logo
مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

الشرق الأوسطمنذ 15 ساعات

كنوزٌ روحية وتاريخية منسيّة في المنطقة التراثية القديمة ببحيرة مريوط، التي تُمثّل حالياً الحدود الجنوبية لمدينة الإسكندرية (شمال مصر)، يوثّقها مشروع بحثي مصري بعنوان «مقامات منطقة بحيرة مريوط»؛ تلك البحيرة التي كانت تمتدّ على مساحة قد تزيد على 200 كيلومتر مربع، وترتبط بنهر النيل، وإنما شهدت تقليصاً كبيراً في مساحتها مع مرور الزمن.
المشروع، الذي يقوده «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية»، بتنسيق من مهندس المساحة والخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، الدكتور إسماعيل عوض، وبالتعاون مع المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي، وبدعم من مؤسّسة «بركات تراست» البريطانية، يسعى إلى توثيق الأضرحة والمقامات التي تعود إلى القرن الـ14، والمهدَّدة بالاندثار، خصوصاً في المناطق الريفية.
يعتمد المشروع، الذي انتهت مرحلته الأولى، على دراسة خرائطية مكثَّفة، بدءاً من خرائط الحملة الفرنسية عام 1801، وصولاً إلى صور الأقمار الاصطناعية الحديثة لعام 2024، إذ تمكّن الفريق البحثي من تتبُّع تطوُّر هذه المقامات وتحديد مواقعها عبر العصور. وكشفت الدراسة الخرائطية عن وجود 279 مقاماً في منطقة بحيرة مريوط، في حين تمكّن الفريق من زيارة 118 مقاماً وتوثيقها بصرياً.
مقام سيدي صهيب بعزبة كوم التابعة لمدينة أبو حمص في محافظة البحيرة (تصوير: سمر بيومي)
يقول المنسّق الدكتور إسماعيل عوض إنّ المشروع البحثي التوثيقي جاء مع تعرّض عشرات الأضرحة والمقامات في القاهرة للهدم قبل أشهر، ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أنّ «المشروع يهدف إلى الإضاءة على هذه الكنوز المنسية المهدَّدة بالاندثار، وإبراز تأثيرها العميق في هوية منطقة بحيرة مريوط القديمة وسكانها، وتحديد ما يحتاج منها إلى الحماية والعناية والترميم، وزيادة الوعي بقيمة هذه المقامات بكونها جزءاً أصيلاً من التراث المعماري والأثري للمنطقة».
ورغم أنَّ مقامات بحيرة مريوط قد لا تحظى بالأهمية عينها التي تنالها الأضرحة الكبرى في الإسكندرية أو القاهرة، فإنّ المشروع اكتشف تنوّعاً معمارياً وفنّياً لافتاً فيها، وهو ما يرتبط بالطبيعة الجغرافية للمنطقة الممتدَّة بين دلتا النيل الزراعية شرقاً والمنطقة الصحراوية غرباً. فالمقامات في الجزء الشرقي (محافظة البحيرة) تميل إلى الألوان الخضراء والزرقاء، وتشبه في طابعها المعماري المقامات المملوكية في المدن الكبرى، بينما تتّسم المقامات في المنطقة الغربية (مدينتا برج العرب والحمّام) بالطابع البدوي البسيط، وتغلب عليها الألوان البيضاء والصفراء.
