logo
سورة «يوسف» تكتب التاريخ

سورة «يوسف» تكتب التاريخ

الدستورمنذ 5 ساعات
نُذُر عديدة تجمعت فى أفق عام ١٨ هجرية آذنت بأيام صعبة مقبلة سوف تظلل بسحاباتها القاتمة مكة والمدينة والطائف، وغيرها من أراضى الحجاز، فقد انقطع مطر السماء، وأجدبت الأرض، ولم يعد بها زرع ولا ثمر، بل كساها السواد، بعد أن اشتدت حرارة الشمس فأحرقت ترابها، وجعلته رمادًا تذروه الرياح. شحّت الأرض فشحّ الطعام فى البيوت، وشيئًا فشيئًا اختفى تمامًا، وأخذ الناس يفرّون من مكان إلى مكان بحثًا عن الطعام، يسمعون أن طعامًا هنا فيبقون، ويصل إلى آذانهم خبر بأن طعامًا هناك فيفرون، أحس الكثيرون إحساسًا قاسيًا بالهزيمة وهم لا يجدون ما يقيم أودهم وأود أولادهم، واستبد بهم الإحساس باليأس وانقطاع العشم وهم ينتقلون من مكان إلى مكان، دون أن يجدوا ما يبقيهم على قيد الحياة.
تعلم أن الخليفة فى ذلك الوقت هو الفاروق عمر بن الخطاب، الذى تولى السلطة قبل المجاعة سنة ١٣ هجرية، وقد كان من أشد المؤمنين بفكرة «مقاسمة الأوجاع والمعاناة»، تلك الفكرة التى ترسخت لديه وعاين أثرها فى المجاعة التى ضربت المسلمين فى عام العسرة، عام غزوة «تبوك» (٩ هجرية)، أواخر عمر النبى، صلى الله عليه وسلم.
زاد عمر بن الخطاب خلال عام الرمادة من جولاته التفقدية فى الطرق، وكان قلبه يتمزق وهو يلاحظ حالة الحزن والبؤس والوجع التى شملت المسلمين فى البيوت وخارجها، نتيجة المجاعة الشديدة التى أنشبت مخالبها فى كل مكان بالحجاز. وأول ما طبّق الخليفة الفكرة طبّقها على نفسه، فبات لا يأكل إلا الخل والزيت، مثل كل الأسر الإسلامية التى لم تعد تجد إلا هذين الصنفين، بعد أن اختفى السمن تمامًا. يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «وكان عمر يستمرئ الزيت، وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر، رضى الله عنه، وتغير جسمه، حتى كاد يخشى عليه من الضعف».
لقد بدأ جسم عمر بن الخطاب يهزل ويشحب، مثله مثل كل المسلمين، وأوشك جسده الذى امتاز ببنيانه القوى على التهاوى. لقد بدا الخليفة كأى واحد من المسلمين، يذكر «السيوطى» فى «تاريخ الخلفاء»: «قال أنس تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة، وكان قد حرّم على نفسه السمن، فنقر بطنه بإصبعه وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس». وقد أصاب جسد عمر بن الخطاب- خلال فترة المجاعة- تغيرات ملحوظة، ظلت تصاحبه حتى توفى عام ٢٣ هجرية. ينقل «السيوطى» أيضًا: «أخرج ابن سعد والحاكم عن زر قال: خرجت مع أهل المدينة فى يوم عيد، فرأيت عمر يمشى حافيًا، شيخًا أصلع آدم أعسر طوالًا مشرفًا على الناس، كأنه على دابة. قال الواقدى: لا يعرف عندنا أن عمر كان آدم إلا أن يكون رآه عام الرمادة، فإنه كان تغير لونه حين أكل الزيت».
