر من بوابة التنظيم.
اليوم، وقد بدأت بعض الدول تستعيد زمام المبادرة، لا بد أن تُستكمل الخطوة الأمنية بخطوة معرفية. لا يكفي أن نصنفهم، بل علينا أن نُعرِّيهم، لا أن نحارب أفرادهم بل أن نُفكك فكرتهم. وبهذا وحده، نطوي صفحة قرن من الانتهاك الفكري الذي زُرع في ديننا دون وعي.
الوقت لا ينتظر. فقه الجماعة لم يَعُد مجرد خطر، بل صار سرطانًا ناعمًا يتسلل بأسماء مختلفة، ويخترق الحاضر بثياب الحداثة.
ولن يُشفى الجسد من دائه، ما لم يُستأصل الرأس الذي أنتج الفقه، وغذّى الوهم، ورفع الجماعة فوق الأمة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أوقاف الفيوم تعقد ثلاث ندوات علمية على مستوى المحافظة
أوقاف الفيوم تعقد ثلاث ندوات علمية على مستوى المحافظة

البوابة

timeمنذ 8 ساعات

  • البوابة

أوقاف الفيوم تعقد ثلاث ندوات علمية على مستوى المحافظة

نظَّمت مديرية أوقاف الفيوم ثلاث ندوات علمية كبرى بعنوان:"{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}..تصدي الإسلام للغش بكافة صوره"، ضمن مبادرة "صحح مفاهيمك"، اليوم الإثنين، وذلك بالمساجد الكبرى، وبحضور كل من: الدكتور عبد المنعم مختار، الأستاذ المتفرغ بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة، والدكتور سعيد محمد قرني، أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة، والدكتور وليد الشيمي، وكيل كلية دار العلوم بالفيوم سابقًا، والدكتور عادل عبد التواب، أستاذ الفقه العام بكلية البنات الأزهرية بالفيوم، وسط حضور مكثف وإشادة من الحاضرين. وزارة الأوقاف وتأتي هذه الندوات في إطار الدور العلمي والدعوي والتوعوي لوزارة الأوقاف، وضمن جهودها لتحقيق مقاصد الشريعة، وتقديم خطاب ديني مستنير، وتنفيذًا لمحاور الخطة الدعوية للوزارة، خاصة محور مواجهة التطرف اللاديني المتمثل في تراجع القيم والأخلاق، ومحور استعادة وبناء الشخصية المصرية الوطنية من منطلق ديني. تصحيح المفاهيم المغلوطة وتهدف الندوات إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتوعية المجتمع بخطورة الغش بكل صوره، وترسيخ القيم الدينية والأخلاقية في بناء الوعي العام بين أفراد المجتمع. ويأتي ذلك تنفيذًا لتوجيهات الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، وبرعاية كريمة من الشيخ سلامة عبد الرازق، مدير المديرية، وبإشراف من الشيخ يحيى محمد، مدير الدعوة. inbound1193472488997374997 inbound6335605500572963528 inbound7916690678173812160 inbound2156512070847654776 inbound7751857362752107548

من "طظ في مصر" إلى "القطيع": خطاب الإخوان المهين للشعوب.. والمهووس بالسلطة
من "طظ في مصر" إلى "القطيع": خطاب الإخوان المهين للشعوب.. والمهووس بالسلطة