المفاجأة التي بيّنتها الدراسة، وفق عوض، تكمن في أنَّ ما بين 60 إلى 64 في المائة فقط من هذه المقامات لا تزال قائمة حتى اليوم، بينما اختفى الباقي أو تعرَّض للتدمير بفعل الإهمال أو التعدّيات أو حتى النسيان. وهناك نحو 40 مقاماً لا يزال مصيرها غير مؤكّد، خصوصاً تلك الواقعة في مناطق شهدت تحوّلات عمرانية جذرية، أو وسط تجمّعات سكنية، إذ كان كثير من تلك المقامات نواةً لنشوء عدد من القرى والمدن من حولها.
ويُعدُّ مقام محمد المغازي في محافظة كفر الشيخ الأقدم الذي حدَّده المشروع حتى الآن، إذ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الـ14. بينما الحالة الأغرب تتمثَّل في وجود 12 مقاماً تخصُّ عائلة سيدي عمر أبو لطيعة، تقع جميعها متجاورةً في موقع واحد بمحافظة البحيرة، وقد بُني كلّ واحد منها بأسلوب وتصميم مختلف، يعود أقدمها إلى عام 1918، وأُنشئ أحدثها في عام 1986.
مقام سيدي بشر الحطابي بعزبة الستمائة التابعة لـ«حوش عيسى» في البحيرة (تصوير: سمر بيومي)
يعلّق عوض: «هذا المشروع لا يوثّق مباني فحسب، وإنما يحاول إنقاذ ذاكرة جماعية غنية بالقصص والروحانيات؛ فكلّ مقام يحمل قصة خاصة بصاحبه».
في المشروع، تظهر عدسة المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي شاهدةً أساسيةً على هذا التراث الروحي والتاريخي، إذ تتمثَّل مَهمتها في التوثيق البصري والسمعي للمشروع. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «المقامات الريفية لم تكن مطروحة بقوة على الساحة، مما جعلني أشعر بأنني جزء من عمل مهم يوثّق مناطق لم تُستكشف من قبل»، لافتة إلى أنَّ التحدّي الأكبر تمثَّل في الوصول إلى مواقع المقامات النائية، سواء داخل الأراضي الزراعية أو تلك الموجودة على رؤوس التلال.
تُركّز عدسة بيومي على التفاصيل المعمارية الدقيقة لكلّ مقام من الداخل والخارج، بما فيها ألوان الدهانات والنقوش والآيات القرآنية على الجدران، لتُظهر التباين بين مقام وآخر، مؤكّدة أنَّ كلّ لمسة لون أو تفصيلة في البناء تُقدّم لمحة عن تاريخ المقام، ما يُوفّر نظرة شاملة وعميقة لهذا التراث المنسي، وفق تعبيرها.
كذلك شملت مَهمتها جمع «التاريخ الشفهي» للمقامات من خلال السكان المحلّيين، موضحةً أنّ «حكايات السكان المُسجّلة جزء لا يتجزّأ من المشروع، إذ وثّقنا روايات عن صاحب المقام وتاريخ بنائه وقصته، بما يُبقي على الذاكرة الحيّة لهذا التراث الفريد».
هذه الروايات، إلى جانب عشرات الصور المأخوذة للمقامات، يضمّها معرض فنّي بعنوان «في حضرة المقام»، يحتضنه حالياً «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية» بالإسكندرية. وتشير سمر بيومي إلى أنَّ المعرض ليس مجرّد عرض لصور فوتوغرافية تُبرز الاختلافات المعمارية بين المقامات، وإنما هو تجربة فنّية متعدّدة الوسائط، تضمّ مقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية لقصص الأهالي، وكتابات تسرد حكايات هذه المقامات، ويهدف عرضها على هيئة عمل فني إلى إنعاش اهتمام الناس بهذا التراث.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اكتشاف نوع جديد من الفطريات وتسجيله عالمياً
اكتشاف نوع جديد من الفطريات وتسجيله عالمياً