لقد تقاسم الخليفة الوجع مع الناس، وأقسم ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناس. يقول «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ» أن أوعية سمن ولبن ظهرت فى السوق خلال هذه الفترة، فاشتراها غلام لعمر بن الخطاب بأربعين درهمًا، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق لبن وسمن ابتعتهما بأربعين درهمًا. فقال عمر: تصدق بهما فإنى أكره أن آكل إسرافًا. وأكد: كيف يعنينى شأن الرعية إذا لم يصبنى ما أصابهم؟
بادر عمر بعد ذلك إلى إرسال الرسائل إلى الولاة المسلمين فى كل مكان، يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم، فكان أول من قدم عليه أبوعبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فقسّمها وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم «البحر الأحمر على تخوم مصر» وأرسل فيه الطعام إلى المدينة. وثمة خلاف شديد على الدور الذى قامت به مصر فى إنقاذ الخليفة والمسلمين فى الحجاز من هذه المجاعة، فهناك من يرى أن مصر هى التى أغاثت عاصمة الخلافة، من هؤلاء «ابن كثير» الذى يذكر فى «البداية والنهاية» أن عمر كتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن «يا غوثاه لأمة محمد»، فبعث إليه بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمة، ووصلت ميرة عمرو فى البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة، ويستطرد «ابن كثير» بعدها قائلًا: «وكتاب عمر إلى عمرو بن العاص عام الرمادة مُشكِل، فإن مصر لم تكن فتحت فى سنة ثمانى عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثمانى عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص فى عام الرمادة وهم.. والله أعلم».
أغلب الظن أن الحديث عن إغاثة عمرو بن العاص للخليفة ولعاصمة الخلافة وهم، لأن مصر لم تكن قد فُتحت بعد. يقول «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ»: «فى سنة ٢٠ فتحت مصر فى قول بعضهم على يد عمرو بن العاص والإسكندرية أيضًا، وقيل فُتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وقيل فُتحت مصر سنة ست عشرة فى ربيع الأول، وبالجملة فينبغى أن يكون فتحها قبل عام الرمادة لأن عمرو بن العاص حمل الطعام فى بحر القلزم من مصر إلى المدينة». الأرجح أن مصر لم تكن قد فُتحت بعد حين وقعت المجاعة فى عام الرمادة، بل فُتحت بعد ذلك، وربما كان للدور الإثرائى الكبير الذى بان على عاصمة الخلافة بعد فتح مصر الفضل الأكبر فى صناعة أسطورة أن مصر أسهمت فى إغاثة الخلافة فى مجاعة عام الرمادة، دعّم من ذلك المعانى الجليلة التى اشتملت عليها سورة «يوسف» حول دور مصر فى إنقاذ قوم يوسف- فى الشام- من المجاعة، وربما تم استدعاؤها عند كتابة فصل «عام الرمادة» فى تاريخ المسلمين.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