البوابة

timeمنذ يوم واحد

  • البوابة

من "طظ في مصر" إلى "القطيع": خطاب الإخوان المهين للشعوب.. والمهووس بالسلطة

نشرت جماعة الإخوان المسلمين عبر قنواتها على تطبيق تيليجرام الأحد 29 يونيو 2025، ما يشبه البيان أو التعليق السياسي، جاء بلهجة هجومية جارحة تجاه الشعوب العربية. البيان لم يحمل سوى نبرة لوم واتهام، وكأن الجماعة تنأى بنفسها عن الواقع وتلقي بكامل المسؤولية على الشعوب التي لم تعد تعبأ بخطابها ولا تستجيب لنداءاتها. ففي وقتٍ يُفترض فيه أن تكون الجماهير حليفًا وشريكًا في الوعي والتغيير، اختارت الجماعة أن تستخدم لغة تُقابل بالازدراء والنفور، مما يعكس انقطاعًا واضحًا عن المزاج العام وسوء تقدير لطبيعة التحولات التي مرّت بها المجتمعات العربية. هذا الخطاب لا يُعد جديدًا، بل يأتي امتدادًا لسلسلة طويلة من مواقف متكررة عُرفت بها الجماعة، إذ كثيرًا ما لجأت إلى إهانة الجماهير كلما شعرت بأنها خذلت مشروعها في العودة إلى السلطة. فقد سبق لمرشد الجماعة الأسبق أن تلفّظ بعبارات مثل "طظ في مصر"، في إشارة واضحة إلى استخفافه بالشعب والدولة معًا، كما كرر قياديون منهم، بمن فيهم حسن البنا وسيد قطب، مواقف تنزع عن الأوطان أي قيمة مستقلة، وتعتبرها مجرد وسائل لا تساوي شيئًا ما لم تكن خاضعة لحكم الجماعة أو تعمل لصالح مشروعها. البيان الأخير استخدم عبارات متعالية، واصفًا الشعوب بـ"القطعان التي تأكل وتنام ولا تحتج إلا بإيعاز"، كما حمّلها المسؤولية الكاملة عن استمرار التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وسكوت الأنظمة عن سياسات "الصهاينة"، متجاهلًا تمامًا تعقيدات الواقع السياسي، وتوازنات القوة،. يظهر من هذا الخطاب أن الإخوان لا يرون في الشعوب شركاء حقيقيين، بل أدوات عليهم أن يتحركوا بأمر التنظيم، وفي حال لم يفعلوا، يتحوّلون في نظرهم إلى جُناة ومتواطئين. هذه النظرة التسلطية تكشف عن جوهر العلاقة التي تسعى الجماعة لفرضها: علاقة طاعة لا مشاركة، ووصاية لا شراكة. جلد الشعوب بدلًا من نقد الذات يبدو أن بيان جماعة الإخوان الأخير لم يكن سوى محاولة جديدة للهروب من نقد الذات، عبر توجيه اللوم الكامل للشعوب العربية. فبدلًا من أن تمارس الجماعة أي قدر من المراجعة لمسارها أو خطابها أو تحالفاتها، اختارت مجددًا سلوك الطريق الأسهل: جلد الجماهير. البيان جاء محمّلًا بكم هائل من التلميحات المهينة والاتهامات المغلّفة بالدين، وكأنه لا سبيل لفهم الواقع سوى من خلال تخوين الناس وتكفير نواياهم. فقد تحوّلت خيبة الجماعة في الشارع العربي إلى غضب أعمى يُصبّ على الشعوب بدلًا من مساءلة النفس. من أبرز مظاهر هذا الخطاب، استدعاء الجماعة لآيات قرآنية في غير موضعها، كما في ختام البيان الذي تضمن الآية: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين". هذه الآية، التي تتحدث عن فرعون واستخفافه بقومه، استُخدمت هنا في غير سياقها لتُسقِط صفة "الفسق" على الشعوب العربية، بحجة أنها لم تتحرك وفق ما تريده الجماعة: لم تخرج إلى الحدود، لم تتظاهر أمام السفارات، ولم تفتح