logo
"السمّاق المُرّ" لحسيبة عبد الرحمن.. دهاليز سلطة الطغيان السورية

"السمّاق المُرّ" لحسيبة عبد الرحمن.. دهاليز سلطة الطغيان السورية

العربي الجديد١٤-٠٦-٢٠٢٥

تُصدر الروائية السورية حسيبة عبد الرحمن روايتها الثالثة بعنوان "السمّاق المُرّ" (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2025)، بعد "الشرنقة" التي تناولت تجربة
السجينات
السياسيات، و"تجليات جدّي الشيخ المهاجر". رواية جديدة تتقاطع فيها التجربة الذاتية مع السرد السياسي، وتكشف عن زوايا معتمة في
ذاكرة الطائفة
العلوية و
تاريخ الحكم
في سورية.
تجربة عبد الرحمن ليست مجرد تأمل روائي، بل شهادة حيّة. فقد قضت ثماني سنوات في السجن خلال حكم حافظ الأسد، واعتُقلت مرات عدة في عهد ابنه بشار. عرفت الكاتبة من قرب دهاليز السلطة بصفتها مثقفة يسارية انخرطت في حلقات ماركسية ثم في حزب العمل الشيوعي.
تعيد الكاتبة في روايتها بناء تاريخ حافظ الأسد مستخدمةً تقنية السرد عبر 54 صورة، تقدم من خلالها مشاهد مركّبة من التاريخ السياسي السوري، بدءاً من صعود الأسد إلى السلطة وصولاً إلى إرثه داخل الطائفة. تسرد علاقاته المعقدة مع رموز البعث مثل ميشيل عفلق وصلاح جديد الذي يكنّ له حافظ حقداً طبقياً، وأكرم الحوراني الذي ناداه الأسد بـ"المعلم"، رغم صراعهما السياسي والاجتماعي، وياسر عرفات الذي شكّل مصدر إزعاج دائم للسلطة السورية.
حافظ الطائفة... ونقمة الداخل
لا تُظهر الرواية حافظ الأسد بصفته طاغية فحسب، بل باعتباره مهندساً لتحوّلات عميقة داخل البنية العلوية. فقد سعى، كما تقول الرواية، إلى "الهيمنة على الطائفة" خلال الثمانينيات عبر تصعيد ضباط من خلفيات متواضعة، وتهميش المشايخ التقليديين لصالح "مشايخ جدد" من المؤسسة العسكرية. تسجّل الرواية، من وجهة نظر سردية نقدية، كيف فرض الأسد شبكته السلطوية على الطائفة، وواجه في البداية رفضاً واسعاً من أبنائها، قبل أن تحوّل الحرب مع الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين هذا الرفض إلى استسلام، وربما اصطفاف.
كتابة تاريخ سورية الحديث من خلال شخصية تُمثّل قلب النظام
تقدّم الرواية صورة مُتخيلة لرحلة روح الأسد بعد موته، حيث تطوف المدن السورية، وتواجهه أرواح خصومه السياسيين والمعارضين، من الإسلاميين إلى اليساريين، في سردية تكثف مأساة الاستبداد وتجلياته. يُتهم الديكتاتور بالكذب والنفاق واستغلال شعارات القومية والاشتراكية والأخلاق لتثبيت سلطته، في حين يسخر منه الجميع قائلين: "لم تكن تدافع عن الوطن بل عن عرشك".
تاريخ منسي
تأتي الرواية الجديدة استكمالاً لـ"تجليات جدّي الشيخ المهاجر"، حيث حاولت الكاتبة إعادة الاعتبار لرموز الطائفة الأصليين الذين قاوموا عسكرة الدين. هناك، روت أساطير الطائفة حول مشايخها الخالدين، وحاولت ترميم صورة الطائفة بعيداً عن التشويه الذي مارسه النظام. تُشير عبد الرحمن إلى محاولات سابقة لمنع نشر روايتها، خاصة من ضباط كبار خشوا من كشف أسرار الطائفة واندلاع حرب أهلية، بحسب تحذيرات وردت في بيان اتحاد الكتاب العرب آنذاك.
تمثال الديكتاتور السوري حافظ الأسد في بلدة دير عطية وقد تدمَّر، 2025 (Getty)
كتابة بلا أسماء
حرصت الكاتبة في روايتها على التعمية الرمزية، فغيّرت أسماء الشخصيات مراراً، وتجنبت ذكر حافظ الأسد صراحة، ووصفت البلاد بـ"المملكة"، والديكتاتور بـ"الملك". لكن الرمز لا يخفي الإشارة، والسياق يشي بالمرجع. الرواية لا تستعرض مسيرة طاغية فحسب، بل تعيد كتابة تاريخ سورية الحديث من خلال شخصية محورية تُمثّل قلب النظام وأطرافه في آن معاً.
ورغم ذلك، تقع الرواية أحياناً في إشكالية غير محسوبة، حين تمنح الشيخ المهاجر وذريته هالة دفاعية، من دون مساءلة امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية، التي لا تقل تسلطاً عن نخب السلطة، ما يفتح باب النقد لمسألة العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة داخل الطائفة وخارجها.
"السمّاق المُرّ" رواية سياسية بامتياز، وربما يُشكّك بعض النقاد في تصنيفها ضمن الأدب الفني، لكنها بلا شك عمل توثيقي روائي يقدّم وجهة نظر من داخل الطائفة العلوية نفسها، ويحفر في ذاكرة القمع والطائفية والطبقية. تلتقط الرواية لحظة تأسيس الاستبداد، وتسردها من خلال الأدب، حيث يُصبح النص أداة مساءلة، لا أرشيفاً فقط.
توفرت للرواية تقنيات السرد واللغة والتكثيف، وتمكنت من تقديم شهادة أدبية عن أحد أكثر الفصول قتامة في التاريخ السوري الحديث. حافظ الأسد، هنا، ليس فقط شخصاً، بل بنية سلطوية كاملة، هيمنت على الدولة والمجتمع والطائفة، وشكّلت مآلات مأساوية ما زال السوريون يعيشونها حتى اليوم.
*كاتب من سورية
كتب
التحديثات الحية
ريبيكا شريعة طالقاني.. أدب السجون السوري من منظور البويطيقا