معنى «وفاكهة وأبا»، تفسير الشيخ محمد سيد طنطاوي للآية 31 من سورة عبس
معنى «وفاكهة وأبا»، تفسير الشيخ محمد سيد طنطاوي للآية 31 من سورة عبس

فيتو

timeمنذ 3 ساعات

  • فيتو

معنى «وفاكهة وأبا»، تفسير الشيخ محمد سيد طنطاوي للآية 31 من سورة عبس

أوضح الشيخ محمد سيد طنطاوي في تفسيره لـسورة عبس، معنى الأب الذي ذكره الله تعالى بعد الفاكهة، موضحا قصة الفاروق عمر بن الخطاب مع هذه الآية. سورة عبس الآية 31 قال تعالى: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا». سورة عبس الآية 31 تفسير الشيخ محمد سيد طنطاوي للآية 31 من سورة عبس قال الشيخ محمد سيد طنطاوي: وأنبتنا فيها- أيضا- بقدرتنا وفضلنا فاكِهَةً وَأَبًّا... والفاكهة: اسم للثمار التي يتناولها الإنسان على سبيل التفكه والتلذذ، مثل الرطب والعنب والتفاح. معنى وفاكهة وأبا وأوضح الشيخ طنطاوي: والأب: اسم للكلأ الذي ترعاه الأنعام، مأخوذ من أبّ فلان الشيء، إذا قصده واتجه نحوه، لحاجته إليه... والكلأ والعشب يتجه إليه الإنسان بدوابه للرعي. قال صاحب الكشاف: والأب: المرعى، لأنه يؤب، أي: يؤم وينتجع... وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله مالا علم لي به. وأضاف طنطاوي: وعن عمر- رضى الله عنه- أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم. وأكمل طنطاوي: فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية، أن الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم، من النهوض بالشكر لله- تعالى- على ما تبين لك أو لم يشكل، مما عدد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب، ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية، إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت. وقال بعض العلماء: والذي يتبين لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول لفظ الأب، وهما من خلص العرب لأحد سببين. الشيخ محمد سيد طنطاوي واستطرد: إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسى من استعمالهم، فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة، فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج. فقد قال أنس بن مالك: ما كنا نقول إلا المدية، حتى سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان قال: «ائتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين». واختتم: وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة، منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبى بكر وعمر عن بيان معناه، لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله مَتاعًا لَكُمْ أو إلى قوله وَلِأَنْعامِكُمْ. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

الأوقاف تعقد 27 ندوة علمية للأطفال عن صلة الأرحام وأثرها في الترابط المجتمعي
الأوقاف تعقد 27 ندوة علمية للأطفال عن صلة الأرحام وأثرها في الترابط المجتمعي

24 القاهرة

timeمنذ 4 ساعات

  • 24 القاهرة

الأوقاف تعقد 27 ندوة علمية للأطفال عن صلة الأرحام وأثرها في الترابط المجتمعي

عقدت وزارة الأوقاف 27 ندوة علمية للأطفال تحت عنوان: صلة الأرحام وأثرها في الترابط المجتمعي، وذلك بعدد من المساجد الكبرى على مستوى الجمهورية، ضمن فعاليات برنامج "لقاء الجمعة للأطفال. الأوقاف تعقد 27 ندوة علمية للأطفال عن صلة الأرحام وأثرها في الترابط المجتمعي وتناول العلماء المشاركون في الندوات أهمية صلة الرحم في الإسلام، وفضلها العظيم في توثيق وغرس المحبة والمودة داخل الأسرة والمجتمع، مؤكدين أن صلة الأرحام سببٌ في رضا الله، وطريقٌ لنيل البركة في العمر والرزق، استنادًا إلى قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]، وما رواه النبي ﷺ حيث قال: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه" [رواه البخاري ومسلم]. الأوقاف تعقد 675 مجلسًا فقهيًّا لتعريف الصلاة وفضلها وشروط وجوبها وتأتي هذه الندوات في إطار حرص وزارة الأوقاف على بناء وعي الطفل بناءً سليمًا، وترسيخ القيم الدينية والوطنية، وتفعيل دور المسجد التربوي والتوعوي في المجتمع. وأكدت الوزارة على أن برنامج لقاء الجمعة للأطفال يُسهم في غرس القيم النبيلة، وتعزيز ثقافة التواصل الأسري، وبناء جيلٍ يحمل الوعي والانتماء، ويُسهم بإيجابية في نهضة وطنه.