عكاظ

timeمنذ 2 ساعات

  • عكاظ

اكتشاف نوع جديد من الفطريات وتسجيله عالمياً

أعلنت مدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية بمصر عن اكتشاف نوع جديد من الفطريات ينتمي إلى جنس Trichoderma، تم تعريفه وتسجيله رسميًا باسم Trichoderma egyptiacum، مبينة أن النوع المُكتشف يمثل فرصة واعدة لاستخدامه في التسميد الحيوي والمكافحة الحيوية ضد مسببات الأمراض النباتية. وأكد وزير التعليم العالي والبحث العلمي المصري الدكتور أيمن عاشور, في بيان له أن هذا الاكتشاف يمثل إنجازًا علميًا يعكس قدرة مؤسسات البحث العلمي على الإسهام في تطوير المعرفة العالمية ودعم البحوث التطبيقية التي تُسهم في مواجهة التحديات الزراعية والصناعية، وتحقيق الأمن الغذائي والحد من استخدام المبيدات الكيميائية. من جانبه أوضح الباحث المساعد بمعهد بحوث زراعة الأراضي القاحلة بالمدينة ومُكتشف الفطر الجديد الدكتور يونس رشاد، أن جنس Trichoderma يستخدم على نطاق واسع في المجالات الزراعية والصناعية والطبية، وتستند إليه أكثر من 50% من منتجات المكافحة الحيوية الفطرية عالميًا. وبين رشاد أنه تمت دراسة التنوع الحيوي لهذا الجنس الفطري في مصر، حيث تم عزل 60 عزلة فطرية من 119 عينة نباتية وتربة جذرية تمثل خمس بيئات مصرية مختلفة، وأسفرت الدراسة عن اكتشاف النوع الجديد المنتمي إلى مجموعة Harzianum، وتم تسميته بـ Trichoderma egyptiacum وتسجيله رسميًا في قاعدة بيانات MycoBank العالمية المتخصصة في توثيق وتصنيف الفطريات، كما أُجيز هذا النوع الجديد من قبل الجمعية الألمانية للفطريات (DGfM)، ونُشر في مجلتها الرسمية Mycological Progress في يونيو 2025. أخبار ذات صلة

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية
مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