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

12 يوماً تهزّ الشرق الأوسط: تسلسل المواجهة الخاطفة بين إيران وإسرائيل
12 يوماً تهزّ الشرق الأوسط: تسلسل المواجهة الخاطفة بين إيران وإسرائيل

BBC عربية

timeمنذ 3 أيام

  • BBC عربية

12 يوماً تهزّ الشرق الأوسط: تسلسل المواجهة الخاطفة بين إيران وإسرائيل

قبيل إبرام وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، تبادلت البلدان هجمات، منذ فجر الجمعة 13 من يونيو/حزيران، عندما أقدمت الأولى على استهداف مواقع نووية ومنشآت عسكرية إيرانية وتنفيذ عمليات اغتيال طالت شخصيات عسكرية و علماء نوويين. وفي موجة ضرباتها الأولى، قتلت إسرائيل العديد من الشخصيات العسكرية الإيرانية البارزة، بما في ذلك حسين سلامي، قائد الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، والعديد من العلماء النوويين، من بينهم فريدون عباسي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية. وفي هذا التقرير نقدم لكم تسلسلاً زمنياً للمواجهة بين البلدين. 12 يونيو/حزيران 2025: في 14 يونيو/حزيران 2025: 15 يونيو/حزيران 2025: في 16 يونيو/حزيران 2025: وفي 17 يونيو/حزيران 2025: 18 يونيو حزيران 2025: وفي 19 يونيو/حزيران 2025: 20 يونيو حزيران 2025: وفي 21 يونيو حزيران 2025: الأسد والشمس في واجهة حملة إسرائيل الرقمية ضد إيران وفي 22 يونيو/ حزيران 2025: 23 يونيو/ حزيران:

لماذا يشكل وسيم الأسد كنز معلومات للأمن السوري؟
لماذا يشكل وسيم الأسد كنز معلومات للأمن السوري؟