الله موجود (1): لماذا ينشأ الإلحاد؟
الله موجود (1): لماذا ينشأ الإلحاد؟

الدستور

timeمنذ 4 ساعات

  • الدستور

الله موجود (1): لماذا ينشأ الإلحاد؟

كلُّ شيءٍ حين يبتعد عن مصدره… يبهت! الضوء حين يُحجَب عن شمسه، والماء حين يُجفف عن نبعه، والإنسان… حين يبتعد عن ربه. وفي عالمٍ يتوهّم الحداثة، أصبح الإنسان ماهرًا في تشغيل الآلات… وفاشلًا في فهم نفسه، وفي زمنٍ ساد فيه "العقل المادي"، وغُيِّبت فيه "الروح"، انهارت القيم، وتاهت البوصلة، فلا العلم منحنا الطمأنينة، ولا الثراء جلب السكينة، ولا التجريب أجاب عن سؤال الوجود. الإلحادُ ليس نبتًا شيطانيًا يظهر عبثًا، بل ثمرةُ قلقٍ وجودي عميق، وهو سؤالٌ بلا مجيب، أو جوابٌ قيل بتعالٍ، أو ألمٌ لم يجد كتفًا يسنده، وهو مرضٌ لا يُعالج بالصراخ في وجه صاحبه، بل بالحكمة، والرحمة، والعلم. هذا المقال لا يخاصم أحدًا، ولا يوزع صكوك الهداية أو الضلال، بل يحاول أن يقترب من جوهر السؤال الإنساني الأقدم: لماذا يُلحد الإنسان؟ وقد يتساءل القارئ: ولماذا أكتب؟ ولماذا الآن؟ الحق أنني لا أكتب لأنني أملك كل الأجوبة، بل لأني أستشعر حجم الخطر حين تظل الأسئلة بلا من يجيبها برفق وصدق، وأكتب لأن ما كان يُعدّ من المسلّمات، صار اليوم محل إنكار واستهزاء، ولأننا أمام جيلٍ لم يَعُد يُسلِّم بما قيل له… بل يبحث، ويشك، ويطلب برهانًا. إنه لأمرٌ مزعج، ومحرج في آن واحد، أن أضطر لتوضيح ما كان يجب أن يكون من البديهيات، وأن أمسك القلم – وأنا أضعف خلق الله – لأحاول أن أثبت وجود من خلق القلم واليد والعقل معًا! من أكون أنا – بكل حدودي وضعفي – كي أُثبت وجود الله؟ لكن حين يسكت العلماء، ويصمت العقلاء، ويتصدر الجدلَ أصحاب الصوت الأعلى، ويصبح الأمر ظاهرة، كان لا بد من كلمةٍ صادقة، متزنة، تعيد ترتيب المعاني. وقد رأيت أن الباب الذي لم يُطرَق بما يكفي هو باب العلم، فالإيمان طالما خُوطب من منابر الدين، ومن زوايا الفلسفة، لكن العلم – هذا الكائن النبيل الصامت – لم يُنصفه أهل الإيمان في الدفاع عن الإيمان، ولأن العلم هو اللغة التي يحترمها الجميع، بغض النظر عن المعتقد والانتماء، فهو أقرب الأبواب إلى العقول الصلبة والقلوب المترددة. لهذا، تأتي هذه السلسلة: "الله موجود"، محاولةً مخلصة لأن نعيد تقديم سؤال الإيمان، بلغة تُقدّر العقل، وتُصغي للروح، وتحترم الإنسان مهما كان موقفه. وفي البدء، يكون السؤال الأهم، لماذا يُلحد الإنسان؟ وما الذي يدفع إنسان في هذا العصر، بكل ما بين يديه من وسائل معرفة، واطلاع على سِيَر الرسل والأنبياء، وشواهد التاريخ وانتصار الحق رغم سطوة الباطل، أن ينكر وجود خالق؟ كيف يُكفِر من عاش زمنًا تُسمَع فيه آيات السماء في كل بيت، وتُبَث فيه رسائل الأنبياء عبر كل شاشة؟!" الأسباب الحقيقية تتعدد: أولا: الإلحاد كتمرد فلسفي ضد صورة مشوهة لله: الكثير من الملحدين لا يرفضون "الله" الحقيقي، بل يرفضون صورةً قُدمت لهم على أنها "الله"، لكنها كانت مشوهة، متغطرسة، غير مفهومة.. إله غاضب، متربص، يتصيد الأخطاء، أو إله يتمهل لا يمنع الشرور، ولا يتدخل في الظلم، أو دينٌ يخاطب الناس كأنهم عبيد لا عقل لهم، لا روح، لا حق في السؤال. وفي الحقيقة التي أعتقدها، أن كثير ممن ألحدوا لو عُرضت عليهم صورة صحيحة لله، مليئة بالرحمة والعدل والحكمة، لما أنكروه، بل ربما ركعوا له محبةً قبل يقين، وقد قال "أنتوني فلو" الفيلسوف البريطاني الذي اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان، وهو أشهر ملحد عاد إلى الإيمان: "لم أرفض الله، بل رفضت ما ظننته الله… حتى اكتشفت أني كنت أهاجم وهمًا لا حقيقة." إذن، فالإشكالية الحقيقية لا تكمن في وجود الله، بل فيما يُصَدر لفهم العامة عن الله وسلطته… ويبدو أن جزءًا كبيرًا من هذا الخلل ينبع من أثر أولئك الذين تصدّروا الحديث باسم الدين، حتى ظنّ بعضهم أنهم وحدهم وكلاء عن الله، أو الناطقون الرسميون باسمه، لكنهم، في النهاية، بشرٌ تحكمهم الأهواء، وتغمرهم أحيانًا أمواج التحيّز والتعصّب، فيفقد خطابهم الرَويّة، وتظهر على وجوههم وفي لغاتهم الجسدية علامات الغضب واللوم والرفض… وهي صفات لا يمكن أن تُنسب، بأي منطق، إلى من يزعم أنه مفوَّض يتكلم عن إلهٍ يتّصف بالرحمة، والحكمة، واللطف المطلق. ثانيا: الإلحاد لم يٌنظر إليه كتساؤل عقلي مشروع.. وحق المتسائل في الحصول على إجابات لا تحمل الشك عن أسئلة مثل "من خلق الله؟" و"لماذا يظلم الأبرياء؟'، و"لماذا لا يظهر الله بوضوح؟'، و"لماذا تختلف الأديان؟" هذه الأسئلة ليست تجديفًا، بل احتياجٌ لفهم عميق، لكن المشكلة أن السائل لا يجد من يصغي إليه، فيُهاجَم، أو يُتَّهَم، أو يُوصف بالكفر والفسق، فتغلق القلوب، وتُقسى الأرواح. وفي الإسلام نجد أن القرآن الكريم واضح في تأكيد حرية الإنسان في الإيمان أو الكفر، وأن الله لا يُجبر أحدًا على الاعتراف به، بل يدعو الإنسان إلى التفكر والتحري والنظر، ويؤسس الإيمان على الاقتناع العقلي والبصيرة، وفي ذلك أبرز الآيات التي تؤكد ذلك المعنى، مثل قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (سورة البقرة: 256)، وفي هذه الآية قاعدة قرآنية عظيمة: الدين لا يُفرض، بل يُعرض، وقد تبيَّن الطريق. وفي قول الله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (سورة الكهف: 29)، فالخطاب واضح: الإيمان خيار، وليس قسرًا. وقد جاء في التحفيز على النظر العقلي والتأمل كدرب من دروب الوصول إلى الله، قوله تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة يونس: 101)، وفيها يحض الله الناس على النظر العقلي لا على الإذعان القهري. ثم تكررت صيغ كثيرة في آيات محكمات مثل ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، في عشرات المواضع، وكلها تؤكد أن العقل هو وسيلة الوصول إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ (سورة الحج: 8)، الرد على من يجادل بغير علم، وهذا يعني أن الله لا يطلب التسليم الأعمى، بل العلم والهُدى والنور العقلي. حتى رسول الله محمد ﷺ في قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (سورة