الشرق الأوسط

timeمنذ 15 ساعات

  • الشرق الأوسط

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

كنوزٌ روحية وتاريخية منسيّة في المنطقة التراثية القديمة ببحيرة مريوط، التي تُمثّل حالياً الحدود الجنوبية لمدينة الإسكندرية (شمال مصر)، يوثّقها مشروع بحثي مصري بعنوان «مقامات منطقة بحيرة مريوط»؛ تلك البحيرة التي كانت تمتدّ على مساحة قد تزيد على 200 كيلومتر مربع، وترتبط بنهر النيل، وإنما شهدت تقليصاً كبيراً في مساحتها مع مرور الزمن. المشروع، الذي يقوده «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية»، بتنسيق من مهندس المساحة والخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، الدكتور إسماعيل عوض، وبالتعاون مع المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي، وبدعم من مؤسّسة «بركات تراست» البريطانية، يسعى إلى توثيق الأضرحة والمقامات التي تعود إلى القرن الـ14، والمهدَّدة بالاندثار، خصوصاً في المناطق الريفية. يعتمد المشروع، الذي انتهت مرحلته الأولى، على دراسة خرائطية مكثَّفة، بدءاً من خرائط الحملة الفرنسية عام 1801، وصولاً إلى صور الأقمار الاصطناعية الحديثة لعام 2024، إذ تمكّن الفريق البحثي من تتبُّع تطوُّر هذه المقامات وتحديد مواقعها عبر العصور. وكشفت الدراسة الخرائطية عن وجود 279 مقاماً في منطقة بحيرة مريوط، في حين تمكّن الفريق من زيارة 118 مقاماً وتوثيقها بصرياً. مقام سيدي صهيب بعزبة كوم التابعة لمدينة أبو حمص في محافظة البحيرة (تصوير: سمر بيومي) يقول المنسّق الدكتور إسماعيل عوض إنّ المشروع البحثي التوثيقي جاء مع تعرّض عشرات الأضرحة والمقامات في القاهرة للهدم قبل أشهر، ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أنّ «المشروع يهدف إلى الإضاءة على هذه الكنوز المنسية المهدَّدة بالاندثار، وإبراز تأثيرها العميق في هوية منطقة بحيرة مريوط القديمة وسكانها، وتحديد ما يحتاج منها إلى الحماية والعناية والترميم، وزيادة الوعي بقيمة هذه المقامات بكونها جزءاً أصيلاً من التراث المعماري والأثري للمنطقة». ورغم أنَّ مقامات بحيرة مريوط قد لا تحظى بالأهمية عينها التي تنالها الأضرحة الكبرى في الإسكندرية أو القاهرة، فإنّ المشروع اكتشف تنوّعاً معمارياً وفنّياً لافتاً فيها، وهو ما يرتبط بالطبيعة الجغرافية للمنطقة الممتدَّة بين دلتا النيل الزراعية شرقاً والمنطقة الصحراوية غرباً. فالمقامات في الجزء الشرقي (محافظة البحيرة) تميل إلى الألوان الخضراء والزرقاء، وتشبه في طابعها المعماري المقامات المملوكية في المدن الكبرى، بينما تتّسم المقامات في المنطقة الغربية (مدينتا برج العرب والحمّام) بالطابع البدوي البسيط، وتغلب عليها الألوان البيضاء والصفراء. المفاجأة التي بيّنتها الدراسة، وفق عوض، تكمن في أنَّ ما بين 60 إلى 64 في المائة فقط من هذه المقامات لا تزال قائمة حتى اليوم، بينما اختفى الباقي أو تعرَّض للتدمير بفعل الإهمال أو التعدّيات أو حتى النسيان. وهناك نحو 40 مقاماً لا يزال مصيرها غير مؤكّد، خصوصاً تلك الواقعة في مناطق شهدت تحوّلات عمرانية جذرية، أو وسط تجمّعات سكنية، إذ كان كثير من تلك المقامات نواةً لنشوء عدد من القرى والمدن من حولها. ويُعدُّ مقام محمد المغازي في محافظة كفر الشيخ الأقدم الذي حدَّده المشروع حتى الآن، إذ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الـ14. بينما الحالة الأغرب تتمثَّل في وجود 12 مقاماً تخصُّ عائلة سيدي عمر أبو لطيعة، تقع جميعها متجاورةً في موقع واحد بمحافظة البحيرة، وقد بُني كلّ واحد منها بأسلوب وتصميم مختلف، يعود أقدمها إلى عام 1918، وأُنشئ أحدثها في عام 1986. مقام سيدي بشر الحطابي بعزبة الستمائة التابعة لـ«حوش عيسى» في البحيرة (تصوير: سمر بيومي) يعلّق عوض: «هذا المشروع لا يوثّق مباني فحسب، وإنما يحاول إنقاذ ذاكرة جماعية غنية بالقصص والروحانيات؛ فكلّ مقام يحمل قصة خاصة بصاحبه». في المشروع، تظهر عدسة المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي شاهدةً أساسيةً على هذا التراث الروحي والتاريخي، إذ تتمثَّل مَهمتها في التوثيق البصري والسمعي للمشروع. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «المقامات الريفية لم تكن مطروحة بقوة على الساحة، مما جعلني أشعر بأنني جزء من عمل مهم يوثّق مناطق لم تُستكشف من قبل»، لافتة إلى أنَّ التحدّي الأكبر تمثَّل في الوصول إلى مواقع المقامات النائية، سواء داخل الأراضي الزراعية أو تلك الموجودة على رؤوس التلال. تُركّز عدسة بيومي على التفاصيل المعمارية الدقيقة لكلّ مقام من الداخل والخارج، بما فيها ألوان الدهانات والنقوش والآيات القرآنية على الجدران، لتُظهر التباين بين مقام وآخر، مؤكّدة أنَّ كلّ لمسة لون أو تفصيلة في البناء تُقدّم لمحة عن تاريخ المقام، ما يُوفّر نظرة شاملة وعميقة لهذا التراث المنسي، وفق تعبيرها. كذلك شملت مَهمتها جمع «التاريخ الشفهي» للمقامات من خلال السكان المحلّيين، موضحةً أنّ «حكايات السكان المُسجّلة جزء لا يتجزّأ من المشروع، إذ وثّقنا روايات عن صاحب المقام وتاريخ بنائه وقصته، بما يُبقي على الذاكرة الحيّة لهذا التراث الفريد». هذه الروايات، إلى جانب عشرات الصور المأخوذة للمقامات، يضمّها معرض فنّي بعنوان «في حضرة المقام»، يحتضنه حالياً «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية» بالإسكندرية. وتشير سمر بيومي إلى أنَّ المعرض ليس مجرّد عرض لصور فوتوغرافية تُبرز الاختلافات المعمارية بين المقامات، وإنما هو تجربة فنّية متعدّدة الوسائط، تضمّ مقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية لقصص الأهالي، وكتابات تسرد حكايات هذه المقامات، ويهدف عرضها على هيئة عمل فني إلى إنعاش اهتمام الناس بهذا التراث.

الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل
الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل

عكاظ

timeمنذ يوم واحد

  • عكاظ

الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل

في زمن التحولات الرقمية المتسارعة، لم ينج الحرف من يد الذكاء الاصطناعي، فامتدت خوارزمياته إلى حقول الشعر والمقال والرأي، لتتولى ما كان يوماً نتاجاً خالصاً للفكر والوجدان. اليوم نشهد ظاهرة متنامية بين بعض الشعراء والصحفيين والكتاب الذين باتوا يعتمدون على هذه الأدوات لكتابة نصوصهم، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الإبداع وقدرة العقول على الصمود في عصر الأتمتة. أن يستعين الكاتب أو الصحفي أو الشاعر بالذكاء الاصطناعي لتوليد فكرة أو تنقيح صياغة لا ضير في ذلك، أما أن يلقي بالقلم جانباً ويترك «الآلة» تفكر وتكتب وتنتج بالنيابة عنه فتلك بداية التراجع لا التقدم. إنها عودة إلى الخلف في لباسٍ عصري، إذ تغيب الذات ويختزل الإبداع إلى تركيبة رقمية بلا روح. أخطر ما في الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي هو اغتيال ملكة التفكير، فالعقل الذي يتوقف عن الاجتهاد وعن إعادة النظر وعن البحث عن الجمال بين تضاريس اللغة هو عقل يذبل ببطء، والشاعر الذي لا يرهق قلبه قبل قلمه لن يمنحنا بيتاً حياً يلامس الوجدان، بل مجرد سطر جميل الصياغة فارغ الدلالة. أما الصحفي الذي يكتفي بتغذية الخوارزمية بمعلومات عامة ليحصل على مقال فهو يفرط في أهم مقومات مهنته «البحث والتحليل والربط بين الظواهر وتقديم زاوية جديدة للقارئ»، ذلك لا يقتل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الإبداع فقط، بل يهدد نزاهة المحتوى وأصالته ويضعف الحس النقدي لدى القارئ والكاتب على حد سواء. لا شك أن التكنولوجيا أداة جبارة حين تستخدم بوعي لكن الخطورة تكمن حين تتحول إلى بديل عن الفكر لا وسيلة له. يجب علينا أن نعيد ترتيب العلاقة مع هذه الأدوات ونستفيد منها دون أن نستسلم لها، ونعزز بها قدراتنا دون أن نلغي عقولنا، فالإبداع الحق لا يولد من آلة بل من إنسان. أخيراً إن الركون التام إلى الذكاء الاصطناعي يقصي العقل ويتسبب في ضمور المهارات المهنية ما ينعكس على شخصية الكاتب نفسه، فحين يعتمد على أداة تفكر عنه يفقد تدريجياً ثقته بقدراته التحليلية وحسه الإبداعي. وإذا لم نتدارك هذا الميل سيتحول الأديب والصحفي إلى مشغّل آلة لا صاحب فكر، ويصبح المستقبل محتكراً لصوت واحد بلا روح ولا ذاكرة ولا خيال. أخبار ذات صلة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store