العربي الجديد

timeمنذ 5 أيام

  • العربي الجديد

لماذا يشكل وسيم الأسد كنز معلومات للأمن السوري؟

بعد اعتقاله من السلطات في عملية استغرق التخطيط لها حوالى 6 أشهر، برز اسم وسيم الأسد على الساحة السورية أمس السبت، بوصفه واحداً من أبرز رموز النظام الذين يجري القبض عليهم منذ إسقاط حكم بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي. فمن هو؟ ولماذا يشكل كنز معلومات بالنسبة للسلطة الجديدة؟. وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، في لقاء معه على قناة الإخبارية السورية، أمس السبت، إنّ عملية اعتقال وسيم الأسد جرت بالتعاون مع جهاز الاستخبارات العامة، وفق مسارات متعدّدة انتهت إلى استدراج المطلوب والقبض عليه. وسيم الأسد أحد رموز القمع في عهد النظام المخلوع وسيم بديع الأسد، ابن عم الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأحد الأذرع الأمنية التابعة له، ولد في عام 1980 في مدينة القرداحة، وبرز بوصفه أحد أفراد عائلة الأسد المدافعين عن النظام، ولاعباً في المشهد السوري، وأحد أبرز الشخصيات التي كانت تهدّد معارضي نظام الأسد حينها. وأسس خلال فترة الثورة ضدّ النظام شركة "أسد الساحل"، وهو شقيق عمار الأسد الذي كان يحظى بصفة عمل رسمية عضواً في مجلس الشعب. أخبار التحديثات الحية سورية: اعتقال وسيم الأسد المتورط في جرائم قتل وتجارة المخدرات وقاد وسيم الأسد مجموعة مسلّحة، وسجل العديد من الفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي يهدّد فيها السوريين ممن يعارضون النظام قبل سقوطه، ليرسخ مشهد العنف الذي كان يمارسه قادة المليشيات الموالية للنظام حينها. وكان من أبرز المسؤولين عن تجارة المخدرات وتهريبها، بالتعاون مع ضباط في جيش نظام الأسد، ومهربين عبر الحدود، وعرف بأنه صديق مقرّب من اللبناني نوح زعيتر. بارون مخدرات وكنز معلومات واعتبر الباحث السياسي محمد المصطفى لـ"العربي الجديد"، أن اعتقال وسيم الأسد يحمل رمزية إعلامية واستخباراتية، و"من المؤكّد أنه يمتلك كنزاً من المعلومات المتعلقة بمجموعات الشبيحة والدفاع الوطني، وقد تكون لدى هذه المجموعات أموال ومخازن أسلحة، كما يمكن أن يكون على دراية بالمجموعات التي شاركت في أحداث الساحل وقادتها". وبيّن المصطفى أنّ أهم ما في قضية القبض عليه أنه شكّل "خزاناً معلوماتياً منح نوعاً من الاطمئنان لحاضنة الفلول، واعتُبر عامل ثقة بالنسبة لهم"، مشيراً إلى أنه "يعرف الكثير من التفاصيل حول تحركاتهم وقادتهم"، وأضاف: "وسيم الأسد، بالإضافة إلى أدواره في التهريب وصناعة وتجارة المخدرات، شارك في إدارة وتشغيل مليشيات الدفاع الوطني، التي تورطت في عدد كبير من المجازر على امتداد الجغرافيا السورية، خاصة في محافظة دير الزور، التي ركز عليها مؤخراً، إذ شكلت منفذاً له لتجارة المخدرات باتجاه العراق". تقارير عربية التحديثات الحية المقاتلون الإيغور في سورية مصدر قلق لبكين ولا يحمل وسيم الأسد صفة سياسية، وهو ليس موظفاً رسمياً في الدولة، وفق ما أوضح المصطفى، لكنه "كان قادراً على أداء أدوار سلطوية، مستنداً إلى نسبه لعائلة الأسد، وهو ما كان كافياً لامتلاكه جيشاً من "الشبيحة"، وقتل السوريين، والتحكم بشبكات المخدرات والجباية وغيرها. وهو دور لا يؤديه عادة أي مسؤول في الدولة، كما أنه لا يمتلك صفة قيادية ضمن مؤسّسات السلطة، سواء الأمنية أو العسكرية، ولا يعد مصدر قرار، بل ينفذ قرارات تخدم مصالح نظام الأسد وتحمي العائلة دون الرجوع إلى المؤسّسات الرسمية. ويمكن قراءة دوره ضمن ما كانت تتطلبه سلطة الأسد". وأضاف المصطفى: "ربما، بعد سقوط النظام، امتلك وسيم الأسد قراراً سياسياً خلال أحداث مارس/آذار في الساحل، بحكم امتلاكه المال والسلاح والرجال من مجموعات الدفاع الوطني، إضافة إلى علاقاته مع المجموعات الإجرامية. ويمكن القول إنه يشكل كنزاً معلوماتياً قد يفيد في تفكيك خارطة لا بأس بها من فلول النظام في منطقة الساحل، بما فيها مواقع تخزين السلاح والمال، والقادة الفعليون الذين نفذوا الجرائم، أو الذين يواصلون تنفيذ الهجمات ضد الدولة والمدنيين". بدوره، قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لـ"العربي الجديد"، إنّ اعتقال وسيم الأسد "يمثل تطوراً رمزياً في مسار العدالة الانتقالية في سورية، لكونه أول فرد من عائلة الأسد يُعتقل على خلفية تورطه في جرائم جسيمة، منها قيادة مليشيات شبيحة مسؤولة عن انتهاكات واسعة، إضافة إلى انخراطه في شبكات الجريمة المنظمة، وعلى رأسها تجارة الكبتاغون التي تمثل واحدة من أبرز مظاهر الفساد والنهب الاقتصادي في ظل النظام السابق"، وأضاف عبد الغني: "أرى في هذه الخطوة فرصة لتكريس سيادة القانون، والبدء في محاسبة المتورطين في الجرائم الاقتصادية والانتهاكات الحقوقية، وهي خطوة لا بد أن تكتمل من خلال محاكمات عادلة وشفافة، تضع الضحايا والمنظمات الحقوقية في قلب عملية العدالة، وتضمن عدم تكرار الجرائم".