ق: 45)، لم يُفَوَّض لإجبار الناس على الاعتراف بالله، بل للتذكير فقط. إن ما سبق ذكره وتوضيحه من آيات ليس موجّهًا بالطبع إلى كل ملحد لا يؤمن أصلًا بوجود الله ولا برسالاته، فليس من المنطقي أن نقدّم دليلًا من نصٍّ لا يؤمن به من نخاطبه، لكنني أذكر هذه الآيات لأصحاب الخطاب الديني القاصر، ولأولئك الذين يتصدرون الدفاع عن الإيمان بأساليب متعصبة أو غاضبة، لأقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى ذاته قد قبِل جحود من جحد، وتَرك مساحة للتساؤل والشك، بل رسم طريقًا للاهتداء قائمًا على التدبّر لا على الإجبار، أما أنتم، فإنكم تضيّقون ما وسّعه الله، وتُدخِلون كل باحث متردد أو ملحد في نفق مظلم من الإقصاء والتهكم، وكأن العقل عدو لمن خلقه، وكأنكم وكلاء على الغيب، تفوّضون أنفسكم بدلًا من الله! وهنا تكمن الكارثة الأولى التي أشرت إليها في بداية الحديث: إشكالية فهم الله على حقيقته، كما أراد أن يُفهَم، لا كما يقدّمه المتحدثون باسمه بوجه غاضب وصوت مرتجف، يُنفر أكثر مما يُبَشِّر. فالإيمان لا يجب أن يُقدّم كعقيدة جاهزة تُفرض، بل كرحلة فهم يُرافق فيها الإنسان، وكل سؤال حقيقي هو بداية إيمان صادق… لو وجد من يحاوره بعقل وقلب. ثالثا: الإلحاد يَحتمل أن يٌنظر إليه كرد فعل نفسي أو تجربة صادمة، فليس كل إلحاد ناتج عن الفكر… بل أحيانًا عن الجُرح... ومن دعا الله في كربٍ فلم يُستجب له، فظن أنه غير موجود... ومن عانى قهرًا باسم الدين، فكره الدين كله، ومن صُدم في شيخ أو داعية، فانهارت صورته عن الإله ذاته. هنا الإلحاد ليس فلسفة… بل ألمٌ مكسوّ بثياب الفكر، ومن الخطأ أن نعالجه بالمناظرات… بل بالصدق والاحتواء والتفسير الرحيم. رابعا: في عالمٍ يؤمن بالمُشاهد، ويكفر بالغيب، يبدو الإلحاد كمنتج متأثر بثقافة مادية، فقد صار العقل أداةً لقياس المادة، لا لفهم الروح، ويقول العالم الفيزيائي ماكس بلانك: "خلف كل مسألة علمية عميقة، هناك إيمانٌ بوجود عقلٍ أعلى يدير هذا الكون." لكن مع شيوع النزعة الاستهلاكية، وتسليع الإنسان، لم يعُد للغيب مكان، ولا للمقدس موضع، فصار الإيمان يُقدَّم على أنه جهل، واليقين يُوصف بأنه سذاجة. خامسا: لا يُخفى أن بعض أشكال الإلحاد اليوم هي "موضة فكرية"، وثقافة تمرد تنشأ من رفض سلطة الأسرة، أو المجتمع، أو الدين، أو من تقليد المؤثرين والنجوم على منصات التواصل، وهنا لا نحن أمام فلسفة، ولا أزمة وجود، بل "حالة تميز مزيفة"، وهي أكثر أشكال الإلحاد هشاشةً، لأنها تنهار سريعًا أمام أول اختبار روحي صادق. الخلاصة أن الإلحاد ينشأ إذا صٌدِّر إلى الملحد تصورا كان من نتيجته أن الله خلق عقولنا لنخاصمه بها، لكن الحقيقة أنه خلقها لنتقرب إليه من خلالها. فليس كل ملحد جاحد، وليس كل مؤمن فاهم، ولا يجوز أن نختزل الإيمان في طقوس، أو الإلحاد في جنوح، بل علينا أن نعيد تقديم الإيمان… بلغة تحترم العقل ولا تخذل الروح.... وللحديث بقية

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store