المعابر بالقوة. هذا التوظيف التعسّفي للنصوص الدينية ليس جديدًا في أدبيات الجماعة، لكنه يعكس بوضوح مدى تعاليها الأخلاقي ورفضها للاعتراف بأن للناس أولويات ومخاوف تختلف عن شعاراتها الثورية. اللافت أن البيان لم يتضمّن أي إشارة إلى مسؤولية التنظيم عن ما آلت إليه الأوضاع، سواء على مستوى خطابه أو خياراته أو إخفاقاته السياسية والاجتماعية. وكأن الجماعة لا تعيش في العالم نفسه، ولا علاقة لها بفقدان الناس للثقة في مشروعها. هكذا تتحوّل الجماهير في خطاب الإخوان من ضحايا الاستبداد والقمع إلى متهمين بالفساد والفسق، في ظل تجاهل تام لحجم المعاناة التي يعيشها المواطن العربي. إن هذا النوع من الخطابات لا يعبّر عن حزن صادق على الواقع، بقدر ما يفضح عقلية الوصاية والتبرؤ من الفشل، التي لطالما اتسم بها نهج الجماعة في كل لحظة خسارة. ازدراء الشعوب.. نهج متجذر لم يكن ازدراء جماعة الإخوان المسلمين للشعوب والأوطان مجرد انفعال عابر أو خطاب ظرفي نتج عن الهزيمة أو الإقصاء، بل هو جزء متجذّر في بنيتها الفكرية منذ لحظة التأسيس. هذا الازدراء لم يتوقف عند مستوى التلميحات، بل صيغ بوضوح في أدبيات قادتها ومقولاتهم الشهيرة، التي ترسّخت في وجدان التنظيم كمسلمات فكرية لا تقبل النقاش. ففكرة الوطن، التي تعد حجر الزاوية في تشكيل الهوية والانتماء، كانت دومًا في أدبيات الإخوان قيمة هامشية لا تستحق الدفاع عنها إلا إذا خضعت بالكامل لمشروع الجماعة. من أبرز ما يوضح هذا التوجّه، ما كتبه مؤسس الجماعة حسن البنا، حين قال بوضوح: "الوطن حفنة من تراب عفن"، وهي عبارة بالغة الدلالة، لأنها تختزل رؤية الجماعة للأوطان باعتبارها بلا معنى إن لم تكن في خدمة ما يسمونه بـ"الدعوة" أو "المشروع الإسلامي"، وهو الاسم الحركي للسلطة الدينية والتنظيمية التي يسعون لفرضها. هذه العبارة نفسها أعاد تكرارها سيد قطب، مُبرزًا مدى تجذّر هذه النظرة داخل المدرسة الفكرية للإخوان، حيث يُنظر للوطن كمجرد وسيلة لا غاية، وساحة للصراع لا مجالًا للمواطنة والانتماء. هذا الموقف لم يتغير مع تطورات الزمن أو تغير القيادة داخل الجماعة، بل بقي ثابتًا يتكرّر كلما سنحت الفرصة. فقد سجّل المرشد العام السابق، محمد مهدي عاكف، موقفًا صادمًا حين قال: "طظ في مصر وأبو مصر، أنا أنتمي إلى المشروع الإسلامي لا إلى الوطن!"، في تعبير صارخ عن عقيدة الإخوان العابرة للحدود والتي تُقدّم الولاء للتنظيم على حساب الدولة والشعب. هذه التصريحات لم تكن زلات لسان كما يحاول البعض تبريرها، بل هي تعبير واضح عن عقل جمعي يرى في الوطن مجرد محطة للتمكين، فإن لم تخدم السلطة الدينية للإخوان، فلا قيمة له ولا ولاء له. هل الجماهير هي المسؤولة حقًا؟ يتغاضى بيان جماعة الإخوان عن الظروف المعقدة التي تعيشها الشعوب العربية، متجاهلًا أن الواقع لا يسمح دائمًا بالتحرك الجماهيري أو الاحتجاج العلني. فليس من المنطقي اختزال غياب الحراك الشعبي في ضعف الوعي أو تقصير الشعوب، دون فهم حقيقي للضغوط السياسية والاجتماعية التي تجعل كثيرين يفضّلون السلامة والاستقرار على المغامرة بمصيرهم الشخصي أو مستقبل أسرهم. تحميل الجماهير كامل المسؤولية فيه قدر كبير من التجنّي، ويتجاهل حقيقة أن المجتمعات ليست دائمًا قادرة على التغيير من خارج المؤسسات، أو دون وجود بيئة آمنة ومُهيأة لذلك. إضافة إلى ذلك، فإن موقف الجماعة يبدو بعيدًا عن أي مراجعة ذاتية، وكأنها لا تتحمل أي قدر من المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور. فحين سنحت لها فرصة الحكم، سواء في مصر أو غيرها، لم تلتزم بما ترفعه اليوم من شعارات، ولم تقدم نموذجًا يرسخ الثقة في خطابها. بل بدا أن أولوياتها في تلك المرحلة كانت تتركّز على تثبيت وجودها السياسي وبناء نفوذها داخل مؤسسات الدولة، دون أن تعطي اهتمامًا كافيًا للقضايا الكبرى التي تعود اليوم لتضعها في مقدمة خطابها. هذا التناقض بين ما ترفعه الجماعة من مواقف اليوم، وما قدّمته في تجربتها العملية، يضعف قدرتها على إقناع الجمهور، ويجعل خطابها أقرب إلى تسجيل المواقف منه إلى دعوة صادقة للمراجعة أو الإصلاح. إن تقييم واقع الشعوب يجب أن يكون نابعًا من تفهّم عميق لظروفها وتعقيداتها، لا من موقع الوصاية أو الإدانة، خصوصًا عندما تصدر من جهة لم تثبت في تجربتها السابقة أنها كانت البديل الأفضل. أين المشروع؟ أين البديل؟ تكمن خطورة خطاب جماعة الإخوان في أنه لا يكتفي بلغة الاتهام واللوم، بل يكشف أيضًا عن فراغ فكري واضح. فالبيان الأخير لا يتضمن أي ملامح لمشروع بديل أو خطة عملية للخروج من الأزمات التي يشكو منها، ولا يطرح سبيلًا لبناء وعي جماهيري أو تفعيل أدوات سلمية للتعبير والتغيير. يغيب عنه أي دعوة حقيقية للتنظيم المجتمعي أو التثقيف أو العمل التراكمي، وكأن الغاية الوحيدة منه هي تسجيل موقف غاضب دون أي أثر يُذكر على الأرض. هذا الغياب للمضمون يعكس حالة من الانفصال عن الواقع، حيث يبدو البيان وكأنه صدى لأزمة داخلية يعانيها التنظيم أكثر مما هو تعبير عن قراءة ناضجة للمرحلة. فبدلًا من أن يقدم رؤية تتجاوز التذمر وتفتح أفقًا للأمل أو التغيير، يكتفي بإلقاء التهم وتحميل الشعوب كامل العبء، دون أن يراجع أدواته أو يسائل ذاته. إنه خطاب لا يسعى إلى إقناع أو بناء، بل يصرخ في فراغ، عاجزًا عن التفاعل مع التحولات التي طرأت على المجتمعات العربية. بهذا الشكل، يتحول البيان إلى مرآة مكسورة لا تعكس الحقيقة بل تشوّهها، فيزيد من حالة الإحباط والانقسام بدلًا من أن يساهم في تجاوزها. وبدل أن يكون عنصر إلهام أو تحفيز، يصبح عبئًا على الوعي العام، يعمّق الشعور بالعجز، ويُكرّس فقدان الثقة في قدرة الجماعة على تقديم أي أفق مختلف أو مسؤول. خلاصة الجماعة التي أسّست خطابها على نفي الوطنية، ووثّقت تاريخها بإهانة الشعوب، لم تتغيّر اليوم. لا تزال ترى الناس مجرد "أتباع"، والوطن مجرد محطة، والحكم غاية تتجاوز كل الاعتبارات. ومن ثمّ، فخطابها ليس فقط عديم الفعالية، بل عديم الأخلاق. إن الشعوب لا تُستنهَض بالتحقير، بل بالاحترام والتنوير والتشاركية. أما من ينظر إلى الناس كقطيع، فلا يحق له أن يطلب منهم السير خلفه، بل أن يتساءل: لماذا لم يعد أحد يصدّقه؟