الجولان... جوهرة سورية المستباحة بين عهدَين
الجولان... جوهرة سورية المستباحة بين عهدَين

العربي الجديد

timeمنذ 5 أيام

  • العربي الجديد

الجولان... جوهرة سورية المستباحة بين عهدَين

من المفارقات أن يتشابه موقف الإدارة الجديدة في دمشق اليوم مع موقف النظام السابق، لجهة الشعور بالعجز إزاء العدوّ نفسه، إسرائيل التي واصلت، بل صعّدت من اعتداءاتها وتحرّشاتها بالجانب السوري بعد سقوط نظام الأسد، من دون أن يجد الرئيس أحمد الشرع، كما بشّار الأسد من قبل، وسيلةً ناجعة لوقف هذه الاعتداءات. كانت بعض الاعتداءات الإسرائيلية على سورية في عهد النظام الساقط، تجري، وفق الترجيحات، برضى ضمنيّ منه، أو على الأقل من حليفته روسيا، باعتبار أنها كانت تستهدف أساساً مواقع محسوبة على إيران أو حزب الله، وذلك في إطار مسعى روسيا، ومعها النظام، أو بعض أجنحته، لتقليص الوجود الإيراني في سورية. كان نظام الأسد يتحرّج أحياناً من هذه الاعتداءات، خصوصاً حين تستهدف المطارات أو العاصمة دمشق، فيحاول إطلاق ما لديه من صواريخ أو مضادّات أرضية، ونجح مرّة في إسقاط طائرة إسرائيلية عام 2018 بصواريخ "إس - 200" الروسية، لكن ردّه لم يتجاوز ذلك، مثل محاولة قصف إسرائيل بالمثل، خشية أن يتلقّى ردّاً إسرائيلياً قوياً، أو أن تنخرط إسرائيل في جهود إطاحته. وكان الاعتقاد السائد، والمدعوم بتصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين، أن نظام الأسد "شيء جيّد" لإسرائيل، ولا يزعجها وجوده، باستثناء عجزه عن إبعاد إيران وحزب الله عن الأراضي السورية، رغم أنه بذل محاولاتٍ في هذا الاتجاه، خصوصاً في الأشهر الأخيرة من حكمه. الخدمة الأساسية التي قدّمها نظام بشار الأسد لإسرائيل، أنّ تمسُّكه بالحكم في وجه الاحتجاجات الداخلية، أوصل سورية إلى حالة من التمزّق والانقسام والضعف، ويصبّ ذلك كله استراتيجياً في مصلحة إسرائيل. لذلك؛ كانت سياسة الأخيرة، التي التزمت بها أيضاً الولايات المتحدة، تقوم على إطالة أمد الحرب في سورية أطول فترة ممكنة، وعدم تمكين طرف من الانتصار على الآخر، لتبقى البلاد في حالة صراع داخلي يقضي على مقوّمات الدولة السورية، ويُبعد أي خطر محتمل منها على إسرائيل عقوداً. تعمل إسرائيل على هذه السياسة نفسها في ظل العهد الجديد، أي محاولة إبقاء سورية في حالة ضعف مستديم، عبر تدمير ما تبقّى من بنيتها العسكرية، وتغذية الانقسامات المحلية، بزعم الدفاع عن بعض المكونات السورية، ومواصلة الضغط والابتزاز العسكري على النظام، على أمل استفزازه وجرّه إلى مواجهةٍ تتيح لها القضاء عليه في لحظة ولادته، وقبل أن يستكمل الحصول على مقوّمات الشرعية والقوة، من منطلق أن الخلفية الإسلامية - الجهادية لهذا النظام تؤهله حكماً ليكون معادياً لإسرائيل، بغضّ النظر عمّا يصدُر عنه اليوم من تطميناتٍ لها. تعمل إسرائيل على إنشاء منطقة سيطرة تمتد نحو 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، إلى جانب منطقة نفوذ بعمق 60 كيلومتراً تنشط فيها المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، بغرض منع نشوء أي تهديد مستقبلي ضدّها من الأراضي السورية. وفي تصريحات له أخيراً، وصف وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الإدارة الجديدة في سورية بأنها "جماعة إرهابية"، فيما قال وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إنّ إسرائيل لا تثق بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وإنّها ستواصل السيطرة على المنطقة العازلة مع سورية، وتحويل جنوب سورية إلى منطقة منزوعة السلاح. ووفق صحف إسرائيلية، تعمل إسرائيل على إنشاء منطقة سيطرة تمتد نحو 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، إلى جانب منطقة نفوذ بعمق 60 كيلومتراً تنشط فيها المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، بغرض منع نشوء أي تهديد مستقبلي ضدّها من الأراضي السورية. ومن الواضح أن الحسابات الإسرائيلية تقوم على فرضيّتَين؛ الأولى عدم ثقتها بالحكم الجديد في سورية، الذي تعتبر أن لديه مرجعيات دينية (جهادية) تدعم محاربة إسرائيل، والثانية افتراض إسرائيلي بأن حركتَي حماس والجهاد الإسلامي سوف تبحثان عن جبهة انطلاق جديدة محاذية للجولان السوري المحتل، لمهاجمة إسرائيل بعد أن خسرتا جبهتَي غزّة وجنوب لبنان. وتدرك إسرائيل ذلك، لكنّها ترمي إلى ما هو أبعد، مثل انتزاع تخلٍّ علنيٍّ من دمشق عن أي التزام بالقضية الفلسطينية، حتى على الصعيدَين السياسي والإعلامي، على نحو ما كان يفعله النظام السابق، الذي كان يمنع النشاط العسكري الفلسطيني، ويكتفي بالدعم الإعلامي، الذي تقلّص أيضاً في الأشهر الأخيرة قبل سقوط النظام، تحت الضغط الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك، تبدو إسرائيل، وهي تعيش هذه الفترة نشوة الانتصار (على "حماس" في غزّة، وحزب الله في لبنان، وتراجع نفوذ إيران في المنطقة ووضعها تحت الضغط)، تسعى إلى جني مكاسب ذات طابع استراتيجي في سورية أيضاً، رغم انزياح النظام الذي كان يتعاون مع إيران وحزب الله، بذريعة عدم ثقتها بالنظام الجديد. وتندرج هذه المكاسب من محاولة الاستحواذ على أراضٍ سورية معينة تحت عنوان "تدابير مؤقتة" (قد يمتدّ المؤقت عند الإسرائيليّ عقوداً أو يصبح أبدياً طالما أمكن ذلك)، وصولاً إلى محاولة انتزاع اعترافٍ من القيادة الجديدة بالتنازل عن الجولان، وعقد اتفاق سلام مع إسرائيل من دون مقابل، وهو ما ألمح إليه المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في تصريحات له أخيراً. عين إسرائيل على المياه الجزء الآخر من الأراضي الذي تطمع فيه إسرائيل هو ما يضمّ المياه ومنابعها، إذ تؤمّن بحيرة طبريا أكثر من ثلث حاجة إسرائيل من المياه، لكن مصادر تغذية البحيرة تقع كلّها في سورية ولبنان وخارج سيطرة القوات الإسرائيلية، الأمر الذي يفسّر مسارعة قوات الاحتلال إلى التمركز قرب تجمّعات المياه، فقد سيطرت على سبعة سدود رئيسية جنوبي سورية: المنطرة (الأكبر جنوب سورية)، والشيخ حسين، وسحم، والوحدة، وكودنا، ورويحينة، وبريقة. كما سيطرت على منابع الأنهار مثل نهر اليرموك، مهدّدة الأمن المائي لسورية والأردن، وبعد سيطرة قوات الاحتلال على السدود المهمة، بدأت محافظة القنيطرة تعاني من أزمة