المنطقة وصفيحها الساخن
المنطقة وصفيحها الساخن

الاتحاد

timeمنذ يوم واحد

  • الاتحاد

المنطقة وصفيحها الساخن

المنطقة وصفيحها الساخن صفيح المنطقة الساخن لم يبرد بعد، ومَن كانوا يتلاعبون بمعاني النصر والهزيمة لم يبق منهم حياً إلا القليل، فبشهادة التاريخ قد قُتل أكثرهم خلال عامين فقط، ولم يتبق غير الكتاب والمحللين من فئة المرتزقة التي تعتمد على خداع الشعوب لمصالح ذاتية صغيرة، بحيث يغيرون مواقفهم وتحليلاتهم كما يغيرون ملابسَهم. مأساة غزة ما زالت مستمرةً، والقتل والتجويع والجرائم الشنيعة ما زالت ترتكب يومياً تجاهها، بسبب اليمين الإسرائيلي، نعم، ولكن أيضاً بسبب الحماقة التاريخية التي ارتكبتها حركة «حماس» في 7 أكتوبر 2023 حين مضت خلف قرار ما كان يعرف بـ «محور المقاومة». تاريخياً، تاجرت العديد من الأنظمة العربية بالقضية ثم تخلت عنها تباعاً، واستخدمت البندقيةَ الفلسطينيةَ في تصفية حساباتها السياسية، سواء كانت أنظمةً شيوعيةً أم قوميةً، ناصريةً أم بعثيةً، أم إسلامويةً، سنيةً كانت أم شيعيةً.. كلهم دون استثناء لم تكن القضية الفلسطينية تعني لهم شيئاً سوى المزايدات الجوفاء والشعارات الرنانة. منذ السابع من أكتوبر قبل عامين، تغيرت الخرائط في المنطقة، وأُعيد ترتيب التوازنات الإقليمية، وسقط محورٌ إقليمي وقُضي على كل أتباعه في المنطقة، وفي ثمانية أيامٍ قُضي على استراتيجيات بناها هذا المحور في أكثر من أربعة عقودٍ. الجيل الجديد، في الخليج العربي والعالم العربي، عليه أن يتعلم أن هذا الحدث تاريخي بحقٍ، وليس حدثاً عادياً، إنه تغيرٌ كبيرٌ واستراتيجي في المنطقة والعالم، قفوا عنده طويلاً وتعلموا كيف يمكن صناعة التاريخ وتغيير العالم بخططٍ محكمةٍ واستراتيجياتٍ مذهلةٍ، في صورتها الكبرى وفي تفاصيلها الصغيرة. لقد اختفت «محاور» كبرى في شهورٍ، وهُدمت تماثيل صنمية في أيام، وأُعيد ترتيب المشهد السياسي، كل هذا جرى بقراراتٍ سياسيةٍ واستراتيجياتٍ واقعيةٍ وتخطيطٍ واعٍ، ووعيٍ متقدمٍ، دون مؤامرات في التاريخ ولا تداعياتٍ في الحاضر ولا تبعاتٍ في المستقبل، وإذا لم تكن هذه لحظة محورية في التاريخ فليس في التاريخ أي لحظاتٍ محوريةٍ. التاريخ ليس مؤامرةً، ولكنه مليء بالمؤامرات، والحرب ليست لعبةً، لكنها مليئة بالألاعيب، والسياسة ليست خدعةً، لكنها مليئة بالخداع، وإنما يفرز الفروق بينها جميعاً العلْمُ والمعرفةُ والوعيُ والتحليل والتفكير الناقد. شهدت المنطقة في العقود الأربعة الأخيرة صراعاً بين ثلاثة محاور، محور المقاومة الذي انتهى تقريباً، ومحور الأصولية، ومحور الاعتدال العربي، الذي تقوده السعودية ودول الخليج ومن معها من الدول العربية. ومَن يعي الحاضرَ ويستحضر التاريخَ القديمَ والحديثَ ويطمح للمستقبل، فعليه أن يراقب كيف تُصنع السياسيات وتُبنى الاستراتيجيات وترتب الأولويات، ليعلم أن صناعة المستقبل عبر الاقتصاد والتنمية والوعي والرؤية تَحسم كثيراً من الجدل. في التاريخ القديم، منذ معارك الفرس والروم ما قبل الإسلام التي كتب عنها الدكتور رضوان السيد مقالتَه الرائعة «هل انتهت حرب فارس والروم؟»، وفي التاريخ الحديث وظهور فكرة «الإسلام السياسي» سنياً وشيعياً، وصولاً إلى العصر الحالي وزمن ما كان يعرف بـ «الربيع العربي»، شهدت وسائل الإعلام، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي ازدحاماً من المحللين البهلوانيين، الذين يكذبون على الناس ويتفذلكون في التوصيف والتحليل، ثم لا يلبثوا أن يغيروا مواقفَهم سريعاً بعدما كانوا يبررون قتل عشرات الآلاف وجرح مئات الآلاف وتهجيرهم. وأخيراً، فاللحظات الاستثنائية في التاريخ قليلةٌ ونحن نشهد واحدةً من تلك اللحظات المهمة على أرض الواقع، والدول العاقلة والقوية مستعدةٌ لكل التغيرات، وهي تستبق الأحداث الجديدة والمفاجئة بوعي كاملٍ واستعدادٍ تامٍ، ولهذا فهي دائمة التجدد والحيوية تجاه المتغيرات، كما تساهم بقوةٍ في صناعة التاريخ والمستقبل بناءً على الوعي واستقراء القادم. *كاتب سعودي

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store