مياه حادّة، خصوصاً بعد سيطرتها على سدّ المنطرة، ثاني أكبر سد في سورية، الذي يغذّي القنيطرة وريف درعا، ويخزن 40 مليون متر مكعب من المياه، لكن جيش الاحتلال عمد إلى تحديد حصص المياه للسكان، بعد أن تعمّد تخريب شبكات المياه في قرى وبلدات عدّة في المحافظة. ووفق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في "تقدير موقف"، نُشر في 9 مارس/ آذار الماضي، يشكّل استمرار سيطرة جيش الاحتلال على هذه الموارد المائية خطراً ليس على المجتمع المحلي داخل المنطقة العازلة فحسب (مساحتها 235 كيلومتراً مربعاً)، وإنما أيضاً على مجمل سكان محافظة القنيطرة ويهدّد أمنهم المائي والغذائي. احتلال الجولان ومفاوضات السّلام تبلغ مساحة هضبة الجولان نحو 1860 كيلومتراً مربعاً، احتلت منها إسرائيل عام 1967 حوالى 1250 كيلومتراً مربعاً، وهي تطلّ على لبنان والأردن. وحاول الجيش السوري في حرب 1973 استعادة الجولان، لكنّه أخفق، بينما استعادت سورية مدينة القنيطرة سلمياً إثر انسحاب القوات الإسرائيلية التي أحدثت دماراً كبيراً في المباني قبل مغادرتها. وتاريخياً، تُعتبر القنيطرة، التي فُصلت إدارياً عن العاصمة دمشق عام 1966، أكبر مدن إقليم الجولان، وكان عدد سكانها قد بلغ في ذلك العام أكثر من 147 ألف نسمة. لكن الجولان، من الناحية الإدارية، يتبع ما سُمّي لاحقاً محافظة القنيطرة. وقد ضمّت إسرائيل مرتفعات الجولان إليها رسمياً عام 1981، وكان يقيم فيه قبل الاحتلال نحو 140 ألف سوري، نزحوا منه نتيجة حرب 1967، وبات عددهم اليوم أكثر من نصف مليون نسمة، يقيمون في تجمّعات النازحين في درعا والقنيطرة، إضافة إلى محافظة دمشق وريفها. وبعد انطلاق مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية في مدريد عام 1991، كانت عودة الجولان السوري البند الرئيسي في المفاوضات بين الجانبين السوري والإسرائيلي، والتي وصلت إلى طريق مسدود بسبب رفض إسرائيل الانسحاب الكامل من الجولان. وظلّت العقدة في جميع هذه المفاوضات تتعلق بحجم الانسحاب الإسرائيلي من مرتفعات الجولان، إذ أصرّت سورية على العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، التي تمنحها موطئ قدم على شاطئ بحيرة طبريا، بينما راوغت إسرائيل في ذلك، وحتى إنها أنكرت لاحقاً ما يمكن اعتباره الإنجاز الوحيد الذي حصل عليه الجانب السوري في المفاوضات، ما يُسمّى "وديعة رابين"، التي قالت سورية إنها تتضمّن تعهداً إسرائيلياً بالانسحاب إلى خط 4 حزيران (1967)، بينما زعمت إسرائيل أن هذا التعهد كان عرضاً افتراضياً من رئيس وزراء إسرائيل آنذاك إسحق رابين لوزير الخارجية الأميركية الأسبق وارن كريستوفر، بصيغة: ماذا ستقدّم سورية لإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان؟ وقد اغتيل رابين عام 1995، وتولى شمعون بيريس رئاسة الحكومة خلفاً له، واستؤنفت المفاوضات في "واي بلانتيشن"، وتناولت تفاصيل الانسحاب وجوهر العلاقات الدبلوماسية والسلمية بين الجانبَين، لكن المفاوضات توقفت بعد وقوع هجمات انتحارية عدّة في فبراير وآذار من ذلك العام، وجرت انتخابات إسرائيلية فاز فيها حزب الليكود اليميني بزعامة بنيامين نتنياهو، إذ توقفت المفاوضات خلال سنوات حكم الليكود، إلى أن عاد حزب العمل إلى الحكم عام 1999، وتولى رئيس الأركان السابق إيهود باراك رئاسة الحكومة، وعُقدت جولة جديدة من المفاوضات في ديسمبر/ كانون الأول عام 2000، ترأسها عن الجانب السوري وزير الخارجية حينها فاروق الشرع، وعن إسرائيل إيهود باراك. وفي آخر محاولة من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لجمع الطرفين، بعد تحديد نقاط الخلاف والاتفاق بينهما، اجتمع برئيس النظام الأسبق حافظ الأسد في 26 مارس/ آذار في جنيف، وهو يحمل عرضاً من باراك يتضمّن الانسحاب من 99% من هضبة الجولان وتعويض سورية عن الأراضي التي تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية. وتضمّن العرض الإسرائيلي إبقاء شريط بعرض 500 متر بمحاذاة نهر الأردن، وشريط آخر بعرض نحو 70 متراً على الضفة الشرقية لبحيرة طبريا، فكان رد الأسد أن باراك لا يرغب بالسلام، ورفض حتى النظر في الخرائط التي حملها معه كلينتون، وفشل اللقاء. الجولان اليوم وفق الإحصائيات الإسرائيلية، بلغ عدد حملة الجنسية الإسرائيلية من سكان الجولان السوري المحتل حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2021 والمسجّلين مقيمين في قرى الجولان 3792 شخصاً، يشمل ذلك الأبناء ممن ورثوا الجنسية عن آبائهم وأمهاتهم، وكذلك الزيجات من خارج الجولان، والأفراد والعائلات الذين انتقلوا من الجليل والكرمل داخل فلسطين المحتلة أو أماكن أخرى للإقامة في الجولان، من أصل نحو 23 ألفاً من السوريين المقيمين في الجولان، مقابل نحو 25 ألفَ مستوطن يهودي يعيشون في مستوطنات عدّة، أكبرها "كتسرين". وقد قاوم مَن بقي من سكان الجولان طوال عقود المحاولات الإسرائيلية لتهويد منطقتهم، وتمسكوا بالهوية السورية، ورفضوا قبول الجنسية الإسرائيلية برغم ما توفّره لهم من امتيازات حياتية. وبعد 2011، وما ظهر من انقسام أفقي في الساحة السورية بين موالاة ومعارضة، انسحب المشهد أيضاً على أهالي الجولان الذين توزّعوا بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام، وهو ما كان له أثره في تراجع الشعور بالانتماء لهذا الوطن الممزّق، فتزايد تالياً عدد الذين يقبلون الجنسية الإسرائيلية بدرجة ملحوظة خلال السنوات الماضية، ليصل إلى نحو 20% من سكان الجولان، بعد أن ظل هؤلاء عقوداً محدودي العدد، ومنبوذين من مجتمعهم المحلي. وترافق ذلك مع تكثيف للجهود الإسرائيلية لتهويد الجولان، إذ وضعت حكومة الاحتلال نهاية عام 2021 خطّة بقيمة 317 مليون دولار لمضاعفة أعداد المستوطنين في الجولان إلى خمسين ألفاً، من خلال بناء 7300 منزل للمستوطنين على مدى خمس سنوات. وبطبيعة الحال، حافَظَ نظام الأسد، الذي قاتل بشراسة للدفاع عن كرسي الحكم، عقوداً على الهدوء التام في جبهة الجولان، من دون أن يُطلق، أو يسمح لأحد بإطلاق طلقة ضد إسرائيل، وهو ما جعله يحظى بالرضى الإسرائيلي الكامل، فيما بدا واضحاً أنه الشرط الإسرائيلي على النظام لمواصلة تل أبيب تزكيته لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، بوصفه خير حليف "سرّي" يرفع شعارات المقاومة والتحرير، بينما يمنع، في الواقع، أيّ مقاومة قد تقود إلى تحرير الأرض المحتلة. والنظام نفسه لم يُطوّر طوال العقود الماضية أيّ استراتيجية عسكرية أو دبلوماسية تردع إسرائيل، وتجبرها على التفاوض حول مستقبل الجولان، على نحو ما فعل مثلاً حزب الله في لبنان، الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان. وما يشير أيضاً إلى هذا الإهمال الجسيم لقضية الجولان وسكّانه، مصير سكان الجولان النازحين منه، الذين يزيد عددهم اليوم عن نصف مليون نسمة يعيشون في مناطق مهمّشة على أطراف المدن. ماذا تريد إسرائيل من دمشق؟ بعد إطاحة نظام الأسد، حاولت حكومة الاحتلال اللعب على التناقضات الداخلية في سورية، ومنها ورقة دروز السويداء، وقدّمت عرضاً تراجعت عنه لاحقاً باستقدام عمالة منهم للعمل في الجولان والتجمّعات الدرزية داخل فلسطين المحتلة. ويبدو أن إسرائيل تطمح أيضاً إلى ربط سورية بها اقتصادياً من خلال تزويدها بالغاز، وإنْ على نحوٍ غير مباشر. ووفق صحيفة معاريف، لدى إسرائيل خطط لتوريد الغاز إلى النظام الجديد في سورية، لاستغلال حاجة سورية إلى الطاقة، وذلك عبر مصر والأردن، أي سيبدو الغاز وكأن مصدره مصر والأردن عبر "خط الغاز العربي"، بينما هو في الحقيقة غاز إسرائيلي، كما يمكن ملاحظة بداية تراجع إسرائيلي عن خطاب الإملاءات بعد محادثات نتنياهو في واشنطن مع الرئيس دونالد ترامب، الذي نصحه بالتعقّل في تعامله مع الرئيس التركي أردوغان، وعرض التوسّط بينهما. وبدا ما يشبه التحوّل في الخطاب الإسرائيلي من خلال بعض الإشارات، مثل تصريح الناطق باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، من القنيطرة: "لا يعنينا الاقتتال الداخلي في سورية"، بينما كانت الرسائل الإسرائيلية السابقة تعد بدعم هذا الطرف أو ذاك في سورية، بزعم حماية الأقليات. وعموماً، لم تُفصح إسرائيل عن أيّ مطالب محدّدة من الحكومة الجديدة في دمشق، باستثناء المزاعم الأمنية. ومن غير المرجّح أن تكون الحكومة في دمشق قد تلقّت أيّ عروض رسمية للتطبيع مع إسرائيل، وكانت تصريحات المبعوث الأميركي ربما نوعاً من جسّ النبض. وما تزال دمشق في موقف الترقب، بانتظار نضوج سياسة أميركية واضحة تجاه سورية يمكن البناء عليها، إضافة إلى أن هذه الحكومة ربما لا تعوّل كثيراً على ما يصدر من مواقف وتصريحات من حكومة نتنياهو المأزومة داخلياً، التي تفتح جبهات عسكرية عدّة في غزة ولبنان وسورية، ولا يمكن تالياً معرفة السياسة الإسرائيلية الحقيقية تجاه سورية، ما لم تصل إلى السلطة حكومة إسرائيلية أكثر تعقّلاً من الحكومة الراهنة، التي تعيش في ذروة أوهام القوة، وتظنّ أن في وسعها فعل ما تريد في المنطقة من دون رادع من أحد. وهنا، ينبغي ألّا نغفل دور القوى الإقليمية في صياغة العلاقة بين الإدارة في دمشق وإسرائيل، خصوصاً الموقف التركي، وما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات محتملة بين الرئيس أردوغان ونظيره الأميركي ترامب، بشأن ملفات عدّو، في مقدّمتها الملف السوري.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store